نجمة الشعر

قصائد مختارة من كتب الشاعر
**
الغلاف والرسوم الداخلية للفنانة رندى بعيني
**
تقديـم
" نجمةُ الشعر" ... بأشرعة الفُصحى يمخَرُ بحراً بلا ضفاف!
بقلم د. مصطفى الحلوة 
رئيس الاتحاد الفلسفي العربي
 **
مدخل/ "القباني" إذْ هداهُ إلى فصيح الشعر.. فكان إبداع!
" ... حُبُّهُ لنزار (قباني) حبٌ أعمى، نما في قلبه، منذُ لقائه الأول 1968، يوم ذهب إلى بيروت، برفقةِ أخيه جوزاف لتقديم نسخة من ديوانه بالمحكيّة (مراهقة) لمعلّمه نزار. كان في السابعة عشرة من عمره، ومع ذلك استلم النسخة من يد شربل، وراح يتصفّحها، وبعد دقائق التفت إليه قائلاً: أنت شاعر يا شربل، ولكنك تكتبُ باللغة العاميّة اللبنانية، التي لا يفهمها أكثر من ثلاثة ملايين نسمة. دَعْكَ من لغة سعيد عقل، فسعيد عقل سيتخلّى عنها قريباً، وسيعود للكتابة باللغة العربية الفُصحى، التي يقرأها أكثر من مائة مليون نسمة. عليك، يا صديقي، أن تتوجَّه للكثرة لا للقلَّة. فما كان من شربل إلاّ أن أجابه: طالما أنني عاجزٌ عن منافستك بالشعر الفصيح، الذي أنت سيّده دون مُنازع، سأكتفي الآن بالكتابة باللغة العامية، فأُعجبَ نزار بجوابه، ودعاه لتناول الغداء معه!" 
"... سأكتفي الآن بالكتابة باللغة العامية..."... بإستعراضنا هذه العبارة، من الحوار بين الشاعرين، نخلصُ إلى مضيّ البعيني في طريق المحكية اللبنانية شعراً، مُبقياً الباب مشرّعاً على خيارٍ آخر، مُرجأ التنفيذ، مآلُهُ الخوض في خضم العربية الفُصحى، بعد حين من الدهر، أطال أم قصُر!
هكذا عمد شاعرنا إلى "ربطِ نزاع"، بحسب لغة الحقوقيين، يتوسَّلونَه عندما يستأخرون البتّ في قضيّة خلافية، فيتم "ربطها" زمنياً، لتبقى محتفظةً بمفاعيلها، وتكون عودةٌ إليها لاحقة.
عقب ذلك اللقاء "التاريخي"، بل المفصلي في حياة شربل بعيني ومساره الأدبي، بما قد يُنبئ بتحوّلات دراماتيكية بنّاءة، راح شاعرنا "يُجوجلُ" في فكره تلك النصيحة التي أُسديت إليه، من قبل قامةٍ عملاقة، بل من قبل مرجعيّة عربية شعرية، وطفق يدورُ في خَلَدِه أن "القبّاني" ما كان ليحمِّلَه أمانة الفصحى, لولا أنه آنس فيه شاعراً، أو "مشروع شاعر" ، وهو لم يتردّد، إذْ خلع عليه لقب شاعر!
في هذا المقام، نجزم بأن شاعرنا لم يذُق طعم النوم تلك الليلة، وقد كُرِّم مرّتين:" مرّةً بخلع القباني ذلك اللقب عليه، ومرّةً ثانية إذْ تشارك الشاعران الطعام!... وما أدراك ما تعني "الممالحة"، في القاموس العربي!
مما يلفت ايضاً تلك الذريعة التي طَلَعَ بها البعيني للتملّص "آنياً" من الموقف الذي حُشِر فيه:" .. طالما أنني عاجزٌ الآن عن منافستك بالشعر الفصيح، الذي أنت سيّده.." ... فإلى حُسن التخلّص- وهو بابٌ من أبواب البديع المعنوي- وضع شاعرنا نفسه على سُكّة التحدّي مع نزار قباني، في الآتي من الأيام، فيترسَّم نهجه الشعري، مع اعتراف مُسبق بل تسليمٌ بأن "معلمه" هو سيد الشعر من دون مُنازع!
لعلّ خاصِيَّة التحدّي، التي أُوتيها شربل بعيني: طبعاً (والطبعُ لديه غالبٌ التطبُّع) وتركيبةً نفسيةً، كانت ولمّا تزلْ تمدّه بطاقةٍ لا تنفد! وفي هذا المجال، تحضرنا شهادة المهندس رفيق غنّوم، صديق الشاعر وأحد قادريه، حيث يقول: "شربل بعيني.. ديك نزار قبّاني الرائع" هذا (أي شربل) الذي ملأ الدنيا وخوّف قارة (أستراليا) بأكملها، بشجاعته وفتكه ومروءته.. هو الذي قال عنه الأديب الرئيس جوزيف حايك: إنّ كبير أدباء موطن الأرز، الأستاذ شربل بعيني، قد فتح صفحات التاريخ وترك تلك الصفحات تتكلّم، فأصبح موسيقى العذارى، على فم الأنبياء، الذين حنوا الجبين، أمام عظمة الأدب والفكر والكلمة" .
يكفي شاعرنا، مجدَ غارٍ، ما خصَّه به نزار قبّاني،  عَبْرَ رسالتين/ شهادتين، رداً على رسالة البعيني إليه، في يوبيله الذهبي وغداة تكريمه (تكريم قباني) ونيله جائزة جبران العالمية. فقد كان لهاتين الرسالتين (نهاية 1993 ومطلع 1994) أن تبثّا الروح في شاعرنا وتُوجرا الدينامية التي يختزن، وهي من محفّزات نجاحه وإبداعه الدائمين!
... أجل! هي النصيحةُ / العبء، بل الأمانة- والأمانة شديدة الوطء على من تُودعُ بين يديه!: "إنّا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال، فأبينَ أن يحملنَهَا، وأشفقنَ منها وحملها الإنسان" (القرآن الكريم/ سورة الأحزاب: 72) - حملها شربل بعيني، وفى بالوعد، وإذْ حان وقتُ تأديتها، طفق يمخَرُ عباب بحر مُتلاطم، ولتُلبِّصَ أشرعةُ سفينِهِ عند برّ العربية الفصحى، فكان من المفلحين!
لقد راح البعيني يُسائل نفسه: لِمَ لا أسلكُ طريق الفُصحى شعراً، من دون التخلّي عن المحكية، التي فُطرتُ عليها، فأفوز بالحُسنيين، وبمجد اللغتين؟! كيف لا أفعل، وقد اتخذتُ من ذلك "النزار" قدوةً ومثلاً أعلى؟!
هكذا كان إقدامٌ، فاستحق شاعرنا "نزاريتهُ" الشعرية، كما موقع التلمذة من معلّمه، وهو ما فتئ يُردِّدُ، في كل مواقفه، بأن نزاراً هو مثله الأعلى، على الصعيد الأدبي. ففي حوارٍ، أجرته معه الناشطة الأدبية هدى الصباغ، يُجيبُ رداً عن سؤال، حول مثله الأعلى في الحياة، فيقول من دون تردّد: "اجتماعياً والدي، وأما أدبياً، فنزار قباني، لأنه أُعتُبِرَ أوّل من ثار على الشعر ثورة قوية، وجعل الناس تحبّ الشعر أكثر"، وليضيف بأن القباني "أنزل الشعر من ابراجه العاجية وقصوره الفخمة، وزيّن به أكواخ الفقراء!"  
وإذا كان البعض يُسلّم بأن الله يخلق من الأشباه أربعين، من حيثُ الشكل خَلْقاً، وليس من حيث الإبداع الفكري، فإننا نذهبُ إلى أن للبعيني كبير شبهٍ مع معلّمه ومثار وحيه، يتمثّل برقة اللغة وبلّوريتها، وطبعية القول والانسيابية الشعرية الدافقة، التي تدغدغ الأسماع، وتتنزّلُ، على القلوب، بَرْداً وسلاماً! وبذا يغدو شاعرنا بحق من "مريدي" المدرسة الشعرية " النزارية": موضوعات وخطاباً تعبيرياً.. وهذا ما سوف نُفردُ له حيّزاً واسعاً، لدى مقاربتنا المحاور التي تتنازعُ "نجمة الشعر"، والرسائل التي يبعث بها إلى القراء، على امتداد الساحة العربية!
في معرض الجدل حول إشكالية المحكية والعربية الفصحى، وبما يتصّل بموضوعنا تخصيصاً، فإننا، إذْ نوافق الشاعر نزار قباني فيما يعود إلى حثُ البعيني، كي يتوجّه إلى الكثرة من العرب وليس إلى القلّة، نلفتُ إلى أن المحكيّة اللبنانية ليست مقطوعة الجذور عمّا حولها من محكيّات بعض البلدان العربية، فهي إحدى المحكيّات الشامية (بلاد الشام)، يفقهها، إلى اللبنانيين، السوريون والفلسطينيون. وقد كان لهذه المحكية أن تلقى انتشاراً في الأميركيتين، الشمالية والجنوبية، منذ بدايات القرن الماضي، حيث حلّ المهاجرون اللبنانيون بخاصة، والعرب "الشوام" بعامة. فقد كان يُرى إلى القادمين من لبنان أنهم سوريون، ويوسمون بهذه الصفة من قبل أهل تلك البلاد. ولا يعني ذلك أننا نضع المحكيّة، من حيث رقعة انتشارها، في مقام العربية الفُصحى، التي تمثِّل لغة جامعة وقاسماً لغوياً مشتركاً، على امتداد البلاد العربية. كما أننا لسنا من دُعاة إحلال المحكيات اللهجية العربية مكان الفُصحى، سيّما أن صراعاً مشبوهاً قد ذرّ قرنه، بداية القرن العشرين وحتى منتصفه، بين تيار هؤلاء الدُعاة إلى العامية وبين المتشدّدين من حُرّاس الفصحى. وقد شكّلت مصر، ومن ثم لبنان، مسرحاً لهذا الصراع، الذي تزعمّه لبنانياً الشاعر الراحل سعيد عقل (1912- 2014). علماً أنه من كبار الشعراء المبدعين بالفُصحى إبداعاً مُنقطع النظير! فهو من غنّى " مكة وأهلها الصيدا" ، وهو من غنّى القدس "زهرة المدائن"، وهو من قال في الشام، ما لم يقُلْهُ شاعر قبله ولا يُقال بعده!
بيد أن تحوّلاً طرأ على مسار هذا الشاعر العملاق، فقد انقلب على الفُصحى وراح إلى العامية اللبنانية، بل ذهب بعيداً حين دعا إلى استخدام الأبجدية اللاتينية، إضافةً إلى بضعة أحرف، صُمّمت حديثاً لتناسب علم الأصوات اللبناني، وقد دُعيت هذه الأبجدية، التي ضمت ستة وثلاثين حرفاً، "أبجدية عقل اللبنانية"!
إشارةٌ إلى أن شربل بعيني وأقرانه، من شعراء المحكية، أرادوا أن يتكلموا بلغتهم المحلية، وبلسان قومهم، اقتناعاً منهم أن اللغة هي أحد مكوّنات الهوية الوطنية والثقافية، والانتماء إلى الحيِّز الجغرافي ذي الخصوصية الأصيلة. وإذا كان من ميزة فارقة للمحكية، فهي، وفق الباحثين في علم اللغات، "القوتُ اليومي للشعوب!" 
.. وإلى ذلك لم تكن ثمة خلفيات أو دوافع تبعث على الريبة في انتهاج شعراء المحكية هذا النهج، وفي عداد هؤلاء الشعراء من لم يُغادروا دائرة المحكية، مُغلقين على أنفسهم، إما اختياراً واقتناعاً، وإما عن عجزٍ وقصور، إذْ تُعوزهم إجادة العربية الفصحى والتمكّن من علم العروض والعلوم البيانية. أما من  جنحوا إلى الفُصحى ، فبعضهم حققوا نجاحاً بيِّناً، يأتي في مقدّمتهم الشاعر شربل بعيني. ولقد توقّفنا عند ذلك النجاح المزدوج، في مقاربتنا ديوانه الرائع" أُحبُّكِ"، الذي صدر، في سيدني، منذ أسابيع معدودة! 
لقد اراد البعيني أن يُثبتَ "كفاءته" وعُلوّ كعبِهِ في كِلا اللونين الشعريين، فكان أن ألقى شباكه عند "مجمع البحرين"، بحر العامية وبحر الفُصحى الدافقين، فحاز مجدَ الشعر اللبناني والعربي الكلاسيكي الموزون، وهما، نهاية المطاف، من أرومة لغوية واحدة . وتدليلاً على ذلك النجاح المزدوج، ومن منطلق أن موهبته الشعرية هي هي في كليهما، أتانا بـ"المربدية"، وهي من روائع قصائده، ضمّنها الشعر العمودي الخليلي، إلى الشعر الحر، وإلى الزجل، ولتكون تلك القصيدة العصماء حُجَّةً له، لمرّة واحدةٍ وفي وقفة شعرية واحدة، تشهدُ على فلاحه في فنون الشعر: فصيحِهِ وعامِّيْهِ. هكذا تماهى اللبناني "المجدلاوي" بالعربي النِجار، وكان خلقٌ في أحسن  تقويم! 
.. وإذْ نتعمقُ هذه الإشكالية، إشكالية المحكية والفصحى، لما لها من حضور في نتاج البعيني الشعري، فإن المحكية اللبنانية شعراً، المنضوية إلى الشعر الشعبي، تمثّل عنصراً من عناصر التراث اللبناني، على تماسٍ مع الشعر الفصيح سوى أن لغتها مختلفة عن الفصحى، في حدودٍ مُعيّنة.
وعن أهم ميّزاتها، يرى الأديب المُغترب جميل الدويهي، أنها أكثر ثراءً في قدرتها، على تجسيد التقاليد والموروثات الكلامية، إذْ نجد بين طيّاتها معطيات عن حياة الأجيال التي سبقتنا، وطرق عيشهم وطقوسهم وسلوكياتهم، في مختلف المناسبات، من أعياد وأعراس ومآتم.. ناهيك عن لكنتهم المتميزة وأمثالهم الشعبية التي كانوا يتوسلونها في منطوقهم. ويضيف الدويهي أن المحكية اللبنانية تتشارك والفصحى، في بعض الأوزان الشعرية، مما يعني أن هذه المحكية لا تفتقر إلى الإيقاع الموسيقي، وهو من ركائز الشعر، وهو ما يمثّل العلاقة الفارقة بين الشعر والنثر!
وعن ذلك التواصل بين المحكية اللبنانية وبعض المحكيات العربية، فإن المتتبّع لأنواع الشعر المحكي في البلاد العربية المجاورة للبنان، سيجد بوضوح أن بعضها قد دخل إليها، من خلال عملية التفاعل بين المثلث الشامي (لبنان- سوريا- فلسطين)، وهو ما ألمعنا إليه آنفاً. فقد كان بعض الشعراء اللبنانيين يحيون مناسبات وحفلات في سوريا، وفي فلسطين (قبل نكبة 1948)  .
.. استزادةً حول المحكية شعراً، لا سيما ما يعود إلى البُعد التراثي الذي تُجسِّد، يذهب الشاعر محمد علي شمس الدين، في مقاربته كتاب د. ميشال خليل جحا "أعلام الشعر العامي في لبنان"، إلى أنه خال نفسه يتعرّف "لأول مرّة على الوردة والنسيم، والنبع الصافي، والعصفور، ووجوه الفلاحين المقدودة من صخر الجبال.. هذه التي كاد ينسينها الزمان، الزمان الملوث والرثّ"، وليضيف بأنه في هذا الشعر، يفوح عبق الجبل، وتشرئبُّ فيه صخرة أو يرنّ معول، أو تختال شمس على شجرة، أو يكرّ عصفور كرّاتِهِ الحبيبة الساحرة".
وعن المفاضلة بين العامية شعراً وفصيح الشعر، يُنسبُ إلى الشاعر المصري أحمد فؤاد نجم أنه يُفضّل بيرم التونسي على أحمد شوقي، وصلاح جاهين على صلاح عبد الصبور. ويُروى، في هذا المجال، أن أحمد شوقي ما فتئ يقول: أخاف على الفصحى من بيرم التونسي. أما في لبنان، فإن رشيد نخلة، كان في المطالع المهيبة لأزجاله، تلك التي يمزج فيها بين العناصر الكونية الكبيرة، كالشمس والجبال والرياح والبحار وعناصر ذاته الشعرية القوية، أشبه ما يكون بأحمد شوقي ذاته!   
وعن الأثر الذي يخلِّفه الشعر بالمحكية، يقول الأديب مارون عبود: "إذا أنشد الشاعر العامي قصيدة في حفلة، تهتز المقاعد والكراسي استحساناً، وتموجُ الرؤوس كالأغصان، تحت أذيال النسيم الولهان"  .
.. وإلى كل ما ذكرنا، فإن ما يُسجَّل في خانةِ الشعر المحكي، الواقعية والطرافة والتعبير عن الأحاسيس وطرق التخاطب، وهذا ما لا يقدر عليه أكثر الشعر الفصيح!
في رسالة الشعر، كما يرى إليها شربل بعيني!
"الناس يبحثون في الشعر عن خلاصهم، ويعتبرونه مسيحهم المنتظر!"...عبارةٌ بتوقيع نزار قباني، إذْ يرى إلى الشعر باباً وسيعاً ، مشرّعاً على الرجاء والخلاص! وإذْ يصدر البعيني عن عين هذه الرؤيا، فهو يتشبّثُ بثابتةٍ، إلتزمها في شعره: "شعري غائي وليس غوغائياً!"، بل ليلتزمها في سائر نتاجه الأدبي، سحابة نيفٍ وخمسين عاماً، فلم يحِدْ عن دربها، ولم يخطئ مرّةً الحساب!
هكذا راح شاعرنا، في محكيتهِ الشعرية، كما في فصيح شعره، إلى توسُّل الشعر رسالة نبوية، فكانت مواقف جريئة، جهرَ بها غير هيّاب، فشارف جرّاءها حدود التهلكة! هي وقفاتُ عزّ، لا يتنكّبها إلاّ ذوو الرسالات، الناذرون أنفسهم لبني قومهم وأمتهم ولمجتمعهم، كما للانسانية جمعاء!
ولا جَرَمَ أن رسالة الشعر والشاعر، لا يدركُ مراميها، ولا يعي أبعادها إلاّ من أُوتي حسّاً إنسانياً رهيفاً، والغائر عميقاً إلى جراح الأمة ومآسي مجتمعه، وأوجاع البشرية على حد سواء!
... إنها الرسالة التي ندبَ نفسه لها شاعرنا، من منظوري الموقع والدور... هي رسالة نضالية، تنْهدُ إلى أن تكون الغلبة لقيم الحق والخير والجمال!
وفي استكناهٍ لدور شاعرنا النضالي، الذي تموضع فيه، كما لتوجّهات شعره، لنا أن نستنطق نصوص "نجمة الشعر"، فنتقصّى تلك الغائية التي يتلبّسها شعره، ولتغدو على جسد قصائده وروحها وشماً فرعونياً، لا يحول ولا يزول! 
إمساكاً بطرف خيط المسألة، يتبادر إلى الذهن بداءة جملةٌ من الأسئلة، أبرزها: ما الشعر؟ ما هي مرتكزاته التي يقوم عليها؟ ما دوره، وما هي المجالات التي يُغطّيها، والفضاءات التي يبلغها؟.. في إجابةٍ عن هذه الأسئلة، هل يكفينا أمير الشعراء شوقي مؤونةً، فتكون لديه بعض إجابات، كثّفها في أحد أبياته الشعرية:"والشعر ، ما لم يكن ذكرى وعاطفةً/ أو حكمةً فهو تقطيعٌ وأوزان"؟!
على رُغم أهمية هذه المرتكزات، فهي تبقى منقوصة، كونها لا تلحظ، بل لا تحسب حساباً لواحدٍ من أبرز أبعاد الشعر، عنينا البُعد النضالي، بما هو بُعدٌ وظيفيٌ بإمتياز! 
... الشعر ذكرى وعاطفة وحكمة، أقانيم ثلاثة، غير وافية، كونها تُغفل التزام قضايا الموجوعين المكلومين والمقهورين، من أبناء الأمة والوطن!
هكذا، من موقع نضالي، يجهرُ شربل بعيني برسالة الشعر الحقّة، مستكملاً ما فات شوقي:" فالشعر منذ البدء ثورة أمة/ جاءت لتُزكي في النفوس مطالبا/ والشعر ما بالشعر من مُتخلِّدٍ/ إلاّ إذا قتل الطُغاةُ مواهبَهْ" (من قصيدة: جبران).
عَبْرَ هذه الرؤيا "الثورية"، يكتسبُ الشعر صُدقية عالية التوتّر، فيُخرج ما في نفوس الشعب من لهب قضايا، ولا يُخلَّدُ شاعرٌ إلا إذا تعرّض للقمع، على أيدي الطُغاة الذين يجهدون في كبتِ أنفاسِهِ، وبذا تكونُ إجازتُهُ خير إجازة... 
هناك في ميدان النضال يكون نزال الشعر الحقيقي وظهوراتُهُ، وليس من على المنابر، وفي القاعات المغلقة وبين النخب الجالسة في مقاعد وثيرة!.. وليس المعلمون وحدهم هم من يُجيزون، بل إن للجلاّدين خرّيجيهم، من مدارس القهر والاستبداد، وأعظِمْ بهم من خريجين!
في هذا المجال، أَلَمْ يُثمّن شاعرنا دور نزار قباني، مثله الأعلى، كونه "أوّل من ثار على الشعر ثورة قوية، وأنزله من أبراجه العاجية وقصوره الفخمة، وزيّن به أكواخ الفقراء؟!"
من هُنا، فإن الشاعر لا يصيغ عباراته بالأبجدية المعهودة، بل يصيغها من نارِ سعيره:" قلبي أنا بالهجرِ منتفضٌ/ بالنارِ صُغتُ الشعر والجُملا" (عهد التميمي).
تأسيساً على هذا الفهم لأبعاد الشعر الحقيقية، نذر شاعرنا نفسه، من موقع رسالي، لمهمة ذات قداسة:"... ونذرتُ نفسي للقداسة شاعراً" (يوم رحيلنا).
ولا شك أن قدسية هذه الرسالة لم تأتِ من فراغ، بل هي من صُنع الإله، ومُباركةٌ من لدُنه:"... يا شاعراً، صاغ الإلهُ حروفَه/ أنِّبْ لتردعَ شعبَكَ الأقوالُ/ أنت القويُّ، عبارةً وعزيمةً/ وإليك يرنو، في العشية، بالُ" (ظلال).
.. هذه الرسالة المضمَّخة قُدسيةً، تُشكّل المعيار الذي يُقايسُ عليه، فإما أن يفوزَ الشاعر فوزاً عظيماً، وإما أن يسقط سقوطاً مدويّاً. من هُنا، كان شاعرنا، يومَ الاحتفاء بفوزه بجائزة جبران العالمية، قد توجّه إلى جبران في لحده، مُخاطباً:"صدِّق، أيا جبران، مُطلقُ شاعرٍ/ يجترُّه فكُّ الغباءِ يزولُ/ إنّا بأرض الهجرِ، نُلهبُ شعرنا/ لتموت في أرضِ الجدودِ فلولُ/ ولقد كتبتُ قصيدةً عن موطن/ سيُزغردُ الأحبابُ حين أقولُ:/ لبنان، في الآفاق، شيّد مسكناً/ غنّته (سدني) واصطفتهُ عقولُ" (جبران).
.. وبقدر ما يكون الشعر ذا سمةٍ نضالية، ينبغي أن يُجانبَ تافه القول، وكل ما يشي بابتذال ورُخص! هكذا كانت دعوةٌ إلى إعادة الاعتبار للشعر، فيعود إلى أيامه الخوالي، حين كان له سلطانٌ وسطوة!: "ردّوا للأشعار أياماً خَلَتْ/ أكثر الأشعار من صُنع الغباء/ يحسبون الشعر حكياً تافهاً/ ثرثراتٍ داخ منها العقلاء" (يا رُعاة الشعر).
في هذا المجال، بهدف تحصين الشعراء من أية مخاطر تتهددهم فرادى، وإذ يتعرضون لإغراءات الزعامات، التي تتقن فن بيع الذمم وشرائها، يدعو شاعرنا إلى إيجاد أُطُر لهم جامعة: "الشعر ما لم تحتضه روابطٌ/ أضحى لكافور الزعامة كاتباً/ وتبلبلت أفكاره وتضاربت/ وتسلّقوه، مآرباً ومناصبا" (جبران).
في تسليط الضوء على الدور الذي يؤديه الشعر الاغترابي، يُثمِّن شاعرنا إسهام الإعلام الاسترالي، في إيصال صوت الشعراء، بكل حرية، ومن دون أن يتكبّدوا أكلافاً مادية، وذلك بخلاف ما هو قائمٌ في وطنه الأم، وفي سائر بلاد الشرق العربي، حيث قمع الحريات والتنكيل بأصحاب الكلمة:".. تعبنا كي يظلّ الفكر مسؤولاً/ عن الشعب الذي دُنياه مسبيّهْ/ عن الشعب الذي في السجن مرميٌّ/ كما الأحكامُ بالأوحال مرميَّهْ/ هنا الإعلامُ يُعطينا بلا غدرٍ/ ليغدو الشعر أبياتاً عصامِيه" (عراقيهْ).
... ويبقى ، أن رسالة الشاعر- كما الشعر- التي تبسّطنا فيها، لا تعرف السكينة، ولا الاستكانة، ولا يعرف النومُ إليها سبيلا:".. أتنامُ عينُ الشعر ملء جفونها/ وعلى الرموش مصائبٌ تختالُ؟!" (ظلال).
"نجمة الشعر"/ لوناً شعرياً ومحاورَ ورسائل تحت المجهر!
"نجمة الشعر"، إذْ شاءهُ صاحبهُ قوسَ قزح شعرياً، فقد استلّ قصائد مختارة من بعض دواوينه، ولتخرج من بين يديه "نجمةٌ"، تُضيء فضاءات شعره المغزول بالفصحى! هكذا يصعب إدراج هذه القصائد، كشكولية الطابع، تحت فن شعري واحد!
في رصدِنا الألوان الشعرية الطاغية، في هذا الديوان، فهي تترجّح بين الشعر الوجداني، تُترِعُهُ غربة الشاعر بدفقٍ من وجع وحنين وذكريات، وبكل آلام "النوستالجيا" التي تفيض عن نفسه.. وبين الشعر الوطني ذي المرتكز السياسي، حيث يحمل الشاعر، في قلبه ووجدانه، همَّ وطنٍ تتألّب عليه المحنُ، تُمسك بخُنَّاقِهِ طبقة سياسية فاجرة، أدمنت الفساد والإفساد، وأودت بالبلاد إلى شرّ مصير.. وبين الشعر "العروبي"، إذْ تُثقل شاعرنا همومُ الأمة التي تتردّى إلى الدرك الأسفل، في مختلف المجالات.. وبين الشعر المكرّس للعيش المشترك والاعتراف بالآخر المختلِف، لا سيما لجهة الانتماء الديني.
وإلى هذه الألوان الأربعة، ثمة لونٌ شعري تنضوي إليه ثلاثون قصيدة، تُغطّي ثُلثي مساحة الديوان (30 قصيدة من أصل 44)، هذا اللون الشعري الطاغي يروح إلى المديح والاحتفاء "المناسباتي"، عبر سرديتين شعريتين- كما يحلو لنا أن نُطلِق عليهما- تتوجه أولاهما، من خلال اثنتي عشرة قصيدة، إلى عشر مدن/ أو عواصم عربية (تمجيد بغداد في قصيدتين)، يُضاف إليها قصيدة حول "مزرعة الشوف"، مهد "البعاينة"، في حين تُشيد السردية الثانية (18 قصيدة) بإحدى وعشرين شخصية، لعبت أدواراً، على قدر كبير من الأهمية، كل واحدةٍ من موقعها، منهم من غادرنا إلى الأبدية، ومنهم لا زالوا فاعلين، وعلى قيد الحياة!
وإذا كانت هذه القصائد الثلاثون تتسم ظاهراً بسمة احتفائية تمجيدية، فهي قد شكّلت ، بمجملها منصّاتٍ، أطلّ الشاعر منها على مواقف ورؤى، على تماسٍ مع أطروحة الغربة، ومع الشعر السياسي الوطني، كما العروبي، إلى فنون شعرية أخرى. وخارج هذه الألوان الشعرية جميعها، ثمة فسحةٌ للشعر الحكمي ولخواطر، نمّت عن تجربة حياتية عميقة ورؤيا ثاقبة في تقلّبات الدهر وشجونه!
... توازياً مع الفنون الشعرية التي استعرضنا، يُسوَّغ لنا العبور إلى المحاور التي تتوزّعُها قصائد "نجمة الشعر"، فنضعها تحت المجهر وعلى مشرحة التحليل، فنتقصّى أطروحاتها، وما تُؤشِّر عليه من أبعاد واستهدافات ورسائل: 
أ- محور الغربة: هو التمزُّق.. 
هو الاغتراب بمدَييه، الاغتراب عن الذات ببُعدها النفسي المدمِّر (Aliénation)، والاغتراب الجغرافي/ المكاني.. بل هو الجرح النازف، عبر كلا الاغترابين، لا التئام له، ويبقى، ليلَ نهار،  مفتوحاً على وجع مبرِّح ومتجدِّد! ذلك ما يكابده المغترب، منذ أن تطأ قدماه أرضاً غير أرضه، وبيئةً لا تمتُّ بصلةٍ إلى بيئتِهِ.. وتبدأ آلام الحنين، ويغدو وقع الزمن، صراعاً ماثلاً بين الذاكرة والواقع:" كم منزلٍ في الأرض، يألفُهُ الفتى/ وحنينُهُ أبداً لأوَّلِ منزلِ"!
قد يشعر المغترب بنوعٍ من السكينة، وليس الراحة ، بعد مضيّ فترة زمنية من ترحُّله عن وطنه الأم، فيكون تأقلم " قسري"، على قاعدة" إذا لم يكن ما تُريد فأرِدْ ما يكون!".. هذا التأقلم قد يكون أكثر فعاليةً، لدى المغتربين من رجال الفكر، إذْ توفِّر لهم البيئة الجديدة فسحةً رحبةً من حرية، وتستقبل فكرهم "الثوري" المجهض في أوطانهم – الأم.. هكذا ، والحال هذه، يُعوِّض الوطن البديل المؤقت عن الوطن الأصيل، وقد يغدو هذا الأخير أصيلاً عند الذين حققوا نجاحاتٍ استثنائية، فيكون تماهٍ بين الاثنين وعبورٌ إلى وطن" كوسموبوليتي"، يتفلَّتُ من أسار الجغرافيا المحلية/ الوطنية  إلى رحاب المعمورة، في ظل العولمة الفاردة جناحيها على الكون برمته!.. ذلك بعض ما جادلتُ فيه شاعرنا البعيني، عبر المناظرة (Debate) التي نوّهتُ عن جزء منها، في تقديمي ديوان "مجانين"، الذي صدر ، الكترونياً وورقياً، في سيدني، منذ أسابيع معدودة. ولقد خالفني البعيني نظرتي "المعولمة"، إذْ لا زال يرى إلى نفسه، ويُرى إليه، أنه ابن "مجدليا"، وليس ابن ماريلاندز، المنطقة التي يسكنها، في سيدني، منذ خمسة عقود. وإلى عملية النبذ- إذا  جاز التعبير- التي يعيشها شاعرنا، بين الفينة والفينة، يبقى وجع الغُربة مستحكماً لديه، كما تبدّى من تلك المناظرة، التي أتينا على ذكرها! بل إن الغربة غدت خبزه المرّ الذي يقتاته يومياً، كما وجعه اليومي، دائم النغر فيه!
استتباعاً لمقاربتنا أطروحة الغربة، عبر "نجمة الشعر"، يتبيّن أن ثمة قصائد، تدور برمّتها حول هذه الأطروحة، وثمة قصائد تترجح بين أكثر من لونٍ شعري، أحدُها الغربة. يُضاف إلى ذلك خواطر اغترابية مبثوثةٌ في تضاعيف السرديتين، المدينية (نسبة إلى المدن التي أُحتُفي بها)، وتلك التي راحت إلى امتداح بعض الشخصيات- الأعلام، ولتُشكل هاتان السرديتان- كما اسلفنا- منصّتين، أطل منهما شاعرنا على هذه الأطروحة وعلى مسائل شتى.
.. الوطن هو ذلك الوجع الساري في شرايين شاعرنا، فهو، إذْ يتوجَّه إلى ثلاثة من أعمدة الزجل اللبناني (النقيب جورج أبو أنطون، والياس خليل وأنطون سعادة) تم تكريمهم في سيدني، يُحمِّلُهم رسالة وجعٍ إلى الوطن الذي خلَّفه وراءه، والذي لا زال ساكنَهُ:".. إنْ رجعتم أرضنا، قولوا لها:/ هي تجري في الشرايين دماء!" (يا رُعاة الشعر).
.. وإذْ يُخاطب آخر الشعراء العمالقة الكلاسيكيين، محمد مهدي الجواهري، يُفضي إليه بذلك الوجع الملازمِهِ، أينما حلّ وارتحل: " كنت البعيدَ عن دياركِ هل/ تدري بأنِّي حاملٌ تعبي؟/ أنَّى اتجهتُ، غربتي وجعٌ/ يا حبّذا، لو جئت مغتربي" (محمد مهدي الجواهري).
ولعل شاعرنا، في دعوته الجواهري إلى زيارتِهِ في مغتربه الاسترالي، يُريده أن يُعاين وجع البعيني عن كثب، فالعيانُ أصدقُ من الخبر! 
... في مخاطبة شاعرنا سعيد عقل، يشكو إليه حال وطنه الأم، الذي يحكمه الكَفَرة والفاسدون، كما يُعبِّرُ عن اليأس الذي يستحكم به، جرّاء التشرّد، والعمر يمضي به، وقد غزاهُ الشيب!:" لبناننا، يا عقلُ، أنت له/ درعٌ، لماذا يحكم الصنمُ؟/ انظر إليه وجههُ قرفٌ/ وتثورُ في أحناكِهِ الحِممُ/ إنّا يئسنا من تشتّتنا/ قد لفّنا في الغُربة السأمُ/ انظرْ إلينا شيبنا ندمٌ/ رُحماك.. قد لا ينفع الندمُ" ( سعيد عقل).
.. ومهما تباعدت المسافات، بين وطن الشاعر وبين مغتربه ، يبقى ذلك المشتاق إليه، فزمنُ وطنه الجميل، لا زال يحتلُّ منه الوجدان ويُفجِّرُ المشاعر! وإذْ لا يُعيرُ المسافات شأناً، فهو يمنّي النفس بالعودة إليه. ولكن من أسفٍ، كيف له أن يُواجه سريان العمر المتسارع في خطاه، والذي يأخذه إلى شيخوختِهِ، مما يمنعُ تلك العودة المُبتغاة؟!:" أرضي، وإن بعُدت/ تشتاقها قدمي/ أعدو... فيسبقني/ قبرٌ من العدمِ" (عَلَمِي).
هكذا، فإن الحُلم بالعودة إلى الوطن يتأجَّج في صدره اشتياقاً مؤلماً: "غربتي.. نارُ اشتياقٍ مؤلمٍ/ ورجوعي بوح أحلى موعِدِ" (نجمةُ الشعر).
.. هذا الاشتياق الدائم شكّلَ، لدى  شاعرنا، حالة عشقٍ، في أعلى درجاتها، فوطنُهُ ولِفُهُ، والولفُ إذا ارتحل عن ولفه، يغدو الموت مصيرهما (عاشق ومعشوق!).
فقد أحبَّ وطنه، سحابة عُمرين: مرحلة الحداثة والمرحلة التي يمضيها هذه الأيام، ويتساءل معاتباً، لماذا لم يصُن وطنه ذلك الحب، وماذا دهاه؟!:" عيني رأتكَ الوِلفَ.. لا عجبٌ/ إذا هوتك وانتشتْ أُذُني/ أحببتُك العُمرين.. هل ولهٌ/ أهداكَ عمراً، جالَ في البدنِ/ صانتهُ روحي منذُ تنشئتي/ ماذا دهاك الحُبَّ لم تصُنِ؟/ خُذْ عُمريَ الباقي، فلا وطنٌ/ يحلو.. ولم يحضنْ ثرى كفني" (ماذا دهاك).
هكذا، إلى هاجس العودة، فإن ثمة هاجساً آخر يُؤرقُ شاعرنا، يتمثّل في احتضان تراب وطنه لجدثه- أطال الله عمره- وإلاّ لن يحلو هذا الوطن في عينيه!
.. بعد هذه العقود الخمسة من التشرّد القسري، الذي يُمرجحُ الشاعر، برياحه الهُوج، يحق له أن يبقى مُقيماً على أمنية العودة إلى ربوع الوطن: " أمضيت عمري كالرياح مشرّداً/ لكن وجهك كان دوماً مقصدي" (بيروت) .
.. وكان هانَ الأمرُ، لو أُقتصر وجعُ الغربة على المغتربِ المشرّد، بل ثمة طرفٌ آخر، أشدّ إحساساً بذلك الوجع، هم الأهل الذين خلّفهم وراءه، لا سيما الأم، فهي ترى أن حبلَ السُرَّة الذي كان يربطها بابنها، منذ ما قبل الولادة، وهو جنين، قد قُطع، ففقدت من رعت وأنشأت، حين تخطّفهُ القدرُ منها، عَبْرَ جريمةٍ موصوفةٍ، "دُبِّرت في ليلٍ"، فطفق يموت ، في هذه الأم، بعض شيء منها!
في هذا المجال، ثمة قصيدتان، إحداهما خصّ بها شاعرنا أمه، أما ثانيتهما، فقد توجه بها إلى جميع الأمهات المفجوعات بغربة أبنائهن!.. هما قصيدتان، من أجمل قصائد الديوان، تنضحان ألماً ما بعده ألم!
ففي قصيدة "إلى أمي"، يستهلها، مُستغيثاً، يُنادي أمه، إذْ دمّره الرحيل، وفعل بقلبِهِ ما فعل، فغدا ذلك العليل، يبكي تشرّده، وليغمر وجهه الدمع، حين تشتد وطأة الليل عليه، فيتفجّر بكاءً، إلى حدّ العويل.. ثم يُعبّر شاعرنا عن اشتياقه إلى دفء صدر أمه، إلى اليدين اللتين تحتضنانِهِ حناناً، جاعلاً من تلك الأم الموجوعة إلهاً آخر، يتعبَّدُ في محرابه:" أيا أمّاهُ.. ما برح الرحيلُ/ يدمّرني.. أنا قلبي عليلُ/ أعيشُ الهجرَ سكراناً بدمعي/ ظلامُ الليل، أرّقهُ العويلُ/ (..) أُريدُ الزند يغمرني بعطفٍ/ ودفءَ الصدرِ، غفواتي يُطيلُ/ (..) شعوبُ الأرض، قد أهدتكِ مجداً/ شبيهُ الأم، يا أمي، قليلُ/ (..) إذا قلتُ الإلهَ، أقولُ أمي/ فعندي حبُّها ربٌ جليلُ/ وعندي حضنُها جناتُ خلدٍ"... وبعد هذه المطالعة الآسرة، في ما تكابده الأم من آلامٍ، والارتقاء بها إلى عليّين، يبلغ الشاعر بيتَ قصيدِهِ، فيجأرُ بالدعاء إلى الله، كي يُعيده إلى وطنه، بل إلى أمّه (والوطن، في نهاية المطاف، أم، كما أن الأم وطن!)، بعد أن أثقل عليه الهجرُ: ".. لماذا الهجرُ، يا ربِّي طويلُ؟/ أعدني.. لا تُطِلْ فيَّ اشتياقاً/ جميلٌ قُربها منّي.. جميلُ" ( إلى أمّي).
.. أما عن القصيدة الثانية " دعوة أم"، الأكثر إثارةً للشجن، جرّاء وجع الغربة الذي يجتاح كل أمّ، باعدت بينها وبين أبنائها المسافات "المكانية" والزمنية، فهي مثار شفقة على هذه الأم المفجوعة، التي تتشبَّث بالحياة، رُغم تهالك جسدها، بُغية تكحيل عينيها برؤية الأحفاد، إذ "ليس أعزّ من الولد إلاّ ولد الولد"، أو كما يذهب الإمام علي بن أبي طالب (ع)، إذْ يقول: "حفيدي هو ابني مرّتين!" 
.. ها هي هذه الأم المفجوعة.. فلنستمع إليها، وهي تتوجَّه إلى فِلذات الأكباد بمطالعةٍ، تتفطّر لها القلوب!:" " ضاقت  دروبُ العمر من ترحالكم/ والهجرُ يُخفي دمعكم في مقلتي / (..) ألم تروا شيبي يُعادي مفرقي/ (...) ألم تروا سيري بطيئاً متعباً/ (.. عودوا لحضنٍ، لن تلاقوا مثله/ الاّ إذا جئتم ربوع جنّتي".. على أن ما يُفاقم أساها حرمانها من رؤية الأحفاد، كما أسلفنا، وهم روحها وأمل غدها، كما تُعلن ، في هذا الخطاب/ المطالعة:".. حلمي الوحيد أن أرى أطفالكم/(...) أطفالكم روحي وآمالُ غدي/ (...) لا تحرموني من عطايا خالقي/ لا تحبسوني في مرايا وحشتي"...
وكم يعصف بالجدة الاشتياق، حين تنظر إلى ما خلّفه الأحفادُ لديها، إثر زيارتهم إلى لبنان، من رسومٍ "مشلوحةٍ" في كل مكان من البيت الأم، فتقف على هذه الرسوم، كما الشعراء على الأطلال:" رسومهم أنمتُها على يدي/ لترتوي من عِطرهم وسادتي/ وتزدهي بظلِّهم شراشفي/ وتنتشي أناملي وقبلتي" (دعوة أم).
.. هكذا ، بعد هذا الاستعراض الوافي، يتبدّى لنا أن لبنان شكّل ولما يَزَلْ لحظة عشقٍ، اختارها شربل بعيني، حتى الرمق الأخير، هي لحظة يرحل نحوها، غريباً منفياً مشرّداً.. يكتوي بنار الشوق، وتنبِّهه دائماً لهفة اللقاء، بل أوانُ اللقاء الذي لم يأتِ، وقد لا يأتي! وهُنا مكمنُ فجيعتِهِ!
لا شك أن هذه اللحظة من العشق "الوجودي"، أدمنتها غالبية الأدباء المنفيين، شعراء وكتّاباً، ولكنها بدت أظهرَ ما تكون لدى شاعرنا، مما جعله يستحقُّ، عن  جدارة، لقب "شاعر الغربة"، لا يُنازعه أحدٌ على هذا اللقب، الذي يُفاخر به! 
.. شربل بعيني "المعلِّم" والمثقف، المهاجر إلى استراليا، مطلع شبابه، كان يحمل في جعبتِهِ بعض زاد من الشعر، وبخلاف كثيرين من المهاجرين، توفّرت له أدوات الإبداع الشعري، في ظلال بلدٍ، لحرية التعبير فيه مطرحٌ وسيع!
قد يكون سواه من المهاجرين غير المتعلمين، كتبوا غربتهم دموعاً، وهم لا يُحسنون إلاّ البكاء والنحيب، في حين أن البعيني، كتب غربته دموعاً وخطّها على القرطاس، كأبدع ما يُكتب في النفي والتشرد.. كتبها، بدمِ القلبِ، خمرةِ الأقلام، مُستجيباً لدعوة الشاعر الرومنطيقي الياس أبو شبكة:" إجرحِ القلبَ واسقِ شعرك منه/ فدمُ القلب خمرةُ الأقلام!".
هكذا نرصد، عَبْرَ مختلف دواوينه، مضموناً وحقلاً معجمياً، ما يُؤشِّر، من دون لُبسٍ، على الهزيمة والانكسار وحُلم العودة إلى وطنٍ اقتُلع منه، وليتخلل أولئك صراعات "وجودية"، لا حدّ لها، في رأسها: صراع الثقافات والحضارات، وصراع العادات والتقاليد... وكلها تنضوي إلى صراع الهُويّة!
في تجسيدٍ للحالة البائسة التي يعيشها المغترب/ المنفي عن وطنه، يذهب أدوار سعيد، أحد كبار المفكرين العرب في المغترب الأميركي (الشمالي)، في وصفِهِ المنفى، بأنه " من أكبر المصائر إثارة للحزن" (من كتابه: تمثيلات المثقف)، وليُضيف ، في إحدى مقالاته، عنوانها "تأملات في المنفى" بأن "المنفى مكانٌ يُشجِّع على التفكير، ولكنه أمرٌ مرعب!"، ذلك أن الصدْع، الذي يُحدثه لدى المنفي، غيرُ قابلٍ للشفاء!
إنها الحالة الوجودية المصيرية (والمصير أحد الركائز العائدة لكيانية الإنسان) بكل تجلياتها، عاشها البعيني عن آخرها ولما يزلْ قابعاً فيها، مُقدِّماً للأدب العربي، هذه المرّة- وهي مرّة من مرّات- عَبْرَ ديوانه "نجمة الشعر" نتاجاً شعرياً رفيعاً حول الغربة، وليوسِّده هذا الديوان المنتسج بالعربية الفُصحى وبلسانٍ مُبين، مرتبةً عليّة، بين أقرانِهِ شعراء المغتربات، في أربع جهات الأرض!
ب- في المحور السياسي- الوطني
المحور السياسي- الوطني، لدى  البعيني، هو المحور "الشقيق"، المتفاعل ، في حركة جدلية، مع محور الغربة، ذلك أن الغربة، في جانب كبير منها: خلفياتٍ ودوافع، هي من تجليات الأوضاع السياسية المأزومة والمتردّية، التي تُعاني ويلاتها غالبية اللبنانيين.. ثمة طبقة سياسية "مُلفلفة بالعهر" ، بحسب تعبير شاعرنا، دأبت على قهر اللبنانيين وممارسة شتى أنواع التعسف ضدهم. وهي لم تتورّع ، في ذروة فسادها وعُهرها، عن إفقار الشعب، حتى حدود المجاعة، كما عن بيع الوطن، بعد رهنِهِ للأجنبي والغريب، بمختلف أشكالهما وألوانهما. ولم يكفِ هذه الطبقة ما تمارسه من ظلم، إذْ دفعت بمئات آلاف اللبنانيين إلى هجرة قسرية، عبر موجاتٍ مُتتالية، لا سيما في فترة الحرب الأهلية القذرة، التي كان لها فيها أيادٍ سود. وإلى ذلك، فهي تمنع هؤلاء المهاجرين المتشبّثين بوطنهم من العودة إليه، إذْ أحالت البلاد قاعاً صفصفاً، ومساحةً للجوع، وتعطيل الحريات العامة، والتنكيل بأصحاب الكلمة، ووأد الإبداع في رمال جهالتها الجهلاء وضلالتها العمياء! 
هكذا ، كان لشاعرنا أن يُعرّي هذه الطبقة المتحكّمة وليس الحاكمة- فالحكم والسياسة في جوهرهما، يتمثّلان في تدبير شؤون الناس- وأن يفضح سوء أعمالها، وما تقترف من آثام وانتهاكات بحق شعبها، معطِّلةً عملية التغيير الجذري، عَبْرَ إشهارها سلاح الطائفية الفتّاك، كوسيلةٍ "ناجعةٍ" لتفريق شمل اللبنانيين وزرع الشقاق بينهم، وهو سلاحٌ أثبتَ، من أسفٍ ، فعاليته، قاطعاً الطريق على قيام دولة القانون والمؤسسات والعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفُرص!
بإزاء هذه الأوضاع البائسة، التي خبرها شربل بعيني وعايشها من قرب، قبل الهجرة إلى أستراليا، مطلع سبعينيات القرن الماضي- وكان قد اصابَهُ بعضٌ من شواظِ نارها، حين أصدر ديوانيه في لبنان:" مراهقه" و"قصائد مبعثرة" (1968)- من خلال متابعتِهِ اليومية لهذه الأوضاع في مغتربه، والتي طفقت تتفاقم، بوتائر مُتسارعة، كان له أن يدخل المعمعة، فراح، من دون هوادة، يُصْلي الزعامات، بسعير شعره: محكيّاً وفصيحاً، وهي التي أفنت الزرع وأجهزت على البشر، وراحت إلى تأبيد تحكّمها بالناس، حتى غدت كالخلّ المعتق الذي يُلهب جراح الوطن!: " جالوا.. فأفنوا زرعنا وعِيالنا/ وبزقِّنا خلَّ الزعامة عتّقوا" (أديب غريب).
.. وإذْ يرمي شاعرُنا الحكّام الفاسدين بأبشع النعوت، فهو، عبر "طيرِهِ الأبابيل"، يرميهم " بحجارةٍ من سجِّيل" ليجعلهم " كعصفٍ مأكول!".. هكذا حدِّث، لديه، عن المسترئس الدجّال، الذي يرهن أعمار شعبه كي يتأبَّد على كرسيّ الحكم، وعن زعماء كَذَبَة، شيمتُهُم الغدر، يحثّون الخُطى في دروب الخيانة، ويقودون شعبهم إلى سبيل الضلال:" اعمارنا رهنٌ بحفظ مراكزٍ/ يطغى بها مسترئسٌ دجّالُ/ (...) زعماؤها دربُ الخيانة دربُهُم/ (...) إنْ صمّموا فالغدرُ في تصميمهم/ وتكلّموا، فلُعابهم يحتالُ" (ظلال).
.. يرى البعيني أن وطنه لبنان، خارج الزمن، فيأسى لحاله، بل تنزُّ جراحُهُ دماً، كيف لا يأسى، وهو يرمق التاجر الجشع يختال لا يردعه دينٌ ولا تكبحُ سلوكياتِهِ قيم، يُتاجر بلقمة الفقير!.. وإلى أولئك ، فثمة الحكّام، الذين جيء بهم من مُتحف الكفرة، لا قلب لهم ولا ضمير!
وبقدر ما يمضُّه هذا الواقع، فهو يأخذ  على الشعب استكانته، بل استنكافه عن مواجهة حكامه الطُغاة، وما يحيق به من بؤس شديد:" ماذا دهاك، اليوم، يا وطني/ تحيا زماناً خارج الزمن/ (...) شيطان أرضي تاجرٌ جشعٌ/ (...) دولارهُ جوعُ الفقير به/ تباً له من تاجرٍ بطِنِ"، وعن حُكّام بلده، الصُمّ البكم، "حُكّامه من متحفٍ وثني/ (...) غرقى ببحرِ الكفرِ والعفن" (ماذا دهاك؟).
.. جرّاء هذا الواقع الشعبي الاستنقاعي، ليس بمُستغربٍ، بحسب شاعرنا، أن يُقاد الشعب كالقطيع، من قبل مُتحزِّبٍ متغطرس، وَقْتَ يكتفي الشعب بالثناء على هذا اللص الكاذب والغدّار، بل إن كلّ ما فيه يفضح سريرته وينمّ  عن غدرٍ.. هذا المتحزِّب لا ترويه سوى دماء الناس، يعيش عيش الملوك، في حين يُعشِّش الفقر والعوز في الأكواخ! ومن المفارقات أن الشعب مدركٌ تقصيره، فبدل أن تُصبَّ اللعنات من قبله على هذا اللص الذي يتنفّس الكذب، شهيقاً وزفيراً، تُرفع راية التسامح!: " مثلَ النعاج، يقودُنا مُتحزِّبٌ/ مترئسٌ متغطرسٌ، متذبذبٌ/ إنّا نحيِّي، كل يوم، لصّنا/ ذاك الذي شرفَ التحيةِ يسلُبُ / هو كاذبٌ.. والغدرُ في أوصالِهِ/ حتى شهيقُهُ من كلامه أكذبُ/ (...) غير الدماء الحمر لا لا يشربُ/ مثلُ الأمير مُرفّهٌ في قصره/ والفقر في أكواخنا يتعذّبُ/ في عُرسِهِ كل الخلائق تنتشي/ وبموتنا ما من شريفٍ يندبُ/ (...) لكنّ شعبي طيبٌ مُتسامحٌ/ والموتُ يأتي كي يُعاني الطيّبُ" (رئيس الحزب).
... لعلّ عشق شاعرنا لوطنه عمل على رفع منسوب غضبه، تُجاه الزعامات والحكّام، الذين عاثوا فيه فساداً، وأوقفوا عقارب زمنه الجميل! وقد تبدّى هذا العشق إبداعاً في وصفِهِ علم بلاده، بإسباغه عليه أجمل الصفات، إلى الافتخار بأجداده، بُناة مجد وطنه، منذ القدم:" .. فالأحمرُ الباكي/ لوّنتُهُ بدمي/ والأبيضُ الشاكي/ قدّستُهُ بفمي/ (...) أجدادُنا زرعوا/ مجداً من القِدَمِ" (عَلَمي).
.. في إطار جدل السياسي/ الاجتماعي، فإن هذه الأوضاع المغرقة في تردّيها، على الصعيد السياسي، لا بد أن تنعكس انحداراً على الصعيد الاجتماعي (انتشار الجريمة واقتراف الموبقات، وانقلاب المعايير الاجتماعية الخ..)، مخلِّفةً منعكساتٍ سلبيةً على منظومات القيم،والتي غدت نسيّاً منسيّاً!: " كل الدروب فوقها محنٌ/ أنّى ذهبنا شبَّت الفتن/ فالقتل صار اليوم هاجسنا/ تحلو به الأعمالُ والمهنُ/ (...) أخلاقنا، أفكارنا يبستْ / مثل الذي قد لفّهُ العفنُ/ (...) حتى حليبُ الأم مكتئبٌ/ من حقدنا قد بزّهُ اللبنُ/ يا حبّذا لو ينتهي زمني/ حتى أرى ما يتركُ الزمن" (زمني).
ج- في المحور العروبي
بقدرِ النزوع الوطني المتأصّل لدى شاعرنا، فقد كان على نفس السوية في نزوعه العروبي. علماً أن عروبته ليست عروبة "القومجيين" المتاجرين بها وناحريها على مذبح أنظمة القمع والاستبداد، بل هي  عروبة حضارية، تسعى إلى خير الأمة وبلوغها مصاف الأمم الراقية.
لقد كان لشاعرنا أن يعاين ما مارسته الأنظمة العربية القمعية بحق شعوبها، لا سيما ما يُطلق عليها، في التعبير السياسي، "أنظمة بورجوازية الدولة"، إذْ أنزلتْ بهذه الشعوب شتى أنواع القهر والتجويع والإذلال، ناهيك عن جلب الهزائم، وأبرزها ضياع فلسطين، والإنهزام في كل الحروب التي تلت نكبة 1948، واحتلال القدس الشريف، بشكل كامل من قبل العدو الصهيوني!
هكذا، راح شربل بعيني إلى رفع الصوت مدويّاً، آسياً للحال شديدة الإنحدار التي بلغها العرب، في كل دولهم، وما تُعاني الشعوب، بشكل مطّرد، من بؤس وشقاء. ومن المفارقات- وهي خصيصةٌ عربيةٌ!- أن هذه الأنظمة، في عزِّ هزائمها، ترفع أصابعها بعلامة النصر (Victory)، إذْ أن النصر يعني، في عُرفها، سلامة الأنظمة والمتربعين على سُدّاتها، ولو فنيت شعوبها وحلّ الخراب بالبلاد!
... وإذْ وسمنا أدب المنفى بأنه أدب ذو رسالة نبوية، فلكونِهِ يسعى إلى فهم الواقع العربي والتعبير عنه بلا خوف أو تردّد . إنه يمتلك الرؤيا، كما الإمكانيات، لإنضاج ثورة في الأدب العربي كله، من منطلق قدرته على استيعاب هذا الواقع، وعدم الغرق في التفاصيل المضلّلة، علماً أن الأدب، في الداخل العربي، تتهدّده الرقابة البوليسية، كما تتهدّده السلطات الدينية، على اختلاف مشاربها. 
وإلى هذه السمات، التي تطبع الأدب المهجري المعاصر، فهو، بحسب الناقد الأدبي د. محمد مندور، أدب مهموس (بعيد عن الجعجعة)، لأنه عميق وواقعي، ومرتبط بالحياة، وليس فيه الخطابية والسطحية الثقافية.
.. في إكبابنا على "عروبيات" شاعرنا، نتوقف عند هزيمة الأنظمة العربية، على رُغم ادعاءاتها الكاذبة بالنصر، أو بالنصر الموعود. علماً أن أشدّ هزائمها مضاضةً ضياع القدس الشريف، ثاني القِبلتين وثالث الحرمين . بل هي أرضُ قداسة، تتقاطع عندها الإسلام والمسيحية، عَبْرَ عناقٍ تاريخي بين هلال وصليب!
وكم آلم شاعرنا احتلال العدو الإسرائيلي هضبة الجولان السورية، ويتساءل كيف ترتضي الشعوب العربية انتهاك أراضيها، محمِّلاً القيمين  على الأنظمة العربية مسؤولية استرجاعها من يد غاصبيها الصهاينة:" آهِ يا شعبي الحبيبْ/ حين يغزوك النحيبْ/ (...) هل تضيعُ القدسُ منا/ ليس فينا من مجيبْ/ قِبلةُ الأقداس كانت/ من هلالٍ أو صليبْ/ هضبة الجولان ليست/ خيمةً تأوي الغريب/ هذه الأرض الحبيبة/ كيف نرضاها تسيبْ؟/ لا رئيسٌ قال: كفّوا/ من بعيدٍ أو قريبْ!" (آهِ يا شعبي).
... في قصيدة "مارسيل خليفة"، يوم تكريمه في برلمان ولاية نيو ساوث ويلز (سيدني) 2019، يأخذ البعيني على الزعماء العرب أن ضياع القدس لم يُؤرّق أي واحد منهم، وكأن الأمر لا يعنيهم! وحبَّذا لو انتصروا مرةً على عدوهم، لكان قبّل منهم الرأس، ولكنهم كَذَبَةٌ مُنافقون:".. القدس ضاعت.. لا تسلْ عن قِبلةٍ/ ما من زعيم أرّقتهُ قدسُنا/ (...) يا ليتهم أضنوا عدوِّي مرةً/ حتى أبوسَ الرأس من أعرابنا/ لكنهم بالكذب قد غطّوا المدى/ والكذبُ ملحٌ.. آهِ من أملاحنا!" 
.. وَلَكَمْ آلَمَ شاعرَنا ما آل إليه العراق، ذلك البلد العربي الناهض، والذي بلغ مرحلةً من التقدّم العلمي، لم تُضارعه أي بلد عربي، مما شكَّل خطراً محتملاً على الوجود الإسرائيلي، فكان أن تمّ حصاره، منذ العام 1992، وحتى العام 2003 حين غزاه التحالف الدولي (أميركا وبريطانيا..)، فكان تدميرٌ لكل إنجازاته ولكل معالمه الحضارية، ودفعه في طريق الشقاق بين طوائفه وقومياته!
هكذا راح البعيني يتألّم لألم العراق الجريح:" بغدادُ أنتِ الحرفُ والقلمُ/ رُحماكِ... كيف اجتاحكِ الأَلمُ" (بغداد الإعلام).. ولشدّة المحبة التي يكنّها شاعرنا للعراق، ولعاصمته بغداد، فقد أفرد له قصيدتين في سرديتِهِ المدينية، في حين خصَّصَ قصيدةً واحدة، لكل واحدة من المدن والعواصم العربية التي ضمّتها هذه السردية. إضافة إلى إفراده قصيدتين أُخريين، هما "عراقية"، و"شعب واحد"! 
... في قصيدة " شعب واحد"، ها هي بيروت تبكي بغداد دماً، ذلك أن شعب العراق غدا شهيداً، فراح يدعو إلى التكبير من أجله! كيف لا تبكي بيروت، وقد أفنت العرب حروبٌ، لعل أشرسها ما حلّ بالعراق وشعبه، حيث تم اجتياح الأرض من قبل مجموعة غادرة، هي أكثر شبهاً بالشيطان، فقتلت الأطفال وسبت النساء المُحصنات: "... هذه بيروت يا بغدادُ تبكي/ إمسحي الدمعاتِ، إنَّ الدمعَ أحمرْ/ إن بكيتِ اليوم نبكي كلَّ يومٍ/ كلُّ شبرٍ منكِ يا بغدادُ جوهرْ/ شعبُكِ الإنسانُ قد أضحى شهيداً/ كبِّري من أجلِهِ.. فالله أكبرْ/ (...) مات شعبي حين افنتنا حروبٌ/ أخبريني إن سمعتِ القبْرَ أشعَرْ/ (...) زُمرةٌ غدّارةٌ تجتاح أرضي/ تُشبه الشيطان، بل بالشرِّ أشطرْ/ تقتُلُ الأطفالَ، تسبي طاهراتٍ/ إن وصفنا الطُهْرَ.. قُلنا: هُنَّ أطهرْ".
ففي قصيدة "عراقيهْ"، إلى بكائه العراق، فقد بكى مصر، وليُترع النيلُ من دمع مآقيه:".. فكم في النيلِ دمعٌ من مآقينا/ وكم في الحَلْقِ آهاتٌ فراتيهْ؟"... وقد استغلها البعيني مناسبةً، كي يروح، عبر هذه القصيدة أيضاً إلى مختلف ألوان المعاناة التي تعيشها الشعوب العربية، من أميّةٍ، ومن عقليةٍ غيبيّةٍ خرافية، واطّراح العروبة جانباً، ناهيك عن التشبّث بالتراث البالي، وليس بأصالة التراث:"إذا كانت شعوب الضادِ أُميّهْ/ ستغزوها مطبَّات جنونيَّهْ/ وتنمو فوق أعناقٍ وأبدانٍ/ فقاقيعٌ وأدرانٌ خُرافيّهْ/ (...) وكل العار أن تحيا بأخلاقٍ/ جنونٌ ان نُسمّيها تراثيّهْ/ أيا أرضاً هجرناها زُرافاتٍ/ محونا الاسم كي نُلغي العروبيَّهْ/ (...) تركناها،ولم يبق سوى باغٍ/ وقطعان من الإهمال منسيَّهْ" (عراقيّة).
ولا شك أن هيمنة العقلية الغيبية جعلت من الشعوب العربية شعوباً قدريّة، فشُلَّت إرادة التغيير لديها والانقلاب على أوضاعها الزريّة. من هُنا، بإزاء هذه الاستكانة، يسِمُ شاعرنا الشعوب العربية بالغنم، بل إن الغنم قد تخجل منها، وهي تراها على هذه الحال!:" القدسُ ضاعت، شعبنا غنمٌ/ من خوفِهِ، قد يخجل الغنمُ!" (سعيد عقل).
وفي موضع آخر، يذهب إلى معنى مُشابه، إذْ ينعتُ شعبه بغنمٍ يُساق إلى الذبح، وهو مرتعبٌ مفزوع: "شعبي.. وهل شعبي سوى غنمٍ/ للذبحِ، كالصرصورِ مرتعبِ" (محمد مهدي الجواهري).
.. وإذْ تتكرّر ، لدى شاعرنا، المواقف التي تدين الطبقة الحاكمة المتسلطة على الأمة، وكذلك الأمة التي ارتضت الخضوع والخنوع أمام هذه الطبقة، فهو يبلغ بالمسألة بعيداً، في قصيدته " محمد مهدي الجواهري":"... يا أمةً يقتادها وثنٌ/ من رحمةِ الديّان إقتربي/ ما من شعوبٍ لم تذُقْ الماً/ لكنها قامت من اللهب/ تاريخها... أمجادهُ أدبٌ/ الاّكَ، يا تاريخنا العربي" .
.. وفي مخاطبته المتنبي، فهو يُنبئهُ بالواقع العربي المزري، يُحدِّثه عن الكفر العميم، عن الحرب المتمادية، عن العبيد الذين يسيدون ويميدون، عن الحزن المقيم، عن هدمِ كل ما بنينا، في حين يمضي الغرب مصعِّداً في نهضتِهِ وتقدّمه.. والبعيني، إذْ يتمنَّى، يتطلّع إلى شعبٍ عربي عظيم، لا تفصلُ بين بلدانه حدودٌ ولا سدود!: ".. هاهنا الكفرُ يسودْ/ هاهنا الحرب تمادت/ هاهنا الموتُ العنيد/ (...) عاث في الأرضِ العبيد/ نحن نحيا كل يوم/ دمعنا للحُزنِ عيدْ/ قد هدمنا ما بنينا/ بينما الغربُ يَشيد/(...) أبتغي شعباً عظيماً/ لا تدمِّيهِ السدودْ/ ليس يخشى من حدودٍ/ وحدةُ الأرض الحدود".
... تبقى مسألة أخيرة، نُميط فيها اللثام عن الموقف المتسم بالعنف الصادر عن شاعرنا تجاه الزعامات والحكام الفاسدين، وقد رماهم بأقذع النعوت.
في هذا المجال، لنا أن نتساءل: هل تسلّلت هذه المواقف إلى شعره، تأسِّياً بمعلمِهِ الشاعر نزار قباني؟! لنا أن نقرأ هذه الشهادة للمهندس رفيق غنوم، إذْ يُمدُّنا بهذه الواقعة التي عاينها بنفسه:"... وقد لا أذيع سرّاً إذا قلت: إن نزار قباني كان يشتم الزعماء العرب، ألف مرّة في الدقيقة، خلال مكالماتِهِ الهاتفية مع شربل بعيني. ولكم شعرتُ باليأس الذي يجتاح كل خليةٍ من خلايا جسمه وعقله ، وأدركتُ للحال لماذا كتب رائعته (متى يعلنون وفاة العرب؟)، التي أقامت الأرض ولم تُقعدها!" 
د- في الدعوة إلى العيش المشترك والاعتراف بالآخر المختلف
لأن الشاعر الحق... الناطق بالحق- لا شاعر البلاط ولا شاعر السلاطين، بمختلف درجاتهم ومواقعهم- هو ذلك المستغرق في إنسانيتِهِ والمتفلّت من اسارِ العشيرة والقبيلة والطائفة والمذهب ، تسقط عنده كل الاعتبارات الفئوية والجهوية، فيغدو لسان الحقيقة البريئة من كل دنس، والمنتصر لأخيه الإنسان، رافع لواء الإنسانية الجامعة بديلاً من كل البيارق التي تُؤشِّر على جماعاتٍ مُنغلقة على ذاتها!
.. بهذه السمات، التي تُشارف حدود المثالية  الطُهرانية، يُطلُّ علينا شربل بعيني، من خلال جميع دواوينه الشعرية وسائر نتاجه الأدبي، فإذا هو الإنسان قبل كل شيء،وإذا هو اللبناني الصِرف، الذي يرفض أن يتكلم نصرانياً أو إسلامياً، بل يتكلّم لبنانياً، إذْ هو "لبناني ابن لبناني!" (مراجعة ديوانه "مجانين").
.. ها هو شاعرنا، من منطلق نزوعه الإنساني، وإذْ يُدعى إلى إفطار رمضاني من قِبَل جمعية النهضة العراقية، يرى إلى رمضان شهر صومِهِ هو، كما شهر صوم المسلمين! وقد انتهزها مناسبةً إيمانية، فطفق ينعى أمته، التي لم يرسخ الإيمان في قلوب أتباعها، فراحت تتجاهل قيم الصوم، وسائر الشعائر الدينية والفرائض الإسلامية، من حجّ البيت الحرام وتأدية الزكاة للفقراء والمساكين:" يا خالق الأكوان هذي أمتي/ تمشي بعكس الخلقِ والأكوانِ/ هذي العروبةُ أنهكتها حروبُها/ لم تُحسن التفسير بالأديانِ/ فالطائفيُّ الذئبويُّ لسانُهُ/ يُعوي، فيغدو الشرّ كالطوفانِ"... وإذْ يدينُ ذلك الطائفي المتعصّب الذي لا يعترفُ بالآخر المختلف عنه، عقيدةً دينيةً، يُقدِّمُ مطالعةً وازنةً في العيش المشترك، وفي وحدة الأديان، كما في وحدة الإيمان جوهراً، علَّ هذا الطائفي يرعوي ويعود إلى سواء السبيل:" إنْ كنتَ للتقوى، فبالتقوى أنا/ قد أغلبُ الشيطان يا ديّاني/ ما الفرقُ بيني وبين أهل آمنوا/ إنجيلهم لله كالقرآنِ!".
هكذا، كان لشاعرنا أن يُقارب أطروحة  الأديان من منظور أن "الخلق كلهم عيالُ الله"، وأنهم جميعاً لآدم، وآدم من تراب وإلى التراب يعود!... ويبقى المعيار الوحيد، والكلمة الفصل أن اكرم الناس عند الله أنفعهم للناس:" ما الفرق بيني وبين جارٍ مخلصٍ/ قد شرَّفَ الإنسان بالإنسان/ ما الفرقُ بيني وبين كل خليقةٍ/ إنْ لَم أُحاكِ لسانهم بلساني/ إنْ كان نسلي نسلَ آدم ويحهم/ كيف الخصامُ ونحنُ كالأخوان؟"، .. وليرى ، تتويجاً لهذه النظرة المنفتحة على الإنسانية جمعاء، دونما تفريقٍ بين الأديان التوحيدية، أن شهر الصوم "الإسلامي"، هو شهره، بل شهر صومِهِ، كونه صادراً عن مرجعية الهية واحدة:" شهري أنا.. شهرُ المحبةِ والتُقى/ في نوره لم يختلفْ إثنانِ/ شهرٌ كأنَّ الله فيه مجسَّدٌ/ هذي شهادةُ مؤمنٍ نصراني!" (رمضان .. شهري أنا).. فنِعمَ الشاهد، وأعظِمْ بهذه الشهادة!
.. إذا كان الشيء بالشيء يُذكر- كما يُقال- فإن شاعراً قد يُحيلُنا إلى شاعر آخر، وهما من نسيجٍ فكري واحدٍ، يتشاركان فلسفة حياتية واحدة، ورؤيا فكرية متماثلة، ونظرة إنسانية تجمعهما على مبادئ ومنظومات قيم سامية، مارساها سلوكياً، ولم تبق لديهما حبراً على ورق!
تأسيساً على ذلك نرى أن ثمة تقاطعات، إلى حدّ التطابق بين شاعر الغُربة، وبين شاعر الفيحاء سابا زريق (1886- 1974)، وهما ينتميان إلى منطقة واحدة، اتسمت بالعيش المشترك، فسابا زريق إبن طرابلس الفيحاء، وشربل بعيني ابن مجدليا (قضاء زغرتا- الزاوية)، التي تقع على مرمى حجر من طرابلس.. ولطالما كان تفاعلٌ بين عاصمة الشمال اللبناني طرابلس وبين مختلف الأقضية الشمالية، وعلائق من الأخوة والتبادل، على جميع الأصعدة!
.. سابا زريق، الطرابلسي المسيحي الأرثوذكسي، كما وصفتُهُ، في كتابي "مقابسات زُريقية بين شاعر الفيحاء سابا زريق وسابا الحفيد" (صادر في العام 2016، عن مؤسسة شاعر الفيحاء سابا زريق الثقافية)، هو ذلك الشاعر الذي تماهت لديه المسيحية والإسلام، فلا تعرف إلى أي الديانتين تنسِبهُ!
في استلالٍ لبعض شواهد، من كتابي، ومن (الآثار الكاملة لشاعر الفيحاء سابا زريق، ستة مجلدات، ط1، 2012)، يتحصّل لنا أن حقيقة الشعر الحق هي حقيقةٌ واحدة، وأن الشعراء- والمفكرين بعامة- غير المصادرين من طوائفهم ومذاهبهم، وغير المرتهنين لقبائلهم وعشائرهم وزعاماتهم، ينطقون بلسان واحد، ويجهرون بكلامٍ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ولا من قُدّامه!
عن الاعتراف بالآخر المختلف، وعن تعاطي اللبنانيين وسائر أتباع الديانتين، المسيحية والإسلامية، من منظور قومي، يذهب شاعر الفيحاء إلى القول: "متى أعيشُ وجاري ليس يعلم أنْ/ لمسلم هو جارٌ أم لنصراني/ متى أرى النسب القومي رابطةً/ أقوى على الدهرِ من أركان ثهلانِ/ متى تثوبُ إلى الرحمن طائفةٌ/ تجني بتفسير إنجيل وقرآنِ؟!" 
وقد عقّبت على هذه الأبيات، بلسان د. سابا زريق الحفيد (الكتاب جاء في قالب حواري بين الجد والحفيد)، فيتوجه إلى جدّه:" حقاً، متى تُنكَّسُ، يا جدي، ألوية الطوائف التي ترفرفُ خفّاقةً بين هامات أتباعها؟ ومتى يُشطبُ من قيودِ قلوبنا النسب، أو قُلْ الولاء الطائفي الأعمي، وتكون الغلبة لنور الولاء الوطني؟ ومتى تثوبُ العقولُ إلى رشدها، فلا يُتّخذُ الإنجيل والقرآن مثاراً لاستغلال وتأجيجاً لنزاعات واحترابٍ بين أتباع الطائفتين، وقد خلقنا الله جميعاً من تُراب وإليه نرجع".
.. هذا التعقيب الذي أدلينا به، بلسان الحفيد د. سابا زريق، نتوجه به إلى شربل بعيني، كون الشاعرين (البعيني وزريق) ينهلان من حقيقةٍ إيمانية واحدة! إستزادةً من شاعر الفيحاء، وبما يُؤكِّد على ذلك التقاطع بل التطابق بين الشاعرين، من خلال تبنّيهما وحدة الأديان، هاكم ما يبوح به:".. هذي يدي للمسلمين أمدّها/ باسم النصارى هازجاً أترنّمُ/ ديني ودينك يا موحِّدُ واحدٌ/ طه سبيلك أم مسيحي السُلَّمُ/ أنا  عيسويٌّ ما تشاءُ عقيدتي/ لكنني، في شرعِ حُبّكَ، مُسلِم؟!" 
.. في قصيدة "أديب البعيني"، يروح شاعرنا إلى نفس المعاني، التي يتطارحها شاعر الفيحاء، الداعية إلى العيش الواحد، من منطلق أننا شعبٌ واحد، مسيحيين ومسلمين.. نتعبَّدُ لإله واحد، هو ربُّ العالمين جميعاً! 
هكذا يتوجَّه إلى أديب بعيني "الدرزي"، حيث يجمعهما نسبٌ واحد، بما يسقُطُ عامل الانتماء الطائفي".. نحن شعبٌ واحدٌ، لله نجثو/ كلنا في موطني جارٌ حبيبُ/ لا دروزٌ، لا نصارى، لا شقاقٌ/ اسألِ الإسلامَ عنا، قد يُجيبُ/ (...) آهِ، يا ابن الشوفِ، هل يكفيك شعري/ أنت مني، أنت روحي.. والنسيبُ" (أديب البعيني).
... شربل بعيني، إذْ يصدرُ عن هذه القيم ، التي تضعُ نُصب أعيُنها الإنسان، دونما النظر إلى دينه وطائفته ومعتقده، ما كان ليمضي في هذا السبيل، لولا انه المؤمن بربه، يكلّمهُ وجهاً لوجه، من دون وسيط، يستدرُّ عطفه ورضاه، وليجد لديه البُعد الحقيقي لحياته في هذا الوجود: "رُحماك ربي إنني/ قُدّامَ عرشك أنحني/ مترسملاً في غربةٍ..  بالحب والعيش الهني/ لا لستُ أبغي ثروةً/ حلمي بعطفك أغتني/ عمري بدونك كِذبةٌ/ مُدَّ اليدينِ وضمَّني" (رُحماك ربي).
هـ- في السرديّتين "المدينية" التمجيدية، والمدحية "المناسباتية"
أولاً- في السردية "المدينية" التمجيدية: عشر مدن/ عواصم عربية، تصدّى لها شاعرنا، عَبْرَ لونٍ من الشعر، يُجانبُ المديح "الكلاسيكي"، وإن كان له من هذا الفن ظاهره. من خلال هذا اللون يتوجّه شاعرنا إلى "جماد"، يمدّه بالحياة اجتماع بشري، يحتويه ذلك الجماد، مؤشِّراً على مشهديات تاريخية وحضارية، بما يخلع على المكان حياةً! وإذا نحن بإزاء بيروت، التي يعشقُ عشقاً لا حدود له!.. عبوراً إلى القدس، أرض الأنبياء، وثاني القبلتين وثالث الحرمين، إلى مكة، مُنطلق الدعوة الإسلامية ومهد الرسول العربي محمد (ص) وموضع الكعبة المشرّفة، أبرز المعالم المقدّسة.. إلى بغداد (لمرّتين)، عاصمة الرشيد وعاصمة الدنيا في العصور الوسطى.. إلى دمشق بني أمية، التي أحبّها الشاعر، منذ أن وُجدت، وهي أقدمُ مدينةٍ مأهولةٍ في التاريخ!.. إلى دُبي الحلم ودُرّة المدن، إلى تونس الخضراء التي لن يعلقها عاشقٌ مثله.. إلى مصر، أم العرب، بعظمة إهراماتها والنيل التي هي هبتُهُ.. إلى عمّان زينة الأمم. وليُتبع، البعيني، بهذه المدن والعواصم، مزرعة الشوف، حيث مهد البعاينة"، المتوزعين بينها: دروزاً، وبين مجدليا: موارنة.. وكلهم من أرومةٍ عائلية واحدة! 
... هذه السرديّة المدينية"، لم يتفرّد بها البعيني، بل سبق لشعراء عرب معاصرين أن طرقوا هذا الفن، مع سعيد عقل، الذي غنّى مكة وأهلها الصيد، كما غنى زهرة المدائن (القدس)، وغنى الشام، في عددٍ من أجمل قصائده.. إلى بلاد وعواصم عربية أخرى. ناهيك عن بدر شاكر السيّاب، الذي أبدعَ رائعته "تموز جيكور"، التي لم تكن مجرد استغراق لجغرافية مسقطه، بل كانت حريقاً اندلع في أعماقه، يوم غادرها، لتتلقفه دروب الغربة الموحشة... فلقد كانت ولادة متجدّدة لقريته الحبيبة داخله  .
.. إشارةٌ إلى أن سردِية البعيني، في "نجمة الشعر" هي ثاني اثنتين، فقد أتحفنا شاعرنا بواحدة أخرى، عبر ديوانه "أحبكِ"، حيث إصطحب حبيبته "الافتراضية" ، في رحلة سندبادية، فجال وإياها عواصم عالمية، في أوروبا وأميركا (الشمالية والجنوبية)، وإفريقيا، يُضاف إليها بالطبع استراليا ولبنان، عرّفنا من خلال هذه الرحلة إلى معالم مشهودة، مُتوقفاً عند الكثير من مشهدياتها الحضارية والعمرانية...
لقد اتخذ البعيني من عواصم وبلدان سردّيتيه، لا سيما السرديّة العائدة للديوان الذي نُعالج "نجمة الشعر"، معشوقاتٍ بثّهن روحاً من روحه، ولينضممن إلى معشوقاتِهِ الإنسيّات، سواءٌ أكُنَّ افتراضيات أم حقيقيات!.. علماً أن ما يشي بهذا العشق الغامر، تلك العاطفة الحرّى التي أسبغها على هذه العواصم/ البلدان، ناهيك بالحقل المعجمي الحافل بمفردات الحب وعباراته! 
ولعلّ ما دفع شاعرنا إلى تعلّقه بالمدن/ العواصم، بمعزلٍ عن  جغرافيتها أن " في حياة كل شاعر مدينة (أو عدة مدن) يحلم بالإقامة فيها جسدياً ولغوياً.. جسدياً ككيان إنساني، في فضاء مكاني محدّد جغرافياً أو هندسياً.. لغوياً، بالكتابة الشعرية، حيث يسعى الشاعر، من خلال القصيدة، أن يجعل من المدينة حلماً يُعايشه ويعيشُه"، بل إن الشاعر " يحلم بالمدينة، مثلما يحلم بامرأة منفلتة زئبقية هلامية (عبر) الذاكرة الاسترجاعية بالحلم، كطريق لفعل الكتابة الشعرية، المنفتحة على السؤال والقلق والحيرة" .
... تأسيساً على ما سبق، وفي استعراض للمدن/ والعواصم، التي مجّدها شربل بعيني، نرى أن لديه قوة التقاط شعرية الأمكنة، بعيون فاحصة ومخيلةٍ خصبة، تُؤسِّسُ لغتها الإبداعية الخاصة، عن طريق المزج بين حرارة القصيدة، في وهجها الأول، وبلغة المكان الحُلمي، في الدرجة الثانية... هي لغة بصرية، ما يذهبُ إليها، تطفح موسيقى وافتتاناً وأملاً ورغبةً، وهاكم بعض تفاصيل: 
   في قصيدة "بيروت"، يدعوها الشاعر إلى أن تُعرب عن حبها له، فالبعد يُؤرِّقه.. يدعوها إلى احتضانه وإنقاذه من تشرّده، سيما أن وجهها كان مقصده الدائم، بل هي قصيدتُهُ، منذ أن احترف النطق:"بيروت، يا بيروت لا تتردّدي/ قولي: أُحبّكَ.. كي يُعانقني غدي/ (...) أمضيتُ عمري كالرياح مشرّداً/ لكن وجهكِ كان دوماً مقصدي/ واعدتِني!.. ما زلتُ أنتظرُ اللقا/ وتتوقُ نفسي لاحتضانِ الفرقدِ/ (...) منذُ احترفتُ النطق انتِ مقصدي/ (...) كل المدائن ضيّعت عنوانها/ إلاّكِ، يا بيروت، يا وشمَ اليدِ".
 وعن القدس، فهي رجاؤه، بل الطبُّ الشافي إذا ما حلَّ به بلاء.. هو بها، بزهرة المدائن، مغرم، ويعاني في حبه الشقاء..:" آهِ، يا ترنيمة القلب النقي/ مغرمٌ فيكِ، وفي الصدر شقاء/(...) قد مسحتُ الدمع عن خدّيَّ كي/ لا تقولي أنني أهوى البكاء / أنا ابن القدسِ مَنْ مثلي أنا /  يتغنّى بوجودي العظماء".
   وإذْ يجيءُ مكّة بقلبه سكناً، يدعوها إلى أن  يكون قلبه سكناها، وهو لن يُغادرها، لينهلَ منها بعض قداسة:".. ما أن سجدتُ فوق أرض المصطفى/ حتى تباهى العمر وانسابَ الهنا/ (...) هيا أسكني يا قِبلةٌ في قلبنا/ من قال أنأى عنكِ يا بيت الهدى/ لا لستُ أنأى، إني باقٍ هاهنا".
   أما دمشق المجد والعزّة، فهي لديه الحب والألق، دمشق الورد والحبق، علِقَها قلبُهُ منذ أن وُجدت، فغدا ذلك الغارق في بحر حبّها، ولتبقى حلمه الجميل والنجوم التي تضيء عتمة الليالي:" يا شامُ.. لم أعشق سوى وطنٍ/ سكانه الأمجادُ لو نطقوا/ (...) أنتِ النجومُ البيضُ في غسقٍ/ لولاكِ لا لم ينجلِ الغسقُ/ والشمسُ أنتِ الشامُ يا بلدي/ من قال إن الشمس تحترقُ/ البحرٌ حبّكِ، والحبيبُ أنا/ وَلَكَمْ غرقتُ وعافني الغرقُ".
   وعن الرباط، فهي عشق قلبه، مدّ لها اليدَ كي تنقش هذا العشق عليها:" أخبرتها سرّاً" عيوني قد تشي/ هذي الرباط حبُّ قلبٍ عاشق/ (...) أحببتُ اسمك، والحروفُ شواهدٌ/ إني مددتُ الكفَّ حتى تنقشي".
   أما دُبيّ ، فهي التي أحبّها وأسماها وطنه، وإليها تتوجه أشرعة سفنه:" هذي الإمارة من روائعنا/ أحببتُها، أسميتُها وطني/ (...) الموجُ عاتٍ والشراعُ أنا/ مَنْ غيرُها.. تشتاقها سُفني/ (...) النجمُ أنتِ، وأنتِ قِبلتنا/ فتشاوفي يا دُرّة المدن".
   تونُس الخضراء، أودعها قلبه، فغدا تونسياً، إليها ينتسب، ولن يُحبَّها عاشقٌ، كما أحبّها شاعرنا:" أنتِ الأميرةُ والمنى/ والعرش قلبي.. فاجلسي/ لا لن يحبك عاشقٌ/ مثلي.. فهذا محبسي".
   وعن بغداد، فهي حبيبةُ الشاعر، منذ الأزل، وهي لم تُخلق إلاّ له، أحبَّ وجهها، وقد بكت حُبّه حكاية تُروى:" بغدادُ أنت حبيبتي لا تخجلي/ منذ الوجودِ، خُلقتِ، يا بغدادُ، لي/ أحببتُ وجهكِ.. والغرامُ  حكايةٌ/ مثل الدماء تدفقت بمفاصلي/ لا لستُ أنسى يوم  جئتك مغرماً/ وتراقصت قرب الفراتِ جداولي/ (...) إني أُصدِّقُ بيت شعر رائع: / ما الحبُّ إلاّ للحبيبِ الأوّلِ" (بغداد).
   وأما مصر - الأم، التي ترك قلبه فيها، فقد راح يبكيها، ولتنهلَّ دموعُهُ في النيل:" لو باحتِ الأهرامُ بالحبّ النقي/ لعلمتِ أن القلبَ لم يرحل معي/ (...) ها قد سكبتُ الحبَّ عطر قصيدةٍ/ فتنعّمي بالحبّ ثم تدلّعي/ (...) كلُّ البلابلِ في ربوعكِ أنشدت/ والكونُ يُصغي في الجهاتِ الأربع".
   وعن عمّان (الأردن)، فهي أجملُ الأسماء على شفةِ شاعرنا، شعبها شعبه:"... خبِّرْ.. أنا آتٍ إلى مُدُنٍ/ أحببتُها.. أودعتُها قيمي/ آتٍ إلى عمَّان من تعبي/ قولي: هلا.. يا زينة الأُممِ".
   أما مزرعة الشوف- خارج نطاق المدن/ العواصم-، مهد "البعاينة"، فربوعها الخُضر مزرعتُهُ، وهي التي خلعت على شاعرنا اسم عائلته، هكذا:" إني بُعينيّ الهوى أبداً/ أودعتُ فيها قُدسَ أتربتي/ يا مجدليا.. سجِّلي فرحي/ إلاّ لها لم تعْلُ قبعتي!"
  ثانياً- في سردية الأعلام المدحية "المناسباتية":  
في هذه السردية، التي تتكامل مع سابقتها، يتوجّه شاعرنا إلى شخصيات وأعلام، يتوزّعون على عصور مختلفة، بعضهم لا زال في عالم الأحياء، وآخرون طواهم الردى.. وكل واحد من الفئتين له موقعه ، كما دوره، في بيئتِهِ، مُخلّفاً أثراً بيِّناً .. فمن المناضل ضد الاستعمار الفرنسي (سلطان الأطرش)، إلى المناضلة ضد العدو الصهيوني غاصب أرض فلسطين (الشابة عهد التميمي)، إلى المناضلتين المكرّستين حياتهما وجهدهما لتنشئة الأجيال في استراليا (الراهبتان كونستانس الباشا ومدلين أبو رجيلي)، إلى فيلسوف لبناني وعالمي، غدا كتابه النبي بمنزلةِ انجيلٍ ثانٍ (جبران خليل جبران)، إلى الأديب والفيلسوف اللبناني (الشاعر سعيد عقل)، إلى عالِمٍ عراقي كبير (الأب يوسف جزراوي) ... 
إلى ثُلَّةٍ من أعاظم الشعراء، قُدامى ومعاصرين.. من عملاق الشعر العربي في كل العصور (أبو الطيب المتنبي)، إلى أحد أعظم الشعراء العرب المبدعين (عبد الوهاب البياتي)، إلى آخر عمالقة الشعر الكلاسيكي (محمد مهدي الجواهري)، إلى شاعر من بلاد النيل، أجيالُ سيدني غنّت قوافيه (رفعت عبيد)، إلى شاعر عراقي، خلع على الحروف مجداً (أحمد الياسري)، وإلى ثلاثة من رُعاة الشعر المحكي، أبدعوا في فن الزجل أيّما إبداع (النقيب جورج أبو أنطون، والياس خليل وأنطون سعاده)، إلى عبقري الزجل اللبناني، مضموناً وصوتاً ملائكياً (زغلول الدامور).. وإلى الأديب النسيب، من الدوحة "البعينية" (أديب البعيني).
... إلى نُخبةٍ من الفنانين، تصدّرت المشهد الفني العربي وقدّموا خدماتٍ جُلّى للفن الأصيل الراقي.. من الفنانة المطربة الخالدة، بنتُ جبل العرب (أسمهان)، إلى من تداولت الألسن أغانيه الثورية وصفّقت لإبداعه في أرجاء الوطن العربي وعلى مسارح العالم (مارسيل خليفة)، إلى الموسيقي المصري المبدع، ذي الأنامل الماسية (مجدي بولس)، وإلى الفنان المصري المتجلِّي في مجال العزف والموسيقى (مجدي الحسيني).
   ... لا شك أن الدخول، في تفاصيل كل شخصية من هذه الشخصيات التي خلّفت بصمات لا تُمحى في سجل الذاكرة العربية، على صعيد النضال السياسي وفي المجالات الفكرية والأدبية والشعرية والفنية، يقتضي منا تسويد عشرات الصفحات، لا يتسع لها المجال في مقاربتنا. وإذا كان لنا الاكتفاء ببعض شواهد، من نصوص هذه السردية، فهي لن تفي بالغرض ، وقد لا تُشبع نهم البعض إلى مزيد! من هنا اكتفينا ببطاقة تعريف موجزة، وليس للقارئ إلاّ العودة إلى "الديوان"، إذْ شتّان بين من يقصدُ البحر ليغبّ منه ما يشاء وبين من يكتفي بقطرات لا تروي عطشاً!
   ... ثمة مسألة، بما يخصّ السرديتين، آنفتي الذكر، لا يمكن أن نضرب عنها صفحاً، إذْ قد يذهب بعض قصيري النظر من النقاد إلى إدراجهما تحت فن المديح، بُغية الانتقاص من قيمتهما الأدبية، من منطلق أن هذا الفن قد نما، وراجت سوقه في البلاطات، واكتسب صفة التكسُّب! هؤلاء النقاد لم يفقهوا المدى الوجودي العميق للفن الذي تنضويان إليه! فأن نمجّد مدينةً أو عاصمة، فذلك من موقع البُعد التاريخي والحضاري والثقافي الذي تشي به.. وأن نمجِّد شخصية، فليس لذات هذه الشخصية، بل للدور الذي أدّته في خدمة الفكر ورفدهِ، وفي خدمة الوطن والأمة، كما في خدمة الإنسانية جمعاء!
 في الخطاب التعبيري... زِدْنا من فُصحاكَ عِشقاً!
" هكذا يجعلك الشعرُ مزروعاً في فضاءات هذا العالم، ويعطيك مفاتيح كل البيوت، ويجعلك نغمةً في إيقاع الكون!"... هي العبارة- الشهادة، التي تضمّنتها الرسالة الثانية التي بعث بها الشاعر نزار قباني إلى صديقه شربل بعيني (31 كانون الثاني 1994)، غداة تكريمه (تكريم القباني)- كما أسلفنا- وفوزه بجائزة جبران العالمية، مثمِّناً فيها دور شاعرنا، لا سيما كلمته في تلك الاحتفالية المشهودة. علماً أن نزاراً، كان قد كتب في رسالته الأولى (1 كانون الأول 1993)، في معرض ثنائه على مكرّميه، في الاحتفالية عينها:".. المبدعون العرب، ينتظرون أن يأتي تكريمهم من الصحراء.. ولكنه يأتي من جهة البحر، فالبحرُ يعرف متى يطرح اللؤلؤ والمرجان والقصائد الزرقاء" .
بقدرِ ما تُؤشِّرُ هاتان العبارتان على امتنانٍ وعرفانٍ بالجميل، بإزاء تلك اللفتة، فهما تمثّلان شهادة، بل قُلْ اعترافاً بأهمية الحركة الأدبية العربية في المغترب الاسترالي بعامة، وتنويهاً بالدور الذي يُؤدّيه شربل بعيني في مسار هذه الحركة، مُتصدّراً الصفوف الأولى، فيستحق لقب "شاعر الغربة" من دون مُنازع! 
هذه المرتبة الأدبية الرفيعة، التي بلغها البعيني، ارتقاها من طريقين: من طريق الشعر بمحكيتِهِ اللبنانية، ومن طريق الشعر بالعربية الفُصحى،  حتى ليحار المرء، وهو يتقصى، عشرات دواوينه، في أيهما كان أكثر تجلّياً، ناهيك عن آثاره النثرية، في مختلف الألوان الأدبية التي طرقها.. كل أولئك بصبرٍ وجلدٍ، قلّ نظيرهما، إذْ كان يحفر جبل شعره بإبرةٍ، ويمضي فيه مُصعِّداً حتى يبلغ قمّته!
في هذا المجال، ليس لنا إلاّ صديقه المهندس الراحل رفيق غنوم، إذْ يُشخِّصْ بدقةٍ سِمة الجلد والتحدي، لدى شاعرنا، خير تشخيص:".. لا يستسلم للمصاعب بسهولة. من هُنا أيضاً، نقدر أن نعرف سرّ تفوّقه على الآخرين، وسرّ امتلاكه لزمام الأمور، وسرّ تغلّبه الدائم على كل من يُهاجمه. إنه صريح العبارة، يُخطّط للفشل، كما يُخطّط للنجاح! ولهذا بقي ناجحاً، كل هذه المدة، وبقي حُسّادُه يلهثون، للتعلّق بأطراف ثوبه، ولو لثوانٍ معدودة، دون جدوى!" 
لا ريب أن ذلك النجاح، الذي حقّقه البعيني، لا سيما في فضاء الشعر، يدين به لأسباب عديدة، في عِدادها، بل في مقدّمتها راهنيةُ الموضوعات التي طرحها، وتضمّنتها جميع دواوينه. فقد راح إلى تطارح القضايا اللصيقة بهموم وطنه وشعبه، إلى شؤون الأمة وشجونها، فكان له في كل "عُرس" من هذه المسائل "قرص"، وأيَّ قرص! 
وإلى هذا العامل الأساسي، فقد كان للخطاب التعبيري، الذي صبَّ فيه خطاب المعنى، أثر كبيرٌ بالارتقاء بنتاجه الأدبي، شعراً ونثراً، ولتكون لهذا النتاج سيرورةٌ، في المهجر وفي البلاد العربية، حيث نسج شاعرنا علاقاتٍ وثيقة مع كبار الشعراء وعمالقة الأدب، في مشرقنا العربي، وكان- إذا صحّ القول- سفير العرب الأدبي "فوق العادة" في المغترب الاسترالي، وليغدو منزله محجّةً لكل أديبٍ قادم إليه من الشرق!
... وإذْ عرّجنا، في كتبِهِ،التي قاربنا، من ديوان "أحبُّكِ"، إلى ديوانه "مجانين"، عبوراً إلى كتاب د. بهية أبو حمد، حول أدب شاعرنا "شربل بعيني منارة الحرف".. وإذْ تقصّينا، في هذه الكتب ثلاثتها، خطابه التعبيري المترجّح بين المحكية وبين العربية الفُصحى، فإننا في " نجمة الشعر"، الذي أفرده للفصحى، سنستجلي خطاب الفُصحى من حيث مرتكزاته وعلاماته الفارقة، بما يجعله أحد " النزاريين"- وهو شرفٌ يدّعيه!- إذْ ما فتئ شاعرنا يرى إلى " معلّمه"، بل أحد مُلهميه الكبار، وقد أمسك بيده ليدلّه على طريق الشعر الحلال، وكان خير قدوة!
.. في تقصّينا لغة البعيني الشعرية، تستوقفنا الميزات الآتية:
أولاً- لقد غدت لغته الرحِمَ التي سوّر نفسه داخلها، لا انغلاقاً، ولكن مخافة أن تتسرّب إليها عناصر الفساد، فراح ينسج من أبجديتها تلك القصائد المبدعة! وإذْ شكّلت اللغة وطناً له، فقد كان انزياحٌ لديه، عبر عملية مركبة خلاّقة، من اللغة الوطن، إلى اللغة رحِماً، إلى اللغة ولاّدةً.. فإلى اللغة شعراً! 
.. إنه ذلك التماهي بين جسد القصيدة- بما هو خطاب تعبيري- بكل ما يكتنز هذا الخطاب من جمالات، وبين خطاب المعاني، دفينة هذا الجسد الحيّ.. وكل من الخطابين، يخلع على قرينِهِ ما يمتلك من عناصر القوة والبهاء، فلا يُدرى أيُّ الخطابين عالٌّ قرينَه، وأيٌّ الخطابين هو المعلول عن قرينه!
هكذا طفق خطاب المعنى وخطاب المبنى، في "نجمة الشعر" يتواكبان مسيرةً، جنباً إلى جنب، بل ينتسجان في بعضهما بعضاً، كما في أكثر الدواوين التي نظمها بعربية "نزارية" فُصحى!
.. كشواهد على هذا الرقي معنىً، حيث يتواكب لغةً وتعبيراً، مع أرقى ما يصل إليه التعبير.. وكل ذلك من "نجمة الشعر" ، لنا أن نقرأ ونتبصّر! :
- " لن يُقال الهرُّ أضحى أسداً/  ولو اختالَ بجلدِ الأسدِ/ كم شريفٍ خلتُهُ أمثولةً/ كان ذئباً خلف بابٍ موصدِ/ جسدُ الأنثى إذا عرّيتَهُ/ لن ترى فيه جمالَ الجسد!" (نجمة الشعر).
- فإلى الحكم المتتالية، التي تحفل بها هذه الأبيات الثلاثة، يبعث بها شاعرنا لتكون موضع اعتبار... إلى جمالية التعبير وسهولته ورقته، كما الإيقاع الرائع لبحر المديد (فاعلاتن فاعلن فاعلاتن)- وهو قرين بحر الرمل... كل أولئك يُثبت، بما لا يدع مجالاً لجدل، بأن البعيني يتفوّق على نفسه معاني، كما يتفوّق لغة شعرية، من كُتَّاب اللسان العربي المُبين!
- وكمثال آخر، بل كمثالين "قصيدة: إلى أمي" و"قصيدة: دعوة أم"، فهما لا تقلاّن، بكل أبياتهما، قدرةً تعبيرية وعمق معانٍ، وتعضدهما لغة آسرة، هي أفضلُ ما يُقال في ذينك الموقفين لأم مفجوعة بارتحال الأبناء عن مسقطهم، فتسودُّ الدُنيا في وجهها، وتربَّدُ أجواءُ نفسها.. إلى تلك الانسيابية، التي لطالما توقفنا عندها، وغدت "ماركة مسجّلة" حصرية لدى البعيني!
ثانياً- لقد نمَّ شاعرنا، في "نجمة الشعر" عن مُتضلِّع من لغة الضاد، فكان ذلك المتحكِّم بقيادها! ومما يلفت أن غربته الاسترالية المديدة، التي استغرقت  حتى اليوم اثنتين وخمسين سنة، لم تُؤثّر سلباً على سلامة فُصحاه، وجودة الصياغة لديه، ومتانة السبك. ولعل ممارسته التدريس في " معهد سيدة لبنان سيدني"، لسنوات عديدة، أبقته على تماس يومي مع لغته الأم، وعملت على تطويرها، وذلك من منطلق أن اللغة تقوى بالمران والمداومة على استعمالها. وإلى ذلك نمّ شاعرنا أيضاً عن تضلّع، في علم العروض، وهي مسألةٌ أعرناها أهميةً، وفصّلنا فيها لدى مراجعتنا ديوانه "أحبكِ".. إلى إلمامٍ بعلوم البلاغة والبيان والبديع، فجاءنا بأربع وأربعين قصيدة، هي من نجوم شعره، تنضح غالبيتُها بأرقى المضامين وأرقّ أساليب التعبير وأبهاها!
ثالثاً- لقد كان لتركيبة شاعرنا النفسية أثرٌ بيِّنٌ في خطابه الأسلوبي التعبيري. فمن مراجعتنا لباكورة دواوينه الشعرية "مراهقة" (1968)، وقد باح به، وهو ابن سبع عشرة سنة، نلمس تلك النزعة "العُنفية" التي تستبدُّ به، فطفقَ يُفجِّرها في قصائد تنتمي إلى الغزل الشهوي الشبقي الإباحي!
ولقد رصد الأديب ميشال حديِّد، واضع مقدمة (مراهقة)، هذه الخاصّية، إذْ يقول:" إن شعر شربل بعيني يبقى ثرثرة متى أفرغناهُ من ثوريتِهِ الجامحة الملتهبة!"، وكان حديِّد قد توقف ملياً عند تلك النزعة الشهوية، لدى شاعرنا.
.. من بابٍ آخر، نرى أن شاعرنا، إذْ يتلبَّسُ الشخصية الزغرتاوية، اكتساباً، فهي تتجسّد، عَبْرَ سرعة الإثارة، وإبداء ردات فعل غير محسوبة.. هو ما يدفعه إلى مواقف تتسم بالعنف، لا سيما في مواضع المواجهة مع الزعامات والطبقة السياسية الفاسدة.. 
وثمة تعليلٌ آخر، لا يقل أهميةً، ذلك أن عُنفه هو صرخة المشرّد الذي يعيش قهر الغُربة، وهو قهرٌ لا يُبارحه، بل يأكل كل يوم من عمره!... كل أولئك- إلى نهجه النزاري الذي يتسم به، في غير دواوين الغزل بمواقف عُنفية متهوّرة- راح ينسحبُ على لغتِهِ ، ذلك أن اللغة، في جانب كبير منها، تنطبع بأحوال النفس، بل هي لسانُ حالها الأمين!
ذلك البعيني، إذْ شئنا "تفييشَهُ"، فهو نزاري النهج، "جُبراني" الثورة! 
.. مع كل هذه الثورة "النزارية- الجبرانية" ، فإن شاعرنا- كما معلمه نزار- يذوبُ ولغته رقةً، حتى يكادا أن ينفلقا، من منطلق أن لكل مقام مقالاً.. وكثيرة هي الشواهد التي يمكنُ استلالها والتمثل بها من هذا الديوان! 
رابعاً- في الصور المبتكرة والمشهديات غير المسبوقة، حدِّث ولا حرج عن براعة الشاعر، الذي أوتي قدرة عجيبة في اجتراح صور وتعابير، غير معهودة لدى كثيرين من الشعراء، مما يُؤشِّر على خيال خلاّق، لا يتوفّر إلا لمن كان على حظٍ عظيم من شفافية رؤيا... إلى ثقافة واسعة، مما جعله يشعر صوراً (أي يقول الشعر صوراً)! كأننا بكل بيت أو مجموعة أبيات من شعره لوحة، تنضاف إلى سائر لوحات القصيدة، ولنغدُوَ أحياناً أمام معرض صور متناسقة، ترتصفُ إلى جانب بعضها البعض، في مشهدية أو مشهديات جدّ معبِّرة! 
.. في تمثُّلنا بمجموعةٍ من ذلك الإبداع التصويري/ المشهدي، نتخيّر هذه الشواهد النموذجية:
- " في رُبى لبنان روّضتُ المدى/ بعدما خطت ثلوجي موردي" (نجمة الشعر).. فالثلوج هي التي تؤشِّر على مسيرته، وذلك من دوس أقدامه عليها، عابراً إلى وطنه ليروِّض المدى!.. والمدى معنويٌ، لا يمكنُ القبضَ عليه، فكيف بعملية ترويضه؟ سَلْ شربل بعيني وأنداده من المبدعين، فيفيدوك بما يفعلون في هذا المقام! 
- عن لقائه بيروت، الذي يرتقبه بفارغ الصبر، فلننعم البصر في هذه الصورة الشعرية المتجاوزة إلى ما وراء المعنى الحسّي:" تحنو إلى لمس النجوم أناملي/ هل في الفضاء يكون أوّل موعِدِ؟" (بيروت).. هل يُريد شاعرنا أن يعرج وحبيبته إلى السماء ، لترتيب هذا اللقاء الموعود، وليكونا على مقربةٍ من سُدرة المنتهى؟!
- " كل المدائن ضيّعت عنوانها/ إلاّكِ، يا بيروت، يا وشْمَ اليدِ"(بيروت) هل ثمة صورة أكثر تعبيراً، تستطيع أن تُجسِّدَ ارتباط شاعرنا بعاصمة موطنه الأم، بيروت أم الدُنيا، إذ يضعها وشماً على يده، تلازمه، كدليلٍ دامغٍ على حبه لهذه المدينة؟!
- وعن هذه المشهدية البديعة، التي تجتاحُها "مراعاة نظير"- كبابٍ من ابواب البديع المعنوي- ولتضعنا أمام مجموعة صورٍ، تتكامل في ما بينها ، لتخلص إلى المعنى المراد والأظهر تعبيراً:" الموجُ عاتٍ، والشراعُ أنا/ من غيرُها تشتاقها سُفُني" (دُبي).
- .. وما أجملها صورة، حين تتدفق بغداد في مفاصل الشاعر، وهو يخبرنا عن حكاية عشقه مع عاصمة الرشيد، هي حكايةٌ من عالم الأساطير: "أحببتُ وجهكِ.. والغرامُ حكاية/ مثل الدماءِ تدفقتْ بمفاصلي" (بغداد) الخ... 
... أما بعد.. وبعد كل ما قيل وما قد يُقال.. يبقى شاعرنا البعيني أحد حُرّاس الشعر العمودي، في المغترب الأسترالي، ومن الحرصاء الأشداء على لغة الضاد، كما من أعاظم أركان المحكية اللبنانية المشوبة بما ينضوي إليها من فنون تراثية شعبية متعدّدة! وسواءٌ أكَتَبَ بالمحكية أم بالعربية الفُصحى، فهو المُجيد في اللغتين، وهو شاعرُ قضية، شعره "غائي" مُلتزم، من دون أدلجة، يمضي به إلى آخر الشوط، وهو يتنكَّب هم وطنه وأمته! وإذا كان قد بلغ شأواً بعيداً في فُصحاه، فإن محافظتهِ على "محليّتِهِ"، بل على الوشائج التي تربطه بوطنه لبنان وبني قومه وأبناء جلدتِهِ، تُسجّل له ولا تُسجّلُ عليه، ذلك أن " من ينكر أصله، لا أصل له!".. وأعظم الأدباء هم الذين حافظوا على هذه المحلية "الوطنية"، وإن أمضوا ردحاً طويلاً من عمرهم في بلادٍ غريبة!
... إذا كان ثمة ما يزينُ " نجمة الشعر"، ويُضفي عليه بعضاً من رونق، فهو يتمثّل في إبداع الفنانة التشكيلية رندى بعيني، التي صمّمت رسم الغلاف الخارجي، ودسَّت، من جميل أناملها، اثني عشر رسماً بين صفحات الديوان، مُستوحاة من الطبيعة المطبوعة والطبيعة المصنوعة!... ولعلّ الرسم الأخير، بحسب خبرتنا الفنية المتواضعة، ينتمي إلى التشكيلية الحروفية.
.. هكذا، يخرج الديوان إلى النور " بعينيّاً" صِرفاً: قصائد ورسوماً، إلى غلاف خلفي، تحتله إحدى كبيرات "البعاينة"، والدة شاعرنا- رحمها الله- تغمرها السعادة، إذْ تُشارك شربل، وهو يحمل بيده درعاً تكريمية، هي من أوائل الدروع التي حصدها، في مسيرته الأدبية الظافرة!
**
 الحواشــي:

* ديوان بالعربية الفُصحى للشاعر شربل بعيني، يضم قصائد مختارة من بعض دواوينه، الغلاف والرسوم الداخلية للفنانة رندى بعيني، صدر في سيدني (أستراليا) 2020.

[1] - راجع كتاب "أجمل ما قيل بأدب شربل بعيني" للمهندس الراحل رفيق غنوم، منشور على صفحة شربل بعيني على الفيس- بوك، بمناسبة الذكرى الثانية والعشرين لرحيل الشاعر نزار قباني (كان الدخول على الصفحة في 2 أيار 2020).

[2] - " أجمل ما قيل بأدب شربل بعيني"، مرجع سابق، (منشور في مجلة " ليلى"- سيدني، العدد 33 ، تموز 1998، ومنقول عن صفحة شربل بعيني على الفيسبوك- الدخول 2/5/2020).

[3] -  راجع، هدى الصباغ، حديث نشرته جريدة البيرق (الاسترالية)، 1986، العدد الرابع، منقول من كتاب المهندس رفيق غنوم " أجمل ما قيل بأدب شربل بعيني".

[4] -  راجع، جميل الدويهي "الأشعار الشعبية اللبنانية/ لمحة عامة" ، (منبر عكاظ)، (موقع Farah news on line: الدخول عليه 5/5/2020)

[5] - محمد علي شمس الدين، من مقاربة كتاب "أعلام الشعر العامي في لبنان" للكاتب د. ميشال خليل جحا، عنوان المقاربة:" الشعر اللبناني بالعامية هناك، حيث تخشخش أصابع الحياة"، (على صفحة الشاعر شمس الدين، على الفيس بوك، الدخول إلى الصفحة في 6/5/2020).

[6] - مارون عبود، "الشعر العامي"، دار مارون عبود، بيروت، 1960، ص 63(منقول عن صفحة محمد علي شمس الدين، آنفة الذكر).

[7]  - راجع لطفي حداد، "خواطر في الأدب العربي المهجري المعاصر"، على موقع Syrianstory ( تم الدخول إليه في 2/5/2020).

[8]  - راجع، "أجمل ما قيل بأدب شربل بعيني"، مرجع سابق.

[9]  - راجع، مصطفى الحلوة، "مقابسات زُريقية بين شاعر الفيحاء سابا زريق وسابا الحفيد"، صادر عن "مؤسسة شاعر الفيحاء سابا زريق الثقافية"، ط 2016، ص 95.

[10] - راجع، "الآثار الكاملة لشاعر الفيحاء سابا زريق"، طبعة أولى 2012، من دون دار نشر، إعداد د. سابا قيصر زريق، جزء 2، ص ص : 96- 98).

[11]  - راجع، محمدو لحبيب، "جيكور.. قرية نبتت من جرح السيّاب" ، مقال على (موقع "ملقى الخليج الثقافي" khaleej.ae الدخول : 6/5/2020.

[12]  - راجع ، منصف الوهايبي، "شعرية تمجيد بلاغة المدن"، (موقع مجلة نزوى الإلكتروني 2009، De nizwa.com، الدخول 30/4/2020).

[13]  - راجع، الرسالتان منشورتان في مجلة ليلى (استراليا)، العدد 33، تموز 1998.

[14]  - راجع، رفيق غنوم، مرجع سابق.
**

نجمة الشعر

مَجْدُ أَمْسِي.. هَلْ سَيَنْسَاهُ غَدِي؟!
لَيْسَ يَنْسى الْهَجْرُ ما أَعْطَتْ يدي
لَيْتَنِي كُنْتُ نُجُوماً فِي الْفَضا
يَتَباهَى بِشُعاعي بَلَدِي
نَجْمَةُ الشِّعْرِ إِذَا ضَيَّعْتَها
قَدْ تُلاقيها بِحُضْنِ الْفَرْقَدِ
لَيْتَنِي كُنْتُ حَريراً ناعماً
كَيْ أَغيظَنَّ غُرورَ الْمِبْرَدِ
فِي رُبَى لُبْنانَ رَوَّضْتُ الْمَدَى
بَعْدَما خَطَّتْ ثُلُوجِي مَوْرِدِي
وَبِظِلِّ الأَرْزِ عانَقْتُ الْهَنا
وَتَرَكْتُ الصَّخْرَ يَبْنِي مَقْعَدِي
يَتَدَلَّى الْخَيْرُ مِنْ عِرْزالِنا
وَيَؤُمُّ الطَّيْرُ أبْهَى مَعْبَدِ
حِكَمٌ لا تَنْتَهِي عَايَشْتُها
إِيهِ ما أغنى لِسانَ الْوالِدِ:
إِنْ تَعِشْ دُنْياكَ لَمْ تَنْعَمْ بِها
شَتَمَتْ مَلْقاكَ طُولَ الأَبَدِ
قِيل فِي النَّارِ انْصهارٌ دائِمٌ
لَيْتَ هذا في الصَّقيعِ الْبارِدِ
كُلُّ شِعْرٍ لا يُوَعِّي عصرَهُ
صارَ جَمْراً فِي زَوايا الْمَوْقِدِ
قَدْ يُشِعُّ الْحَرْفُ فِي زَنْزانَةٍ
تُصْبِحُ الْقَصْرَ لِفِكْرٍ خالِدِ
مَنْ يُصَلِّي خَائِفاً مِنْ رَبِّهِ
لَيْسَ أَتْقَى مِنْ مُحِبٍّ مُلْحِدِ
مُعْطَياتُ الْحُبِّ نَصْرٌ مُفْرِحٌ
أَيُّ ذُلٍّ في فُؤادِ الْحاقِدِ؟
حاسِدِي.. لَنْ يَقْتَنِي مَجْدَ الْعُلَى
أَرذل الأعمار عمر الحاسدِ
لن يُقالَ الهرُّ أَضْحَى أسداً
وَلَوِ اخْتالَ بِجِلْدِ الأَسَدِ
كَمْ شَريفٍ خِلْتَهُ أُمْثُولَةً
كانَ ذِئباً خَلْفَ بابٍ مُوصَدِ
جَسَدُ الأُنْثَى إِذَا عَرَّيْتَهُ
لَنْ تَرَى فِيهِ جَمالَ الْجَسَدِ
وَطَنِي.. لَنْ أَشْتَكي طُولَ الضَّنَى
رَغْمَ بُعْدِي، لَمْ أَزَلْ فِي مَرْقَدِي
قَدْ حَمَلْتُ الأَرْضَ فِي شِعْرِي وَفِي
بُؤبُؤ الْعَيْنِ الْغَرِيبِ الْمُجْهَدِ
غُرْبَتِي.. نَارُ اشْتِياقٍ مُؤلِمٍ
وَرُجُوعِي.. بَوْحُ أَحْلَى مَوْعِدِ
**
رحماك ربّي

رحماك ربّي إنني
قدّام عرشك أنحني
مترسملاً في غربةٍ
بالحب.. والعيش الهني
لا لست أبغي ثروةً
حلمي بعطفك أغتني
عمري بدونك كذبةٌ
مدّ اليدين وضمّني
**
زمني

كلُّ الدروب فوقَها محنُ
أنّى ذهبنا شبّتِ الفتنُ
فالقتلُ صار اليومَ هاجسَنا
تحلو به الأعمالُ والمهنُ
كم من قبورٍ أصبحتْ مدناً
لمّا نفتْ سكانّها المدنُ
أخلاقنا، أفكارنا، يبستْ
مثل الذي قد لفّه العفنُ
ها والدٌ دمعاتُه غضبٌ
يمشي فيمشي خلفه الكفنُ
حتى حليبُ الأم مكتئبٌ
من حقدنا قد بزّه اللبنُ
يا حبّذا لو ينتهي زمني
حتى أرى ما يتركُ الزمنُ
**
الى أمي

أيا أمّاهُ.. ما بَرِحَ الرّحيلُ
يُدّمرُني.. أنا قلبي عليلُ
أعيشُ الهجرَ سَكراناً بدمعي
ظلامُ الليلِ أرّقه الْعويلُ
أجلْ أشتاقُ للحُبّ المُصفَّى
لضحْكةِ ثغرِكِ الجذلى أميلُ
أريدُ الزّندَ يغمرُني بعطفٍ
وَدِفْءَ الصّدرِ غَفْواتي يُطيلُ
لقدْ كُنْتِ الحياةَ لكلّ طفلٍ
رعيلٌ يَنْزوي.. يأتي رعيلُ
شعوبُ الأرضِ قدْ أهدتكِ مجداً
شبيهُ الأمّ، يا أمي، قليلُ
رأيتُ الناسَ تفتخرُ بطولٍ
وطولُك، كم تَمنّاه النخيلُ
حبيبُ الزّهرِ إنْ أعطوْهُ إسْماً
فزهرُ الأمّ للدنيا خليلُ
إذا قلتُ الإلهَ.. أقولُ أمّي
فعندي حبُّها ربٌّ جليلُ
وعندي حُضنُها جنّاتُ خُلْدٍ
لماذا الهجرُ، يا ربّي، طويلُ؟
أعِدْني.. لا تُطِلّْ فيَّ اشْتياقاً
جميلٌ قربُها منّي.. جميلُ
**
علمي

حيّيتَ يا علمي
في هيئةِ الأممِ
تزهو بأرزتنا
تعلو إلى القممِ
فالأحمرُ الباكي
لوّنته بدمي
والأبيضُ الشاكي
قدّسته بفمي
أرضي وإنْ بعدتْ
تشتاقها قدمي
أعدو.. فيسبقني
قبرٌ من العدمِ
أجدادُنا زرعوا
مجداً من القِدَمِ
واليومَ يا وطني
يغتالني سقمي
قد جئتُ مغترباً
خوفاً من الصنمِ
يجتاحني حلُمٌ
أوّاهُ من حُلُمي
في الليلِ مفخرةٌ
وفي غدٍ ألمي
**
رمضان.. شهري أنا
إفطار رمضاني بدعوة من جمعية النهضة العراقية

إنّي أرى الإنسانَ في رمضانِي
مستعوذاً باللـهِ من شيطانِ
إن صامَ شهراً، فالصيامُ فريضةٌ
أو حجَّ بيتاً.. شعَّ بالغفرانِ
ما همّهُ جوعٌ إذا الجوعُ غزا
يقتاتُ بالصلواتِ والإيمانِ
يعطي الفقيرَ زكاةَ عمرٍ طاهرٍ
ليفوحَ في الدنيا شذا الإحسانِ
يا خالقَ الأكوانِ هذي أمتي
تمشي بعكس الخلقِ والأكوانِ
هذي العروبةُ أنهكتها حروبُها
لم تُحسنِ التفسيرَ بالأديانِ
فالطائفيُّ الذئبويُّ لسانُه
يعوي، فيغدو الشرُّ كالطوفانِ
إنْ كنتَ للتقوى، فبالتقوى أنا
قد أغلبُ الشيطانَ يا ديّاني
ما الفرقُ بيني وبينَ أهلٍ آمنوا
إنجيلُهم للّـه كالقرآنِ
ما الفرقُ بيني وبينَ جارٍ مخلصٍ
قد شرّفَ الإنسانَ بالإنسانِ
ما الفرقُ بيني وبين كلِّ خليقةٍ
إنْ لم أحاكِ لسانَهم بلساني
إن كان نسليْ نسلَ آدمَ ويحهم
كيف الخصامُ ونحن كالإخوانِ
شهري أنا.. شهرُ المحبّةِ والتُّقى
في نوره لم يختلفْ إثنانِ
شهرٌ كأنَّ اللهَ فيه مجسّدٌ
هذي شهادةُ مؤمنٍ نصراني
**
آه يا شعبي

آهِ يا شعبي الحبيبْ
حينَ يَغْزوكَ النَّحيبْ
تَنْحَني الأجْسادُ فينا
وَيُوافينا المَغيبْ
هل تَضيعُ القدسُ مِنَّا
ليسَ فينا من مُجيبْ؟
قِبْلَةُ الأقداسِ كانَتْ
مِنْ هلالٍ أَو صَليبْ
هَضْبَةُ الجولانِ ليسَتْ
خيمةً تأوي الغريبْ
هَذهِ الأرْضُ الْحَبيبَه
كيفَ نَرْضاها تَسيبْ؟
لا رئيسٌ قالَ كُفُّوا
مِنْ بعيدٍ أوْ قريبْ؟
مَنْ يُعيدُ الحقَّ قولوا؟
حَقُّنا إِرْثٌ عجيبْ
**
ظلال

أَمْشي.. وَخَلْفي تُستَباحُ ظِلالُ
بِخُطوطِها السَّوداءِ هامَ سُؤالُ:
أَتَنامُ عَيْنُ الشِّعرِ مِلْءَ جُفونِها
وَعَلى الرُّموشِ مَصائِبٌ تَخْتالُ؟
يَعْيا الْعَويلُ بِثَـغْرِنا، فَكَأَنَّـنا
مُنـذُ الْبِدايَـةِ لَفَّنا الْبِـلْبالُ
أَعْـمارُنا رَهْنٌ بِحِفْظِ مَـراكِزٍ
يَطْـغى بِـها مُسْتَرْئِسٌ دَجَّالُ
يَتَثاءَبُ الإِهْـمالُ في نَبَضاتِـنا
فَيُريـحُنا بِنُعاسِـهِ الإِهْمـالُ
نَغْفو.. كَأَنَّ الْفَجْرَ مِنْ أَعْدائِنا
والْكَدَّ وَهْمٌ مُرْعِبٌ وَوَبالُ
نَحنُ اجْتَرَرْنا باحْتِرافٍ صَمْتَنا
فَتَعَظَّمَتْ بِسُكوتِنا الأَفْعالُ
لَمْ يَسْمَعِ الإِنْتاجُ فينا، فَالْقِوَى
خارَتْ، وَخارَتْ مِثْلَها الآمالُ
نَشْقى، إذا افْتَرَشَ الْهَناءُ رُبوعَنا
وَنَئِنُّ إَنْ حَضَنَ الْيَمينَ شِمالُ
أَفْضالُنا لا تَنْتَهـي.. فَرَذيلَةٌ
تَنْأَى، وأُخْرى فَوْقَنا تَنْهالُ
طُهْرُ النِّساءِ حِكايَةٌ، إنْ تَرْوِها
تَضْحَكْ عَلَيْكَ أَسِرَّةٌ وَرِجالُ
في شَرْقِنا الْعَرَبِيِّ يَطْلَـعُ ثائِرٌ
كَيْ تَهْتَدِيْ بِشُعاعِهِ الأَجْيالُ
لكِنَّهُ، والخُبْثُ في خَطَواتِهِ،
يَسْبِي الضَّميرَ وَما اشْتَهَتْهُ عِيالُ
لا ثَوْرَةٌ في الشَّرْقِ أَشْرَقَ نورُها
إلاَّ احْتَواها في الدُّجَى مِكْيالُ
زُعَماؤنا، دَرْبُ الْخِيانَةِ دَرْبُهُمْ
لِيَقودَنا نَحْوَ الضَّلالِ ضَلالُ
إنْ صَمَّموا، فَالْغَدْرُ في تَصْميمِهِمْ
وَتَكَلَّموا، فَلُعابُهُمْ يَحْتـالُ
بِئْسَ الزَّمانُ زَمانُنا.. فَبِلادُنا
عِنْدَ الشَّدائِدِ عافَها الأَبْطالُ
يا شاعِراً صاغَ الإِلهُ حُروفَهُ
أَنِّبْ.. لِتَرْدَعَ شَعْبَكَ الأَقْوالُ
أَنْتَ الْقَوِيُّ عِبـارَةً وَعَزيمَةً
وإلَيْكَ يَرْنو في العَشِيَّةِ بالُ
**
عراقية
حفل بمناسبة مرور عشر سنوات على صدور جريدة العراقية ـ سيدني

إذا كانت شعوبُ الضّادِ أُميّه
ستغزوها مَطبّاتٌ جُنونيّه
وتنمو فوق أعناقٍ وأبدانٍ
فقاقيعٌ وأدرانٌ خُرافيّه
علينا أن نُداويها ونَحميها
فكلُّ العارِ أن تبْقى سَرابيّه
وكلُّ العارِ أن تحيا بأخلاقٍ
جنونٌ أن نُسمّيها تراثيه
أيا أرضاً هجرناها زرافاتٍ
محونا الإسمَ كي نُلغي العروبيّه
سئِمْناها، كشفناها، رفضناها،
لمسناها، وجدناها لُعابيّه
تركناها، ولم يبقَ سوى باغٍ
وقطعان من الإهمالِ مَنسيّه
عصاه تُلهِبُ الأكتافَ ضرْباتٍ
وصرخاتٍ.. لكيْ تحمي الحراميّه
أسالَ الدمعَ كي يمحُو مذلاّتٍ
ويُخفِي لُعبَةً بالسرِّ دينيّه
فأصبحنا ألاعيباً بأسماءٍ
مسيحيه، وسنيّه، وشيعيّه
رمانا في جيوبِ الغشّ دولاراً
ليبتاعَ الوزاراتِ السياسيّه
وأفتى أن يُذيقَ الشّعبَ آلاماً
جُنُوبيَّ المآقي أم شِماليّا
أنا المنبوذُ يا أرضي، فهل تحنو
على الأرزاتِ أنسامٌ إلهيّه؟
وهل تبكي على إنسانِنا عينٌ
وقد أضحتْ نيرانُ الحربِ شاميه؟
فَكَمْ في النيلِ دمعٌ من مآقينا
وَكَمْ في الحَلْقِ آهاتٌ فُراتيه؟
نزفنا هجْرنا فنّاً وآداباً
وعاداتٍ وصفناها بشرقيّه
تعبنا كي يظلَّ الفكرُ مسؤولاً
عن الشّعبِ الذي دُنياهُ مَسْبيّه
عنِ الشعبِ الذي بالسّجنِ مَرمِيٌّ
كما الأحكامُ بالأوحالِ مَرميّه
هنا الإعلامُ يُعطينا بلا غدْرٍ
ليغدُو الشعرُ أبياتاً عِصاميه
هنا الإعلامُ يُعطينا إضاءاتٍ
ليبقى العقلُ بالأخلاقِ مُضويّا
هنا الإعلامُ يُعطينا مساحاتٍ
مِنَ الحُرِيَّةِ البيضاءِ.. حُريَّه
يَطيرُ الحرفُ في عَليائه نَسراً
إذا ضمَّتْهُ أوراقٌ ربيعيَّه
شمُوعُ العيدِ أقلامي وأحْلامي
فهلْ تُهدَى من الأحْلامِ عيديّه؟
وهلْ يرنو إلى الأوتار قيثارٌ
ولحنُ العيدِ بالأوطانِ ناريّا؟
مُوَفَّقْ.. لا تقُلْ: شمْعاتُها عشرٌ
فمنْ أعْمارنا نُعْطي "العراقيه"
أعيدُ الإسمَ، عنْ قصْدٍ، لكيْ أشدو:
عراقيّه، عراقيّه، عراقيّه
**
رئيس الحزب

مثلَ النّعاجِ يقودُنا متحزّبُ
مترئسٌ، متغطرسٌ، متذبذبُ
إنّا نحيي كلَّ يومٍ لصَّنا
ذاكَ الذي شرفَ التحيّةِ يسلًبُ
هو كاذبٌ.. والغدرُ في أوصالهِ
حتّى شهيقُه من كلامِه أكذبُ
يختالُ مثلَ كَواسرٍ بريّةٍ
لكنّه، عندَ الهريبةِ، أرنبُ
لا يرتوي بالماء مهما يصطلي
غيرَ الدماءِ الحمرِ لا لا يشربُ
مثل الأميرِ مرفّهٌ في قصره
والفقرُ في أكواخنا يتعذّبُ
في عرسه كل الخلائق تنتشي
وبموتنا ما من شريفٍ يندبُ
فالشعبُ يدري أنه متخاذلٌ
فيه الشتائمُ والمصائبُ تُضربُ
لكنّ شعبي طيّبٌ متسامحٌ
والموتُ يأتي كي يُعاني الطيّبُ
**
شعب واحد

نحنُ شعبٌ واحدٌ، للحقِّ عَسْكَر
لا نَهابُ الموتَ، مَهْما المَوتُ زَمْجَرْ
لا وربّي، لمْ نزايدْ إنْ هَتَفْنا:
نحنُ نَفديكِ، ونَهْوى الموتَ أكثرْ
هذه بيروتُ يا بغدادُ تبكي
إمسَحي الدَّمْعاتِ إنَّ الدَّمْعَ أَحْمَرْ
إنْ بَكَيْتِ الْيَوْمَ نَبْكي كُلَّ يومٍ
كُلُّ شِبْرٍ مِنْكِ يا بَغْدادُ جَوْهَر
شَعْبُكِ الانسانُ قدْ أَضْحَى شهيداً
كَبِّري منْ أَجْلِه.. فاللهُ أَكْبَرْ
حينَ أديانُ السَّمواتِ نَعَتْهُ
خِلتُ أَنَّ اللهَ في العَلْياءِ كَبّرْ
ماتَ شِعْري حينَ أَفْنَتْنا حُروبٌ
أَخْبريني إنْ سَمِعْتِ الْقَبْرَ أَشْعَرْ
أَخْبريني إِنْ رَأيْتِ الْحَرْفَ يَشْكو
إنّهُ حَرْفي.. على كفّي تَكَسَّرْ
إنّهُ صَوتي.. وَهَلْ للصَّوْتِ وَقْعٌ
حينَ نُطْقِي.. مِثْلَ أَحْلامٍ تَبَخَّرْ
إنَّهُ قَلْبي، أيا قلبي، ارْحَميني
أنْتِ يا بَغْدادُ بالْمَظْلُومِ أَخْبَرْ
إنَّهُ عُمْري.. أيا عُمْراً تَهاوَى
كُلُّهُمْ عاشوا.. وَمَوْتي لا يُفَسَّرْ
زُمْرَةٌ غدَّارَةٌ تَجْتاحُ أَرْضي
تُشْبِهُ الشّيْطانَ، بلْ بالشرِّ أَشْطَرْ
تَقْتُلُ الأطْفالَ، تَسْبي طاهِراتٍ
إِنْ وَصَفْنا الطُّهرَ.. قُلْنا: هُنَّ أَطْهَرْ
كفَّرونا بعد إيمانٍ وتقوى
وتناسَوْا أنَّهُمْ باللهِ أَكْفَرْ
لا تقولي: النّارُ تَجْتاحُ الرَّوابي
سَوْفَ لنْ تَبْقَى لأنَّ العُشْبَ أخْضَرْ
سوفَ لنْ تبقى لأنَّ الْحقّ أَقْوى
مِنْ خَبيثٍ نفسَهُ في النَّاسِ فجَّرْ
نينوى والموصلُ الغنّاءُ أضحتْ
ثورةً، كي من جنون الحقدِ تَثْأرْ
صانَها جيشٌ عظيمٌ لا يُبالي
قدْ أتاها الْيَومَ منصوراً مُظفّرْ
قد أتاها.. والزّغاريدُ اسْتجابتْ
أُنْظري الشّيطانَ بالإيمانِ يُقْهَرْ
أُنْظُريهِ كالأفاعي السُّودِ يَلْوي
تَحْتَ أَقْدامٍ منَ الفُولاذ يُنْحَرْ
هالَنا التَّشْريدُ يا بغدادُ قومي
كيْ تُعيدي طفلَكِ الْباكي الْمُهَجَّرْ
**
أَديب غريب

تَغْفو.. وَفِي الْعَيْنَيْنِ طَيْرٌ أَزْرَقُ
بِرِياشِهِ الْمَلْساءِ بَدْرٌ مُشْرِقُ
يَخْتالُ في نَبَضاتِهِ فَرَحُ الدُّجَى
وَعَلَى مَسامِعِهِ الْمَدائِحُ تُهْرَقُ
بِجَمالِهِ، ما صاغَ رَبُّكَ طائِراً
وَبِحُبِّهِ بَوْحُ الزَّمانِ مُعَلَّقُ
هَذا الْغَريبُ الْمُستَنيرُ بِفِكْرِهِ
شِعْرٌ يُضَمِّخُهُ الشَّذا والزَّنْبَقُ
أَحْبابُهُ، عُدَّ الدَّقائِقَ وَاسْتَرِحْ
فَتَرَى الْمَطارِحَ بِالْغَريبِ تُحَدِّقُ
لا تَحْسَبَنَّ الْهَجْرَ يَرْفَعُ قَدْرَهُ
فالأَرْضُ وَقْعَ حُروفِهِ تَتَعَشَّقُ
قَبْلَ ارْتِحالٍ كَمْ تَمَنَّتْهُ الرُّبَى
مَطَراً.. وَحُلْماً أَخْضَراً يَتَفَتَّقُ
هَمَسَتْ بِهِ وَقَدِ انْتَشَتْ أَطْرافُهُ:
عُدْ يا حَبيبي، فَالنَّدى لا يُحْرَقُ
ما هَمَّهُ.. نَزَفَ الإباءَ قَصيدَةً
وَعَلى مَعانِيهِ تَعَمْلَقَ بَيْرَقُ
أَحْلامُهُ وِسْعُ الْمَدى ، وَحَنينُهُ
أَلَمٌ يُعَشِّشُ بِالْحَشَا وَتَحَرُّقُ
وَهَبَ الْهَناءَ خُصومَهُ.. فَتَهامَسوا
وَتَآمَروا وَتَوَعَّدوا وَتَمَزَّقوا
لا شَيْءَ يَدْفَعُهُمْ إلى رَكْبِ الرَّدَى
لَوْ ما الرَّذيلَةُ أَوْمَأَتْ كَيْ يَخْلُقوا
مَنْ قالَ: يُنْقِذُهُمْ صَباحُ طُفولَةٍ
مِنْ غِيِّهِمْ، وَشُموسُهُمْ لا تُشْرِقُ؟
جالوا.. فَأَفْنوا زَرْعَنا وَعِيالَنا
وَبِزِقِّنا خَلَّ الزَّعامَةِ عَتَّقوا
وَلَقَدْ شَعَرْتُ بِحُبِّهِ وَحَنانِهِ
يا حَبَّذا لَوْ مِنْ هَواهُ تَنَشَّقوا
كانوا الفَضيلَةَ، دونَ قَصْدٍ، مارَسوا
وَتَلَقَّحوا بِالْحُبِّ، ثُمَّ تَذَوَّقوا
لَيْسَتْ بِأَيَّامٍ تُقاسُ حَياتُنا
وَمَعَ الصَّباحِ بِعُمْرِنا نَتَصَدَّقُ
شُعَراؤنا، أُدَباؤنا، نُقَّادُنا
غَزَلوا الْبَراءَةَ مشْلَحاً وَتَنَمَّقوا
رَدُّوا الْقَصائِدَ لِلْمَضارِبِ، هَمُّهُمْ
أَنْ لا يُفَرِّطَ بِالأَصالَةِ أَحْمَقُ
مِجْذافُهُمْ كَفٌّ تُرَوِّضُ هَجْرَهُمْ
وَعَلَى أَصابِعِهِم تَرَنَّحَ زَوْرَقُ
يا ابْنَ العُروبَةِ لا تَسَلْ فَعُيونُهُمْ
تَزْدادُ سِحْراً عِنْدَما تَتَأَرَّقُ
فَاكْتُبْ، أَديبـي، لا تَخَفْ أُرْجوزَةً
سَئِمَ الْمَغيبُ سَماعَها والْمَشْرِقُ
أَنْشِدْ، أَعانَكَ خالِقي، في غُرْبَةٍ
فَلَعَلَّكَ الإنسانَ فيها تُعْتِقُ.
**
دعوة أم

هَذِي يَدِي مَدَدْتُهَا كَدَعْوَتِي
لِتَعْبُرُوا مِنْ حُزْنِكُمْ لِفَرْحَتِي
ضَاقَتْ دُروبُ الْعُمْرِ مِنْ تِرْحالِكُمْ
وَالْهَجْرُ يُخْفِي دَمْعَكُمْ فِي مُقْلَتِي
أَفْلاذَ قَلْبِي.. لا تُذِيقُوني النَّوَى
مَنْ غَيْرُكُمْ تَزْدانُ فِيهِ صَحْوَتي!؟
أَلَمْ تَرَوْا شَيْبِي يُعادي مَفْرِقِي
وَالْخَدَّ تُرْدِيهِ شَظايا دَمْعَتي؟
أَلَمْ تَرَوْا سَيْرِي بَطِيئاً مُتْعَباً
وَالصَّدْرَ يَعْلُو حِينَ تَعْلُو أَنَّتِي؟
عُودُوا لِحِضْنٍ لَنْ تُلاقُوا مِثْلَهُ
إلاَّ إِذَا جِئْتُمْ رُبُوعَ جَنَّتِي
حُلْمِي الْوَحِيدُ أَنْ أَرَى أَطْفَالَكُمْ
وَأَنْ تَضِجَّ بِالصُّرَاخِ خَيْمَتِي
كُلُّ الْصُّراخِ الْمُسْتَحَبِّ صَامِتٌ
وَالصَّمْتُ وَهْمٌ قَدْ يُطِيلُ صَرْخَتِي
يَغْتاظُ بَيْتِي مِنْ غُبارِ بُعْدِهِمْ
وَتَنْزَوِي مِنْ دُونِهِمْ مَحَبَّتِي
أَطْفَالُكُمْ رُوحي وَآمالُ غَدِي
وَبَهْجَتِي إِنْ تَمْتَمُوا: يَا جَدَّتِي
لا تَحْرِمُوني مِنْ عَطايا خالِقِي
لا تَحْبِسُوني في مَرايا وِحْشَتِي
هُمْ أَيْمَنِي وَأَيْسَري وَالْمُرْتَجَى
وَهُمْ عُيُوني وَارْتِياحُ نَظْرَتي
رُسُومُهُمْ أَنَمْتُها عَلَى يَدي
لِتَرْتَوِي مِنْ عِطْرِهِمْ وِسَادَتي
وَتَزْدهِي بِظِلِّهِمْ شَراشِفِي
وَتَنْتَشِي أَنامِلِي وَقُبْلَتِي
ما هَمَّني.. إِنْ أَرَّقَتْنِي صُورَةٌ
فَاللـهُ يَغْفُو فِي زَوايا غُرْفَتِي
**
ماذا دهاك؟

مَاذَا دَهَاكَ الْيَوْمَ يَا وَطَنِي
تَحْيَا زَماناً خارجَ الزَّمَنِ؟!
أَطْفِىءْ مَعِي حِقْداً يَنُزُّ دَماً
كَيْ أَطْرُدَ الشَّيْطانَ مِنْ عَدَنِي
شَيْطانُ أَرْضِي تاجِرٌ جَشِعٌ
يَخْتَالُ فِي سَـحائِبِ التُّتُنِ
أَوْزانُهُ، ما هَمُّ، ناقِصَةٌ
زَانَ الْغِنَى، وَالدِّينَ لَمْ يَزِنِ
دُولارُهُ جُوعُ الْفَقِيرِ بِهِ
تَبّاً لَهُ مِنْ تاجِرٍ بَطِنِ
عَلَّقْتُ قلْبِي في الدُّجَى قَمَراً
مُسْتَعْرِباً، أَوْدَعْتُهُ شَجَنِي
وَاحْتَكَّ شِعْرِي بِالرِّياحِ فَها
جَتْ تَنْفُخُ النِّيرانَ فِي مِحَنِي
جُبْتُ الْفَيَافِي قُبْلَتِي جَبَلٌ
تَصْبُو إِلَيْهِ سُرْعَةُ السُّفُنِ
عَمَّرْتُ فَوْق الْمَوْجِ دَسْكَرَةً
حَنَّتْ إِلَيْها زَهْرَةُ الْمُدُنِ
لا أَبْتَغِي مِنْ حاضِري أَمَلاً
إِنْ لَمْ أُسَمِّرْ فِي الرُّبَى سَكَنِي
آمَنْتُ.. آمِنْ مِثْلِي يا وَطَناً
حُكَّامُهُ مِنْ مُتْحَفٍ وَثَنِي
أَلرَّبُّ مِلْءُ الضَّوْءِ.. وَيْحَهُمُو
غَرْقَى بِبَحْرِ الْكُفْرِ وَالْعَفَنِ
شَعْبُ الْوَرَى أَثْمانُهُ ذَهَبٌ
لكِنَّ شَعْبِي فَاقِدُ الثَّمَنِ
عَيْنِي رَأَتْكَ الْوِلْفَ.. لا عَجَبٌ
إِذَا هَوَتْكَ وَانْتَشَتْ أُذُنِي
أَحْبَبْتُكَ الْعُمْرَيْنِ.. هَلْ وَلَهٌ
أهْداكَ عُمْراً جالَ فِي الْبَدَنِ؟
صَانَتْهُ رُوحِي مُنْذُ تَنْشِئَتِي
ماذَا دَهاكَ الْحُبَّ لَمْ تَصُنِ؟!
خُذ عُمْريَ الْباقِي فلا وطنٌ
يَحْلُو.. وَلمْ يَحْضُنْ ثَرَى كَفَنِي
**
بيروت

بيروتُ يا بَيْروتُ.. لا تَتَرَدَّدِي
قولي: أحبُّكَ.. كَيْ يُعانِقَني غَدي
لَوْ تَعْلَمينَ كَمْ يُؤَرّقُني النَّوى
لَفَتَحْتِ حُضْنَكِ واخْتَزَلْتِ تَشَرُّدي
أَمْضَيْتُ عُمْرِي كالرياحِ مُشَرَّداً
لكنَّ وجْهَكِ كانَ دَوْماً مَقْصَدي
واعَدْتِنِي!.. ما زِلْتُ أَنْتَظِرُ اللِّقا
وَتَتُوقُ نَفْسِي لاحْتِضانِ الفَرْقَدِ
تَحْنُو إلى لَمْسِ النُّجومِ أناملي
هَلْ فِي الفَضاءِ يَكونُ أَوَّلُ مَوْعِدِ؟
منذُ احْتَرَفْتُ النُّطْقَ أنتِ قصيدتي
هَيَّا انْشُدي.. ما الشّعرُ إن لَمْ تُنشِدي؟
شَعَّتْ فُنُونُكِ كالشُّموسِ تَأَلُّقاً
هُمْ قَلّدوكِ.. وأنتِ لَمْ تَتَقَلّدي
نامتْ حروفي واستفاقَتْ أَنْجُماً
يا دُرَّةَ الإبداعِ.. إِسْمُكِ سُؤدَدي
كلُّ الْمَدائِنِ ضيّعَتْ عِنْوانَها
إلاّكِ يا بيروتُ.. يا وَشْمَ الْيَدِ
الدّينُ عندَكِ رَحْمَةٌ ومَحَبَّةٌ
مَنْ ذا يلُومُ إذا اتَّخَذْتُكِ مَعْبَدي؟
سَجَدَتْ مدائنُ لِلطّغاةِ تَمَلُّقاً
إلاّ لربّ الكونِ.. لا لَمْ تَسْجُدي
أخْفَتْ تَواريخُ الشّعوبِ نُصوصَها
لَمّا رأتْ فيكِ احْتِفالَ تَمَجُّدي
إنّي أُحِبُّكِ.. منذُ أَشْرَقَ مَبْسَمي:
كُنْتِ الغرامَ وكانَ حُبُّكِ سيِّدي
**
القدس

يا ديارَ القدسِ يا مهدَ الضياءْ
أخبريني كيف جاءَ الأنبياء؟
أنتِ للدنيا نعيمٌ مُشرقٌ
قُبلةٌ.. حينَ ابتهالُ الأتقياءْ
إنْ دعوتُ اللهَ.. أدعو خاشعاً
في ربوعِ الحقّ يختالُ الدُّعاءْ
مُدُنٌ تُبنى.. فيخبو نورُها
وتُعيدينَ تَواريخَ البقاءْ
منذ أجيالٍ.. وأنتِ المرتجى
يا رجائي.. كيفَ يأتيكِ الفناءْ؟!
إسمُكِ القدوسُ أضحى غنوةً
تتسامى فوقَ ثغرِ الأنقياءْ
ليس يشفي الطبُّ إنْ حلَّ البلا
لمسةٌ منكِ.. فيأتينا الدواءْ
آهِ يا ترنيمةً القلبِ النقيْ
مغرمٌ فيك، وفي الصدرِ شقاءْ
إن تكلّمتُ.. كلامي موجعٌ:
كيفَ أصبحْنا شعوباً تُعساء؟
كانت الأمجادُ ترنو حولنا
فتخاصمنا خصامَ البلهاءْ
قد مسحتُ الدمعَ عنْ خديَّ كيْ
لا تقولي إنني أهوى البكاءْ
أنا إبنُ القدسِ.. منْ مثلي أنا؟
يتغنّى بوجودي العظماءْ
**
مكة

يا مكّةَ الأقداسِ.. لا أدري أنا
هلْ في رحابِ اللهِ أم هذي الدُّنى
جئتُ الحِمى وَالدّمعُ أنهارٌ على
خَدَيَّ.. والأحلامُ تجتازُ المُنى
ما ان سجدتُ فوقَ أرضِ المصطفى
حتّى تباهى العُمرُ وانْسابَ الهَنا
أللهُ أكبرُ.. قلتُها مستبشراً
إنّي سألقى ذاتَ يومٍ ربَّنا
طافَ الحجيجُ البيضُ حولَ كعبةٍ
مزدانةٍ، لا تزدهي إلآّ بِنا
جئنا إليها كلُّ قلبٍ مَسْكنٌ
هيّا اسكني يا "قبلةً" في قلبِنا
مَنْ قالَ أنأى عنكِ يا بيتَ الهدى
لا لستُ أنأى.. إنّي باقٍ ها هنا
**
بغداد الاعلام
مهرجان اختيار بغداد عاصمة للإعلام العربي

بغدادُ أنتِ الحرفُ والقلمُ   
رُحماكِ.. كيف اجتاحكِ الألمُ؟
كلُّ الحروبِ السّودِ إندثرتْ
لو لمْ تعودي ضاعتِ الأممُ
ها أنتِ عدتِ اليومَ شامخةً
لا كانتِ الأهوالُ والحممُ
يا درّةَ النهرينِ هل وطنٌ
إلاكِ يخشى إسمَه العدمُ؟
نورُ الصحافةِ منْ تفنُّننا
والشعرُ والآدابُ والحِكمُ
والعزفُ لولانا بلا وترٍ
والصوتُ لا يرنو له النّغمُ
تاريخُنا ما زالَ مرجعَنا
منهُ اغتنينا واغتنى القِدمُ
نحنُ العراق الحر في بلدٍ
تسمو بنا الأعمالُ والكِلَمُ
كلُّ الأيادي كفُّها كرَمٌ
مثلَ النّدى ترتادُها النّعمُ
هذا أنا معْ نُخْبَةٍ كبُرتْ
جئنا، لعلَّ الثغرَ يبتسمُ
نحن الحيارى بعدُنا سقمٌ
من نظرةٍ قد ينتهي السّقمُ
منْ مثلنا غنّاكِ في سفرٍ
من شعرنا قد ينطقُ الصّنمُ
واللهِ يا بغدادُ أنتِ معي
حين التقيتُكِ عافني السّأَمُ
لا تحزني يأتيكِ من فَرَجٍ
خيرٌ كثيرٌ، قالتِ الدِّيَمُ
بغدادُ للإعلامِ! وافرحي
منّا إلينا عادتِ القِيَمُ
أنتِ الثّقافةُ يا مدينتَنا
علّي.. ليعلُو فوقَك العلمُ
**
دمشق

هذي دمشقُ الحبُّ والأَلَقُ
فيها يَهيمُ الوردُ والحَبَقُ
أحبَبْتُها من يَوْمِ ما وُجِدَتْ
حُلْماً جَميلاً هابَهُ الأرَقُ
أهديْتُها الأشْعارَ مِنْ كُتُبٍ
فيها الدُّنَى أجْدادُنا سَبَقوا
يا شامُ.. لم أعْشَقْ سِوَى وَطَنٍ
سُكّانُهُ الأمْجَادُ لَوْ نَطَقُوا
إنّا خُلِقْنا لِلْوَرَى أَمَلاً
نَعْدُو لِيَعْدُو خَلْفَنا الأُفُقُ
قدْ أطفأوا الفانوسَ في فَرَحٍ
والوَهْجَ من أعْيادِنا سَرَقوا
أنتِ النجومُ البيضُ في غسقٍ
لولاكِ، لا، لَم يَنْجَلِ الْغَسَقُ
والشَّمْسُ أنْتِ الشَّامُ يا بَلَدي
مَنْ قالَ إِنَّ الشَّمْسَ تَحْتَرِقُ
أَلْبَحْرُ حُبُّكِ، والحَبيبُ أنا
وَلَكَمْ غَرِقْتُ وَعافَني الغَرَقُ
**
الرباط

ها قد أتيتُ المغربَ الحلوَ انتشِ
يا شِعرُ وَامْرَحْ كالهواءِ المنعشِ
غازلتُ فيه مَدائناً محبوبةً
أخبرتُها سرّاً.. عيوني قدْ تشي
هذي "الرباطُ" حبُّ قلبٍ عاشقٍ
باللهِ عنّي يا "رباطُ" فتّشي
غنّيتُ مجدَك في المهاجرِ كلّها
سهّرتُك الأيامَ.. بالصدر افرشي
أحببتُ إسْمَكِ.. والحروفُ شواهدٌ
إنّي مددتُ الكفَّ حتى تنقشي
لا تنظري للوجهِ إنّي دامعٌ
هذي بشائرُ فرحتي لا تختشي
دارٌ وبيضاءٌ سحرني لونُها
عنْ أصْلها، يا شمسُ، بالنور انبشي
والفاسُ مثلَ الماسِ شعَّ بريقُها
والماسُ رمزُ العزِّ لا لنْ يرتشي
عرشٌ عليه المُلْكُ نَبْعُ فضيلةٍ
أعْدو إليهِ كالثَّرى المتعطّشِ
**
دبي

صارَتْ دُبَيُّ الْحُلْمَ في زَمَنِي
هَلْ تَظْهَرُ الأحْلامُ لِلْعَلَنِ؟
هَذي الإمارَةُ مِنْ روائِعِنا
أحَبَبْتُها، أسمَيْتُها وَطَني
أَلرَّملُ تِبْرٌ، والهواءُ شذاً
وَلَقَدْ بَنَيْتُ مِنَ الشَّذا سَكنِي
جنّاتُ خُلْدٍ داسَها بَشَرٌ
ساروا بِصَمْتٍ رَحْمَةَ الْبَدَنِ
لا لَنْ أُسَمّيهِمْ مَخَافَةَ أَنْ
تَتنافَسَ الأمْجادُ في "عَدَني"
أَوْ أَنْ يَصِيرَ الطَّيْرُ مُرْتَبِكاً
بَيْنَ الزُّهورِ وَخُضْرَةِ الْفَنَنِ
هَذِي دُبَيُّ اللـهُ يَحْرُسُها
ويُعينُها في أَصْعَبِ الْمِحَنِ
أَلْمَوْجُ عَاتٍ والشِّراعُ أنا
مَنْ غَيْرُها.. تَشْتاقُها سُفُني؟
غَنَّيْتُ إِسْمَكِ يا دُبَيُّ كما
يَحْلُو لِحَرْفِ الضَّادِ وَالأُذُنِ
النَّجْمُ أَنْتِ، وَأَنْتِ قِبْلَتُنا
فَتَشَاوَفِي يا دُرَّةَ الْمُدُنِ
**
تونس

أَوْدَعْتُكِ الْقَلْبَ.. احْرُسِي
قَلْبِي.. فإنّي تُونِسي
يا تونِسُ الخضراءُ لَنْ
أَنْسَى احْتِفالَ النَّرْجِسِ
قَدْ كانَ يَغْزِلُ بِالشَّذا
ثَوْبَ الْبَهاءِ لِتَلْبِسِي
صُنْتِ الْبِلادَ بِعِزَّةٍ
وَرَفَضْتِ أَنْ تَتَسَيَّسي
أَلشَّعبُ عِنْدَكِ طاقَةٌ
جبّارَةٌ.. فَتَحَمَّسِي
مُدّي لَهُ أَيْدِي الْهَنَا
لَوْلاهُ لَنْ تَتَنَفَّسِي
يُعْطِيكِ مِنْ عَرَقِ الشَّقا
خَيْراتِه، كَيْ تَأْنَسِي
لَنْ تَحْتَسِي غَيْرَ الْوَفا
والْمَجْدِ، لُطْفاً إِحْتَسِي!
مَنْ مِثْلُ شَعْبٍ طاهِرٍ
يَحْمِي دِيارَ الْمَقْدِسِ؟
صِرْتِ الْعِبادَةَ والتُّقَى
مَنْ قالَ لَنْ تَتَقَدَّسِي؟
تُونِسْ.. إذا غارَتْ دُنَى
أَرْجُوكِ.. لا تَتَوَجَّسِي
آن الأوانُ حَبيبَتِي
بِالْحُبِّ أَنْ تَتَغَطْرَسِي
إَنْتِ الأميرةُ والْمُنَى
والْعَرْشُ قَلْبِي.. فَاجْلِسِي
لا لَنْ يُحِبَّكِ عاشِقٌ
مِثْلِي.. فَهذا مِحْبَسِي
**
بغداد

بَغْدادُ أنْتِ حَبيبتِي.. لا تَخْجَلي
منذُ الوُجُودِ، خُلِقْتِ يا بَغْدادُ لي
أحْبَبْتُ وَجْهَكِ.. وَالْغَرامُ حِكايَةٌ
مِثْلَ الدِّماءِ تَدَفَّقَتْ بِمَفاصِلي
لَوَّنْتُ بِالشَّفَقِ الْجَميل شَوارِعاً
خِلْتُ الشَّوارِعَ أمْسَكَتْ بِأنامِلي
كَمْ مِنْ قَصائدِ حُبِّنا غَنّى الْهَوَا
وَتَشامَخَتْ فَوْقَ الرُّبوعِ مَنازِلي
قَسَماً بِحُبِّكِ.. إنْ تَكَحَّلَ مَوْطِنٌ
إلا بِدَمْعِ الْعَيْنِ لَنْ تَتَكَحَّلي
لا لَسْتُ أَنْسى يَوْمَ جِئْتُكِ مُغْرَماً
وَتَراقَصَتْ قُرْبَ الفُراتِ جَداوِلي
وَتَهامَسَتْ أَمْواجُ دِجْلَةَ: ها أنا
ماءُ السَّعادَةِ.. غُبَّنِي بِتَمَهُّلِ
أَوْدَعْتُ فيكِ طُفولَةً يَحْلو لَها
أن تَسْتَبيحَ عَواطِفي وَتَأَمُّلي
إسْمِي على شَفَةِ الصباحِ كَتَبْتُهُ
إبْنُ العراقِ أنا.. أنا.. إنْ تَسْأَلِي
مَهْما ابْتَعَدْتُ.. لَنْ أُطيلَ تَشَرُّدي
فَتَأَلّقي، وَتَزَيّنِي، وتَدَلَّلِي
إِنِّي أُصَدِّقُ بَيْتَ شِعْرٍ رائِعِ:
"ما الْحُبُّ إلاّ لِلْحَبيبِ الأوَّلِ"
**
يا مصر

يا مصرُ أنتِ الأُمُّ.. يا أُمّي اسْمَعي
منْ كثْرَة الأشواق ضاقتْ أضلـُعي
ما كلُّ هذا النيلِ نهرٌ واحدٌ
فلقد وهبتُ النيلَ مَجْرى أدْمُعي
لو باحتِ الأهْرامُ بالحبِّ النقيْ
لعَلِمْتِ أنَّ القلبَ لمْ يرحلْ معي
إبنُ المَهاجرِ غارقٌ في حزنِهِ
منذُ احتضنتُ الأرضَ غابَ توجُّعي
شَعَّتْ على ثغـْر الأحبّةِ بَسْمَةٌ
خِلْتُ النجومَ تـساقطتْ بتـَسَرُّعِ
يا أمَّ دُنيا.. هل صحيحٌ ما أرى؟
هل تسمعُ البلدانُ صوتَ تضرّعي؟
مدّي اليدينِ إلى الحبيبِ ترفـُّقاً
من ليسَ يأتي المجدَ.. ليْسَ بمُبْدعِ
ها قد سكبْتُ الحبَّ عِطْرَ قصيدةٍ
فتنعّمي بالحُبِّ، ثمَّ تدلّعي..
الشمسُ غابتْ والعروبةُ أظلمتْ
من أين يأتي النورُ إن لمْ تسطعي؟
أنتِ القوِيّةُ.. إنْ تطفـَّلَ حاقدٌ
فالنّسرُ يحمي الأرضَ كي تتربَّعي
يا مصرُ أنتِ الحرفُ والفنُّ معاً
ألحانـُكِ الغنّاءُ أغنتْ مسمعي
كلُّ البلابلِ في ربوعكِ أنشدَتْ
والكونُ يُصغي في الجهاتِ الأربعِ
إنّي أحبّكِ.. قلتُها متشرّداً
واليومَ جئتُ أقولُها بتخشّعِ
كوني كما أنتِ احْتِضانَ أُمومَةٍ
مَنْ يجمعُ الأبناءَ.. إن لمْ تجمَعي؟
**
عمّان

حُيّيتِ يا عَمّانُ.. يا نَغَمي
يا أَجْمَلَ الأَسْماءِ فَوْقَ فَمي
أَهْدَيْتُكِ الأَشْعارَ ساجِدَةً
مِنْ كلّ بيتٍ يَرْتَوي قلمي
الشّوقُ أضْنَى مُهْجَتي زَمَناً
خِلْتُ النَّوى يَقْتاتُ من سَأمِي
أَغْفُو على أملِ الرُّجوعِ.. متى
أَصْحو هُنا.. مُسْتَنْهِضاً هِمَمي؟
شمسُ الصباحِ أَغاظها نَدَمٌ
لمّا فَلَشْتُ أَمامَها ندَمي
يا أُرْدُنَ الأَحْبابِ هاتِ يداً
كالسّحرِ تَمْحُو غُرْبَةَ الأَلَـمِ
أشبالُكَ.. الأَمْجادُ تَعْرِفُهُمْ
أسماؤهُمْ أَرْقَى منَ الْكِلَمِ
النّارُ لا تَقْوَى على بَطَلٍ
أَقوى من الإرهابِ والعَدَمِ
صارتْ حُبَيْباتُ النَّدَى لَهَباً
حِينَ افْتَدى أَوْطانَه بِدَمِ
هذا حبيبي.. قالَها وَبَكى
ما هَمَّني إِنْ مُتُّ يا عَلَمي
أَبْغِيكَ مَجْداً مُفْرِحاً أَبَداً
تَخْتالُ بينَ الزَّهْرِ والْقِمَمِ
الشّعبُ شَعْبِي.. والشّهيدُ أنا
عرشُ الثُّريّا مُنْتَهى حُلـُمي
عزْمي شديدٌ، واثِقٌ، وغدي
قدْ حَطَّمَ الآهاتِ بالحِمَمِ
إِبْنُ الْعُروبَةِ وجهُهُ مطرٌ
لَنْ تَغْلِبَ الإيمانَ يا صَنَمي
خَبِّرْ.. أنا آتٍ إلى مُدُنٍ
أَحْبَبْتُها.. أَوْدَعْتُها قِيَمِي
آتٍ إلى عَمّانَ مِنْ تَعَبي
قولي: هَلا.. يا زينة الأُمَمِ
**
مزرعة الشوف

هذي الربوعُ الخضرُ "مزرعتي"
أعطتْ حياتي إسمَ عائلتي
"الشّوفُ" فيها مغرمٌ وأنا
أهدي إليها شمعَ أدعيتي
ما همّني دينٌ ولا وطنٌ
تجري دماها ضمنَ أوردتي
الأهلُ أهلي والحبيبُ ثرىً
رشّ الثّريّا فوق أوديتي
ساحاتها، وسهولها سكني
والماء يجري عبر أقنيتي
لا، لم أجاملْ حين قلتُ لها:
لن أرتدي ألوانَ أقنعتي
هذا أنا، يا شوفُ، هل ندمٌ
يكفي، لأنصبَ فيكَ أقبيتي
آتٍ كما الأطفالُ من سفرٍ
متلهّفاً، والريحُ أشرعتي
إنّي "بُعَيْنِيُّ" الهوى أبداً
أودعت فيها قدسَ أتربتي
يا "مجدليا" سجّلي فرحي
إلاّ لها لم تعلُ قبّعتي
**
سلطان باشا

عندَ البطولةِ ردّدي
إسمَ العظيمِ وغرّدي
يا أمّةً يحلو لها
صوتَ الرّدى.. وتشرّدي
حيي بشعرك فارساً
طردَ العدى بمهندِ
أعلى الجبال تضمّه
للأرض غنّي وانشدي
أحنت فرنسا رأسها
حين التقتْ بموحّدِ
لا لست أنسى صرخةً
فيها لهيبُ تمجّدي:
لنْ يبقى غازٍ بيننا
يا أرضَ أجدادي اشْهدي
سلطانُ باشا مجدهُ
دخلَ الزمان بسؤددِ
من مثلُهُ صانَ الحمى
لتشعَّ شمسٌ في غدي
يا أجملَ الأسماءِ قلْ
منْ شلّ أعصابَ اليدِ؟
منْ شرّدَ الشعبَ الذي
أوصلتَهُ للفرقدِ؟
إني أنادي "أطرشاً"
كي تستجيبَ معابدي
فالكفرُ اضحى سيداً
واللهُ وحدَه سيّدي
**
لا لم تمتْ
مهرجان عبد الوهاب البياتي

لا لمْ تمُتْ.. فالإسمُ حيّ بيننا
متشامخٌ.. يجتازُ كلَّ الأمكنه
شعّتْ بـ "سدني" نخبةٌ مختارةٌ
أعطتْكَ أمجادَ المدى والأزمنه
"عبدُ الوهَابِ" حبيبُها في غربةٍ
أهدَتكَ قلباً أخضراً كي تسكنا
من غيرُك الأجيالُ تروي شعرَهُ
كي يغمرَ الحرفُ الجميلُ الأعينا؟
فحّت بقربكَ ألسُنٌ مسمومةٌ
فلَجَمْتَ بالخُلُقِ الرفيعِ الألسُنا
وأذاقَك الحسّادُ ظلماً موجعاً
فهَزَمْتَهم.. وكشفتَ وجهَ المَلعنه
مرضى.. ولكن مَنْ يُداوي خبثَهُمْ؟
كفرتْ بهم شمسُ العقولِ المؤمنه
كلٌ يريدُ الأوّليّةَ مركزاً
يبغي امتطاءَ شعوبِنا كالأحْصِنه
يتسابقُ المغرورُ نحو مناصبٍ
من كثرةِ الأطماعِ صارتْ مُنتنه
يُعطيكَ سِناً.. إنْ رفعتَ لِواءَهُ
وإذا رفضتَ.. فمنه تأتي الشيطنه
يا "ابْنَ البيَاتيْ".. لا تسلْ عن مُمكنٍ
أشعارُكَ العصماءُ ليست مُمكنه
أنت العظيمُ المبدعُ الشّهمُ القويْ
إن لمْ تصدّق صرختي.. أنظرْ هنا
جاؤوا إليكَ اليومَ باركْ جمعَهم
متحررينَ كما النوايا المُعْلَنه
حدّقْ بهم.. قممُ الجبالِ جباهُهُمْ
والجبهةُ الشمّاءُ تأبى الهَيْمَنه
مثلَ اليتامى جئتُ أبكي صاحباً
يا دمعةَ الأشعارِ كوني محزنه
إني على جمرِ المحبّةِ أكتوي
هذا أنا.. هل زلتَ تذكرُ من أنا؟
**
عهد التميمي
مهرجان الأرض ـ سيدني 2018

عهد التميمي أصبحت أملا
بنتُ النشامى هزّت الجبلا
قلبي أنا بالهجر منتفضٌ
بالنار صغتُ الشّعرَ والجُمَلا
شعبُ العروبةِ عابَه فزعٌ
لمّا رآها إنطوى خجلا
كفٌ على وجهِ العدو دوى
كالرعد، كالبركان قد نزلا
مسجونةٌ، والسجنُ مرتجفٌ
من خوفه أن تُصبحَ المثلا
ما من رئيسٍ هزّه ألمٌ
ما من مليكٍ قال أو فعلا
أمجادُهم بالكذبِ قد رفعوا
كسرى أنو شروانَ قد رحلا
من أجلِ أموالٍ مدنَّسةٍ
خانوا شعوباً.. مارسوا الدجلا
عشنا الليالي فوقنا كسلٌ
عهدُ التميمي داستِ الكسلا
جاندركُ قالوا.. سيفُها وجعٌ
والترسُ دمعٌ شيّبَ المُقلا
والإسمُ صارَ اليومَ بيرقَنا
في كلّ قطرٍ قد سما وعلا
صيحاتُها زادتْ توجّعَنا
لكنّها لم تعرفِ الوجلا
والدّمعُ باسَ الخدَّ في عجلٍ
ما منْ دموعٍ تسبقُ العجلا
لكنّ دمعَ "العهد" منتظرٌ
كي يستقيْ من خدّها العسلا
لا لن تقولوا: وجهُها قمرٌ
ما همّها بدرٌ وإنْ كمُلا
فالشمسُ غارتْ من توهُّجها
والشعرُ غنّى إسمَها غزلا
والقدسُ قالت: هذه فرحي
مثلَ "التميمي" لم أجدْ رجلا
أوصافُنا يا "عهدُ" ناقصةٌ
إلا إذا نادتْكِ: يا بطله
**
يوم رحلينا
إلى الأختين كونستانس الباشا ومدلين ابو رجيلي اللتين أسستا معهد سيدة لبنان في سيدني، أكبر المعاهد الاسترالية، وكنت رفيقهما في تلك الرحلة.

إِنْ يَأْتِ، يا أُخْتاهُ، يَوْمُ رَحِيلِنَا
عَنْ هَذِهِ الأَرْضِ الَّتي هَنِئَتْ بِنَا
لا تَجْزَعِي، ما هَذِهِ الدُّنْيَا لَنَا
نَحْنُ السَّماءُ رُبُوعُنَا، مَرْجُ السَّنَا
قَدْ كُنْتِ "كَوْناً" فِي بِدَايَةِ لَفْظَةٍ
وَرَبِيعَ دَيْرٍ طَاهِرٍ، حُلْوِ الْجَنَى
"مَدْلينُ"، إِنْ فَارَقْتِها يَوماً، أَتَتْ
تَشْكُو الْفِرَاقَ، وَأَسْتَغِيثُ بِها أَنَا
"مَدْلينُ" أُخْتُكِ، أَوْ رَفِيقَةُ رِحْلَةٍ
هَلْ يُسْكِرُ الْعُصْفُورَ غَيْرُ الْميْجانَا؟
أَعْطَيْتِنِي فِي غُرْبَتِي قُدْسِيَّةً
فَغَزَلْتُ مِنْ قُدْسِيَّتِي أَحْلَى دُنَى
وَنَذَرْتُ نَفْسِي لِلْقَدَاسَةِ شَاعِراً
كُونِي وَسِيطِي يَوْمَ نَلْقَى رَبَّنَا
قَسَماً إِذَا هَزَّ الرَّحِيلُ شِرَاعَهُ
سَيُدَوِّنُ التَّارِيخُ: مَرُّوا مِنْ هُنَا!
**
جبران
يوم فوزي بجائزة جبران العالمية من رابطة إحياء التراث العربي، بحضور السفير اللبناني لطيف ابو الحسن، وقد فاز أيضاً كل من الأديب السوري نعمان حرب، والدكتورة سمر العطار، والأديبة أنجال عون، 1987

ـ1ـ
جُبْرانُ.. يا جُبْرانُ ما بِكَ صامِتٌ
وَالثَّرْثَراتُ تُخَدِّرُ الأَسْماعا
وَالأَرْضُ يَذْبَحُها الْفُجورُ، كَأنَّهُ
بِدَمِ البَراءَةِ يُسْكِرُ الأَتْباعا
لَمْ يَبْقَ فينا سَيِّدٌ في رِزْقِهِ
فَلاَّحُنا هَجَرَ الْكُرومَ.. وَباعا
والْحَرْفُ وَسَّخَهُ الرُّعاعُ .. فَلَنْ تَرَى
حَرْفاً كَحَرْفِكَ مُشْرِقاً لَمَّاعا
ـ2ـ
جُبْرانُ.. إِنْ لَـمْ تُعْطِنِي مِنْ وَهْجِهِ
وَهْجاً، فَلَنْ تَعْتادَني الأَنْوارُ
هَذَا السَّفِيرُ الْحاضِنُ الشَّعْبَ، انْتَبِهْ
إِنَّ "اللَّطِيفَ" بِلُطْفِهِ فَوَّارُ
فَانْظُرْ إِلَيَهِ جالِساً فِي سُؤْدَدٍ
كُلُّ الْمَمالِكِ قُرْبَهُ تَنْهارُ
هُوَ فَخْرُنا وَحَبيبُنا وَسَفيرُنا
إِنْ أَشْرَقَتْ يَدُهُ اسْتَفاقَ نَهارُ
ـ3ـ
"عَطَّارُنا.. سَمَرُ" الْكِتابَةِ وَحْدها
تَخْتالُ إِنْ قَرَأَ الْخُلُودُ كِتابَا
فَهيَ الأُخَيَّةُ، لَوْ حُرِمْتُ أُخَيَّةً
وَهيَ الأُمُومَةُ تَسْكُبُ الأَطْيابَا
وَهيَ الأَبِيَّةُ إِنْ تَطاوَلَتِ الأَنا
وَهيَ الشَّرِيفَةُ تَسْحرُ الأَلْبابَا
وَالْفِكْرُ، بَعْدَكَ، مُتْعَبٌ فِي سَيْرِهِ
لَوْ لَـمْ يُضمِّخْ حِبْرُها الآدابَا
ـ4ـ
"نُعْمانُ حَرْبُ" الْحاتَمِيُّ مَحَبَّةً
وَتَأَلُّقاً وَتَوَدُّداً وَنِضَالا
قَدْ رَاحَ يَجْمَعُ مِنْ حُقُولِ حُروفِنا
قَمْحاً يُلَقِّحُ فِي الْعُقُولِ غِلالا
نَامَتْ سُوَيْداءُ الْعُيُونِ عَلَى غَدٍ
أَنْوارُهُ حَمَلَتْ لَنا "أُنْجالا"
تِلْكَ الأَديبَةُ فِي مَهاجِرِنا، إِذَا
قَالَتْ.. قُلُوبٌ تَنْشُرُ الأَقْوالا
ـ5ـ
أَلشِّعْرُ.. ما لَمْ تَحْتَضِنْهُ رَوابِطٌ
أَضْحى لِكافورِ الزَّعامَةِ كاتِبا
وَتَبَلْبَلَتْ أَفْكارُهُ وَتَضارَبَتْ
وَتَسَلَّقوهُ مَآرِباً وَمَناصِبا
فَالشِّعْرُ، مُنْذُ البَدْءِ، ثَوْرَةُ أُمَّةٍ
جاءَتْ لِتُذْكِي في النُّفوسِ مَطالِبا
والشِّعْرُ، ما بالشِّعْرِ مِنْ مُتَخَلِّدٍ،
إلاَّ إذا قَتَلَ الطُّغاةُ.. مَواهِبَه.
ـ6ـ
لا.. لَسْتُ أَطْمَعُ بِالْجَوائِزِ، إِنَّها
عِنْدَ التَّنافُسِ فِتْنَةٌ وَغُرورُ
وَأَنا اعْتَنَقْتُكَ يَوْمَ أَوْرَقَ سُنْبُلي
وَتَعَتَّقَتْ في "أُورْفِليسَ" نُذورُ
ما كُلُّ هذا الطّيبِ مِنْ أَزْهارِنا
حَتَّى وَلا الأَنْوارُ وَالْبَخُّورُ
أَلدَّرْبُ دَرْبُكَ.. إِنْ تَفَحَّصتَ الْخُطى
كُنَّا عَلى خَطْوِ "النَّبِيِّ" نَسيرُ
ـ7ـ
صَدِّقْ، أَيا جُبرانُ: مُطْلَقُ شَاعِرٍ
يَجْتَرُّهُ فَكُّ الْغَباءِ.. يَزولُ
إِنَّا بِأَرْضِ الْهَجْرِ نُلْهِبُ شِعْرَنا
لِتَموتَ في أَرْضِ الجُدودِ فُلولُ
وَلَقَدْ كَتَبْتُ قَصيدَةً عَنْ مَوْطِنٍ
سَيُزَغْرِدُ الأَحْبابُ حِينَ أَقولُ:
لُبْنانُ، في الآفاقِ، شَيَّدَ مَسْكَناً
غَنّتْه "سدني" واصْطَفَتْهُ عُقولُ

**
رفعت عبيد
تكريم البروفسور رفعت عبيد في برلمان ولاية نيو ساوث ويلز من قبل الدكتورة بهية ابو حمد

طالَ انتظاري كي أناجيكا
والشّعرَ، كلَّ الشّعرِ أُهديكا
يا "رفعتَ" الأسماءِ في وطنٍ
بالروح حرفُ الضادِ يَفديكا
أنت "العبيديْ" موسماً وجنىً
كلُّ المواسمِ أزهرتْ فيكا
في برلمانِ الحقّ قد سطعتْ
"شمسُ البهاء" كي تحييكا
من مثلُها، نبراسُها أبداً:
كَرّمْ.. فإنَّ اللهَ يُجْزيكا
بعضُ الليالي زارها قمرٌ
والشمسُ شعّتْ في لياليكا
سيدني إذا أنطقتَها أدباً
أجيالُها غنّتْ قوافيكا
واللهِ، لم تبخلْ على أحدٍ
كلّ العطايا من أياديكا
إنْ تسألِ الأهرامَ عن نسبٍ
مصرُ العظيمةُ من أهاليكا
يختالُ "نيلُ" المجدِ في فرحٍ
قمْ لاقِه، قد جاءَ يسقيكا
حتى العروبةُ في مهاجرنا
يا والدي صارتْ تناديكا
لاقيتنا بالنورِ في سفرٍ
واليومَ جئنا كي نلاقيكا
في صدرنا قلبٌ وأوردةٌ
إنْ شئتَ هذا القلبَ نُعطيكا
علّمتنا، أهديتنا درراً
مهما فعلنا لن "نكافيكا"
**
احمد الياسري
بمناسبة فوزه بجائزة شربل بعيني 2018

لو تنظمين الشعر يا سَنَدي
لعشقتِ شعراً خالدَ الأبدِ
إبنُ العراقِ "الياسريُّ" شدا
في غربتي للحبِّ.. للبلدِ
قولي له ما شئتِ من أدبٍ
في حومةِ الآدابِ كالأسدِ
أعطى الحروف المجدَ عن كبرٍ
لا ينحني في لجَّةِ العُقَدِ
فالشعر عند "الياسريِّ" غدا
بحراً، بدون الرملِ والزبدِ
متواضعٌ، لكنّه أبداً
مثل الندى مستبشراً بغدِ
يا "أحمدَ" الأعراقِ أنت هنا
كالصخرِ، تحمي الحرفَ، منْ بَدَدِ
أخشى، أجل أخشى عليكَ أنا
يغتابُكَ االثرثارُ بالحسدِ
**
أسمهان
مهرجان إحياء ذكرى الفنانة أسمهان في صالون الدكتورة بهية ابو حمد 2019 

يا "أسمهانُ".. الصّوتُ قد أحياكِ
أنتِ الأميرةُ والشّذا دنياكِ
"آمالُ فهدٍ" من جبال العُرْبِ هلْ
بالإسم قلبُ الشرقِ قد ناداكِ
فالإسمُ فخرٌ للدنى يا نجمةً
شعّتْ هنا.. شكراً لمنْ أسماكِ
فقتِ الخلائقَ نغمةً سحريّةً
كانتْ كشدو الطير في الأفلاكِ
ما "الأطرشُ" المحبوبُ إلاّ كُنيةٌ
لمعتْ.. كلمعِ الضوءِ في الأسلاكِ
هذا "فريدٌ أطرشيٌّ" فخرُه
من روعة الألحان قد سوّاكِ
فيينا.. وهل للأنسِ فيها ليلةٌ
لو لم تمنِّ العمرَ في لقياكِ
حتّى الطيورُ تهامستْ في جنّةٍ
قالت لربّ الكونِ ما أحلاكِ
كلُّ القلوبِ تبدّلتْ أهواؤها
لمّا أمرتِ القلبَ أن يهواكِ
ها مصرُ قد أعطتْكِ مهداً دافئاً
والنّيلُ بالأمجادِ قد غطّاكِ
لا لم تموتي في حنايا تُرعةٍ
فالماءُ بالأحضانِ قد لاقاكِ
عندَ "البهيّةِ" قد جمعنا شملَنا
أفراحُنا.. لا لمْ تكن لولاكِ
لم ننسَ نوتاتِ الأغاني.. خوفُنا
في زحمةِ الأعمال أن ننساكِ
والصوتُ يشدو رغم بعدِ مسافة
إنّا بسيدني قد رفعنا لواكِ
كم من شعوبٍ قد ذوت في لحدها
تفنى.. ويبقى خالداً ذكراكِ
**
مارسيل خليفة
مهرجان تكريم الفنان مارسيل خليفة في برلمان ولاية نيو ساوث ويلز من قبل السانتور شوكت مسلماني 2019

مَرْسيلُ أنتَ الفنُّ والشعرُ أنا
خذْ من بيوتِ الشعرِ وابنِ الموطِنا
أنتَ العظيمُ الفذُّ.. أنتَ المُبتدا
إنْ سِرْتَ سارتْ خلفَ منكَ الأزمنه
فالعودُ لولا عزفُك الحلوُ الشجيْ
أضحى ديكوراً في زوايا الأمكنه
إعزفْ بِهجرٍ.. رقِّصِ الأوتارَ.. مَنْ
مثل "الخليفَه" قدْ يُداوي جُرْحَنا
كلُّ الأناشيدِ التي غنّيتَها
عاشتْ بنا.. حتى امتلكنا حلمَنا
لو جارتِ الأيّامُ فنُّكَ ملجأٌ
لو ضاع منّا الصوتُ تبقى صوتَنا
إنّي أَحنُّ لخبزِ أمي دائماً
لكنّه الطاغوتُ يسبي قمحَنا
لا، لا تخف، أنشدْ، فأنت المرتجى
من أمّهاتِ اللحنِ يأتي خبزُنا
أمشي ولكنْ قامتي لمْ تنتصبْ
فالجسمُ بعد الهجرِ أحناهُ الضنى
لولاكَ ضيَّعنا طريقاً للحمى
فالدربُ يا "مرسيلُ" محّاها الفنا
إنّا هجرنا الأرضَ مثلَ سفينةٍ
أنظرْ إلينا قد ملأنا بحرَنا
عمشيتُ يا عمشيتُ كوني نوتةً
كي تفرحَ النوتاتُ منذُ المِيْجَنا
أهديتِنا إبناً حبيباً رائداً
غنّى لنبقى.. حتى يبقى أرزُنا
لُبْنانُ.. ما لُبنانُ إلا جنّةٌ
إنْ نرمِها بالنارِ.. يغضَبْ ربُّنا
القدسُ ضاعتْ.. لا تسلْ عن "قُبلةٍ"
ما من زعيمٍ أرّقتْه قدسُنا
غنّيتَها.. أوّاهُ لو أخفيتَها
باللحنِ بالأنغام كي تبقى لنا
يا ليتَهم أضنوا عدوّي مرةً
حتّى أبوسَ الرأسَ من أعرابِنا
لكنّهم بالكذب قد غطّوا المدى
والكذبُ ملحٌ.. آهِ من أملاحِنا
إفرحْ.. بعيدِ الحب أنتَ مكرّمٌ
فالحبُّ بالهجرانِ من عاداتِنا
هذا "السِّناتورُ" الأشمُّ الألمعيْ
في برلمانِ الحقِّ أضحى فخرَنا
شوكتْ يضحّي.. مَن يضحّي مثلَهُ؟
إبنُ الجنوبِ "المُسْلِماني" إبنُنا
أهديكَ يا "مرسيلُ" دنيا منْ شَذاً
أدخلْ.. فما أبهاكَ لو تبقى هنا
جئتُم إلينا كي تُزيلوا غربةً
شكراً لكم.. ها قد سكنتم قلبَنا
**
يوسف
حفل توقيع كتب الأب يوسف جزراوي

عَرَفتُه.. الصَّليبُ فوقَ صدرِه
وحرفُه الأشمُّ تحتَ أمره
فقلتُ يا مشاعري ترنّمي
فلحنُه مُدَوْزنٌ كَشعرِه
وسطرُه كأنّهُ طريقُنا
ونحنُ نمشي في خُطُوطِ سطرِه
تأوَّهَ العراقُ مِنْ غيابِه
فَخِلْتُهُ المُصابَ مثلَ طَيْرِه
زوارقٌ تغتالُ نصفَ شعبِهِ
واللصُّ يغفو في زوايا قصرِه
بغدادُ تجري في العيونِ دمعةً
لكنّها البركانُ عِنْد ذِكْرِه
أتى الحياةَ كاهناً وعالماً
وكاتباً.. مُباركاً في سيره
فإن حكى توقّفتْ عقاربٌ
وإن بكى.. فدمعُه بنثْرِه
يا مارَ ميلس صُنْتَهُ كيْ يرْتقي
مجدَ العلى مُرسْمَلاً بفكرِهِ
طوباكَ طوبى، من رئيسٍ منصفٍ
مرجُ الزُّهورِ يَنْتشي من عطره
يا مارَ ميلسْ لمْ تسلْ عنْ سُؤْدَدٍ
أصبحتَ رمزاً، فَخْرُنا من فخرِهِ
أنتَ العظيمُ رِفْعَةً لمّاعةً
يسوعُ قد أعطاكَ نورَ فجرِه
أَيوسُفٌ.. تدورُ في سمائه
نجومُنا، وبِئرُنا كبئره
ونحن لا نخونُه كإخوةٍ
فإسمُهُ يُضيءُ رغمَ قَهرِه
صلاتُه كقلبِه، كحبّه
كضحكةٍ تلوحُ فوقَ ثغرِه
يقالُ قد تكَفَّرتْ عقائدٌ
يا حَبّذا لو آمنوا بكُفْره
تخالُها كنائساً حُروفَهُ
عبيرُها يفوحُ مثلَ حِبْرِه
حتّى الشمُوعُ لا تنوصُ عندَهُ
حين اصطفتْ بغدادُ شمعَ دَيْرِهِ
أُحبُّه محبّةً لا تنحني
كوالدٍ.. أشُدّ أَزْرَ ظهره
لا لستُ أخشى الحاقدَ الثرثارَ إنْ    
غطَّى الجمالَ باسْودادِ مَكْرِهِ
أخشى عليه من غرورٍ طائشٍ
أذلَّ كلَّ مَنْ رَمى في أسْرِه
من حقّه أن ينتشيْ معملقاً
لِكيْ يدُوسَ فوقَ أَنْفِ هجرِه
**
يا رعاةَ الشعر
إلى الشعراء جورج أبو أنطون، الياس خليل، وانطوان سعادة

يا رُعاةَ الشِّعْرِ يا رَمْزَ الإباءْ
قدْ تَخَطَّيْتُمْ حُدُودَ الانْتِماءْ
بَرْلَمانٌ يُفْتَحُ الْيَومَ.. افْرَحي
يا حُروفي، لاحْتضانِ الشُّعَراءْ
إِنْ تَشاوَفْتُمْ.. فهذا يَوْمُكُمْ 
يا ضُيُوفَ المجدِ يا كَفَّ الْعَطاءْ
قَدْ نَقَرْتُمْ دَفَّ شِعرٍ زاجِلٍ
وَصَدَحْتُمْ.. آهِ ما أحْلى الْغِناءْ
قَبْلَ أَنْ تَأْتُوا إِلَيْنا.. دَمْعُنا
أَخْبَرَ الْمَعْمورَ أَنَّا تُعساءْ
تَغمُرُ الآلامُ شعباً طيّباً 
ضاحكاً رغمَ المآسي والبلاءْ
  لا.. "فَسِدْني" عَلَّمَتْنا أن نَعِيْ
كَيْفَ نَمْحُو مِنْ مآقينا الْبُكاءْ
أَرْزُ رَبّي حِينْ دُسْتُم هَجْرَنا
قالَ قَدْ أرْسَلْتُ لِلْهَجْرِ ضِياءْ
أنتمُ الأشرافُ يا صوتَ المدى
جِئْتُمُ الدُّنْيا فَجاءَ الشُّرَفاءْ
أَنْتَ "أَنْطُونٌ" تُناجي أُمَّتي
يا "سَعادِهْ".. زِدْت بالشعرِ النَّقاءْ
أمّتي تحيا حياةً صعبةً
لستُ أدري كيف يأتيها الهناءْ
لا وَفِيٌّ يَنْتَقيهِ خِلُّهُ
أَنْتَ "إِلْياسٌ خَليلُ" الأَوْفياءْ
عِشْتَ يا "جُورْجُ" النَّقِيبُ الْمُصْطَفى   
لا وربّي أنتَ شيخُ الرّؤساءْ
ردُّوا للأشعارِ أياماً خَلَتْ
أكثرُ الأشعارِ منْ صُنْعِ الغَباءْ
يَحْسِبون الشِّعْرَ حَكياً تافهاً
ثرثَراتٍ داخَ منها العُقلاء
قَد تكرَّمتُمْ.. فطوبى للبَها
إنَّ "باتي" إسْمُها صِنْوُ الْبَهاءْ
إِنْ رَجَعْتُمْ أَرْضَنا قُولوا لها:
هِيَ تَجْري في الشَّرايينِ دماءْ
**
محمد مهدي الجواهري
مهرجان تكريم الشاعر محمد مهدي الجواهري 2017

جِئْناكِ يا بَغْدادُ فَانْتَصِبي
كُرْمَى لِشَعْبٍ طَيِّبٍ وأبِيْ
يَكفيهِ منْ وَيلاتِه زمنٌ
إنْ قُلتُهُ يَجْتاحُني غَضَبي
جِئْناكِ بعدَ الضَّيْمِ منْ سَفَرٍ
كيْ نَغْرُسَ الأشعارَ بِالكتُبِ
ألْجَوهَرُ الخلاّبُ يحمِلُهُ
إسْمٌ تباهى العمرَ بالنّسَبِ
لا لَمْ يَمُتْ ما زالَ يَصْحَبُنا
مثلَ اصطِحابِ الْماءِ للسُّحُبِ
أخْشى فلولَ الغَدْرِ تحْجُبُهُ
هَلْ يُحْجَبُ الإبْداعُ؟ واعَجَبي!
سَمِعْتُ صَوتاً خِلْتُهُ نَغَماً 
فقلتُ: يا شَآمُ إنْطَربي
هذا أبي، من يَوْمِ ما سَمِعَتْ
أُذْنُ الليالي صَرْخَةَ الشُّهُبِ
"مَهْدِيْ"، وكان الربُّ يَحْفَظُهُ
رغْمَ الأذى مِنْ مُخْبِرٍ وَغَبي
يا أمَّةً يَقْتادُها وَثَنٌ
مِنْ رَحْمَةِ الديَّانِ إِقْتَرِبي
ما مِنْ شُعُوبٍ لَمْ تَذُقْ ألَماً
لكنَّها قامَتْ من اللّهَبِ
تاريخُها.. أَمْجادُهُ أدَبٌ
إلاّكَ يا تاريخَنا العرَبِي
شعبي.. وهل شعبي سوى غَنَمٍ
للذَّبْحِ، كالصّرصورِ مُرْتَعِبِ
إنْ أشْرَقَتْ شَمْسٌ على وَطَني
يَغتالُها الحُكّامُ بالكَذِبِ
لَوْ كانَ عِنْدي رِبْعُ مَقْدَرَةٍ
أَلْهَبْتُهُمْ بالنّارِ والْحَطَبِ
أنتَ العظيمُ يا "محمّدُ" هَلْ
أدُّق دقّاتٍ على الخشَبِ؟
لا لنْ أقيسَ قامَةً أَسَرَتْ
قلبي، وناختْ عندها قِبَبي
كنتَ البعيدَ عَنْ دِيارِكَ هلْ
تدري بأنّي حاملٌ تَعَبي؟
أنَّى اتجهتُ غربتي وجعٌ
يا حَبّذا لو جئتَ مُغْتَرَبي
ألْقابُنا.. يا ليتَها شُطبتْ
فالشعرُ ضاعَ اليومَ باللقبِ
أنتَ "الجواهِريُّ".. أنتَ هُنا
أغلى مِنَ الإلماسِ والذّهبِ
**
مجدي بولس
حفل تكريم الفنان مجدي بولس في برلمان ولاية نيو ساوث ويلز من قبل الدكتورة بهية ابو حمد

مجدي، عظيمُ الْفَنِّ، وافَرحي
يا مِصْرُ غَنِّي الْيَومَ وانْشَرِحي
أعْطَى كِبارَ الصَّوْتِ فانْطَرَبُوا
يا أَعْيُنَ الْحُسّادِ إِنْدَبِحي
"كُلثُومُ" جاءَتْهُ كأُغْنِيَةٍ
تلْحينُها خَمْرٌ بِلا قَدحِ
والْماسُ يَجْري فَوْقَ أُنْمُلَةٍ
أَفْنَتْ بِعَزْفٍ دَمْعَةَ التَّرَحِ
فالْجُرْحُ فِي أنغامهِ أملٌ
يا روعةَ الأنغامِ إنْجرحي
والنّيلُ، نَهْرُ الْخَيْرِ يَعْشَقُهُ
والرأسُ يعلو قامةَ البلحِ
يا "مجْدَنا" الآتي بِغُرْبَتِنا
لَوِّنْ لَنا قَوْساً مِنَ الْقُزَحِ
سدِّدْ خُطى الفنّانِ في سَفَرٍ
إِجْعَلْهُ نَجْماً غيرَ مُتَّشِحِ
ستُّ البَهاءِ نوتَةٌ صَدَحَتْ
قُلْ: يا "بَهِيَّهْ" الْفَنَّ إِكْتَسِحي
الإسْمُ كَنْزٌ وَالْهَوَى وَتَرٌ
فيا كنوزَ الْكَوْنِ إنْفَتِحي
أَبُولسٌ.. تَحْيا لأُمَّتِنا
والشّعبُ يَبْكي سَطْوَةَ الشّبَحِ
أَوتارُكَ الْغَنّاءُ تُنْعِشُهُ
أسْكُبْ عَلْيهِ غَيْمَةَ الْمَرَحِ
تَكْريمُكَ الغالي يُكَرِّمُنا
أيا نياشينَ العُلى انْبَطحي
فالصّدرُ كالأهرامِ منبتُهُ
على رُخامِ الصدر إنطرحي
مَجْدي.. وَهَلْ لِلْمَجْدِ مِنْ وَطَنٍ
يا ربَّةَ الأشْعارِ.. إمْتَدِحي
**
أبو الطيب المتنبي
إحياء ذكرى ابو الطيب المتنبي في صالون الدكتورة بهية ابو حمد 2016

يومُكَ الْيَوْمَ أَكيدُ
"مُتَنَبّي" وَتُجيدُ
يا أبا الطيّبِ مَهْلاً
ها هُنا الْكُفْرُ يَسُودُ
ها هُنا الْحَرْبُ تَمادَتْ
ها هُنا المَوْتُ العنيدُ
لَمْ نَعُدْ نَخْشى هِجاءً
عاثَ في الأرضِ الْعَبيدُ
نَحْنُ نَحْيا كُلَّ يَوْمٍ
دَمْعُنا للحُزْنِ عيدُ
لا وليدٌ جاءَ منّا
خافَ دُنْيانا الْوليدُ
قَدْ هَدَمْنا ما بَنَيْنا
بَيْنما الْغَرْبُ يُشيدُ
ظالِمٌ يَزْدادُ ظُلْماً
هكذا الشّرْقُ يُريدُ
أبْتَغي شَعْباً عظيماً 
لا تُدَمّيهِ السّدودُ
ليسَ يَخْشى من حدودٍ
وَحْدَةُ الأرضِ الْحُدُودُ
أَجْمَلُ الأَلْحانِ تَخْبُو
حينَ يُغْتالُ النَّشِيدُ
يا عظيماً نلتَ فَخْراً
أَنْت للشّعْرِ شَهيدُ
قَدْ وَجَدْناكَ قَوياً 
أَلْفَ كافورٍ تُبيدُ
قدْ قَرَأْناكَ حَكيماً
بِالْحِكاياتِ تَجُودُ
لا لَئيمٌ نالَ عزّاً 
لا بَخيلٌ يَسْتَفيدُ
إنْ طَواكَ الْمَوْتُ دَهْراً    
كلُّ ما قُلْتَ جَديدُ
**
مجدي الحسيني
حفل تكريم الفنان مجدي الحسيني في برلمان ولاية نيو ساوث ويلز من قبل الدكتورة بهية ابو حمد 2018

جاءَ "الْحُسيني" حاملاً وترا
كنّا، وكان الهجرُ منتظرا
سيدني.. وأطيارٌ مُلونةٌ
باحتْ بسرٍ كان مُستترا
مَنْ رافقَ الأمجادَ باتَ هُنا
يا مصرُ صارَ العقلُ مُنبهرا
عبدُ الحليم اليومَ في فرحٍ
مَن قالَ إنّ "العبدَ" قد قُبرا
ما من عظيمٍ فوقَه حجرٌ
إلاّ أزحنا بالوفا الحجرا
هذي "البهيَّة" كفُّها كَرَمٌ
فيها القوافي صاغتِ الدررا
والبرلمانُ.. الحُكْمُ في بلدٍ
منْ أجلِها بالوردِ قد نُثِرا
يا سيدَ الأنغامِ هذا أنا
لستُ أمام العزف مُقتدرا
الشّعرُ كالعُنقودِ خمرتُهُ
إعصرْ لنا.. فالكأسُ قد أمرا
مَنْ لا يداوي جرحَهُ نغمٌ 
مثلَ الذي بالماءِ قد سَكِرا
أنتَ الذي إن شئتَ تُفرحُنا
هلاّ أزلتَ الغمَّ والكدرا
وقعُ الغناءِ الفجِّ يُزعجنا
فيهِ نشازُ الطبلِ إنْ كُسِرا
فالضجّةُ الحمقاءُ تقتلُنا 
والسمعُ من إيقاعِها انفجرا
أهلاً بفنٍ خالدٍ أبداً
قلبي وقلبَ الناسِ قد أسَرا
مجدي.. إذا الأهرامُ شامخةٌ    
كنتمْ لها الألوانَ والصورا
والنيلُ يدري أين منبعُه
لا لنْ أغالي.. فيكَ قد كَبُرا
واللحنُ.. مِنْكَ اللحنُ مندهشٌ
أودعتَه الأكوانَ فانتشرا
والأورغُ.. أنتَ الأورغُ.. يا ملكاً 
أحييتَ فينا السمعَ والبصرا
خبّرْ متى عدتَ الديارَ بأنْ
فنَّ "العروبَة" ها هُنا انتصرا
**
سعيد عقل
إحياء ذكرى سعيد عقل في صالون الدكتورة بهية ابو حمد

يا "عقلُ" أنتَ الحرفُ والكَلِمُ
لولاكَ لمْ تسمعْ بنا الأممُ
من دمعةِ العنقود صِغْت لنا
شعراً عظيماً هابَهُ الكرَمُ
يا "زحلُ" كنتِ الحلْمَ في سفر
طافَ الدّنى.. لمْ تتعَبِ القدمُ
هذا "سعيدٌ" صوتُه عبرٌ
يُصغي إليه من بهِ صممُ
أشعاره، آدابُه، جبلٌ
ترتادُه الأوزانُ والنغَمُ
قدموسُ ناجى الحرفَ فاحتضنتْ
أيدي الورى ما صاغتِ الحكمُ
كرّمتَه، أعطيتَهُ فرحاً
حتى تهاوتْ عنده القممُ
يا قدسُ، صاحتْ نجمةٌ سطعتْ
فيروزُ.. لمّا صفَّقَ الهرمُ
القدسُ ضاعتْ، شعبُنا غنمٌ
من خوفه قد يخجل الغنمُ
غنيتَ مكّةَ، أهلَها، فَسَمَتْ
فوق الثريا.. نورُها الحَرَمُ
قل لي: لماذا ينتهي وطنٌ
عاشتْ به الأمثالُ والقيمُ؟
لبنانُنا، يا "عقلُ"، أنت لهُ
دِرعٌ، لماذا يحكمُ الصنمُ؟
أنظر إليه.. وجهُه قرفٌ
وتثورُ في أحناكِهِ الحممُ
إنّا يئسنا من تشتّتِنا
قد لفّنا في الغربةِ السّأمُ
أنظرْ إلينا شيبُنا ندمٌ
رحماكَ.. قد لا ينفعُ الندمُ
لا لم تمتْ ما جئتَ من عدمٍ
حين احتواك استيقظ العدمُ
ما زلتَ حياً بيننا أبداً
يا أرزةً يحلو بها العلمُ
**
أديب البعيني

لست أدري كيف أشكو يا أديبُ
أدمتِ الدنيا جروحٌ لا تطيبُ
يا "بُعينيَّ" المدى لسنا سراباً
أو تراباً، أو رمالاً، كي يُذيبوا
نحنُ أبناءُ الصخورِ البيضِ حتماً
رأسُها من جنّة الخُلدِ قريبُ
نحنُ شعبٌ واحدٌ للهِ نجثو
كلُّنا، في موطني، جارٌ حبيبُ
لا دروزٌ، لا نصارى، لا شِقاقٌ
إسألِ الإسلامَ عنّا، قد يُجيبُ
أنتَ أعطيتَ البلادَ المجدَ دوماً
فاستقلّتْ، وانجلى عنها الغريبُ
غنّتِ الأرزاتُ للأبطالِ لحناً
أنتَ فيهِ الوقعُ والعزفُ العجيبُ
آهِ يا ابنَ الشوفِ، هل يكفيكَ شعري؟
أنتَ منّي، أنت روحي.. والنسيبُ
**
زغلول الدامور
أربعون الشاعر زغلول الدامور في صالون الدكتورة بهية ابو حمد

ما دُمْتَ أنت الوزنُ والشعرُ الأجلّ
لا لستُ أرضى بالكلامِ المرتجلْ
زغلولَنا.. لم يأتِ مثلَك مبدعٌ
غنّيتَ شعراً قد يغنّيه الأزل
كم شاعرٍ جاء ولم نأبهْ به
ما أن حكى حتى تثاءبَ أو أفلْ
ما أن حكى حتّى تأفَّفَ سمعُنا
والشّعرُ من أشعاره ذاقَ الخجلْ
إلاّك يا نجمَ المعنّى والدّجى
نُصغي إليكَ العمرَ لا نخشى الملل
دامورُنا، لبنانُنا، شطآنُنا
تبكي الرحيلَ المرَّ يا فخرَ الجبلْ
سيدني، إذا واسيتَها، يا "هاشمي"
تشكو أنينَ الآخِ.. قُلْ لي ما العملْ؟ْ
ها هم رفاقُ الدّربِ، أصحابُ الوفا 
يرمونَ فوقَ النعشِ آلافَ القبلْ
قمْ ودّعِ الأصحابَ، هذا جمعهُمْ
عندَ "البهيَّة" شِعرهُم دمْعُ المُقلْ
حُزنٌ أليمٌ.. لو سمعتَ أنينَهم
لبكيتَ مثل الطفل من فيضِ الزعلْ
إنْ تسألِ الأرزاتِ عن عصفورها
دلّتْ على "الزغلول" كي يُصغي الحجل
صفّارةٌ إنْ صفّرتْ يحلو لها
أن تسرقَ الأسماعَ، أو تُعطي العسلْ
فالصوتُ صوتٌ رائعٌ مُسْتلهَمٌ 
والشّعرُ مثلَ الدرِّ في بحر الأمل
إنّا نحبّك.. لو سئلنا مرةً
كنّا أجبنا دون تفكيرٍ: أجل
إنّا نحبّكَ شاعراً متألقاً 
والحبُّ عندَ الغائبينَ بلا زغلْ
إنّا نحبّك، لا تسل يا شاعري 
منذ التقينا دار في الجوّ الغزل
جوزيفُ.. قل لي كيف يأتيكَ الفنا
والمجدُ أنتَ.. وأنتَ زغلولُ الزجلْ
**