الغلاف للفنانة رندى بعيني
**
نايفة
الى روح الام نايفة ابو حمد
ـ1ـ
يا "نايفه".. لمْ أشكُ من أحزاني
لكنّ حزناً واحداً أبكاني
ما كنتُ أدري أن موتَك موجعٌ
لو ما "البهيةُ" حزنُها أضناني
ـ2ـ
موت الأمومةِ نارُه لم تنطفءْ
والدمعُ أفنى مهجةَ الأبدانِ
شمسُ "البنيّةِ" يا إلهي أظلمتْ
قولي ليصغي خالقُ الأكوانِ:
إني الحنونةُ لن أجافي إبنتي
إنّي الأمومةُ أبعدوا أكفاني
**
نبيل
الى روح الاعلامي نبيل طنّوس
ـ1ـ
خسرت الجالية العربية صوتاً إذاعياً معروفاً، خدم الحركة الاعلامية المهجرية سنوات طويلة، دون أن يتمكن المرض من ثنيه عن إتمام الرسالة التي اختاره الله لها.
ـ2ـ
وفجأة تعب الفارس من امتطاء جواد البث الاذاعي فترجل عنه، وودّع أهله وجاليته ورحل عن عمر يناهز الخامسة والسبعين.
ـ3ـ
نبيل طنّوس.. لم يشأ إلا أن يكون نبيل طنّوس.. بكل شفافية وتواضع. لذلك أحببته، ولذلك بكيته، ولذلك سيبقى خالداً.
ـ4ـ
رحمك الله يا صديقي، وأعطانا القوة كي نكمل المسيرة بعدك.
**
جولييت
الى روح الام جولييت العلم
ـ1ـ
جولييت العلم الأم الحنونة.. الأخت الوفية.. والسيّدة الفاضلة.. جمعت أوراق مجدها الأرضي، وقررت الرحيل..
ـ2ـ
كنت كلما التقيتها أسألها عن جوازات السفر التي منحتها إياها دول عديدة تفتخر بضمها الى رعاياها.. كيف لا.. وهي صاحبة أجمل صوت إذاعي شنّف آذان الملايين حول العالم فلقد عملت في إذاعة الـ بي بي سي اللندنية مدة ثلاثين سنة.. تركت خلالها الصوت الخلاب، والطلّة المشرقة.. والعمل الراقي.. والصداقة التي لا تفنى.
ـ3ـ
منذ أيام قرّرت هذه السيّدة العظيمة أن تستبدل كل جوازات السفر التي بحوزتها.. بجواز سفر واحد.. طالما تمنت الحصول عليه.. ألا وهو جواز سفرها الى الفردوس الإلهي، لتلتقي سيد المجد.. ذلك الجالس على عرشه السماوي بانتظار الطيبين من أبنائه.. وهل أطيب من قلب جولييت العلم. فهنيئاً للجنة بها..
**
الام سلوى
الى روح الام سلوى المظلوم
ـ1ـ
الأم التي أعطت لبنان خيرة الأبناء والبنات رحلت عنا. الوالدة المهاجرة التي جعلت أستراليا تفتخر بلفذ أكبادها طوت صفحة اغترابها.
ـ2ـ
سلوى المظلوم التي مرّت مرور القديسين على هذه الأرض أطفأت شمعتها الأخيرة. أم أخي وصديقي وحبيب قلبي سامي المظلوم ودّعت عيالها، الذين لا تغيب عنهم الشمس، لتلتقي بمن حلمت بلقياه مخلصها يسوع المسيح.
ـ3ـ
رحيل الأمهات مؤلم جداً.. حارق.. صاعق.. وقاتل. موتهن.. أكبر من الموت أصعب من النحيب، وأعمق من العزاء. فكيف يسمح الله برحيلهن؟ وما حكمته من ذلك؟
ـ4ـ
أخي سامي يعرف الجواب.. فيقول: "إن الأمهات لا يمتن بل نتكلّم معهن دائماً" وهذه حقيقة لمستها لمس اليد إذ أنني أكلّم والدتي، رحمها الله، كل يوم قد تقولون: أنت مجنون فأقول لكم أصبحنا اثنين: أنا وسامي وقد تجدون الملايين من المجانين الذين يكلّمون أمهاتهم الراحلات مثلنا.
ـ5ـ
فيا أخي سامي.. ويا آل المظلوم الكرام، لكم منا كل الحب، فسلوى سلوانا جميعاً، وأمنا جميعاً.. فاقبلوا تعازينا
**
الأم نزيهة
الى روح الأم نزيهة حرب
ـ1ـ
أنور حرب الذي غنّى الأمومة بكلمات شنّفت آذان الكون.. ها هو اليوم يبكي "ميمته" كما لم تبكِ الخنساء أخاها. والدته، رحمها الله، تاجرت بوزناتها الإلهية فأعطت الاعلام سيداً كأنور والشعر فارساً كألبير والكون عائلة ولا أجمل. فهينئاً للجنة بها، وهنيئاً لحضن السيدة العذراء بأم عرفت كيف تحضن أطفالها كيف ترضعهم الشموخ كي يشمخ بهم لبنان، وتنحني لعنفوانهم الغربة. وها هي كفرزينا تجمع أزهار حقولها لترشها زهرة زهرة على أقدام مَنْ أنارت قناديل الآخرين بزيت محبتها.
ـ2ـ
فيا أخي أنور.. لا حرفي كحرفك.. ولا كلمتي ككلمتك.. ولا محبتي كمحبتك.. فسامحني إذا أعلنت عجزي عن اختيار الكلمات التي أعزيك بها.. فخذ مني هذه القبلة على جبينك المشرق وهذا المثل الشعبي: من خلف ما مات.. وكيف تموت أم ابنها أنور!
**
موسى
الى روح الجار موسى انيسة
ـ1ـ
عام 1924 أطلّ موسى إلى الحياة من أبوين تقيين هما المرحومان أنطونيوس ووديعة أنيسه. كان والده يومذاك من أشهر نجاري لبنان، فلقد أتقن مهنة القديس يوسف النجّار ربّ العائلة المقدسة، ليؤسس هو أيضاً في بلدة مجدليا قضاء زغرتا عائلة مقدسة،
ـ2ـ
كان فقيدنا الغالي موسى وحيدأ بين ثلاث بنات هنّ ماري وحوّا وتراز. وكبر موسى، ولمع نجمه، فأتقن عدّة لغات عالمية، ليصبح المترجم لكل من يقصده، فلا يرد طلباً لأحد على الاطلاق، دون أن يتقاضى أجراً عن ذلك. وبسبب اتقانه للغة الانكليزية حصل على وظيفة محترمة في شركة آي بي سي للبترول، فكان الموظف الأمين النشيط إلى أن تقاعد كلياً عن العمل.
ـ3ـ
وما أن تأسست بلدية مجدليا حتى انتخب بإجماع أهالي قريته عضواً فيها، بعد أن كان عضواً اختيارياً أيضاً. أحب الطبيعة وأحبته لدرجة لم يفارق حديقته الغنّاء المثمرة إلا عندما زارنا في أستراليا مرتين لتفقّد إبنيْه طوني وكرلوس وعيالهما وباقي الأهل. فأعجب كثيراً، باخضرار هذه البلاد وبنظامها، وأطلق عليها لقب "الجنائن المعلّقة".
ـ4ـ
موسى أنيسه، إبن مجدليا البار، كان المثل الأعلى لكل من عرفه، فلقد كان رحمه الله والداً حنوناً، وأخاً مخلصاً، وجاراً كريماً، وصديقاً وفياً، تاجر بوزناته فربح أضعاف الأضعاف.
ـ5ـ
ذات يوم تناول عشاءه، وشرب فنجان قهوته، وذهب إلى فراشه لينام دون أي عارض صحي، ولكن الله ناداه ليدخل فرح سيّده.. كيف لا، وهو الانسان التقي الورع المحب. رحمه الله.
**
الاميرة فانيسا
الى روح الشابة فانيسا مسلّم
ـ1ـ
ما أصعب أن تذبل الزهرة قبل أوانها.. ما أصعب أن يودّع (حوش الأمراء) أميرته الصغيرة. ما أصعب أن يخسر العنقود الزحلاوي أنضر حبّاته. فانيسا مسلم لم يخسرها لبنان فقط، بل خسرها الانتشار اللبناني أجمع.
ـ2ـ
وفي سيدني أستراليا تأوّهت قلوب المغتربين ألماً حين سمعت تأوّه خالتها المحامية بهية أبو حمد. ولكن مهما أحببنا الزهرة فانيسا، لن نحبّها قدر محبّة السيّد المسيح.. لن نحبّها قدر محبّة السيدة العذراء.. فمن عاشت ملاكاً على هذه الآرض ستتوّج ملاكاً في السماء.
ـ3ـ
فانعمي يا ابنة الأرز بجنّة نحلم بها عديد الثواني. ونحن في (الغربة) آلمنا مصابك كثيراً.. لدرجة عجزنا معها عن البوح بما يعتمل في الصدر من ألم. فاقبلي أيتها الخالة المحامية بهية أبو حمد تعزيتنا.. واقبلوا أيها الأهل محبتنا، أينما كنتم، وأنّى حللتم. أما أنت يا زهرة لبنان، يا فانيسا الأميرة، فلك الصلاة.. أجل لك صلاتنا. رحمك الله.. لأنك أهل لرحمته.
**
حنون
الى روح الشاعر حنا عبيد
ـ1ـ
خسر الشعر الزجلي المهجري في أستراليا أحد أبرز عمالقته، فلقد بكت الغربة عندما انحنت القصيدة لتقبل الثرى لحظة أغمض رئيس جوقة بلابل المهجر الشاعر حنا عبيد عينيه، مودعاً عائلته وأقرباءه وأصحابه و(متريته) بابتسامة لم تغب عن ثغره يوماً طوال رحلته المشرقة مع الحياة.
ـ2ـ
وفقيدنا الغالي (حنّون)، هو شقيق أمير الزجل المرحوم يعقوب عبيد من بلدة متريت الكورة ـ لبنان الشمالي. أي أنه ابن بيت شعري، خلّد الحرف، فخلدته القصائد.
ـ3ـ
منذ مدة سألت ابن أخته الشاعر جورج منصور عنه، فوجه له تحية شعرية في لقاء تلفزيوني أجريته معه وكأن الشعر على علم مسبق بالكارثة التي ستحل به من جراء رحيل رئيس جوقة بلابله المؤلم.
ـ4ـ
حنا عبيد شاعر من بلادي حمل لبنان في قلبه، غناه بلسانه، وأهداه شعره، فلم يلتفت له الوطن، لذلك أهدى ثراه لأستراليا. فطوبى لها به.
**
عبد الفتّاح
الى روح الشاعر عبد الفتّاح حمدي
ـ1ـ
يا أخي الكبير.. يا هرماً مصرياً شامخاً في بلاد الاغتراب.. يا بحة الناي، وزقزقة الكمان في أغنياتك الجميلة.. يا ابتسامة مشرقة تلاقي بها أصدقاءك قبل الترحيب بهم..
ـ2ـ
سنفتقدك يا عبد الفتّاح حمدي.. سنفتقد الإخلاص المتجسد فيك.. سنفتقد لهجتك المصرية المحببة.. عشت كبيراً يا صديقي ومتّ كبيراً..
ـ3ـ
سأتذكرك ما حييت.. فصوتك الذي حمل إليّ البهجة والتقدير في غربتي هذه.. سيظل هادراً في تلفزيون وراديو ومجلة الغربة.. سأستمع إليه كل صباح لأقول لك والدمعة في عينيّ: صباح الخير يا صديقي الشاعر.
ـ4ـ
ألا رحمك الله يا شاعر الهرم في بلاد أبعد ما تكون عن أهراماتك. لن أقول وداعاً، فمثلك لا يموت.
**
عقل
الى روح الشاعر عقل سليمان مخايل
ـ1ـ
عقل مخايل.. شلح آخر من أرزة ادبنا المهجري تقصفه رياح الغربة، وتدفنه خارج تراب قريته الأم بحويتا.
ـ2ـ
كان ابن قصيدة "مخايلية" رائعة، نسبة الى عائلة "مخايل".. كتبها الأب، وغناها الأبناء فأجادوا جميعاً، ورحب بهم الابداع فرداً فرداً.
ـ3ـ
عقل مخايل ترك بصماته الشعرية على دفتر شعرنا الاغترابي، فكلّما قلّبت صفحة وجدت له قصيدة، رباعية، ردة قرّادي بيت معنى.. انه الموجود بيننا دائماً وأبداً لأنه أعطى بصدق فخلدته الكلمة.
ـ4ـ
الوداع يا صديقي الشاعر.. أيها البحويتي الساهر كأب حنون. الغامر كأخ معطاء. الدافىء كإبن مطيع. الخالد ككل شاعر أعطى دون منّة. رحمك الله..
**
أبو زياد
الى روح الصديق بطرس عنداري
ـ1ـ
خسرت الجالية اللبنانية أحد أبرز وجوهها الاعلامية في أستراليا، الاستاذ بطرس عنداري، الذي ترك بصماته الذهبية على صفحات إعلامنا المهجري.
ـ2ـ
نصف قرن من الزمن مرّ على اغترابه، لا بل أكثر من نصف قرن، ولم يتعب قلمه من العطاء، فراح يمد مجلته المفضلة (الغربة) بأجمل مقالاته التي لاقت استحسان كل من اطلع عليها.
ـ3ـ
بطرس عنداري الذي أوجد جريدة النهار المهجرية كان نهاراً بحد ذاته لن يقدر الموت، مهما كان عتياً، من حجب شمسه المشعة، أو من محو حرف واحد خطه بليل أرقه لينير ظلمات الكون أجمع.
ـ4ـ
بطرس عنداري غاب عنا بالجسد، ولكنه باقٍ إلى الابد بإرثه الاعلامي والثقافي. لقد عرفته إعلامياً مبدعاً، وسياسياً محلقاً، فأعجبت بجرأته ونضارة قلمه.
ـ5ـ
كان صديقاُ للجميع، فأحبه الجميع. وقد لا أغالي إذا قلت أن سنديانة متريتية هوت مرتين: يوم هاجر بطرس، ويوم مات. فإلى عائلته أقدم تعازي القلبية، وإلى متريت أقول: اجعلي ذكره خالداً.. انه ابنك البار.
ـ6ـ
وكم كنت محظوظاً حين وافق صديقي وأخي ورفيقي وحبيبي بطرس عنداري على لقائي تلفزيونياً، فكان لي أجمل لقاء أثبت فيه للعالم أجمع كم كان هذا المتريتي المهاجر جريئاً وصريحاً.
ـ7ـ
رحمك الله يا أبا زياد.. أيها الحي الباقي في القلوب والضمائر.
**
اغناطيوس
الى روح المربي اغناطيوس بعيني
ـ1ـ
ودعت بلدة مجدليا الشمالية أستاذها الكبير اغناطيوس بعيني.. ذاك الذي تتلمذت على يديه أجيال واجيال غرس في قلوبها حب المعرفة وخدمة المجتمع.
ـ2ـ
وفقيدنا الغالي هو أحد الأعمدة الأساسية التي انبنى عليها البيت المجدلاوي، لذلك أحدث سقوطه المفاجىء هزة حزن فجّرت دموع المقيمين والمغتربين من أبناء البلدة.
ـ3ـ
خسارة مجدليا لابنها البار اغناطيوس لا تعوّض، وفقدان عائلة بعيني لأحد أهم أركانها مصيبة كبرى. ولكن، ما باليد حيلة، وما علينا سوى الانصياع لارادة الخالق تعالى.
ـ4ـ
رحمك الله أيها المربي الكبير، فلقد بكتك ساحات مجدليا وتاقت الى لقياك جارتك السيدة، تلك التي أهديتها القلب، فأهدتك الملكوت.
**
بطرس
الى روح المرحوم بطرس البحري
ـ1ـ
كم كنت أحبك يا قريبي بطرس البحري، وكم كنت أشتاق لطلتك عندما كنت تزورنا يومياً لارتشاف فنجان قهوتك الصباحية. من يوم مرضك، وانقطاعك عن زيارتنا لم نعد نشمّ رائحة القهوة في بيتنا. لا بل توقّفنا عن شرائها.
ـ2ـ
أما لماذا أحبك بهذه الدرجة فلسبب لا يعرفه إلا أنت.. أتذكر يوم مجيئي الى أستراليا هارباً من كلاب الاستخبارات اللبنانية وقد منّ عليّ أحد مكاتب السفر بتذكرة لم أدفع ثمنها، لعدم توفّر المال في جيبي، بل اكتفى صاحبه بوعد قطعته على
نفسي أن أرسل له ثمن التذكرة حال وصولي الى أستراليا. وعندما وصلت، وجدت أن من الصعوبة تحقيق وعدي للرجل الفاضل، فأصبت باكتئاب شديد.. ولسان حالي يردد: من أين لي المال؟
ـ3ـ
وحدك يا غالي انتبهت لما أنا فيه، فهمست في أذني: ما بك يا "أبا نيع" وكان هذا اسم الدلع الذي كنت تناديني به دائماً. فقلت لك، وكنت في سيارتك وقتئذ: سفّرني رجل لا أعرفه ولم يقبض ثمن تذكرة السفر الا بعد وصولي الى أستراليا. فسألتني عن كمية المبلغ. فقلت: مئتا دولار. وأذكر كيف اتجهت بسيارتك مسرعاً نحو بيتك وقلت لي: هذا هو المبلغ.. وعندما رفضت أن آخذه منك، لأنك لن تسترده مني، صرخت بي: اصعد الى السيارة. فإذا بك تدخلني الى مصرف في منطقة ريجينس بارك وتقول لمديره: أريد مئتي دولار حالاً. وسيدفعها بالتقسيط قريبي هذا. وهكذا كان. ولمن لا يفهم بعملات أيام زمان، كان بإمكانك أن تشتري بمئتيْ دولار، سيارة جديدة.
ـ4ـ
فضلك يا ابن خالتي بطرس سيلازمني ما حييت.. ولكنني سأعيده لك متى التقينا في الملكوت السماوي.
**
أبو ألبير
الى روح المرحوم حنا ابي خطار
ـ1ـ
مجدليا ضيعتي خسرت من جديد إبناً كبيراً.. اسمه حنّا أبي خطّار. هذا الوالد المغترب الذي حوّل الغربة وطناً وجعلنا نتغلّب عليها بمحبته النادرة، واندفاعه المفرح لخدمة أهل قريته خاصة ووطنه عامة.
ـ2ـ
وها أنا أخبركم عن محبته لي، يوم وصلت الى أستراليا، كنت حزيناً ويائساً فإذا بعائلة أبي خطّار تحضنني، حنا وكمال ويوسف.. وخاصة أخي ورفيق غربتي ألبير ابن الفقيد الغالي. فكانوا يسألونني: ماذا تحب أن تأكل؟ ما هي الحلويات التي تشتهيها كي تحضّرها لك أم ألبير؟
ـ3ـ
كان هذا منذ 45 سنة يوم لم يكن هناك محلات للحلويات أو للمأكولات اللبنانية. وكان رحمه الله يعاملني كما يعامل ابنه ألبير وكان يهمس في أذني: "لا تقول بيّك بعيد.. حسبني متل بيّك".
ـ4ـ
فيا والدي حنا.. كل الناس يخسرون أباً واحداً أما أنا، فلقد خسرت اليوم أبي الثاني فإذا بكيتك لا تلمني.. فلقد تمكنت بعطفك وحنانك أن تمسح دمعة اغترابي فمن سيمسح دمعة حزني عليك..
**
المونسنيور ميشال
الى روح المونسنيور ميشال بو ملحم
ـ1ـ
توفي كاهن الرب المونسنيور ميشال بو ملحم، ابن بلدة عيمار الشمالية، بعد أن خدم في كنائسنا لسنوات طويلة، زرع خلالها الايمان والتقوى في نفوس أبناء الطائفة المارونية، لا بل الجالية ككل.
ـ2ـ
لقد كان، رحمه الله، مضحياً من أجل الجميع. فما كان ليأخذ بل ليعطي، فيسراه لم تدرِ يوماً بما وهبت يمناه.
ـ3ـ
عرفته كاهناً تقياً، قادراً على إدخال السعادة الى قلبك، والايمان الى نفسك، وروحك، بحديثه اللاهوتي المقنع.
ـ4ـ
عرفته صديقاً مخلصاً، يوزّع محبته الغامرة تماماً كما يوزّع بركته المقدسة على المصلين.
ـ5ـ
على أيامه.. نفذت مشاريع كنسية كثيرة في لبنان واستراليا.
ـ6ـ
وها هي بلدته عيمار، تتأهب لاستقباله، بعد طول غياب وانتظار، ولسان حالها يردد: تعال إلي أيها الابن المقدس، فبدموعي سأغسل جثمانك.. وبترابي الذهبي سأحضنه الى الابد.
ـ7ـ
رحمك الله يا أبتي القديس، وأنا على يقين تام من أن الملكوت ما وجد إلا لأمثالك.
**
وليم
الى روح الوالد الحنون وليم ناصيف
ـ1ـ
وليم ناصيف، الوالد الكفرصاروني الحنون، شقيق أعز الناس على قلبي: ايلي ناصيف، عانى من المرض الخبيث مدة طويلة، رفض خلالها الخضوع للعلاج، فحمل أخوه "إيلي" تقاريره الطبيّة، وكنت برفقته، ورماها في حضن أشهر أخصائي بأمراض السرطان البروفسور فيليب سالم.. الذي أصر على خضوع المرحوم للعلاج. ولكن وليم أبى ذلك.. ليس خوفاً من الألم، وهو المتألم دائماً، بل حباً بلقاء سيد الارض والسموات يسوع المسيح.
ـ2ـ
كان يسمعه يناديه: تعال إليّ ايها الابن المؤمن، الناصع كثلوج بلادك، الطاهر كتراب كفرصارون، تعالى إليّ.. ايها الوالد المثالي الذي تاجر بوزناتي وربح الملكوت، بعد أن أعطى العالم خير عائلة مقدسة.
ـ3ـ
التقيت وليم مرات عديدة خاصة أيام كنت أقدّم بها حفلات جمعية كفرصارون الخيرية، فلقد وجدته مندفعاً كشلال، نقياً كقلب طفل، ومحباً كوالد.. وكان يسألني طوال الحفلة: هل أنت مبسوط؟ وكنت أتطلع به وأتمتم في سريّ: طوبى لكفرصارون بابن شريف كوليم. وأراني مجبراً الآن أن أردد علناً: طوبى للسماء بزائر شهم قديس كوليم ناصيف. رحمك الله يا صديقي الغالي.. وسنلتقي.. لا محال.
**
موريس
الى روح الصديق موريس الشدياق
ـ1ـ
أجل، لقد رحل من بيننا صاحب النكتة المرتجلة، والقلب الطيّب المرح. بقي عازباً، لأنه نذر نفسه للصلاة والتعبد.. وأمضى حياته بفرح أهداه لكل من عرفه أو صاحبه في الوطن والغربة.
ـ2ـ
كان يسألني كلما التقاني: أتعرف ما هو أسرع الأشياء في أستراليا؟
فأجيبه: لا.. ما هو؟
فيضحك ويقول: الدولار، ما أن يدخل الى جيبك حتى يطير منها.
وقال لي مرة: "باتا" في لبنان من أجود الأحذية، ولكنهم في أستراليا يمرحونه على الخبز.
وكان، رحمه، ينتقل من موضوع جميل الى موضوع أجمل. تعلّمت منه كيف أطعّم مقالاتي بالفكاهة، كي لا تضجر القارىء. لأنني لم أضجر مرة واحدة من حديثه المرح الجذاب.
ـ3ـ
موريس الشدياق، هو أفضل من نجالس، وأصدق من نصاحب، وأعز من نخسر.. ولقد خسرناه اليوم.. فهل تنفعنا الدموع؟
**
ابن كفرصارون
الى روح الصديق نعيم ناصيف
ـ1ـ
نعيم ناصيف، صاحب الابتسامة المشرقة كشمس كفرصارون، حمل أعماله الصالحة ورحل، إلى أين؟ إلى المكان الذي يحمل اسمه.. النعيم.
ـ2ـ
عرفته عن طريق أخيه الحبيب ايلي.. كان يرافقه كظله، حتى لتحتار أيهما ايلي وايهما نعيم. كانا القدوة الأخوية النادرة في زمن طغت فيه المادة على كل شيء. إلا على محبتهما لبعضهما البعض.. وللآخرين.
ـ3ـ
كفرصارون ستفتقد "نعيمها"، ستبكيه بكاء الأم على ولدها، فلقد غاب عنها بالجسد، وعاشت معه بالروح. خدمها بعينيه، كما يقول المثل. فصح فيه القول المقدس: هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت.
ـ4ـ
سأفتقدك يا صديقي.. سأفتقد سلامك الحميم الذي كنت تسبقني اليه دائماً.
ـ كيف حالك يا أخي شربل؟
أتريد جواباً صريحاً يا نعيم؟
ـ صحتي ليست جيدة، فلقد فاجأني موتك.. وأحسست أن كل ما في الأرض زائل. إلا وجودك في قلبي، وقلوب محبيك.
ـ5ـ
لن أترحم عليك.. لأنني واثق من أن الله يحبك. فهنيئاً للنعيم بك، وهنيئاً لك بنعيمه السماوي.
**
ميشال زخور
الوالد القديس
ـ1ـ
صباح الثاني من آذار جاء مثقلاً بالحزن، فلقد أخبرني ابن خالتي جوزيف زخور بوفاة والده ميشال، وأنه سيترك كندا في الحال ليكون قرب أمه، وعائلته. فأحسست أن فسحة الكون قد ضاقت، وأن الاغتراب أبعدني عن أناس زينوا طفولتي بالمحبة والقدوة الصالحة.
ـ2ـ
ميشال زخور.. زوج خالتي عاقله، آخر حبّة في عنقود الرجال الأقرباء. وأحبّهم الى قلبي، فلقد كان يأتينا كل أحد تقريباً، رغم بعد المسافة بين بعبدا ومجدليا، ليجمع عائلتيْ الأختين معاً: بترونله وعاقله. وقد نجحت خطته، لأن ما زرعه من حب بيننا وبين أبنائه وبناته، لن تقوى عليه أعاصير الحياة.
ـ3ـ
مجنون من يعتقد أنني أبالغ لو قلت: ميشال زخور قديس، أجل: قديس، ومن يعرف سيرة حياته، سيعلن قداسته حتماً. لماذا؟ لأنه كان الوالد المثالي، التقي، النقي، العطوف، المحب، المؤمن بإنسانيته، التي قرّبته أكثر فأكثر من ربّه. أف، ما أقسى الموت عندما يسرق من بيننا أناساً عظماء مثله.
ـ4ـ
سأفتقدك يا زوج خالتي.. يا حبيب قلبي.. وسأحسدك في آن واحد، لأنك سبقتني الى حضن العذراء مريم، الى زنبقة مار يوسف، الى صليب المسيح، الى جنة الملاك ميخائيل، الذي تحمل اسمه. أحسدك، لأتك عرفت كيف تتاجر بالوزنات، بينما أنا ما زلت أتخبّط في غربتي، علّني ألتقط السراب.
ـ5ـ
نم قرير العين، وهنيئاً للجنة بك.
**
رحمك الله
يا محمد الشرفي
ـ1ـ
رحمك الله يا صديقي الشاعر.. رحمك الله يا محمد الشرفي.. كنت البارحة أجمع رسائلك الخالدة في كتاب إلكتروني وورقي الى جانب رسائل نزار قباني وعبدالوهاب البياتي، ورفعت السعيد، والاب يوسف سعيد ورحت أبحث عن صورة لك عبر محرك البحث غوغل، فإذا بي أفاجأ بخبر رحيلك المحزن.
ـ2ـ
إنها صدمة مؤلمة حقاً.. ولكني لن أبكيك لأن أمثالك لا يموتون.. بل سأبكي نفسي في غربتي البعيدة، وأراجع بين دموعي ذكريات نزولك ضيفاً كريماً شهماً محباً في بيتي الذي زينته بطلتك واشعارك.
ـ3ـ
إلى أن نلتقي مرة ثانية في عالم غير هذا العالم التعيس.. سأظل أردد: أحبك يا صديقي.
**
علي مراد
الى روح الوالد علي مراد
ـ1ـ
يا أخي عبّاس علي مراد.. قد نكون من أرباب الكلمة، نتلاعب بها كيفما نشاء، نأمرها فتأتمر، ولكنها تتمرّد علينا في المصائب، تتساقط من بين أناملنا كحبّات رمل..
ـ2ـ
وها أنا أعلن عجزي عن إيجاد كلمات أقدر أن أعزيك بها بفقدان الوالد الحبيب علي.. فاعذرني أرجوك لأنني ذقت قبلك لوعة فراق من تفارق.. وما زلت أبكيه كالخنساء. فاقبل مني.. دمعتي
**
شيرين ابو عاقلة
ـ1ـ
آه يا شيرين ابو عاقلة، لو تعلمين ما فعلت بنا.. لقد متنا بموتك.. فرصاصة الغدر التي أصابت راسك أصابت قلوبنا جميعاً. فلقد كنت صوتنا.. وقد خنقوا هذا الصوت.. وكنت الأمل.. وقد اغتالوا أملنا..
ـ2ـ
لن نبكي عليك، بل سنردد اسمك ما حيينا.. لا بل سننحني أمام عظمتك وتضحيتك من أجل القيام بعملك.
ـ3ـ
أنت خالدة يا شيرين.. وهم الى مزبلة التاريخ.. انت العظيمة يا شيرين.. وهم الأوغاد السفلة..
ـ4ـ
يا نجمة القدس.. يا وجه فلسطين الأجمل، يا صوتها النسائي الأنقى. أيتها المهاجرة مثلنا.. أنت ابنتنا وحبيبتنا.. وهم أعداؤنا الى أبد الدهر..
ـ5ـ
لو علموا كم تحبك الملايين، لما تجاسروا على اغتيالك.. لقد زلزلت الأرض من تحتهم.. أجل.. لقد أرعبهم موتك.. أكثر مما كانت ترعبهم طلتك الاعلامية المضيئة..
ـ6ـ
ما أجملك.. ما أروعك.. ما أعظمك.. لك الخلود.. ولهم اللعنة.
**
مات ابن عمي روبير
ـ1ـ
ومن لا يعرف روبير، إبن البطل باخوس بعيني؟ هو كبير أبناء عمومتي وعماتي. تنقل بين سيدني وملبورن فأحبه كل من التقاه. إذ كان يوزع الفرح والمرح طوال حياته. فما أن يلتقيك حتى يسمعك إحدى نكاته.
ـ2ـ
إذا جمعك به مجلس تأكد من أنه سيسيطر عليه. له حضور ساحر.. فالابتسامة لا تفارق شفتيه.. ويأبى إلا أن يزرع الابتسامة على شفتيك ايضاً.
ـ3ـ
اعتنى كثيراً بمظهره الخارجي.. حتى أن ماركات الملبوسات الرجالية مرّت بالتتابع على جسده.. عاش وكأنه سيموت غداً.. وعندما مات تأكدت من أنه سيعيش.
ـ4ـ
فتّشت عن صور له في أرشيفي فوجدت الكثير منها، فقطفت من كل واحدة منها ابتسامته، لأوزعها على الناس يوم جنازته.
ـ5ـ
لن أبكيك يا ابن عمي الأكبر، لأنك لا تحب البكاء.. لذلك دعني أخبرك بأنك ستبقى معنا، في قلوبنا.. في ذاكرتنا.. لأنك الأب، والأخ، وابن العم، والصديق الوفي ومن كان مثلك له الخلود. رحمك الله.
**
فلينعم بك نعيم الآخرة
الى روح الشاعر نعيم خوري
ـ1ـ
مَكْسُورَةٌ هِيَ الأَشْعَارُ كَقُلُوبِ مُحِبِّيكَ.. وَكُلُّ الأَوْزَانِ الشِّعْرِيَّةِ مُنْتَفِضَةٌ وَثَائِرَةٌ.. أَشْكَالُهَا الْهَنْدَسِيَّةُ تَغَيَّرَتْ رَغْمَ مُعَارَضَةِ الْخَلِيلِ وَاحْتِجَاجاتِهِ.. صُرَاخُهَا يَصُمُّ الآذَانَ وَمَا مِنْ مُصْغٍ إِلَيْهَا. إرْفَعْ يَرَاعَكَ عَلَماً تَتَبَنَّاهُ.. أُنْصُبْ أَوْرَاقَكَ خِيَماً تَسْتَظِلُّهَا.. إِرْمِ صَوْتَكَ نَهْراً تَرْتَوِي مِنْهُ.. مَا خَانَتْكَ الأَوْزَانُ يَوْماً، فَخُذْ بِيَدِهَا.
ـ2ـ
غِيَابُكَ أَذْهَلَ الْغُرْبَةَ، لَفَحَهَا بِوَجَعِ الإنْتِظَارِ، أَقْعَدَهَا عَنِ التَّفْكِيرِ، فَرْفَطَ نَظَرَاتِها الْعَطْشَى لِرُؤْيَتِكَ، وَسَمَّرَهَا عَلَى نَعْشِكَ الطَّاهِرِ زُهُوراً لا تَذْبُلُ.
ـ3ـ
غِيَابُكَ هَمٌّ جَدِيدٌ يُضَافُ إِلَى هُمُومِنَا الْحَيَاتِيَّةِ الْكَثِيرَةِ وَيَتَغَلَّبُ عَلَيَهَا! كَيْفَ سَنَنْهَضُ وَكَبْوَتُنَا مُوجِعَةٌ؟ كَيْفَ سَنُواصِلُ السَّيْرَ وَجَمِيعُ الدُّرُوبِ تَشْمَئِزُّ مِنْ وَقْعِ خطوَاتِنَا؟ حَتَّى زَغَارِيدُنَا بِتَحْرِيرِ الْجَنُوبِ، جَاءَتْ مَبْتُورَةً.. وَحَزِينَةً! أَيْنَ زَغْرَدَتُكَ بِالنَّصْرِ تُلْهِبُ السَّاحَاتِ وَتُبَلْسِمُ جِرَاحَ الْجَنُوبِيَّاتِ الثَّكَالَى؟ غِيَابُكَ يَا صَدِيقِي نَعِيم خوري.. أَبْعَدُ مِنَ التَّبْرِيرِ وَأَصْعَبُ مِنَ الْقُبُولِ!
ـ4ـ
يَا أَيُّهَا الْغَرِيبُ عَنْ أَرْضِهِ، الْمَنْفِيُّ عَنْ مَرَابِعِ طُفُولَتِهِ، الْمَشْلُوحُ عَلَى مَرافِىءِ الأمَلِ! مَنْ مِثْلُكَ تَمَكَّنَ مِنْ مَحْوِ غُرْبَتِنَا؟! مَنْ مِثْلُكَ وَهبَنَا وَطَناً مِثَالِيّاً، تَتَطَلَّعُ إِلَيْهِ الشُّعُوبُ؟ بُيُوتُهُ أَبْيَاتُكَ الشِّعْرِيَّةُ.. نَاسُهُ مَقَالاتُكَ النَّثْرِيَّةُ.. تُرَابُهُ حَفْنَةٌ مِنْ تُرَابِكَ الْخَالِدِ.. وَحَدَائِقُهُ ابْتِسَامَاتٌ كُنْتَ تَسْتَقْبِلُنَا بِهَا، وَتُوَزِّعُهَا عَلَيْنَا، كَأَحْلَى الْعَطَايَا، لَحْظَةَ الْوَدَاعِ. كُنْتَ نَعِيمَنَا فِي حَيَاتِكَ.. فَلْيَنْعَمْ بِكَ نَعِيمُ الآخِرَةِ.
**
أمثالك قلائل
فلتبكك القصيدة
إلى روح الشاعر رامز عبيد
ـ1ـ
حَجَرٌ آخَر مِنْ عِمارَةِ شِعْرِنا الْمَهْجَرِيِّ اقْتَلَعَتْهُ رِياحُ الْغُرْبَةِ، وَتَلاعَبَتْ بِهِ كَوُرَيْقَةٍ خَريفِيَّةِ الْمَلامِحِ وَالنَّظَراتِ. سُنْبُلَةٌ أُخْرَى اقْتُطِفَتْ مِنْ حُقُولِنا الْمُثْقَلَةِ بِالتَّعَبِ، دُونَ أَنْ يَرِفَّ لِلْمَوْتِ جَفْنٌ.
ـ2ـ
رَامِز عُبَيْد الشَّاعِرُ، عَرَفْتُهُ، اخْتَبَرْتُهُ، صاحَبْتُهُ، وَأَحْبَبْتُهُ. تَواضُعُهُ: احْتِرَامٌ وَتَأَدُّبٌ.. إِنْسانِيَّتُهُ: انْدِفَاعٌ وَخِدْمَةٌ.. وَشاعِرِيَّتُهُ خَلاّقَةٌ كَأَخْلاقِهِ، وَمُمَجَّدَةٌ كَالْبَيْتِ الَّذِي أَعْطاهُ الاسْمَ.
ـ3ـ
شاعِرٌ.. إِبْنُ شاعِرٍ. أَميرٌ.. إِبْنُ أَميرٍ. فَيا خَسارَةَ الْقَوافِي بِرَحيلِ النَّسْرِ الْمُهاجِرِ.. وَيا خَسارَةَ الأَحْلامِ الْمُعَتَّقَةِ في جِرارِ غُرْبَتِها.. كُلُّ شَيْءٍ تَوَقَّفَ عَنِ الدَّوَرانِ، ما عَدَا الْحُزْن.
ـ4ـ
وَقَفْتُ بِظِلِّهِ في عِدَّةِ أُمْسِيَاتٍ شِعْرِيَّة.. فَكانَ الْمُحَلِّقَ، وَكانَ الْمُبْدِعَ، وَكانَ النَّدَّ الْمِثالِيَّ. لَـمْ يَقُلْ أَنا.. لَـمْ يَتَبَجَّحْ.. رَغْـمَ اعْتِدادِهِ بِشِعْرِهِ. لَـمْ يَغْتَبْ أَحَداً.. رَغْـمَ رَوَاجِ عاداتِ الاغْتِيابِ وَالطَّعْنِ وَالثَّرْثَرَةِ في جالِيَتِنا.. كانَ مَتْرِيتيّاً حَقّاً.. وَلُبْنانِيّاً بِامْتِيازٍ.. فَهَنيئاً لِلْوَطَنِ بِرُفاتِهِ.
ـ5ـ
زُرْتُهُ عِدَّةَ مَرّاتٍ.. مالَحْتُهُ عِدّةَ مَرّاتٍ.. وَطالَبْتُهُ بِنَشْرِ ديوانِ أَبيهِ (الْمَلِكَ) عِدّةَ مَرّاتٍ. وَكانَ يُتَمْتِمُ: (بَعدْ بَكّير).. أَجَلْ.. (بَعدْ بَكّير).. فَرَحيلُكَ جاءَ مُبَكِّراً جِدّاً يا رامِز.. رَحيلُكَ اسْتَبَقَ أَحْلامَكَ وَأَحْلامَنا. حَرَمَنا مِنْ حُضورِكَ الْمُفْرِحِ، مِنْ رَنَّةِ ضِحْكَتِكَ الْمُمَوْسَقَةِ، الطَّالِعَةِ مِنْ صَدْرٍ ما عَرَفَ إلاّ الدِّفْءَ، وَمِنْ إِشْعاعِ عَيْنَيْكَ الْبَريئَتَيْنِ كَعُيونِ الْمَلائِكَة.
ـ6ـ
آهٍ.. كَمْ أَنا حَزِينٌ عَلَيْكَ.. وَكَمْ أَنا عاجِزٌ عَنِ التَّعْبيرِ عَنْ حُزْنِي. حُزْنِي مُحيطٌ.. وَأَنا قَطْرَةٌ. حُزْنِي إِعْصَارٌ.. وَأَنا مَرْكَبٌ صَغيرٌ لا يَقْوَى عَلَى الإبْحارِ. حُزْنِي مَرْثاةٌ عُبَيْدِيَّةٌ.. أَنَّى لي امْتِلاك قَوافِيها.
ـ7ـ
أَتَيْتَ الْغُرْبَةَ طِفْلاً، وَلَـمْ تَنْسَ أَنَّكَ شاعِرٌ. وَرِثْتَ الْقافِيَةَ عَنْ أَبيكَ وَأَجْدادِكَ، فَأَثْلَجْتَ صُدورَهُمْ بِإبْداعِكَ. عايَشْتَ اللُّغَةَ الإنْكِليزَيَّةَ مُنْذُ صِغَرِكَ، وَلَكِنَّ الْتِحامَكَ بِلُغَتِكَ الأُمِّ، بِلَهْجَتِكَ الْمُحَبَّبَةِ، وَبِتُراثِكَ الْعَظيمِ.. كانَ أَقْوَى مِنَ الالْتِحامِ، وَأَسْمَى مِنَ الْفَرْنَجَةِ. لَـمْ تَكُنْ إِلاَّ كَما أَرادَكَ الْوَطَنُ. وَلَـمْ تُفْرِحْ قَلْبَ أَحَدٍ كَما أَفْرَحْتَ قَلْبَهُ، فَاسْتَحَقَّ قامَتَكَ وَالتُّراب.
ـ8ـ
لِماذا يَنْطَفِىءُ الشُّعَراءُ الْمَهْجَرِيّونَ كَالشُّموعِ، دونَ أَنْ تَرْتَجَّ الأَرْضُ لِرَحيلِهِمْ؟! لِماذا يُغادِرُنا الكِبارُ، دونَ أَنْ نَشْعُرَ بِهِمْ، وَكَأَنَّهُم نَسائِـمُ رَبيعِيَّةٌ عادَتْ إِلى مُرْسَلِها؟!
ـ9ـ
لِماذا نَحْنُ هامِشِيّونَ، سَرابِيّونَ، لا يَلْتَفِتُ إِلَيْنا أَحَدٌ، وَلا يَسْمَعُ وَقْعَ أَقْدامِنا أَحَدٌ؟ لِماذا؟.. لِماذا؟.. أَسْئِلَةٌ تَتَطايَرُ كَمَناديلِ الْمُوَدِّعينَ ساعاتِ الرَّحيلِ، وَلَكِنَّها أَكْبَرُ وَأَبْعَدُ وَأَوْسَعُ مِنْ أَجْوِبَتِنا.
ـ10ـ
لَقَدْ فَشِلْنا في حِمايَةِ بَعْضِنا الْبَعْض مِنَ الانْدِثارِ.. تَلَهَّيْنا بِالْحَرْتَقاتِ الصَّغيرَةِ، وَتَغاضَيْنا عَنْ احْتِضَانِ الْمَواسِمِ، وَجْنْيِ الثِّـمَار. مَواسِمُنا كَثيرَةٌ، وَالْحَصّادونَ مُتَناحِرُونَ! عَطاءاتُنا تَتَباهى على كُلِّ الْعَطاءاتِ، وَنَحْنُ نَسْخَرُ مِنْها، وَلا نَتْرُكُ باباً إِلاّ وَنوصِدُهُ بِوَجْهِها.
ـ11ـ
كانَ بَيْنَنا الْعُبَيْدِيّان يَعْقوب وَميشال. كانَ بَيْنَنا زَيْنُ الْحَسَن، مِخائيل قُرْبان، مُصْطَفى أَيُّوب، وَغَيْرُهُم. وَكانَ بَيْنَنا نَعيم خوري وَرامِز عُبَيْد. فَهَلْ مِنْ ثَرْوَةٍ أَدَبِيَّةٍ أَكْبَر مِنْ هَذِه الثَّرْوَة؟.. وَهَلْ مِنْ غِنىً يُضاهِي غِنَى الرَّاضي بِما مَنَّ اللَّـهُ عَلَيْه؟
ـ12ـ
فُقَراءُ نَحْنُ.. يَتَناتَشُنا الْخُبْثُ وَالإدِّعاءُ وَالتَّطاوُلُ. جُبَناءُ نَحْن.. نَتَّهِمُ الآخَرينَ زُوراً، نَخْتَلِقُ الأَعْذارَ، وَنَتَلَطّى خَلْفَ أَظافِرِنا الْحَبْلَى بِأَوْساخِها. أَرْقامٌ هَشَّةٌ نَحْنُ، نَتَراقَصُ فَوْقَ أَوْراقِ يانَصيبٍ، لا يَشْتَريها سِوى الْقَدَر.
ـ13ـ
يَرْحَلُ عَنْ مَنْفانا الْكِبارُ، وَيَبْقَى الأَلَـمُ. تَرْحَلُ الْكَلِمَةُ، وَتَبْقى صَفْحَتُنا تَئِنُّ مِنْ عُقْمِها. تَرْحَلُ أَنْتَ يا رامِز، وَنَبْقى نَحْنُ بِانْتِظارِ قَدَرٍ يُنْزِلُنا عَنْ ظَهْرِ الْغُرْبَةِ. أَمْثالُكَ قَلائِلُ.. فَلْتَبْكِكَ الْقَصيدَةُ.
**
ماتت زنبقة مجدليا
إلى روح فقيدة الشباب لورانس كحيل
ـ1ـ
يَوْمَ زُرْت لُبْنانَ، اسْتَقْبَلَتْني زَنْبَقَةُ مِجْدَلَيّا في رَوْضِها الْجَميلِ. صاحَتْ مِنَ الدَّاخِلِ: يا أَهْلا.. فَحَمَلَني صَوْتُها إِلَى جَنَّةِ الأَهْلِ فِي لُبْنان، إِلى أحضَانِ مَنْ غَنَّيْتُهُمْ بِشِعْرِي، وَسَئِمْتُ ابْتِعادِي عَنْهُمْ.
ـ2ـ
هَمَسَ مرافقي فِي أُذُني: مَنْ هَذِهِ؟ فَقُلْتُ: لُورانْس.. أُخْتُ فُولَمِين زَوْجَة ابْنِ عَمِّي الْياس. فَشَدَّ عَلى يَدي وَهَمَسَ: إِنَّها فَتاةٌ رَائِعَة.. إنَّها زَنْبَقَةُ مِجْدَلَيَّا.
ـ3ـ
عام 1969، دَخَلْتُ عَالَـمَ التَّمْثِيلِ والإِخْرَاجِ.. كانَ كُلّ شَيْءٍ يَسِيرِ كَدَقَّاتِ السَّاعَةِ، ما عَدَا افْتِقَارِي إِلَى بَطَلَةٍ مُثَقَّفَةٍ تَمَثِّلُ أَمامِي دَوْرَ زَوْجَتي الْمُسْتَرْجِلَة التي تَضْرِبُني، وَتَضْرِبُنِي، وَتَضْرِبُني طِوالَ مُدَّةِ ظُهُورِها على الْمَسْرَحِ. إنَّه دَوْرٌ صَعْبٌ لِلْغايَة.. وَبَناتُ قَرْيَتي لَمْ يُمَثّلْنَ مِنْ قَبْلُ. فَمِنْ أَيْنَ لِي بِها؟ وَبَعْدَ تَفْكِيرٍ طَويلٍ، وَقَعَ اخْتِياري عَلَى أَجْملِ زَهَراتِ مِجْدَلَيَّا.. على لُورانْس ساسين الْكَحِيل.
ـ4ـ
كانَتْ صَبِيَّةً صَغِيرَةً، تَحْلُمُ النَّسَائِمُ بِمُداعَبَةِ شَعْرِها الأَسْودِ الطّويل. كانتْ جميلةً وَناعِمَةً كبراعِمِ الزَّهرِ الَّتي لَـمْ تَقْطِفْها يَدُ إِنْسانٍ.. إِنَّها أصلُحُ ما تَكونُ لِتْمْثِيلِ دَوْرِ مَلاكٍ أَرْسَلَهُ اللَّه لإِنْقَاذِ بَنِي الْبَشَرِ. فَهَل سَتَنْجَحُ بِدَوْرِ امْرَأَةٍ مُسْتَرْجِلَة؟ هَذَا ما كانَ يُؤَرِّقُنِي، وَيَقُضّ مَضْجَعِي. وَلَكِنْ، كما يقولُ المثَلُ الشَّعْبِيُّ: عِنْدَ الإِمْتِحان تُكْرَمُ لُورانس أَوْ تُهان.
ـ5ـ
.. وَما أَنْ اَطَلَّتْ "بِشُوْبَقِها"، وَصَاحَتْ بِصَوْتِها الأُنْثَوِيّ الْجَميل: إِمْشِ قُدَّامي إِلَى الْبَيْت. حَتَّى اشْرَأَبَّتْ مِئاتُ الأَعْناقِ، وَصَفَّقَتْ آلافُ الأَيْدي. لَقَد سَحَرت الجُمْهُورَ، وَوَزَّعَتْ عَلَيْهِ بَدَلَ "الإِسْتِرْجالِ" أُنُوثَةً. وَبَدَلَ "الْقُوَّةِ" حَناناً.. وَأَحْسَسْتُ أَنْ ضَرَبات "شُوبَقِها" قَد انْقَلَبَتْ أزهاراً.. وَأَنَّ دورَ "المَرْأَةِ الْمسْتَرْجِلَةِ" الَّذِي بَرَعَتْ بِهِ حَدَّ التَّقَمُّص، ما كانَتْ لِتَنْجَحَ بِهِ، لَوْلا حَنانُها الْغامِرُ، وَشَخْصِيَّتُها الفَذَّةُ، وَثَقافَتُها الْعالِيَةُ، وَإِطْلالَتُها الْمُفْرِحَةُ. كَانَتَ وَحِيدَةً فِي كُلِّ شَيءٍ.. حتَّى بِقَدَاسَتِها!
ـ6
أَرادَتْ لُورانس أَنْ تَسيرَ عَلَى خُطى السيِّد، أَنْ تَتَعَمَّدَ في نَهْرِ الأُرْدُن.. أَنْ تَغْسُلَ رِجْلَيْهَا بِمِياهِهِ الْمُقَدَّسَةِ. فَرَافَقَتْ "إذاعَة صَوْت الْمَحَبَّة" فِي رِحْلَتِها.. الْمُؤمِنُونَ يُرَتِّلُونَ بِخُشُوعٍ، والْحَافِلاتُ تَرْقُصُ طَرَباً..
ـ7ـ
الرِّحْلَةُ جَمِيلَةٌ، والْقَيِّمُونَ عَلَيْها يُوزِّعونَ الْفَرَحَ كَما يُوزَّعُ البُونْبون في الأَعْياد. وَحْده الحَرّ كانَ شديداً، يُعَكِّرُ بِلَهِيبِه صَفَاوَةَ الرِّحْلَة.. الشّمسُ تُرْسِلُ أَشِّعَتَّها الْمُحْرِقَةَ، والْهَواءُ يَلْفَحُ بِها أَبْدانَ لْمُسَافرينَ. عندئِذٍ بَدَأَتْ زَنْبَقَةُ مجدلَيَّا بِالذُّبُولِ.. وَلَيَسْ أَمامَهَا من مُنْقِذٍ سِوَى نَهْر القَداسَةِ..
ـ8ـ
وَضَعَتْ قَدَمَيْها فِي الْماء.. انْتَعَشَتْ قَليلاً.. ابْتَسَمَتْ.. وَشَكَرَت الْفادي. فَإِذَا بِصَوْتٍ عَظِيمٍ يُدَغْدِغُ مَسَامِعَها قائلاً: هَذِه هِيَ ابْنَتِي الْحبيبةُ الَّتي بِها سُرِرْتُ. لـم تُصَدِّق أُذُنَيْها.. فَتَطلَّعَتْ إِلى السَّماء، فإِذَا بَجَوْقَةٍ من الْمَلائِكة تَرِفّ فَوْقَها.. ثِيابُها بَيْضَاء.. أَجْنِحَتُها بَيْضاء.. وابْتِساماتُها لُؤلؤيَّةٌ كَثُلوجِ جِبالِنا الشَّمّاء. ما أَجْمَل الْمَلائِكَة، صاحَتْ لورانس.. وَمَدَّت يَدَيْها لأَقَرَبِهِم إِلَيْها، فَإذا بِهِ يَحْمِلُها إلى غَيبُوبَةِ السَّعادَة.
ـ9ـ
هُناكَ تَراءَى لَها أَبُوها.. مِشيَتُهُ لْـمْ تتغَيَّر، حَتَّى وَلا مَلامِحُهُ الْمِجْدِلاوِيَّةُ الْجَميلَة. أَبي، تَمْتَمَتْ بِخَوْفٍ شَديدٍ.. فَابْتَسَمَ لَها وَقالَ: آنَ أَوانُ لِقائِنا يا ابْنَتِي.. جَنَّتُنا السَّماوِيَّةُ جَميلَةٌ جِدّاً، كُلُّ ما فيها سَيَسْحرُكِ.. إِنَّها السَّعادةُ الدَّائِمَةُ. تَعالَيْ لأُعَرِّفَكِ بِقِدِّيسيها، بِمَلائِكَتِها، بِأَهْلِها، وَبِأَقارِبِكِ.. هَذَا هُوَ عَمُّكِ وَجيه.. وَذاكَ ابْنُ عَمَّتِكِ ميشال عيسى يَتَحَدَّثُ بِصَوْتٍ عالٍ مَعَ خالِكِ الياس وَابْنِهِ إدغار. أَمّا تِلْكَ الْمَرْأَةُ الْفاضِلَةُ فَهِيَ جَدَّتُكِ فولَمين
ـ10ـ.
كَفَى.. كَفَى.. يا أَبِي، صاحَتْ لُورانْس، أَكادُ أَضْعَفُ أَمامَكَ، وَأَنْسى أُمّي.. هَلْ نَسيتَ أُمّي يا أَبِي؟.. إنَّها رَفيقَتِي، َحَبيبتِي، وَتاجُ رَأْسي.. ماذَا سَيَحْدُثُ لَها إِنْ أَنا انْضَمَمْتُ إِلَيْكَ؟ قَلْبُها رَقيقٌ، وَدَمْعَتُها سَخِيَّةٌ.. "أَمَلين"، يا أَبي، سَتُذْبَحُ مِنَ الْوَريدِ إلى الْوَريدِ إِنْ أَنا فارَقْتُها. ثُمّ لا تَنْسَ أَنَّنِي بَعيدَةٌ عَنِ الْبَيْتِ، وَمَوْتِي فِي الْغُرْبَةِ سَيُذِيقُها مُرَّ الْعَلْقَمِ. إِرْحَمْ أُمّي يا أَبِي.. وحَاوَلَتْ أَنْ تَسْحَبَ يَدَيْها مِنْ بَيْن يَدَيّ الْمَلاك. وَأَنْ تَعُودَ إلى عالَمِها الأرْضِيّ.. وَلَكِنَّ الْمَلاكَ رَماها في حِضْنِ أَبيها فَعانَقَتْهُ بِحَرارَةٍ وَهِي تَبْكي.
ـ11ـ
ماتَتْ زَنْبَقَةُ مِجْدَلَيَّا.. ماتَتْ لُورانْس.. فَجَنَّتْ إِذاعةُ "صَوْت الْمَحَبّة"، وَجَنَّ الرِّفاقُ وَالرَّفيقاتُ، وَجَنَّتْ مِياهُ نَهْرِ الأُرْدُن. كُلُّ السَّاعاتِ تَوَقَّفَتْ دَقَّاتُها، ما عَدَا دَقَّات قَلْبِ الْوَطَن.. مَنْ سَيَنْقُلُ الْخَبَرَ إِلَيْه؟ مَنْ سَيَتَجَرَّأُ وَيُخْبِرُ "أَملين" الأُمّ؟!
ـ12ـ
الصَّمْتُ يُخيِّمُ عَلَى مِجْدَلَيّا، رُؤوسُ أَبْنائِها مُخَفَّضَةٌ كَأَعْلامِ الدُّوَلِ. وَحْدها "أَملين" لَـمْ تَعْرِفْ بَعْد.. جُثَّةُ الزَّنْبَقَةِ حَطَّتْ فِي مَطارِ بَيْروت وَقَاماتُ الْمِجْدَلاوِيِّيَن أَيْضاً.. كُلُّهُمْ زَحَفُوا لاسْتِقْبالِها.. لِرَفْعِها فَوْقَ الْهاماتِ.. لِتَقْبيلِ جَبينِها الطَّاهِرِ، وَلِتَكْحيلِ أَعْيُنِهِم بِطَلَّتِها الْبَهِيّة.. وَ"أَمَلين" لَـمْ تَعْرِفْ بَعْد!
ـ13ـ
طُرُقاتُ مِجْدَلَيّا مُضَاءَةٌ بِالشُّمُوعِ.. لَيْلُها انْقَلَبَ نَهاراً، فَالْعَرُوسُ آتِيَةٌ مِنَ الأُرْدُن وَكُلُّ عَذَارى الْقَرْيَةِ أَضَأْنَ مَصابيحَهُنَّ. وَمَعَ ذَلِكَ لَـمْ يَتَجَرَّأْ أَحَدٌ وَيُخْبِر "أَمَلين". يا رِجالَ الْقَرْيَةِ تَشَجَّعوا.. يا حُكَماءَ الْقَرْيَةِ تَشاوَرُوا وَيا أُمَّهاتِ الْقَرْيَةِ خَفِّفْنَ لَوْعَةَ الأُمِّ الثَّكْلى.
ـ14ـ
ها هِيَ جُثَّةُ لُورانْس تَدْخُلُ الْقَرْيَةَ.. ها هِيَ أُخْتُها فِيفْيان تَتَلاشى.. وها هِيَ أُمُّها "أَمَلين" تَقَعُ عَلَى الأرْضِ مُضَرَّجَةً بِدُموعِها.
ـ15ـ
مالبُورْن الَّتي عَرَفَتْها بَكَتْ.. البَيْتُ ضاقَ بِالْمُعَزّينَ وَفُولَمين أُخْتُها يَلُفُّها الذُّهولُ والذُّبولُ. سيدْنِي أَيْضاً تَفَجَّعَتْ.. بَيْتُ عَمِّها يُوسِف، وَدَيْرُ مار شَرْبِل وَحَّدَهُما الْحُزْنُ وَتَبَلَّلا بِدُموعِ الأَحْبابِ. كُلُّهم أَحَبُّوها يَوْمَ زارَتْهُمْ في غُرْبَتِهِمْ، وَكُلّهم بَكُوا شَبابَها الفَتّانَ. حَتّى كَنَدا اصْطَكَّتْ رِكْبَتَاها عِنْدَما اصْطَكَّتْ رُكَبُ أُخْتِها ماري وَأَخَوَيْها فيليب وطوني وباقي الأَهْل..
ـ16ـ
إِنَّها خَسارَةٌ لا تُعَوَّضُ.. فَهَلْ تُعَوَّضُ خَسارَةُ مِجْدَلَيّا لِزَنْبَقَتِها الرَّائِعَةِ الْجَميلة؟ وَهَل يُعَوَّضُ رَحيلُ مَنْ عَلَّمَتِ الأَجْيالَ الْحَرْفَ وَزَرَعَتْ في نُفُوسِهِمْ حُبَّ اللَّـهِ وَالْوَطَن؟
ـ17ـ
لورانْس الْكَحيلْ لَـمْ تَمُتْ.. إِنَّها تَعيشُ في قُلوبِنا.. فَطُوبَى لِمَنْ أَصْبَحَت الْقُلُوبُ جَنَّتَها، فَلَسَوْفَ تَحْتَضِنُها الدَّيْمُومَةُ، وَيُرافِقُها الْخُلُود.
**
نعمان
إلى روح الاديب السوري نعمان حرب
ـ1ـ
نُعْمانُ..
وَالإِسْمُ الذَّهَبْ
يَزْهو،
فَيَخْتالُ الأَدَبْ
أَسْقَيْتَنا مِن نَبْعِكَ
ماءً دِمَشْقِيَّ النَّسَبْ
رَصَّعْتَنا بِبَديعِكَ
وَمَنَحْتَنا أَعلى الرُّتَبْ
وَحَّدْتَنا..
وَبِوِسْعِكَ
تَوْحيدُ أَوطانِ الْعَرَبْ
ـ2ـ
يا "حَرْبُ"..
لولاكَ الْحُروفْ
ضَاعَتْ بِطَيَّاتِ الْعَدَمْ
وَتَمايَلَتْ صَوْبَ الْخُسوفْ
أَقْمارُ مَنْ أَعْطى الأُمَمْ
فِكراً،
وآداباً تَطوفْ
كَيْ يَنْجَلِي لَيْلُ الأَلَمْ
شَعْبي..
وَإِنْ جاءَتْ سُيوفْ
لِلْغَزْوِ،
يَسْتَلُّ الْقَلَمْ
ـ3ـ
يا ابْنَ الْجِبالِ الْعالِيَه
عَرِّجْ عَلَى الْقَبْرِ الْعَظيمْ
وَاخْبِرْ تُرابَهُ ما بِيَا
أَخْبِرْهُ عَنْ وَعْدٍ قَديمْ
أَلاَّ يُدَنِّسَ أَرْضِيا
مُسْتَعْمِرٌ،
غِرٌّ،
لَئيمْ
..نُعْمانُ أَنْتَ وَ"باشِيا"*
إِثْنانِ.. لا يَطْوِي الأَديمْ!
* باشيا: المناضل سُلطان باشا الأطرش
* نعمان: الأديب نعمان حرب
**
لا الوقت ولا الحرف سيجيئان
بنعيم خوري آخر
ـ1ـ
أَتَطَلّعُ بِصُوَرِكَ الْجَميلَةِ في مَكْتَبِي، فَأَحْسَبُكَ تَتَأَهَّبُ لعِناقي تَماماً كَما كُنْتَ تَفْعَلُ قَبْلَ الرَّحيلِ.
ـ2ـ
أَقْرَأُ مَقالاتِكَ وَقَصائِدَكَ الْكَثيرَةَ الَّتي كَتَبْتَها عنّي، وَأَدْخَلْتَنِي بِها عالَمَ الْكَلِمَةِ السَّرْمَدِي فَأَحْسَبُكَ تُخاطِبُنِي بِصَوْتِك الكُوراني الطَّاِلعِ مِنْ صَدْرٍ اسْتَقْبَلَ الْمَوْتَ دون رعْدَةٍ.
ـ3ـ
يا نَمِرَ الغُرْبَةِ الأسْمَر.. لَنْ يِطْويكَ الرَّدى، وْلَن تُذْبِلَ نَضارَتَكَ سَنَواتُ الإبْتِعادِ عَنّا، إِنّكَ تَعيشُ فينا، تَتَنَقّلُ معنا، وَتَعِظُنا كَيْ لا نَنْزَلِقَ نَحْو الغُموض.
ـ4ـ
أيّها الواضحُ كالشّمس، الهادرُ كالزَّوْبَعَةِ، الْمُنْطَلِقُ كَضَحِكات الأطْفال، وَالصَّامِدُ كَأَطْفالِ الْحِجارةِ.. إننا نحبّك.
ـ5ـ
أيها الشّاعرُ الذي عَشِقَتْهُ القَصائد، وَتَهافتتْ نَحْوَه القوافي، قَوِّنا كي نَسْتَمِر! أيّها الناثرُ الذي غارَ من نَثْرِهِ الشِّعْر، وَاسْتَحَمّت حُورِيّاتُ الإبْداعِ بِحِبْر أَقْلامِه، هَبْنا مَلَكَتَك الأدبيّة لنُبْدِع!
ـ6ـ
لَقَد كُنْت نَعيمَنا وَسَتَبْقى.. فَلا الْوَقْتُ وَلا الحرفُ سَيَجيئانِ بنعيم خوري آخَر.
فَنَمْ قَريرَ العين وَاحْلمْ بِقَصيدَة جديدةٍ تُخَفّفُ من حَرّ انْتِظارِنا على قارِعَة الْحياة.
**
كي لا ننسى
إيليا أبو شديد
ـ1ـ
إيليا أبو شديد.. شاعرٌ من أرضي الّتِي أعبُد، عرفَ كيف يحوك من خُيوط العَنْكَبوت خَيْمَةً يَتَفَيّأ تَحْتَها الشعر. عرف كيف يَنْسُج في ليالي النار عباءاتٍ من الورد تستر بها القصيدةُ عَوْرَتَها.
ـ2ـ
حمل قناديلَ الثلجِ كما حَمَل ديوجين قِنْديله، ولكننا اهتدَيْنا بقناديلِ ثلجه وَلَمْ يهتدِ ديوجين بعد!
ـ3ـ
بناتُ العشرين طَرّزن حروفَه بحلماتِهِنَّ، مخافة أن تجوعَ الحروفُ ولا تجد من يُرْضِعَها.
ـ4ـ
كان الشاعرُ اللبناني الوحيدُ الذي غنّى لِجُرْحه المصلوب، وبدلاً من أن يبكي الجُرْحُ، راح يُصفّق طرباً.
ـ5ـ
صوتُ ماردِهِ هزَّ الكونَ، وما زال يهزُّه، غير عابىءٍ بدوراتِه ورياحِه وأنوائِه.. فالماردُ من لبنان، والصوتُ شهقةُ شاعرٍ فَذّ.
ـ6ـ
وكما ركِبَ قدموسُ البَحْرَ، ليزرعَ أبجديَّتَه على ألسنةِ القارات، هكذا امتطى البَحّار صهوةَ زَوْرقه ليزرعَ أشعارَهُ في قلوبِنا.
ـ7ـ
إنه ثورةٌ لـم يَعْتَرِها ندم.. إنه الشاعرُ الذي أمرَ الزمانَ أن يقفَ، فوقفَ ليحتضنَه ويرحل.
ـ8ـ
قصيدة (حياتي) أو (صوت الإنسان) أسمعها قبيل رحيله لصديقه الدكتور عصام حدّاد، وأوصاهُ أن يسمعَها للريح.. علّها تنقلها إلى الجهاتِ الاربع، وتعلِّقها على صدورِ الناس أزرارَ ورد.
ـ9ـ
صَدَرت عنه دراساتٌ عديدة، نذكر منها: إيليا أبو شديد، شاعرُ المغامرة، للباحث جان صَدَقَة.
وإيليا أبو شديد شاعرٌ عامي مبدع، للدكتور جورج طَرَبَيه..
ولكنَّ الدراسةَ الأهم كانت حياته المليئة بالعطاءِ اللامحدود.
ـ10ـ
إيليا أبو شديد.. غَيّبَه الموتُ عن 64 عاماً، ولكن الشعرِ أحياه وأعادَه إلينا في اليومِ الثاني قَصيدةً ولا أَجْمل، سيُردِّدُها الناسُ، وستحرقُ قلوبَ العشّاق.
**
أبي
لو لم يكن البكاءُ خطيئةً لبكيتُكَ أبدَ الدّهر. فما من حنانٍ ضاهى حنانَك. وما من أبوّةٍ كأبوّتكَ فلقد كنت الواحدَ الأحدَ بكل شيء
كاملاً متكاملاً كالحب مشرقاً كالابتسامة وناضجاً كثمار الجنّة ولكم كنت سعيداً بوجودك ويائساً بغيابك قداستُك شهد لها الملكوت فارحمني يا أبي واغمرني بحنانك فأنت قادر على كل شيء.. كل شيء..
**
وداعاً يا باشا
الى روح الاديب محمد زهير الباشا
ـ1ـ
رسالة مؤلمة وصلتني هذا الصباح من السيدة وفاء ابنة الاديب الكبير محمد زهير الباشا تخبرني بها بوفاة هذا العملاق الأدبي النادر.
ـ2ـ.
أجل لقد رحل حبيب القلب محمد زهير الباشا بعد أن زيّن الأدب العربي بأجمل المؤلفات، وقد خصّني بكتابين رائعين: "شربل بعيني ملاح يبحث عن الله" و"رسائل محمد زهير الباشا الى شربل بعيني".
ـ3ـ
كم كان كريماً على أصدقائه ومحبيه، وكم كان حنوناً على عائلته المترامية الأطراف.
ـ4ـ
محمد زهير الباشا, هذا السوري الذي حمل وطنه على كتفيه وراح يجوب به الكون، مات خارج وطنه، مات في الولايات المتحدة الأميركية.
ـ5ـ
كان حلمه أن يعود الى وطنه الأم، كي يهب ترابه الجسدي لتربة أجداده، ولكن حلمه لم يتحقق، تماماً كأحلامنا نحن.. نغفو ثم نستفيق فتتبخر الأحلام.
ـ6ـ
فيا أخي "زهير" كما تحب أن أناديك، رحيلك أبكاني، لدرجة أحسست بعدها أنني أندب حالي، فخجلت من نفسي، لأن البكاء على العباقرة خطيئة، لا بل جريمة لا تغتفر.
ـ7ـ
من مثلك لا يموت، سيبقى أبد الدهر خالداً في المكتبات، تتناقل أدبه الألسن والعيون، وتحتضنه القلوب.نم قرير العين.. فاللقاء بيننا أصبح قريباً جداً.. فإلى اللقاء.
**
ابنة عمي مريانا تودعنا
ـ1ـ
بعد أقل من أسبوع على وفاة أخيها روبير، وبعد أقل من شهر على رحيل زوجها انطون، قررت ابنة عمي مريانا بعيني عبده أن تودعنا.
ـ2ـ
لقد اتعبتها الدموع.. وأحرقت قلبها الاهات.. فتوقف نبضه.. في أصعب وقت تعيشه عائلتنا في لبنان وأستراليا.
ـ3ـ
مريانا هي ابنة جيلي.. واذكر عندما كنت في السادسة من عمري أنني أحرقت شعرها المجعد الكثيف بينما كنا نشارك بعمادة أحد الأطفال الأقرباء ونحن نحمل الشموع.. فإذا بزوجة عمي المرحومة سيدة تأخذني جانباً وتصيح: إذا لم ينبت شعر مريانا ستتحمل أنت النتيجة.
ـ4ـ
واذكر أنني كنت ازور بيت عمي باخوس يومياً كي اطمئن على نمو شعر مريانا.
ـ5ـ
رحمك الله ايتها البعيدة القريبة من قلوبنا جميعاً. يا صاحبة أجمل ابتسامة.. لامثالك الجنة السماوية.
ـ6ـ
تعازينا القلبية لكل فرد من أفراد العائلة المترامية في كل بقاع الأرض.. آلامنا واحدة.. ودموعنا واحدة.. وخسارتنا واحدة..
**
ماري أنيسة
ـ1ـ
لن أخبركم عن الألم الذي انتابني لحظة سمعت بوفاة أمي الثانية ماري أنيسة. لقد عشنا معاً سنوات طويلة، الباب على الباب، لدرجة أن جيرتنا أصبحت مضرب مثل. كانت تعطف علينا مثلما كانت تعطف على أولادها. تحرسنا من كل شر، تزنرنا بصلاتها، وتمنحنا بركتها عند بزوغ كل فجر.
ـ2ـ
ماري أنيسه الأم، لن تتكرر، لا بالحنان، ولا بالامومة، ولا بالاخلاص، ولا بالتضحية، ولا بالمحبة، أنها الأم المثالية وكفى.
ولقد خسرتها مجدليا.. وخسرناها جميعاً أينما كنا في بقاع الأرض.. محبتها تتفاعل معنا وتمدنا بالقوة.
ـ3ـ
رحمك الله يا أم الكل.. وأسكنك ملكوته السماوي، وألهم عائلتك وأبناءك وبناتك والاحفاد وكل من عرفك الصبر والسلوان.
**
لوسيا عيسى
ـ1ـ
لوسيا الكحيل عيسى، إسم لن أنساه ما حييت، وكيف أنسى الأم الطاهرة التي حضنتني منذ صغري، كما حضنت ابنها المرحوم ميشال، فلقد كنا صديقين حميمين لا نفترق الا ساعات النوم، لا بل كنّا ننام في أكثر الاوقات معاً، كي لا نفترق أبداً، لولا غربتي، ورحيله الى دنيا الخلود وهو في عز شبابه.
ـ2ـ
وقد لا أغالي اذا قلت أن بيت الياس عيسى زوجها المرحوم، كان بيتنا جميعاً، وكنّا نقصده كل ليلة لحضور البرامج التلفزيونية، يوم لم يكن في مجدليا إلا أربع تلفزيونات لا غير. والويل لنا إذا لم نأتِ الى السهرة، فكانت لوسيا، رحمها الله، تقيم الدنيا، ولا تقعدها، إلا بعد أن نجد لها عذراً يقنعها.
ـ3ـ
وأذكر يوم زرتها في لبنان بعد ثلاثين سنة من الهجرة، كيف استقبلتني بالاحضان وهي تصرخ:
ـ لقد رأيتك مرة ثانية قبل الرحيل الأبدي. إني أرى في وجهك يا شربل وجه ابني المرحوم ميشال.. فلقد كنتما أخوين عزيزين، لا الغربة فرقتكما ولا الموت.
ـ4ـ
السبت القادم، 10/12/2016، سيجتمع أبناء بلدة مجدليا للصلاة عن روحها الطاهرة عند الساعة السابعة مساء في كنيسة مار شربل بانشبول، يتقدمهم أخوها يوسف الكحيل وعائلته والاهل والاقرباء من سيدني وملبورن.
ـ5ـ
غداً السبت، سأرسل لها قبلة عبر البحار، وهمسة صغيرة أقول فيها: أحبك يا أم ميشال.. سلمي على من غاب منا، وخاصة ابنك ميشال، وأخي مرسال.. الى أن نلتفي.
**