الغلاف للفنانة رندى بعيني
**
التظاهرات الدينية
من طرابلس للإسكندرية
مجرد إشاعة، مهما كانت صغيرة وتافهة، قد تحرق بلداً بأكمله، فكم بالحري إذا كانت تلك الإشاعة دينية، روجها بعض المهووسين المرضى من أجل غايات في قلوبهم، وليس في قلب يعقوب، كما يقول المثل.
الإشاعة الأولى تطايرت شرارتها في مدينة طرابلس الفيحاء، ثاني أكبر المدن اللبنانية، وأشدها تعايشاً وتسامحاً، بعد أن قررت لجنة إنماء السياحة في بلدية طرابلس استضافة الفرقة الإيطالية (Figurazione) بغية تقديم عرض مسرحي إيمائي، يطلي خلاله الممثلون والممثلات ثيابهم بالجفصين الأبيض، كي يظهروا كالدمى المتحركة، ولأن أعضاء الفرقة يفضلون تقديم عرضهم بين الناس مباشرة، ليأتي أكثر جمالاً، وأشد تعبيراً، اختارت اللجنة مقهى (موسى) في منطقة الحدادين الشعبية. وما أن علمت بعض الجهات (المتدينة) بذلك، حتى بدأت التهديدات المبطنة تصل عبر الهاتف إلى مجلس بلدية طرابلس، وتطالب بعدم تقديم العرض لأن الممثلين والممثلات عراة، وهذا شيء منافٍ للحشمة، على حد تعبيرهم، وراح مسؤولو البلدية يوضحون صورة العمل الفني الراقي، وأن الممثلين يرتدون ثيابهم، ولو طليت بالجفصين، إلى أن تم العرض، الذي لاقى استحساناً من قبل المشاهدين، وفجأة علت أصوات التكبير والهتافات الدينية، وبدأت مجموعة من الشباب المتحمس دينياً بمهاجمة الفنانين العالميين، ولكن عناصر الجيش والدرك كانت لهم بالمرصاد، ففرقت التظاهرة، وتفرق الممثلون، وتوقف العرض المسرحي العالمي الراقي، دون أن تنفع احتجاجات العديد من الفعاليات الطرابلسية السياسية والتجارية والأكاديمية، واستنكار الهجوم على الفرقة، وتخويف أعضائها باسم الدين.
ومنذ سنتين، عرضت في الإسكندرية، وفي إحدى كنائس حي محرم بك، مسرحية دينية لمدة يوم واحد، ليس في الشارع العام، كما حصل في طرابلس، بل ضمن جدران أربعة، دون أن يحرك أحد ساكناً، أو أن تسير التظاهرات، وتهاجم الكنائس والمؤمنين، إلى أن أوقد أحدهم نار الفتنة، لغاية في قلبه طبعاً، ولكي يبعد الفوز عن بعض المرشحين الأقباط للإنتخابات التشريعية، وكأن لا يحق للأقباط الترشيح والفوز بل التعيين من قبل الحاكم بأمره.
البابا شنودة أكد رفضه لمحاسبة المسيحيين، وإحراق كنائسهم، ومتاجرهم، بسبب شائعة أطلقتها بعض الوسائل الإعلامية، ونفى أن تكون إحدى الكنائس قد أهانت الإسلام أو القرآن الكريم. كما أن المسرحية لم يرها مسلم واحد، وكانت تتحدث عن التطرف الذي يتأفف منه جميع المسلمين في كافة أنحاء الأرض، ولم تنتقد لا من قريب ولا من بعيد المقدسات الدينية عند المسلمين.
ومع ذلك تمكنت شائعة تافهة من تثوير الآلاف، وحقنهم بمورفين الطائفية القاتل، وتوجيههم نحو أهداف معينة، ليس من أجل حماية الدين الإسلامي الحنيف، وليس من أجل الدفاع عن نبينا العربي العظيم، بل من أجل مكاسب سياسية بحتة، والفوز ببعض المقاعد النيابية في الإنتخابات التشريعية المقبلة. وهذا ما لم يكن خافياً على البابا شنودة، الذي أعرب عن أمله في ألا يكون للإنتخابات التشريعية المقبلة دور في إثارة أو استغلال تلك الأحداث.
من منا لم يسمع مئة مرة باليوم بعض شيوخ المنابر، ومذيعي الإذاعات الإسلامية المتطرفة، وهم يتهمون المسيحيين بالكفر، ويدعون إلى قتلهم وسحقهم، حتى في الدول المسيحية ذاتها، كأستراليا مثلاً، دون أن يحرك أحد ساكناً، أو دون أن تنطلق التظاهرات من الكنائس بغية حرق الجوامع، وإقفال الإذاعات الإرهابية المتطرفة. هناك طرق قانونية بإمكان أي كان أن يلجأ إليها من أجل الوصول إلى حقّه، فلماذا لم يلجأ الثائرون على مسرحية (كنت أعمى وفتحت) إلى القضاء المصري بغية تلقين المؤلف والمخرج والممثلين درساً لن ينسوه، إذا كانوا، لا سمح الله، قد أساؤوا إلى معتقدات إخوانهم المسلمين؟ فمن نحتج عليه هو منا، إبن بلدنا، يتكلم لغتنا، ويسكن معنا في عمارة واحدة، أي أنه مصري أبا عن جد، فلماذا لا نتعامل معه قانونياً، بدلاً من أن نرهبه طائفياً، وندعوه إلى التقوقع في كانتون طائفي، لن يرضاه ولو أجبر عليه، ونعمل على تقسيم وطننا العربي إلى دول عرقية وطائفية بسبب همجيتنا الدينية، في وقت نجد أن تركيا المسلمة تعمل المستحيل من أجل الإنضمام إلى الإتحاد الأوروبي المسيحي بغية تأمين عيش أفضل لسكانها، وبغية التأقلم مع محيطها الأوروبي، وكي لا تبقى بمنأى عنه.
لم أعد أدري من يفتي من المسلمين، ولأي سبب يفتون، فلقد أصبح بإمكان أي كان تثوير الناس طائفياً، وجرهم إلى التظاهر ضد أي شيء لا يعجبه، حتى وإن كان يجلب الخير لمدينته، ضارباً عرض الحائط باستنكار الفعاليات الإسلامية، واحتجاج مفتي الجمهورية، وتوضيح البابا شنودة، ودعوة شيخ الأزهر إلى التهدئة، وتدخل جميع الأحزاب الدينية والمدنية من أجل جمع شمل الشعب الواحد، وتفريق التظاهرات من قبل الشرطة، ووقوع العديد من الضحايا، فالشر يجب أن يحرق البلاد، ومن يقف بوجهه، أو يحاول إطفاء حرائقه، سيرمونه بالكفر، عندئذ سيصطاده مطلق جاهل جبان، كما حصل مع النوبلي نجيب محفوظ.
كي يعم الخير في عالمنا العربي، يجب أن يخضع جميع أبنائه لقوانين مدنية صارمة، تفتك بكل من يحاول أن يفتك بمجتمعه، أو أن يفككه ويشرذمه طائفياً، عندئذ نصبح بشراً كباقي البشر، وإلا.. فرحمة الله علينا.
**
التزمت المسيحي
ومعالجته سينمائياً
هذه هي المرّة الثانية التي أتنعّم فيها بمشاهدة فيلم سينمائي يعالج التزمت المسيحي في القرون الوسطى.. الفيلم الأول كان لدامي مور بعنوان (العلامة الفارقة) والثاني بعنوان (التزمت) لواينونا رايدا ودايفيد داي لويس.. ووجه الشبه بين الفيلمين كان سفك دماء الأبرياء الذي ارتكبه بعض رجال الدين المسيحيين باسم اللـه تعالى.
دامي مور، في الفيلم الأول، مثلت دور امرأة متزوجة، أحبت وزوجها أن ينتقلا إلى المدينة المثالية (أورشليم) التي بناها بعض المتعصبين المسيحيين في الغرب، تحت إشراف أحد الكهنة الشباب.. بغية تثبيت دعائـم الدين وتطبيق الوصايا العشر.. وكل من يخالف الوصايا جزاؤه الموت.
وتشاء الصدفة، أن يتأخر زوجها عن الركب، فوصلت المدينة (المقدسة) قبله، فأحدثت بذلك بلبلة بين الناس: امرأة متزوجة تسافر لوحدها!!.. تعيش بينهم لوحدها!!.. بمعنى آخر، ستسرق من النساء رجالهن.. وهذا غير مسموح في (أورشليم) الجديدة.
ذات يوم، كان كاهن القرية يستحم في النهر المجاور لبيتها، فشاهدته عرياناً ، دون أن تعلم أنه الكاهن.. فتركته يداعب المياه الباردة، وأسرعت متجهة نحو الكنيسة لحضور قداس الأحد.. وفي الطريق، أوقف الكاهن عربته، وكان قد انتهى من حمامه، وطلب منها الصعود.. فأخبرته أنها في عجلة من أمرها، لأن الكاهن سيغتاظ إذا دخلت القداس متأخرة.. فأجابها وهو يضحك: أنا هو الكاهن، لا تخافي.
وتبدأ زيارات الكاهن لها، ويبدأ الحب يتلاعب بقلبيهما، ولكنها قاومت الإغراء، رغم تأخر زوجها عن اللحاق بها عدة أسابيع.. ولـم تستسلم له إلا عندما جاءها نبأ مقتل زوجها على يد أحد الهنود الحمر.. عندئذ وهبته جسدها، ليهبها جنيناً ما أن كبر في بطنها، حتى تنادى مجلس الأمناء على (الدين) وطالبوا بمحاكمتها وشنقها لأنها لـم تحترم الوصية التي تقول (لا تزنِ)..
أرادوا معرفة اسم والد الطفل دون جدوى.. سجنوها.. ضربوها.. هددوها بالموت.. ولـم تنبس ببنت شفة.. كل هذا، والكاهن (الوالد) يدير المحاكمات دون أن يرف له جفن.
وما أن ولدت طفلها، حتى سلمتها المحكمة لحبل المشنقة.. وفي الساحة العامة، حيث يحتشد المئات من (المؤمنين) سألها أحدهم عن اسم والد الطفل.. فلم تجب.. فوضع الحبل حول رقبتها بغية شنقها.. عندها ارتفع صوت الكاهن ليعلن للجميع انه والد الطفل.. وان اللـه محبة.. يرفض كل ما نقوم به من أعمال سيئة باسمه.. وان معظم الذين حاكموها، وهو واحد منهم، حاولوا ممارسة الجنس معها وكانت تصدهم بقوة.. أي أنهم نصّبوا أنفسهم أوصياء على الدين والأخلاق وهم أبناء الرذائل.
أما فيلم (التزمت) فيبدأ بمشهد لمجموعة من الفتيات المراهقات يرقصن حول النار ويقدمن القرابين للشيطان.. كي يحبّب الشبان بهن.. واحدة ترمي العدس في النار وتتمتم اسم (دايفيد)، وأخرى ترمي القمح وتنطق باسم (أنطوني).. أما (واينونا رايدا) فلقد ذبحت دجاجة وشربت دمها من أجل عينيّ حبيبها المتزوج (دايفيد داي لويس)، الذي أقسمت أن تسرقه من زوجته مهما كان الثـمن، خاصة، وأن علاقة غرامية جنسية قد جمعتها به أثناء مرض زوجته وقيامها هي بالسهر على راحة أطفاله.
وفجأة، يظهر كاهن القرية ، ويبدأ بملاحقتهن بين أشجار الغابة، فيضبط ابنته الصغيرة، التي أوهمته أنها خسرت نطقها، وراحت في غيبوبة لامتناهية. عندئذ، اتهم الشيطان بذلك ، وطالب بطرده من القرية، وشنق كل من يتعامل معه!! (هكذا واللـه)!!.
هنا، لمعت الفكرة في مخيلة (واينونا)، فجمعت رفيقاتها وطالبتهن بتقليد كل ما تفعله، وإلا، أوقعتهن بمشاكل لا حصر لها.. فبدأت تصرخ وتشهق أمام رجال المحكمة المكلفين بطرد الشيطان، وتتهم أناساً أبرياء رأتهم يرافقون الشيطان في القرية.. وإمعاناً في التضليل كانت المراهقات الأخريات يوافقن على كل كلمة تقولها.. لا بل كن يشهقن كما تشهق ويصرخن كما تصرخ.. إلى أن وصل الدور الى زوجة حبيبها.. فاتهمتها أيضاً بمصاحبة الشيطان بغية التخلص منها والتفرغ لزوجها، الذي بات يصدها ويدعوها الى التعقل واحترام شعوره.
ولكن الزوج دافع عن زوجته، عن إخلاصها له، عن إيمانها المسيحي القويم، واتهم (واينونا) بالكذب.. بالرذيلة.. وبفقدان عذريتها.. وعندما سأله رئيس المحكمة الدينية كيف يعرف ذلك؟ اعترف بممارسة الرذيلة معها، وانها أوقعت بزوجته بغية الوصول اليه ليس إلا.. كما أنه قدم للمحكمة الروحية ورقة تعترف فيها إحدى الفتيات بعدم رؤية الشيطان.. وبأن (واينونا) هي التي أوحت إليهن بذلك..
ولأن (واينونا) لا تريد أن تقع في الفخ.. صاحت: ها هو الشيطان.. ها هو الشيطان.. اني ارى هذه البنت التي شهدت ضدي ترافقه ..
ترافقه؟! صاح رئيس المحكمة.. فأدركت الفتاة المسكينة أنها راحت ضحية صدقها، وان المحكمة ستشنقها كما شنقت الآخرين لا محالة.. فبدأت بالصياح أيضاً، وادعت انها ترى الشيطان وبرفقته زوج المرأة (دايفيد داي لويس)، الذي أجبرها على الشهادة ضد (واينونا) ورفيقاتها !!
عندئذ، أمرت المحكمة بإعدام (الزوج) أيضاً.. فما كان منه إلا أن صاح بصوت عالٍ جداً: لقد مات اللـه.. أنتم قتلتموه.. أنتم الشياطين.. وكل الذين سفكتم دماءهم أبرياء وقديسون وسترتد عليكم دماؤهم.. فالويل لكم.. الويل لكم يا أفاعي الأرض.. وبدأ بالصلاة الربّانية التي علمنا إياها السيّد المسيح: أبانا الذي في السماوات ليتقدس إسمك..
هكذا كان وضع المسيحيين في القرون الوسطى، يوم باع رجال الدين المسيحيون صكوك الغفران بملايين الدولارات، ووعدوا كل من يشتريها بدخول الجنة!
اليوم، تعيش أمتنا العربية حالة من التخبط الديني الوسخ الأليم، فهل يتعظ رجال الدين الذين يصدرون الفتاوى المخجلة التي تزهق ارواح الملايين من الأبرياء، وتعيدنا الى القرون الوسطى، في زمن الكومبيوتر والإنترنيت والعمل على استيطان المريخ .. لست أدري!
**
إنتبهوا إنه عام الموت
أولاً، أحب أن أهمس بإذن القارىء أنني لا أؤمن بالتنجيم، ولا بالمنجمين، ولكنني، رغم ذلك، أطالع تنبوءاتهم بشغف كبير، لا لمعرفة ما سيحدث، لأن الغيب لا يعلم به سوى الله تعالى، بل لمراقبة ما سيصدق منها، وكثيراً ما تخدم الصدفة المنجم، ويحظى بشهرة عالمية.
وكما نرى كل عام، فإن آلاف المنجمين سيدلون بدلوهم، وكل واحد منهم سيرى الأمور بمنظاره الخاص، فمثلاً إذا كان المنجم أميركياً تنبأ بوفاة أسامة بن لادن، وباغتيال الظواهري، وباستسلام الزرقاوي، وبتدمير المفاعل النووي الإيراني، هذا إذا لم يتنبأ باجتياح الجيش اللبناني لسوريا. أما إذا كان المنجم يهودياً، فتأكدوا بأنه سيفني العرب، وسيقيم دولة إسرائيل الكبرى. أما إذا كان عربياً فسيقول ما قاله الأميركي واليهودي مع زيادات فلكية عربية قد لا تخطر على بال الجن، فكم بالحري إبن الإنسان، وهذا ما حصل بالفعل، فلقد تنبأ الفلكي التونسي حسن الشارني بالموت الزكام لجميع الحكام من واشنطن حتى بلاد الشام، وإليكم أهم ما سيحدث من موت في عام 2006 حسب توقعاته الفلكية:
1ـ إغتيال الرئيس الأميركي جورج بوش.
2ـ إنسحاب القوات الأميركية من العراق، إثر عملية إرهابية ضخمة للمقاومة العراقية.
3ـ وفاة الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة.
4ـ إغتيال الرئيس الفلسطيني محمود عباس
5ـ إغتيال رئيس الوزراء العراقي السابق إياد علاوي.
6ـ نهاية مسيرة أرييل شارون السياسية.
7ـ سقوط حكومة بلير البريطانية.
8ـ محاولات إنقلاب عسكري في سوريا.
9ـ عمل إرهابي ضخم بباريس.
10ـ تفجيرات إرهابية في إحدى المدن الساحلية بأميركا.
11ـ إشتعال طائفي بمصر، بسبب فوز الإخوان المسلمين بالمقاعد النيابية، ودعم إيران لهم.
12ـ إعلان وفاة الرئيس صدام حسين من قبل الأميركيين، إنهاء لمحاكمته المضحكة.
13ـ موت المغني الفرنسي جون هوليداي.
هذا غيض من فيض أحد أشهر الفلكيين في العالم، فلقد تنبأ أخونا الشارني العام الماضي بوفاة العاهل السعودي الملك فهد، والبابا يوحنا بولس الثاني، وبتفجيرات لندن أيضاً، كما أنه توقع من قبل وفاة الأميرة دايانا بحادث مروع.
والفلكي حسن الشارني يحتل منصب نائب رئيس الاتحاد العالمي للفلكيين، وحاصل على دكتوراه في الفلك الفيزيائي، وله كتب ومقالات عديدة في المجال الفلكي، كما أنه يعمل مستشاراً لعدد من الشخصيات العالمية. فإذا صدقت توقعاته للعام القادم، قولوا إن القيامة قد اقتربت، وأننا سنرى الجحيم بأم أعيننا، وأن الموت سيلاحقنا في كل مكان، وسيضحك سكان القبور على أجنة البطون، ويأسفون لقدومها إلى عالم تعيس، لا يعرف إنسانه كيف يتعايش مع جاره، كما أنه لا يمتهن سوى القتل والتفجير.
هذا ما توقعه الشارني، فماذا سيتوقع لنا باقي الفلكيين؟ أتمنى أن يجد فلكي منهم فسحة أمل نقدر أن نتنفس منها ولو إلى حين. وإلا، فليصلِّ كل واحد منا عن روحه، قبل أن يحصده منجل الموت، ويغتاله حقد أخيه الإنسان.
**
مسلمو أستراليا ضد الإرهاب
ما أن أعلن رئيس وزراء ولاية نيو ساوث ويلز السيد بوب كار أن سيدني عاصمة الولاية، التي يكثر بها المسلمون، قد تتعرض لتفجيرات انتحارية، رغم ادعاء الإستخبارات الأسترالية (آزيو) أن الوضع الأمني ممتاز، وأن التفجيرات الإنتحارية في أستراليا قد تكون مجرد أوهام، حتى سارع مشايخ المسلمين الأستراليين وزعماؤهم إلى وصف الإرهابي بالرجل الغبي جداً جداً، وإلا لما أقدم على تفجير نفسه، بغية الفتك بأناس أبرياء، كما طالبوا بترحيل أئمة المساجد الذين يدعون للجهاد، ويشجعون على التطرف والإرهاب.
تفجيرات لندن التي أصابت بعض الأستراليين أيضاً، جعلت بوب كار، وقبله رئيس وزراء أستراليا جون هاورد، يعلن أن الأفكار المتزمتة المتطرفة قد لا تنبت في أستراليا إلا وسط حلقات ضيقة، تماماً كما نبتت في بريطانيا وأذهلت الجالية الإسلامية هناك. صحيح أن تلك الحلقات مراقبة على مدار الساعة إلا أنه لا يضمن المفاجآت. إذ ما من أحد كان يصدق أن إنساناً سوياً سيخون وطنه وشعبه من أجل دينه، كما فعل انتحاريو لندن.
واعتبر كار أن لا أحد بإمكانه مكافحة الإرهاب إلا المسلمون أنفسهم، كونهم يقعون ضحيته كباقي الناس، وذلك من خلال مواجهته، ودحض تعاليم كل من يبشّر بمفاهيم أصولية تحض عليه، لتدمر من خلاله المجتمع.
غزوة لندن، كما يسميها الإرهابيون، رمت أوراق المخابرات الأسترالية في مهب الريح، ومحت أفكارها السامية التي تقول إن الإرهاب سيأتي من الخارج، ولا يمكن أن ينبت في الداخل، لأن المواطن، ولو كانت وطنيته شحيحة ومتقلبة، لن يخون وطنه، ولن يقتل شعبه، ولن يدمر مجتمعه، مهما كانت الأسباب والدوافع، فكم بالحري إذا كان ذلك المواطن مطروداً من بلده الأم، ومضطهداً من أتباع دينه، ووجد المأوى، والملبس، والمأكل في وطن جديد، أقل ما يجب أن يفعله هو إعلان الولاء له، ورد الأخطار عنه.
إذن، غدر حفنة من المسلمين البريطانيين بأمهم بريطانيا، قلب الدنيا رأساً على عقب، وزرع الشك في كل عقل، والحيرة في كل عين، والكره في كل قلب، وهذا ما أدركه المسلمون الأستراليون، فسارعوا إلى التظاهر ضد الإرهاب، والتنديد به، وكشف كل من يدور في فلكه، خاصة المكتبات الإسلامية التي تبيع كتباً عن الجهاد والاستشهاد والتطرف.
ولأن المسألة أكثر من جدية، داهم الإعلام الأسترالي العديد من تلك المكتبات، قبل أن تداهمها الشرطة، وتعتقل كتاباً ثمنه 11 دولاراً، للشيخ عبد الله عزام بعنوان (الغرب المجرم والدفاع عن بلاد المسلمين)، وسط استغراب وقلق وزير الشرطة كارل سكالي الذي أعلن: أن كتباً كهذه لا يمكن التسامح معها، كما أنه لأمر مثير للقلق أن تباع كتب في مكتبات أسترالية تحث على التطرف والعدوان والقتل في هذه البلاد.
مسلمو أستراليا.. لن يخونوا أستراليا، ولن يطعنوا الصدر الذي حضنهم بعد تهجير وموت، كما أنهم لن يمارسوا الجحود مع شعب مضياف، عمل المستحيل من أجل إسعادهم، وتأمين العيش الرغيد لهم ولأبنائهم، ولو قطّعوا إرباً، ولو دعا ألف داعية طائش، وتشدق بالدين الحنيف مليون متشدق أبهل، هم يميّزون جيداً بين الحلال والحرام، وبين الوفاء والغدر، والإسلام والتأسلم، كما أنهم يمارسون دينهم أكثر من غيرهم، ويعرفون كيف يحمونه من نيران التطرف والتزمت والموت الحرام.
**
يا رذيل.. متى تستقيل؟
خطاب القسم الشهير الذي ألقاه الرئيس آميل لحود يوم توليه الرئاسة هو الذي شجعني على العودة إلى لبنان عام 1999، فلقد ارتحت إليه وآمنت به، وشعرت أن وطناً جديداً مستقلاً سيولد من رحم المأساة، نقدر أن نعيش به أحراراً، نتفاعل معه ويتفاعل معنا، دون خوف أو رعدة.
ومع الأيام بدأ الإعجاب يضمحل، والارتياح يتململ، والإيمان يندثر، خاصة بعد أن قبل بتمديد ولايته، فأدركت للحال كم هو ضعيف أمام المنصب، تماماً كباقي الرؤساء العرب، الذين يتمسكون بكراسيهم إلى أن يتذكرهم عزرائيل ويريح شعوبهم منهم، ولكن، وللأسف، يرثهم أبناؤهم وسط هتافات الجماهير الغفيرة لهم بطول العمر، دون أن يرف لهذه الجماهير المسحوقة التعيسة جفن أو يردعها ضمير، وكأن الأوطان مزارع لحكامها، وكأن مواطنيها أجراء عند هؤلاء الحكام المتحفزين دائماً وأبداً للشر، وللقتل، ولسحق طموحاتنا.
خطأ الرئيس لحود الأول أنه لم ينفذ بنداً واحداً من خطاب القسم، وبدلاً من أن يشعر بالذنب، راح يفاخر بهواياته، وبأنه يسبح مسافة كيلومتر في اليوم، لدرجة أن شعبه اتهمه بأنه سبح يوم تشييع الرئيس رفيق الحريري. ولقد أخبرتني الشاعرة الأسترالية آن فيربيرن، أن الرئيس لحود لم يسألها، حين زارته، إلا عن أماكن الغطس في أستراليا، وهذا من حقّه طبعاً، ولكن ليس على حساب خطاب القسم الذي كان من المفروض أن يأخذ معظم وقته، وان يغطس بمواده مادة مادة حتى ينتهي منه، ويرميه بين أيدي شعبه لآلىء ولا أجمل.
وطالما أن الرئيس لحود يستعمل كلمة (رذالة) إثر كل حادث جلل، أخبره أن قبوله بتمديد ولايته كان رذيلة الرذائل، أوقعت الوطن في دوامة من الفوضى قد تجره إلى حرب أهلية ثانية، لا سمح الله، فإذا كانت مدة الست سنوات لم تروِ غليله في الحكم، فثلاث سنوات إضافية لن تبل ريقه، وجريمة أن يحرق الوطن من أجل البقاء على كرسيه أمداً لا يعرف غير الله مدته، قد يستمر أسابيع، ويطيح به الشعب، وقد يمتد لسنوات وسنوات إلى أن يصبح الأخضر يابساً، والتراب رماداً، والمواطنون جثثاً متناثرة من أجل لقب تافه، ومركز تافه، وسلطة تافهة، وبدلاً من أن يناديه الشعب: فخامة الرئيس، سيرفع بوجهه اليافطات الناقمة، كما رفعها البارحة، وقد كتب عليها: يا رذيل.. فتصوّروا!.
لو كنت الرئيس لحود لاستقلت حالاً، ولاعتذرت من أبناء وطني على عدم تمكني من حمايتهم، وتأمين لقمة عيشهم، وتنفيذ خطاب القسم الذي أقسمت على تنفيذه.. وتخليصهم من احتلال مخابراتي بدأ يقلقهم ويقض مضاجعهم وينهب ثرواتهم، عندئذ أتحول من إنسان مكروه من قبل شعبي، كما كان تشاوشيسكو، إلى إنسان محبوب أقر بأخطائه فنال احترامه.. كما فعل الرئيس بشارة الخوري.
قال لي أحد الموارنة المتشددين: لو خيّرت بين الحريري السني رئيساً للجمهورية ولحود الماروني لاخترت الأول، لأنه كان لبنانياً حتى العظم، همّه الأول والأخير لبنان، بينما لحود فهمّه الأول منصبه، وهمّه الأخير.. السباحة.
لقد أضاء الرئيس لحود شمعة في ليل غربتي، يوم آمنت بطروحاته، وبابتسامته، وبقسمه، ولكنه، وللأسف، أطفأها، وأعادني وأعاد الوطن إلى ظلمة حالكة من أجل ثلاث سنوات عجاف لن يبقى له منها غير صرخة شعب ثائر: يا رذيل.. متى تستقيل!
**
دنيا أسعد البصري
من قال ان الشعر موضة يجب أن تتغيّر كل سنة، كالفساتين والجزادين والأحذية؟
من قال ان القصيدة طبخة متى باتت وبردت امتنع الناس عن تناولها؟
من قال ان للشعر عمراً محدداً متى تجاوزه مات، كالانسان والحيون تماماً؟
وهل بإمكان جميع شعراء العصر على امتداد الكرة الأرضية أن يأتوا بما أتى به المتنبي وشكسبير وغيرهما من العظماء؟
وصدقوني إذا قلت: ما اساء أحد الى الشعر كما أساء إليه بعض الشعراء، فمن خلال كثرة مدارسهم العقيمة، وفذلكاتهم المضحكة، وتبجحهم المقرف، وتهجماتهم البغيضة على بعضهم البعض، إفرنقع عشاق الشعر، واضمحل الشعراء، ولم يبقَ للشعر ناشر.
والمضحك في الأمر ان العديد من الشعراء لم يعترفوا بالهزيمة بعد.
ما كتبه أسعد البصري لابنته "دنيا" يوم ولادتها عام 2000، تحت عنوان "قصائد قديمة" سيرحل هو وابنته، بعد عمر طويل، وسيبقى خالداً مخلداً.
لا يوجد في الشعر قصائد قديمة وقصائد حديثة، بل قصائد جميلة، وكل تسمية غير هذه باطلة.
فتعالوا نتنعّم بما كتب:
غارقٌ بالحبّ مثل قاربٍ مليءٍ بالرصاص
هذي هي الدّنيا
فمن أيّ حديقةٍ أسرقُ العمرَ
ومن أيةِ نجمةٍ سوف تفتحين السّؤال
أبوكِ مندهِشٌ
على عينيه سالَتْ مُدُنٌ
رأى الليلَ شيخاً يُعلّمُ فنَّ الهدوء
والمنفى عصاةً تربّي
أبوكِ الطريقْ
شجرةٌ مريضةٌ ، غابةٌ في الحريقْ
نامي على ساعدي
فأبوكِ الليل والنوم العميقْ
يبدأ البصري قصيدته بالحب الأبوي المثقل بالغربة والخوف، وينهيها بالحب الآمن على ساعديه:
غارقٌ بالحبّ مثل قاربٍ مليءٍ بالرصاص
لست أدري إذا كان أسعد من لاجئي القوارب الى كندا أم لا، تلك التي تحمل الخوف والموت معاً، خاصة إذا كانت مثقلة بالرصاص. وخير شاهد على ذلك تحطّم العشرات من المراكب الحبلى باللاجئين الابرياء على صخور شواطئنا الأسترالية، والتي بسببها تطايرت حكومات وسجنت شخصيات.
أما أسعد، فالشيء الوحيد الذي يطمئنه هو غرقه بالحب، الذي أثبته، لا بل ثبّته، في آخر القصيدة:
نامي على ساعدي
فأبوكِ الليل والنوم العميقْ
ما هذه الأبوّة يا اسعد؟
فلقد رميت نفسك في ظلام الغربة والتشرد، وأبيت إلاّ ان تتقمّص الليل، بغية تأمين نوم عميق لجفنيّ من تحب.
ألهذه الدرجة يصل جنونك الأبوي؟
كل دقيقة يزور عالمنا آلاف الأجنة، ويفارقه آلاف العجائز، فلماذا كل هذا الاندهاش؟:
أبوك مندهش
على عينيه سالَتْ مُدُنٌ
هذا إجرام ابداعي يا أسعد.. لا يقترفه إلا العمالقة.
والاجرام الإبداعي لا يحدث إلا في ساعة الوله الشديد، أو الغيبوبة الفكرية، أو سيطرة الدهشة على الحواس الخمس.
أمن أجل"دنيا" تخرب الدنيا،
وتحوّل المدن قطرات دمع تسيل بسكانها وبنيانها من عينيك؟
لم أرَ في حياتي والداً متهوراً مثلك.
إهدأ يا أسعد..
فتّش عمّن يعلّمك الهدوء، فالحب المتهوّر قاتل:
أبوك مندهش
.......
رأى الليلَ شيخاً يُعلّمُ فنَّ الهدوء
والمنفى عصاةً تربّي
أعرفتم الآن لماذا تقمّص أسعد البصري الليل، وتحمّل الترحال، وداس أرصفة المدن؟
أعرفتم لماذا أصبح هادئاً كمياه بحيرة، بيده عصاة موسى، يشق بها عباب المنفى كي يصل الى برّ الأمان؟
إنه الاندهاش الشديد بطلّة "دنيا" فلذة كبده، وهل غير الاندهاش يأتي بصور شعرية رائعة كهذه:
هذي هي الدّنيا
فمن أيّ حديقةٍ أسرقُ العمرَ
أسعد البصري شاعر مبهر يعرف كيف يلتقط الكلمات من قاموسه اللغوي ليبهرنا بها، بعد أن يشعلها كالنجوم في بيوته الشعرية، ولسان حاله يردد: أكون أو لا أكون:
من أيةِ نجمةٍ سوف تفتحين السّؤال
هو هكذا: مجنون بكلماته، بصوره، بأسئلته، فإما أن تحبّه كما يريدك أن تحبّه، وإما أن ترفضه وتغرق في هواجسك. أما أنا فلقد أحببته لأنه جدير بالحب.
الشيء الوحيد الذي استوقفني في القصيدة، وجعل المدن تسيل من عينيّ ايضاً، هي هذه الكلمات المؤثرة:
أبوكِ الطريقْ
شجرةٌ مريضةٌ، غابةٌ في الحريقْ
أطال الله بعمرك وعمر "دنياك"، يا أخي أسعد، فلقد علّمتنا من أين نسرق العمر، وإلى أي حديقة ندخل.
إنها حديقة إبداعك.
**
رائعة نجاة مرسي
(المهاجرون العرب في أستراليا)
سنة كاملة، بساعاتها وأيامها وأشهرها، قضاها الدكتور أنيس مرسي في ترجمة رائعة زوجته الأديبة نجاة فخري مرسي (المهاجرون العرب في أستراليا) إلى الانكليزية.
المهمة شاقة، شاقة جداً، ولكن لا بد منها.. هكذا قال لنا الدكتور مرسي.. وهذا ما أدركناه حقاً، ونحن نتصفّح (الهدية) الثـمينة، التي وصلتنا منهما، ونقلّبها بين أيدينا..
الكتاب الواحد يزن كيلوغراماً أو أكثر.. فكيف تمكن (المرسيّان) أنيس ونجاة من شحن نسخه إلى أستراليا؟.. وكم هي كلفة الشحن؟.. حتى لا نقول: وكم هي كلفة الكتاب، طباعة وشحناً؟.. وكم كتاباً، غير (المهاجرون العرب في أستراليا)، طبعا في لبنان؟.. وما هو حجم خسارتهما في جالية لا تقرأ.. أو يأخذ الواحد منها الكتاب من مؤلفه مجاناً.. فيبيعه لصاحب محل يُعنى ببيع وشراء الكتب المستعملة..
مئات الصفحات كتبتها نجاة، وترجمها أنيس، وضمّها مجلّد رائع.. فخم.. يظهر للعيان مدى تقدّم الطباعة في لبنان.. ويخبرنا الحكايات الكثيرة عن ميزة الصبر والاندفاع والتضحية التي يتحلى بها هذان (المرسيّان). ألـم تقل أديبتنا (نجاة) ان كل امرأة في العالـم تحلم بامتلاك الجواهر.. أما أنا فأحلم بكتابة ونشر المؤلفات!!..
أمّا كيف استقبلت الجالية العربية في مالبورن (الكتاب المجلّد)، فإليكم النبأ:
إنعام رعد، الإذاعيّة المعروفة قدّمت باللغتين العربية والانكليزية الاحتفال، فرحبّت بالجميع، وتحدّثت عن أهميّة (المهاجرون العرب في أستراليا) الذي يعتبر من أهم المراجع الاغترابية في أستراليا.
ولكي تكون للمناسبة نكهة شعرية مميزة، طار الشاعر نعيم خوري من سيدني إلى مالبورن ليهدي صديقيه أنيس ونجاة والجالية هذه الأبيات الرائعة:
قبلنا لـم يكن، ولا ضاء حرفٌ،
أو كتاب، أو مركب، أو منارُ
تحت حد السكين تنمو دمانا،
مهرجاناً، ويشرق الثوّارُ
يصلب الطيّبون، أما العوادي
فملوك على الزنى.. فجّارُ
أما الدكتور بول كوب الاخصّائي بالتاريخ والمدير السابق للمعهد الوطني للتعددية الحضارية، فقد راجع الكتاب وأبدى إعجابه به، وتحدّث عن أهميته بالنسبة للمجتمع الاسترالي ككل.. وانه استقى منه تلك المعلومات التي تقول ان الـ Australian pie هي اختراع لبناني، ابتكرها فرّان من آل الأشقر كان يسكن في مدينة بالاريت. وأن أحد اللبنانيين كان يطوف ببضاعته إلى القرى مع السيد (ماير) مؤسس المحلات الشهيرة.. وان اللبنانيين خليل ولطوف هما أول من موّل شركة (كولز) الواسعة الانتشار.
ناقل الكتاب الى العالمية الدكتور أنيس مرسي لـم ينس أحداً، فوّزع شكره على الجميع.. وكان كلامه العفوي مستمداً من قلبه الكبير.
وفي الختام أعلن سعادة قنصل لبنان العام الدكتور جان دانيال صدور الكتاب رسمياً.. ووجه عتباً لطيفاً إلى مؤلفته السيدة نجاة لانها لـم تشمل بعطفها باقي الولايات، إذ أن معلوماته محصورة في ولاية فكتوريا، رغم اسمه الشامل (المهاجرون العرب في أستراليا).. وبنفس اللطافة ردّت أديبتنا على قنصلنا وقالت: لقد ذكرت الاسباب في مقدمة الطبعتين العربية والانكليزية، وانها وجهت نداءات عديدة الى الولايات الاسترالية الاخرى ولـم تلقَ الحماس ولا التشجيع.
بعد اطلاعنا على الكتاب المترجم، وعلى تأريخه القيّم لاحداث الجالية في مالبورن.. وإبرازه العديد من شخصياتها.. ندبنا حظنا وقلنا: لو سكن أنيس ونجاة في سيدني لنشرت صورنا في الكتاب.. ومن منا لا يحب رؤية صورته في هذه الايام.. بعض الناس في جاليتنا مرضى صورهم!!
شكراً يا أنيس ويا نجاة مرسي.. وإلى توقيع آخر بإذن اللـه.
**
الحق على الشعر
علاقتي بالشاعر الغريب زين الحسن علاقة مميزة، كونها مبنية على صخور المحبة الصادقة، رغم فارق السن الذي بيني وبينه، هذا اذا قيس عمر الشاعر بعدد سنيه!، لأن الشاعر، بنظري، حتى ولو غزا الشيب مفرقيه، ودبّت الرجفة في عروقه، يبقى ينبوع شباب دائم، طالما أن هناك قلباً يخفق، وعيناً تدمع، وحبيباً يولد مع ولادة كل بيت من ابياته الشعرية.
وأنا ما كتبت مقالي هذا لأشرح لكم نظرية جديدة أو فلسفة عتيدة، بل لأقص عليكم ما حصل لي مع الشاعر الغريب وكامل المر.
ذات يوم، قررت والشاعر الغريب القيام بزيارة صديقنا المشترك كامل في بيته الكائن في منطقة "بلاكتاون" التي تبعد عن منطقة "ماريلاندز" مكان اقامتي، قرابة عشر دقائق بالسيارة، وبالطبع، فهذه ليست المرة الاولى التي ازوره بها، بل أن "دواليبي بريت" لكثرة ذهابي وايابي من والى بيته، ولكن المعادلة تغيّرت تماماً عندما صعد الشاعر الغريب الى جانبي، وبدأ يسمعني، أثناء الطريق، بعضاً من قصائده.
وكشاعر مسكين تسحره الصور الشعرية، وتسكره بخمرها المعتق الى حد الدوخان، تاه عن بالي مفرق "بلاكتاون" اللعين، فتابعت سيري باتجاه الجبال الزرقاء. والشاعر الغريب يتابع بدوره الالقاء بطريقة مدهشة، وكأنه تعمّد في تلك الليلة أن يختار أروع ما جادت به قريحته الفياضة:
بلادي الحولوكي لبوز مدفع
وعليكي تآمروا حتى يذلّوا
الأرز اللي على جبالك تربّع
قبل آدم ما كوكبنا وصلّو
والحقيقة أقول بانني لم أشعر اطلاقاً بضياعي إلا حين توقّف شاعرنا عن الالقاء، وسألني باستغراب:
ـ أين نحن الآن يا شربل؟
فأفقت مذعوراً من غيبوبتي الشعرية وقلت:
نحن، نحن، العمى..
ـ ما بك؟
صاح والدهشة تعلو وجهه.
ـ ضعنا يا زين..
ـ يا ساتر.. ما العمل؟
ـ العمل.. أن تتوقّف حالاً عن إلقاء الشعر، حتى أعرف كيف أرجع.
ـ وما دخل الشعر بالموضوع؟
ـ شعرك أضاعني، أسكرني، نقلني الى دنيا مثالية عكس هذه الدنيا التافهة الوسخة التي لم يعد بمقدورك أن تصاحب انساناً فيها، مخافة أن يطعنك بظهرك، متى سنحت له الفرصة، ولا أن تربي ولداً لأنه سيطلع عاقاً، مهما قدمت له، وتعبت من أجله، ولا أن تغرم بمخلوق من مخلوقاتها، نظراً لخساسة نفسه، وشيمة الغدر التي يتصف بها.
أجل يا زين، المادة أعمت بصيرة الناس، وها أنت ترجعني طفلاً صغيراً، يسرح ويمرح فوق مروج شعرية خضراء، لم تلطخها أرجل بشرية بعد. فبربك قل لي على من تقع مسؤولية ضياعي الآن؟
ـ عليّ وعلى شعري بالطبع.
ـ اذن، من الواجب عليك ان توصلني الى بيت كامل.
ـ أنا، أنا أوصلك الى بيت كامل؟!، معاذ الله، الأفضل ان يصلي كا واحد منا على دينه، لأن نومتنا ستكون بالسيارة.
لحظات مرت، والشاعر الغريب غارق بصمت عميق، أين منه صمت "أبي الهول"، فغيّرت اتجاهي وعدت من حيث أتيت، بعد أن سرق منا الضياع قرابة ساعة من الوقت، تأخرنا بها عن موعدنا المحدد مع كامل المر، الرجل الطيب، الذي ينعتونه بالمرارة ظلماً، وهو يكاد يذوب لشدة "حلاوته"، كيف لا، وقد وجدناه ينتظرنا بالشارع العام على احر من الجمر، لدرجة انه اندفع نحو السيارة قبل ايقافها، وهو يصيح:
ـ ماذا أصابكما؟ اتصلت بالبيت، قالوا: تركا منذ ساعة وأكثر. أين كنتما؟ تكلما.
فأجبته ببرودة زائدة، والشاعر الغريب يتطلع بي ويضحك:
رحنا برحله مهمه كتير
فيها شفاف وفيها خدود
وكان معنا تنين فرافير
يخزي العين عيونن سود
وكيف بدّك عَ البيت نعود؟
فانفرجت اسارير كامل بعد عبوس شديد، وأخذ يرندح بصوت منخفض:
هنيّال اللي عندو رفيق
ما بينساه بوقت الضيق
أما الـ بيرافق شعّار
الأكل بتمّن ليل نهار
مأكد رح يبقى عَ الريق
مجلة الوفاق، آب، ايلول، 1986
**
حنا ومي الطبّاع
صنوان لا يفترقان
اتركوني في زوايا الانطواء
انني أكره نصر الجبناء
هذا البيت من الشعر حفظته وانا بعد في لبنان، ولم أكن أدري أن قائله هو الشاعر حنا الطبّاع، والد الأديبة مي الطبّاع، التي لم تقدر "زوايا الانطواء" من حجب عطاءاتها الكثيرة، التي قدّمتها لأبناء جلدتها المغتربين، المشردين على ارصفة الموانىء، وقاعات المطارات، وكأني بها تثأر لوالدها من "الجبناء" الذين عناهم بقوله:
لم أجد فيكم شجاعاً واحداً
يشهد الحق ويرنو للسماء
والآنسة مي، رغم تمتعها بثقافة عالية جداً، وبموهبة شعرية ورثتها عن المرحوم والدها، مؤسس منتدى عكاظ الأدبي في مدينة "بانياس" الساحل، في أوائل الخمسينات.. فلقد أثبتت جدارتها في الحقل الاعلامي ايضاً، من خلال اطلالتها المشرقة عبر أثير البرامج العربية المتعددة.
وأعترف، امام الله والناس، انها الوحيدة التي فكرت جدياً بتوصيل أصوات أطفالنا الصغار الى كل أذن مغتربة، فعملت على نقل مسرحياتي المسجلة على اشرطة فيديو الى حلقات اذاعية، ينتظرها الصغار والكبار على حد سواء.
أجل، لقد تمكنت هذه الزهرة الكفرحلدية، بحاستها السادسة من معرفة متطلبات الجالية، وانقاذ اطفالها، ولو لدقائق، من مشاهدة البرامج التلفزيونية المقيتة المفروضة علينا وعليهم، إذ نقلتهم من إعلام الاجرام الى إعلام الفضيلة والخير، مطبقة بذلك قول والدها:
الفن للنفس يحييها وينعشها
هذا اذا كنت يا انسان إنسانا
وكم ستنتعش روح شاعرنا اللبناني حنا الطبّاع، حين يعلم ان ابنته مي، بدأت تطلق قصائده الخالدة من اعتقالها الزمني، لترتمي في أحضان النور الذي خلقت له. وها هي تبدأ بقصيدة يقول مطلعها:
سوق من العمر نادانا وأحيانا
عكاظ فيك يطيب اليوم لقيانا
وتأبى إلا أن تهديها "الى جميع الادباء والشعراء والفنانين والصحفيين في المهجر، أولئك الذين يقدسون الكلمة، ويقدرون العطاء الانساني". لأن والدها، رحمه الله، حيّاهم بقوله:
أيرقص الروض إلا حين يسمعنا
ويسكر الشط إلا حين يلقانا
الفجر لم يبتسم الا لبسمتنا
والليل لم يستمع إلا لنجوانا
والتاج لا ينحني الا لرايتنا
سبحان من كرّم الفنان سبحانا
آه.. يا شاعرنا الكبير، لو تعلم كيف يتعامل الناس هنا، لاستثنيت غربتنا من التكريم، فمعظمنا ينطبق عليه قولك:
كلكم يعبد رباً واحداً
هو حب الذات، رب الكبرياء
واذا كنت في شك مما أقول، اسأل ابنتك، تصدقك القول؟ أما ليست هي من ضحت في برامجها الاذاعية الهادفة من أجل خير الناس أجمع؟ فإذا بها تحاصر بالعديد من أبناء قبيلة "حب الذات" على حد قولك. وكيف يستمر عطاء أديبة كمي في غابة يحكمها "رب الكبرياء"؟. ناهيك عن أرباب الثرثرة الفارغة، والحسد، والجهل، والادعاء.
نحن مع مي الأديبة والشاعرة والمذيعة، لأن مي معنا، في أفراحنا وأتراحنا، تتعملق أنّى كانت، وكيفما اتجهت. وفية بين قلائل، آلت على نفسها نصرة أدبائها وشعرائها المهجريين، الذين يرددون صباح كل يوم قول والدها:
وأجمل اللحن لحن صاغه ألمٌ
فجملّي الكون يا آلام دنيانا
مي طباع لحننا الادبي الأجمل، كتبه على صفحة حياته سيد من أسياد الفن الادبي، فلها منا أطيب التمنيات.
البيرق، العدد 589، 17/12/1992
**
ديوان أسرار
أول مرة سمعت فيها الشاعر سمعان زعيتر كانت في حفلة تكريمية أقيمت على شرف الأباتي شربل قسيس رئيس الرهبنة المارونية يومذاك.
وأذكر كيف أن شعر سمعان قد أثّر بي وجعلني أعيش بعالم غير العالم الذي اعتدت أن أعيشه من قبل، فقلت لمن حولي من الرفاق: هذا شاعر بحق.
ومع الأيام توطدت الصداقة فيما بيننا، وأصبحنا نجتمع مداورة، فيسمعني وأسمعه آخر ما جادت به قريحتنا الشعرية، فكنّا والحق يقال، أول رابطة قلمية مؤلفة من شاعرين فقط، كيف لا، ونحن معاً نصحح خطواتنا الأدبية من حيث لا ندري، فأتقبّل منه، ويتقبّل مني النقد بروح رياضية قلما تجدها في هذا المهجر البعيد.
وها أنا حباً بنشر أدبه وتعميمه، تجدني أسهر مع سمعان الليالي الطوال، من أجل اعداد ديوانه الجديد "أسرار" بحلة تليق بأدبنا المهجري الصاعد رغم الوسائل القليلة المتوفرة لنا لطباعة الكتب.
وفي ليلة أنارها القمر ولد ديوان ابن زعيتر الذي ضمنه أسرار حياته من حب وعذاب ولوعة ومواقف سياسية وطنية، ناهيك عن فلسفته الوجودية، وصدق حبّه للآخرين. لنأخذ مثلاً:
بحبك بحبك أكتر من الكل
وعم شوفك بعيني ورد ع الحل
مهما عليي سيوفك تسلّي
من محبتك لا بضجر ولا بمل
أجل، فشاعر مثل سمعان لن يضجر من الحب لأن الحب هو القوة التي تفجّر أحاسيسه الشعرية، فكيف يتخلى عنه، ويستسلم لليأس والحزن والضياع، وفي مملكته الأدبية قاضٍ ينصفه ساعة يشاء:
شكيتك لقاضي العينين
ما حبسك إلا يومين
وبعد اليومين طلعتي
قلب الـ حبّك قطّعتي
من نظره وحده شطرين
الفلسفة الدينية في شعر ابن زعيتر تفوح كما الياسمين في نوّاره، انها تعطّر شعره بعطر الهي، لأنه يدعو الجميع الى التسليم لمشيئة الله تعالى:
صدق ما بيبقى إلا
الرب العالي المتجلى
ونفسك ما بيسوى تذلا
إلا ع محبة ألله
ولا تفرّق بين دين ودين
وهل احلى من هذا التساؤل:
كيف السما بالنور ضاويها
والأرض بالخيرات كافيها
ودودة البـ الصخر خالقها
ألله دخيلو وما قطع فيها
أما اذا تطرّقت الى وطنية سمعان زعيتر وأثرها الفعّال في بوتقة أسلوبه الشعري، فحدّث ولا حرج، لأن سمعان الطفل الذي ترعرع في "بان" القرية الشمالية المجاورة لأرز الربّ، وشرب من مياهها العذبة، وتزحلق على روابيها الغناء، واستلقى على مروجها الخضراء، وتنشق هواءها المنعش، من الصعب أن ينساها حتى وان فاجأته المنية، فقد أوصى الحبيبة:
لا تزعلي وساعة مماتي عيّدي
بس في عندي وصيّة عاطفي
وهالوصيه ما بيسوى تخالفي
ان مت وين ما مت بحياة الوفا
ودّي ادفنيني بـ "بان" حد السيّده
ولنسمعه يناجي وطنه لبنان، ويتعبّد له، كما يتعبّد للباري تعالى:
أنا يا موطني لبنان بحلم
فيك وبعبدك من بعد ألله
وشو نفع الأنبيا والناس كلاّ
بلا أوطان وشعور وموده
وما نفع المهاجر الذي ترك بلاده، وسافر الى آخر أقطار الدنيا إذا لم يتزوّد بمحبة كمحبة سمعان زعيتر لوطنه لبنان.
ديوان "أسرار" سيغيّر مسار الادب المهجري في أستراليا. سينفض عنه الغبار الذي تراكم من إهمال بعض المسؤولين اللبنانيين للنهضة الأدبية، وعدم تشجيع أربابها حتى ولو عن طريق ارسال رسالة تقدير، أو شكر، تكون بمثابة جواب لما تلقوه من كتب.
فإلى الأمام يا سمعان، ووفقك الله، ونحن بانتظار جديدك دائماً.
صوت المغترب 1982
**
تينات جورج هاشم
اذا أردت أن تعرف مقدار محبة أصدقائك، اطلب منهم شيئاً من الصعب تحقيقه، فإن هم حقّقوه، إياك أن تفرّط بهم.
وكما تعلمون فموسم التين لم يأت بعد في أستراليا، ومع ذلك أرخيت ظلّي الثقيل على أخي وصديقي الاستاذ جورج هاشم، وطلبت منه أكلة تين، متى حان القطاف طبعاً، بعد أن سمعت الكثير عن تيناته المحروسة بألف خرزة زرقاء.
وفجأة، أطل الهاشمي اسماً ونسباً، حاملاً إلي فيديو مهرجان الراحل الكبير الشاعر رامز عبيد، وبيده الثانية شيء لم أتبيّنه جيداً، الى أن فلشه أمامي على المكتب، وقال:
ـ لقد جئتك بحبتين (طابعين) من تينتي التي تسبق الموسم بأسابيع، ألف صحتين على قلبك.
لم أصدق أن ما فلشه أمامي تيناً، لأن الحبة منه أكبر من الاجاصة، فرحت أتحسس التينات وأبلّع بريقي، إلا أن ودّعني جورج، فودّعت معه تيناته قبل أن يسبقني إليها جائع.
شكراً يا ابن تنورين، على حبّات التين. آمين.
وما أن نشرت هذا الخبر في موقعي حتى تهافت المعلقون على ابداء آرائهم بالتين وأصحابه وآكليه، فأغدق الشاعر عصام ملكي لقب "بو تين" على جورج، و"بوتين روسيا" علي أنا:
بالنثر قالو.. وقالت الاشعار
ونحنا بشو قالو كلنا قبلنا
بو تين تنورين عنا صار
وبوتين روسيا يا شربلنا
ومن لبنان تمنى الأديب رفيق البعيني أن يأتي الى سيدني كي "يتيّن" معي، فشكرت الله، رغم محبتي له، على انه في لبنان، لأن لا أحد غيري سيتلذذ بتينات ابن الهاشم:
صحتين يا أخي شربل
شوقتنا نتيّن معك "مثل عصفور التين"
وها هو الاعلامي أكرم برجس المغوّش يفضح محبتي للتين، وثرثراتي التي لا تنتهي حول ثماره الشهية:
أعلمني أخي الاستاذ شربل بعيني عن إعجابه بهدية أخي الاديب جورج هاشم "التين " قبل عدة ساعات من نشره للخبر، ونحن ذاهبين للقاء البروفيسور القادم من أميركا جهاد علي مصطفى الاختصاصي العالمي المتفوق بجراحة القلب "ابن بنت جبيل" في الجنوب اللبناني.
وطيلة المشوار الذي استغرق ساعة بالسيارة وشربل يحدثني عن التين، وهل أطيب من التين المبارك: والتين والزيتون وطور سنين وهذا البلد الأمين.
وخوفاً من انتشار الخبر، راح "بو تين" تنورين، الاستاذ جورج هاشم، يهددني يؤنبني على إفشاء سر تيناته، وهذه غلطة أعترف بها، لا بل خطيئة مميتة، لأن أصدقاءه أكثر من الهم على القلب، وكلهم سيهجمون على تيناته، لا سمح الله، ويحرمونني منها:
يا صديقي ويا اخي شربل،
التين في استراليا يُعامل كما قالت حبيبة شاعر:
إذا جئت فانظر شطر عينَيك غيرنا
لكي يحسبوا ان الهوى حيث تنظر.
والتين لا يُشَّهرُ به كما فعل الشاعر العراقي حافظ جميل في قصيدته:
"يا تين يا توت يا رمان يا عنبُ"
والتي غنَّاها ناظم الغزالي ومنها:
يا تين يا خير أثمار البساتين
يا لاوياً جيده فوق الافانين
طل الندى لك مخضل الرياحين
فافتر ثغرك عن ورد ونسرين...
وأخشى لو "هتفت بالتين فاهتزت له طربا" كل قلوب المحبين والأصدقاء فلا يبقى للهاشمي الا التحسر والتفجع والحنين... وإذا انتشر الخبر سأضطر الى عقد مؤتمر صحفي تحت التينات وربما نذيعه من تلفزيون الغربة وأكذِّب الخبر واعتبره مؤامرة خيالية لن تُشبع أحدا من محبي التين. وسأنفي نفياً قاطعاً وجود أي شجرة تين في حديقتي. وإذا سأل احد الصحفيين مشيراً الى الأشجار المثقلة بثمارها: ما هذه؟ أقول شجر اجاص. أتصدقون الشجرة وتكذّبوني.
وحده الصديق جورج ديّوب عرض خدماته التينية علي، وهذا شيء جميل جداً أرجو أن يتحقق بالقريب العاجل، حتى يخفف الضغط عن سميه جورج:
ولو شربل كلنا تحت أمرك وﻻ يغلو عليك شيء إطﻻقا. لا تفتكر انني نسيتك، لكن وقت التين ما زال مبكرا.
وبما أنني لا أقدر على نشر جميع التعليقات لكثرتها، أترككم مع تعليق جديد للصديق أكرم المغوّش يقول فيه:
أخي الاستاذ شربل لازم تعمل شركة تجارية للإعلانات والتسويق، لانك من كوزين تين من تينة الاستاذ جورج هاشم قوّمت القيامة ولم تقعدها!
ولكي أنهي النقاش حول تينات جورج هاشم، أعترف أن لا تين عنده ولا من يحزنون، فقط كم شجرة إجاص، حسبتها تيناً لجهلي بالزراعة.
**
د. بهية ابو حمد
وحفظ الأدب الاغترابي
رسالة من عدة أسطر كنت أرسلتها الى الدكتورة المحامية بهية ابو حمد، مثل كل الرسائل التي ارسلتها من قبل الى عدة مسؤولين من أجل حفظ أدبنا الاغترابي من الضياع، حولتها الى قضية وطنية عربية مشرّفة.
والقصة تبدأ في منتصف عام 2014، عندما أخبرتني الدكتورة بهية أنها مسافرة الى لبنان، حيث ستلتقي هناك ببعض الوزراء والمسؤولين اللبنانيين، فما كان مني الا أن قلت لها:
ـ هناك خدمة جليلة بإمكانك أن تقدميها للأدب المهجري في حال تمكنت من اقناع وزير الخارجية والمغتربين بإصدار أمر حكومي مبرم بإيجاد مكتبة في كل سفارة او قنصلية من أجل حفظ أدبنا الاغترابي.
وبدون أي تردد طلبت مني رسالة رسمية بهذا الخصوص كي تسلمها لمعالي الوزير، فكتبت:
سيدني في 4/6/2014
حضرة رئيسة جمعية إنماء الشعر العامي المحامية بهية ابو حمد المحترمة
تحية لبنانية اغترابية وبعد..
كنت طرحت عليك خلال المقابلة التلفزيونية التي أجريتها معك فكرة ايجاد مكتبة في القنصلية أو السفارة اللبنانية بغية حفظ نتاجنا الادبي المنشور في أستراليا، فهناك المئات من الكتب التي ستضيع، وسيلفها غبار النسيان بعد أن لفّها الضياع والتشتت وموت أصحابها.
إذا وافقوا على تنفيذ هذه الفكرة، أنا على استعداد للتبرع بكل مؤلفات الأدباء الموجودة في مكتبتي زائد الخزانة التي ستحفظ بها.
قد يسأل سائل: ومن سيقرأ هذه الكتب؟
الجواب: هذه الكتب للحفظ وليس للقراءة، انها تراث لبناني اغترابي يشرّف بلدي لبنان، ومن يدري فقد تشد الباحثين الأكاديميين لدراستها وتسليط الضوء عليها.
أتمنى يا عزيزتي بهية أن يلقى طلبي آذانا صاغية.
مع احترامي
شربل بعيني
ولقي طلبي آذاناً صاغية، أولاً من إنسانة صغبينية مثقفة اسمها بهية، وثانيا من وزير الخارجية والمغتربين المهندس جبران باسيل، الذي عمم القرار على باقي السفارات اللبنانية، ومن القنصل العام جورج البيطار غانم، لتشرق في قنصليتنا العامة في سيدني أول مكتبة من نوعها بتاريخنا الاغترابي على كافة بقاع الارض، تحتوي على أكثر من 450 كتاباً حتى الآن، كلها من نتاجنا هنا. والجدير بالذكر أن رئيسة جمعية انماء الشعر هي التي تبرعت بثمن الخزانة، وليس أنا كما هو مذكور في الرسالة، فألف شكر لها.
وليس هذا فحسب، بل ان "البهية" لم تكتفِ بحفظ الأدب اللبناني من الضياع، بل حملت الفكرة الى باقي القنصليات والسفارات العربية، لتشرق بالقنصلية العراقية في سيدني ثاني مكتبة لحفظ الادب العراقي المهجري، وأتمنى أن يرسل شرفاء الكلمة العراقيون كتبهم الى القنصلية بأسرع وقت ممكن.
واليكم الخبر المفرح كما وصلني:
"بتاريخ 25 / 8 / 2015 ضمن سياق مبادرة المحامية الدكتورة بهية ابو حمد، استلمت قنصلية العراق العامة في سيدني المكتبة الخاصة لحفظ الكتب واﻹنتاج الأدبي والشعري والثقافي للشعراء والكتاب والمثقفين العراقييين، جرى بحضور سعادة القنصل العام لجمهورية العراق الاستاذ باسم عباس داود، وكافة موظفي القنصلية، حيث اشادت الدكتورة ابو حمد بتكريم معالي وزير الخارجية الدكتور ابراهيم الاشيقر الجعفري ودعمه للثقافة والشعر والفكر والادب، وتشديده على أهمية التواصل بين العراق المقيم والعراق المنتشر. كما اشادت بجهود القنصلية العامة للحفاظ على التراث والشعر والأدب بين الوطن المقيم والمغترب، واﻹنتاج الأدبي والشعري والثقافي العراقي، واعربت عن املها بنجاح هذه التجربة وبالاخص كونها ستشمل جميع البعثات الدبلوماسية العربية في استراليا واﻹغتراب، كما شكرت السلك القنصلي العراقي وجميع الحضور على دعمهم ومساعدتهم لها. وبهذه المناسبة اعلنت ابو حمد عن استعدادها الدائم لخدمة العراق.
وبعدها اشاد سعادة القنصل العام بكلمة مختصرة بجهود الدكتورة ابو حمد لهذة المبادرة وانها تستحق منا كل الاحترام، متمنينا لها النجاح بمشروعها المتضمن حفظ النتاج الثقافي والشعري للجاليات العربية في استراليا. علماً ان الدكتورة ابو حمد والشاعر الاستاذ شربل بعيني بصدد تقديم مجموعة من الكتب لادباء وشعراء عراقيين في استراليا لغرض حفظها في المكتبة".
وليس هذا فحسب أيضاً، بل أن "شمس صغبين" وعدت بإيجاد مكتبة في كل بعثة عربية في أستراليا.. فكيف لا أصفّق لها، وكيف لا أرفع لها قبعتي، وكيف لا أمنحها جائزتي، وكيف لا أمدحها وأشكرها؟
فكرة بسيطة رميتها في أذنها، تحولت الى قضية وطنية تهتم بها الوزارات العربية، وتكرّمها عليها، أفلا يحق لي أن أطالب بمنحها وسام الاستحقاق اللبناني؟ بلى والله، لأنها تضحي بالوقت والمال من أجل تحقيق فكرة أطلقها لسان إنسان متألّم في بلد ما، وزمن ما.
هناك أناس كبار عملوا بصمت من أجل تذليل غربتنا، إن كان اجتماعياً او انسانياً او أدبياً أو فنياً او فلكلورياً وما على لبنان وباقي الدول سوى تكريمهم، والويل الويل لأمة لا تكرم مبدعيها.
بهية أبو حمد، وبدون أي لقب، حماك الله، ولك مني ألف خرزة زرقاء.
**
سامي عمّون.. شكراً
سامي عمّون.. شاب لبناني طموح، حملته رياح الإغتراب الى السويد، فلم يتقوقع كما تقوقع الكثيرون في غربتهم، بل امتشق المعرفة الالكترونية بيرقاً ليصمّم موقع "قدموس" الذي منه انطلقت مسيرتي مع الاعلام الرقمي منذ أكثر من 15 عاماً.
ليبانوس هذا، وهو الاسم الذي اختاره لنفسه وشرّفه، صمّم كتبي الالكترونية التي تقرأونها أينما وجدتم، كما أنه علّمني كيفية التعامل مع الثقافة الضوئية رغم بلوغي، يومذاك، الخمسين من عمري.. وكان لا يخفي إعجابه بي إثر كل نجاح أحقّقه.
لهذا، اعترف أمامكم أن موقع "الغربة" ما كان ليكون لولا سامي عمّون.. فمن "قدموسه" كانت بدايتي، وبقدموسه ستستمر رحلتي مع الاعلام الضوئي.
البارحة استلمت منه هذه الرسالة المشجعة، ففرحت بها فرح التلميذ بتقريظ معلمه، واليكم ما كتب:
تفرحني دائما كتاباتك لي، وكتاباتك للعالم. نعم، صعبة. الاعلام صعب خاصة اذا كان الهدف نبيلاً. كثيرون هم الناس الذين يحبون الصراخ والدوران في حلقة فارغة لا تؤدي الى شيء. لذلك افتخر أخي شربل بعيني انك رغم سنواتك الإثنتين وستين، لا تزال وكأنك من قلب الروح الثائرة التي قرأتها في كتاباتك الاولى.
أعايدك من كل قلبي، والرجاء ان نلتقي يوما في لبنان أو السويد. لا أحب الطيران، لذلك أهلا وسهلا بك في السويد. هنا الصيف يبدأ في حزيران وينتهي في تموز. أحتفلنا بالعيد في جو بارد في آخر آذار ولكن الفرح كان دافئا باجتماع الجالية اللبنانية الصغيرة هنا.
كما يقولون، سيرة وانفتحت، قال لي شيخ جليل في التاسعة والثمانين البارحة في مجلس عائلي، على فطرة جبلية، "ولماذا لا يتفقون بكل بساطة أنه في السنة الاولى يحتفلون بالعيد على التوقيت الغربي، وفي السنة التالية يحتفلون على التوقيت الشرقي، وهكذا لا يكون غالب او مغلوب ويرضى الجميع".
هل يمكن ان يكون هذا موضوعا تتناوله كالعادة بتمردك المعهود؟
سامي عمّون.. اسم لم يمر بخاطري مرور السحاب في فصل الصيف، بل أمطر فضلاً كثيراً، لذلك سجلته، اي الاسم، نثراً وشعراُ ونقشته على جميع الشاشات الضوئية.. فاحفظوه جيداً، ومجدوا العطاء اللبناني عبر القارات.. من السويد الى أستراليا.. ومن أستراليا والسويد الى الوطن الحبيب لبنان.
أخي سامي.. شكراً.
**
نزار حنا الديراني
ينقل شعري الى السريانية
عام 1987 التقيته وجهاً لوجه في المربد الشعري في بغداد، وعام 2015 اجتمعنا معاً في كتاب يخلّد صداقتنا الى الأبد.
صورة وحيدة جمعت بيني وبين هذا الشاعر السرياني العراقي الكبير، مازلت أحتفظ بها، رغم قدمها، لتدركوا أن الصداقة المبنية على الاحترام والتقدير لا تموت. وكيف تموت وقد رافقتها الكلمة؟
”شربل بعيني ومعاناة الهجرة“ آخر كتاب للشاعر والأديب نزار حنا الديراني، أحد أشهر الاقلام السريانية في العالم، نقل به شعري إلى لغة تاريخية، فريدة، وخالدة، إلى لغة أبدع هو بها، فأهداها لي في 124 صفحة، مع رسوم معبّرة. والجدير بالذكر أن الديراني انتقى القصائد من جميع مراحل حياتي، من يوم كنت في بداية مشواري الشعري، أي في سني المراهقة، مروراً في الأربعينيات وانتهاء بآخر ما كتبت.
صحيح أن هناك تفاوتاً في مستوى قصائدي، بسبب الخبرة، ولكن الديراني أصر على أن يعرّف القارىء السرياني على شعري، كما تُعرّف الأم وتفتخر بمراحل نمو طفلها أمام عينيها. هكذا ولدت أشعاري، وهكذا كبرت، وهكذا شاخت وتعتقت، انها الحياة ومن يتلاعب بها ستنكره الى الأبد.. لا بل سيغش القارىء والناقد.
وبما أن الديراني يعيش بعيداً في قضاء زاخو في كردستان، تسلّم أول نسخة من كتابه القيم، من كان السبب في لقائنا الثاني عبر الانترنت، انه الدكتور الصديق موفق ساوا، وها هو الديراني يعترف بفضله في احدى رسائله الى الي:
"أخي وزميلي العزيز شربل بعيني
اشكر الله والزميل موفق ساوا لان اوردتنا وشراييننا قد اتصلت بعضها بالبعض الاخر لتربط قلبينا من جديد، صدقني حين نشرت صحيفة عينكاوة دوت كوم مقالاً لصديقك الذي اشار باني ترجمت قصائدك اتصلت بالاخوة ليرسلوا لي ايميلك او من كتب الخبر لاتصل بك ولكن لم احصل على نتيجة، وحين قدمت الى استراليا مشاركا في ملتقى ثقافي سرياني في ملبورن ومن ثم القيت محاضرة وقصيدة و.. سألت هناك عنك وكذلك في سدني بعض الاخوة اللبنانيين وعدوني بانهم سيزودونني برقم هاتفك ولكن لم احصل عليه، لذا شكري الى الله اولا والى الزميل موفق الذي استطاع ان يعيد مجرى حبنا الى قناته الطبيعية".
قد أكون محظوظاً في السابق يوم ترجموا أشعاري الى الانكليزية والفرنسية والاسبانية والاوردية والفارسية، ولكنني اليوم أكثر من محظوظ، فلقد ترجمت أشعاري الى لغة أجبرت على تعلمها في صغري، كي أقرأ السنكسار الى جانب جدي ووالدي في كنيسة مجدليا، وكي أفرح قلب جدي جرجس مارون العلامة الذي تحتفظ بمخطوطاته السريانية معظم الكنائس اللبنانية.
لن أشكرك يا أخي نزار بمقال، ولا بقصيدة، بل بقبلة أخوية أطبعها على جبينك الشامخ، مع همسة في أذنك: شكراً أيها الصديق المخلص.
**
الثرثارون الفئران
الثرثارون في الجالية يتكاثرون كالفئران، ويحملون طاعون النميمة الى مجتمعنا الاغترابي الآمن البريء.
إنهم أشر خلق الله، وألعنهم على وجه الأرض، ومع ذلك يتفاخرون بهيئاتهم البشعة، وبوجودهم الكريه بيننا.
منذ أشهر قررت أن لا أتلقى مكالمة هاتفية من أي شخص كي لا أسمع ما يغيظني، وكي لا أعطي المجال لأي كان بغية زرع نميمته على أناس اختلف معهم في اذني، وراحت عوامل كرههم تدب في مفاصله.
لقد قررت أن أبتعد عن هذا الجو الموبوء الذي دمّر حركتنا الأدبية في أستراليا، بعد أن دمّر جاليتنا.
اليوم اتصل بي شاعر أحبه وأحترمه، وسألني أسئلة أدمتني في الصميم، وقال لي أن أحدهم زجّ باسمي في مسألة ما، لا يحق لي أن أذكرها، احتراماً وتقديراً مني لأصحابها، فجنّ جنوني، وسألته: وأنت ماذا تقول؟
فأجاب ببراءته المحببة: شربل بعيني لم ينقل لي كلمة واحدة عن لسان انسان آخر، إلا الكلمة الجميلة المشجعة، ولهذا لم أصدق الكلام الذي نقل لي.
وللحق أقول أنني لم أسمع أية كلمة سيئة بحق شاعر آخر من فم صديقي هذا، لا بل كان يصفنا "بأيقونات أدبية"، كما أنني لم أسمع أية كلمة سيئة من الشاعر الآخر الذي نكن له كل محبة واحترام. لذلك لن ينجح المصطادون بالماء العكر.
هذه هي الحقيقة التي يعرفها الجميع في أوساطنا الأدبية، لذلك اسمحوا لي أن أقول بالفمّ الملآن، إن كل من يزج باسمي في مشاكل الجالية، أو ينقل حرفاً واحداً كاذباً عن لساني، سأنشر اسمه وصورته على صنوبر بيروت، وسوف لن أرحمه على الاطلاق. فأوقفوا النميمة قبل أن تقضي عليكم.
عيب.
**
إلى الملكة ماري مهاجر
بينما كنت أتابع نشرات الأخبار الأسترالية، وجدت أن خبر فوزك يتنقل كالنار من نشرة الى نشرة، ومن برنامج الى برنامج، ورغم التكهنات التي كنت أسمعها، كانت عيناي معلقتان بك، بجمالك الأخّاذ، وبتواضعك الملفت للنظر، خاصة وأنت تقبلين يد والدك وتضعينها على رأسك، وأنت في قمة نشوتك وانتصارك، حيث تضيع الأعراف، ويبدأ الغرور.
قبلتك على يد والدك أثبتت أنك أكبر من التاج، لأنك وضعتها كتاج على رأسك، وكأنك تقولين للعالم أجمع: محبة أهلي هي أثمن ما أملك.
قبلتك يا ماري ذكرتني بما فعلته ملكة جمال تايلاند كانيثا فاسينج، الشابة البالغة من العمر 17 عاماً، فلقد ارتمت بتاجها المرصع بألماسات فيروزية ثمينة عند قدمي والدتها عاملة النظافة، وجامعة القمامة (الزبالة)، أمام الكاميرات، اعترافًا منها بعرفانها عليها وكم عانت لتوفر لها ولإخوتها لقمة العيش.
هكذا تتصرف الملكات الحقيقيات بعد تتويجهن، وقد تصرفت أنت كملكة جمال وأخلاق وانسانية، ولهذا كانوا يعيدون نشر فيديو قبلتك الشهيرة على يد والدك، لا حبّا ولا كرها بك، بل من أجل ارسال رسالة الى كل الابناء والبنات، مفادها: كونوا مثل ماري مهاجر وكانيثا فاسينج، متواضعين، محبّين، واثقين من أنفسكم، وأوفياء لأهلكم.
أسمع أن والدك غني والحمد لله عكس أم ملكة تايلاند، ولكن هناك شيء مشترك يجمع بينهما، ألا وهو السهر على تربية عائلتيهما، وزرع روح المحبة والاخلاص في كل نبضة من قلوب أبنائهما وبناتهما.
لو كنت من لجنة الحكم، لأعطيتك عشرة على عشرة على الجمال، ومليون على عشرة على الأخلاق. ألف مبروك.
**
روميو عويس
وكتاب نحن وشربل بعيني
ما ان استلمت النسخة الأولى من كتاب "نحن وشربل بعيني" للأديبة هدلا القصّار وللشاعرين محفوض جرّوج وروميو عويس، حتى حملتها بتأنٍ بالغ الى مستشفى "ويست ميد" حيث يرقد طريح المرض الشاعر روميو عويس.
وكم كانت فرحته عظيمة حين رميت الكتاب بين يديه وقلت له:
ـ الف مبروك، هذا أول كتاب لك يرى النور، ولا يحق لأحد أن يراه قبلك.
فما كان منه إلا أن قال:
ـ هل وصل الكتاب الى المبدعة هدلا القصّار والكبير محفوض جرّوج؟
فأجبته:
ـ سأعمل المستحيل كي يصلهما الكتاب، وإلا سأرسله لهما إلكترونياً.
فطلب مني أن أنقل لهما محبته، وفرحته لأن ما جمعه بهما سيخلد هدلا ومحفوض وروميو الى الأبد.
وما أن قلّب صفحات الكتاب حتى هبّ واقفاً من الفراش، وزالت عنه الحرارة، وقال:
ـ تعال نجلس في صالون المستشفى، هناك ستصورني جالساً وأنا أحمل الكتاب.
وللحال ارتسمت على ثغره الحبيب أجمل ابتسامة، أطلب من الله أن تدوم وتدوم الى الأبد.
وكتاب "نحن وشربل بعيني" يصدر ضمن نشاطات جائزة شربل بعيني لعام 2016، كما سيصدر كتاب "الفائزون عام 2016" ويحتوي على لقاءات مع الفائزين العشرة. كما صدرت دراسة قيمة للأب يوسف جزراوي بعنوان "شربل بعيني رسّام الكلمات"، وكتاب "ترانيم" مع "سي دي" بصوت المرنمة ميرنا نعمه.
أخيراً أتمنى للصديق الشاعر روميو عويس الصحة والعافية. وأن يخرج من المستشفى معافى بإذن الله.
**
تين + تين = جورج ديّوب
اتصل بي الصديق العزيز جورج ديّوب وطلب مني موعداً من أجل أن يحدثّني بمشروع أدبي هام، فقلت له: أنت لست بحاجة الى موعد.. أهلا بك في كل حين.
وفجأة وقف أمام باب مكتبي وبيده هدية خلتها بمناسبة عيد ميلادي، فصحت بأعلى صوتي:
ـ ماذا تحمل يا جورج؟.
فأجاب:
ـ صحن تين "بويضي" صغير، من النادر أن تجده في أستراليا، يقولون عنه في لبنان "تين شكّاوي" أي من منطقة شكّا.
تطلعت بالصحن مرة ومرتين وثلاث مرات وقلت:
ـ وهل هذا صحن صغير؟
فأجاب:
ـ أنت تستأهل أكثر
فما كان مني الا أن ارتجلت:
جايي وجايب صحن كبير
تسلم يا جورج ديّوب
متل تينك ما بيصير
ومتل قلبك ما في قلوب
وألف شكر يا حبيب القلب وكل موسم وأنت بألف خير.
**
عيسى القنصل
يناجي مسقط رأسه
الشاعر الأردني المهاجر عيسى القنصل، حوّل مسقط رأسه "مادبا" الى سيدة جميلة، لم يرَ رغم اغترابه الطويل في الولايات المتحدة الاميركية أجمل منها، فأسمى ديوانه الأخير "مادبا.. سيدتي الجميلة"، وراح يخاطب أهلها بهذه العبارات الحزينة: "منذ أربعين عاماً وأنا في انتظاركم، طرقت كل باب من أبوابكم بقصيدة شعر ومقالة انتماء.. وبكلمات حب.
كنت مؤمناً بأنني سوف ألقاكم، وأنزف بينكم عاطفتي، وأشعاري، لتصبح أمنيتي بالرجوع اليكم حديقة العطاء الذي من خلالها أقطف ثمرات انتمائي لكم".
هكذا خاطب أهلها نثراً، اما بالشعر فلقد ابدع:
أحبائي..
طيور الفكر تحملني
لبيت كان يجمعنا
وصوت الوالد الشحون بالود
يحدثنا..
وبعض الفحم ينقذنا من البرد
وعين الام صامتة
تراقبنا.. فمن قرب ومن بعد
ارى امسي.. بلا رعب
بلا الم بلا جسد بلا حقد
فرغم الفقر ما جعنا".
صدقت والله يا شاعري الكبير، فما من انسان جاع في بلده، وقرب أهله، ولولا التقلبات السياسية لما هاجرنا، وانسلخنا عن "مادبا" ولا عن "مجدليا" قريتي الحبيبة، وباقي قرانا ومدننا العامرة بالنخوة والحب.
وأعتقد، لا بل أجزم، أن الحنين الى "مادبا" يجلد شاعرنا عند بزوغ كل فجر بسوط من نار:
فراغ هائل ينمو
بأعماقي..
ولسع النار تأكلني
وتحرقني باشواقي
وحولي ساحة كبرى
بها حمم
بلا روح واحداق
ودمع العين نلزفة
بصمت مزعج قهرا واحراقا
ولكي يرضي "مادبا" نراه يفتش عن الكلمات الحنونة، كما يفتّش المغروم عن زهرة ليهديها الى حبيبته، فلنقرأ كيف ناجاها:
"أنا يا مادبا إبنٌ
تراني في ليالي الجرح منتحباً
حنانك يمسح الدمعات من عيني
لذا أبقى مع الأحزان أعشقها
ففي حزني
أراك قريبة مني".
هذا قليل من كثير ابن الاردن البار شاعرنا الحبيب عيسى القنصل، الذي رافق رحلتنا مع الاعلام منذ بدايتها، فلقد كان يرفدنا بأجمل قصائده، حتى صار صوتاً رائعاً من أصوات "غربتنا"، فله منا كل الحب والتقدير. والى مولود شعري آخر بإذن الله.
**
عزيزي السانتور
شوكت مسلماني
عندما يصل انسانٌ ما الى مركز حكومي مرموق، عليه أن يعمل بإخلاص لخدمة المجتمع الذي يعيش فيه، احتراماً لشخصه أولاً، وللمركز ثانياً، ولثقة الناس به ثالثاً ورابعاً.. وعاشراً.
ومنذ دخل السانتور شوكت مسلماني برلمان ولاية نيو ساوث ويلز، وأنا أراقبه عن كثب، وأتتبّع خطواته خطوة خطوة، فما وجدته إلا علماً مرفرفاً في علياء جاليتنا، يرفعها بتواضعه، ويعطيها دون منة.
غيره تلهى بالصفقات التجارية، وبسرقة أموال الشعب، فأذلّنا بوساخة أعماله النجسة، ونبذه مجتمعه.
أما السانتور مسلماني فقد تلهّى بتكريم الآخرين من جيبه الخاص، وبنصرة قضايانا اللبنانية والعربية، غير عابىء بلومة لائم، همه فقط ارضاء ضميره، وإبقاء كفّه ناصعاً كثلج بلاده.
البارحة حضرت احتفال تكريم شخصيات أبوردجينية فذة، من خلال جوائز تقديرية أوجدها السناتور مسلماني، ليقول للشعب الأسترالي الأصلي: هذه بلادكم، ونحن ضيوفكم.
وليقولوا له بلسان شاعرنا العربي:
يا ضيفنا لو زرتنا لوجدتنا
نحن الضيوف وأنت رب المنزل
كما أوجد جائزة الاعلام الاثني التي سيوزعها الشهر القادم في برلمان الولاية، لا لشيء، إلا ليثبت أن هذا الاعلام أعطى أستراليا بصدق مثله مثل الاعلام الاسترالي، لا بل أكثر.
وبالمناسبة، أحب أن أستبق ثرثرات بعض المغرضين، وأخبرهم أنني غير مرشح لتلك الجائزة. فاحترام السانتور مسلماني لي هو الجائزة الكبرى.. فلا داعي للتعليقات السخيفة إذن.
أجل، نحن في الغربة، نسلط الاضواء على تحركات السانتور، لان معظم نشاطاته مشرفة وترفع الرأس، فكونوا مثله، وخذوا منا أكثر مما نعطيه، وهذا وعد.
كم كنت أتمنى أن أكون حاضراً حفل توزيع جوائز الاعلام الاثني، المزمع إقامته في الحادي عشر من شهر تشرين الثاني ـ نوفمبر، ولكني مرتبط، وللاسف، باحتفال عائلي لا يمكنني الافلات منه.
أخي شوكت، هكذا بدون ألقاب، اسمح لي أن أقول: طوبى للبطن الذي حملك، وللثديين اللذين ارضعاك، لأنك كنت الأصيل ولم تكن المزيّف، كنت الجميل ولم تكن المشوّه، كنت الشريف ولم تكن التافه النذل.
حماك لله.
**
شاعران وقصيدتان
الشعر هو الشاعر لغة وموسيقى..
هذا القول نشرته في كتاب "خواطر" منذ أعوام، وما زلت مؤمناً به، لأن الشاعر وجد قبل الشعر وأوزانه وموسيقاه وطريقة كتابته، وله وحده حرية، لا بل كيفية التعبير عما يجول في مخيلته دون خوف من أحد.
منهم من يكتب بالعامية لأنها أقرب الى الناس، ومنهم من يمتطي حصان الفصحى كي يصل شعره الى دول عربية قد لا تفهم لهجته العامية.
ومن أغرب ما قرأت قصيدة للشاعر شربل نسيب الياس أستاذ اللغة الفرنسية في جامعة باريس السوربون أبو ظبي. نشرها في مجلة "صوت الشاعر"، التي أهداني مجلدها السنوي الشاعر المهجري عصام ملكي. والتي يشرف عليها الشاعر الصديق روبير خوري، حاول فيها أن يظهر أن الحروف التي يبدأ بيته الشعري أو ينهيه بها ستكون مماثلة، وهذه شطارة يشكر عليها، ولكنه ابقى قصيدته ضمن النمط الزجلي المعروف. وما عليكم إلا تلاحظوا كيف بدأ أبياته بحرف "الباء" وأنهاها بحرف "الميم":
بين الوطن والبعد والاحكام
باقة حنين لضيعتي وأحلام
بضيعتي مي وعسل وكروم
بيبقوا ببالي ع مدا الايام
كما قرأت قصيدة ثانية بالفصحى للشاعر عبدالله ابي عبدالله افتتح بها احتفال حديقة الشعراء، هي أقرب الى المعلقات منها الى القصائد، بعد أن تجاوز عدد ابياتها الخمسين، ولست أدري كيف تمكن الشاعر من القائها كاملة دون أن يخسر صوته أو يغرق المستمعين بالملل، رغم صياغتها الجيدة، وصورها الرائعة. وإليكم مطلعها:
أهلاً بكم يا سادة الأقلام والأدبِ
يا نخبة القوم وتلاعلام والأدبِ
ألعينُ ترنو وفد هبّت لرؤيتكم
والقلبُ يرقص مزهواً من الطربِ
الملفت للنظر أن لا الشاعر ولا مجلة صوت الشاعر أطلقت على القصيدة لقب "معلقة"، احتراماً منهما لرأي القارىء، وكي لا يقال انهما يفرضان رأيهما عليه.
**
القصيدة التي كتبها
ولم يكتبها فؤاد نعمان الخوري
بينما كنت غارقاً في التفتيش عن مقالات كتبتها ورقياً، ولم ترَ النور الكترونياً، وجدت هذا المقال بعنوان: "القصيدة التي كتبها ولم يكتبها فؤاد نعمان الخوري" نشرته في جريدة "صدى لبنان"، العدد 622، 29/11/1988، وأليكم ما كتبت:
"قبل أن أخبركم قصّتي مع ديوان فؤاد نعمان الخوري "بين تذكرتين" سأنقل اليكم كلمة الاهداء التي خصّني بها، لتدركوا سر "تشرقطه" السريع في هذه الجزيرة البعيدة، وكيفية تعامله مع زملائه:
"الى الصديق الشاعر شربل بعيني، الذي رفع اسم الأدب اللبناني الى مصاف الاسماء العالمية، ومهّد الطريق للكتابة والطبع في هذه الجزيرة المعلقة "بكعب الأرض".
وصدّقوني ان هذا الكلام اعادني بالذاكرة الى ماضي اثنتي عشرة سنة، يوم قررت طبع ديوان "مجانين" عام 1976 في استراليا، وكيف طار صوابي عندما اكتشفت ان عامل المطبعة قد احدث مجزرة في ارقام الصفحات بعد جمع الكتاب وتكبيسه، ودفع تكاليفه كاملة. وهات يا سهر، ويا تصحيح، ويا أدب!.
من عادتي، وأنا أطالع ديواناً شعرياً، أن أدوّن الصور المضيئة فيه على ورقة صغيرة، كي ازرعها فيما بعد في خلايا الكلمة التي سأتناول بها الديوان.
ولكم كانت دهشتي عظيمة عندما اعدت قراءة الابيات التي انتقيتها من ديوان "بين تذكرتين" للشاعر فؤاد نعمان الخوري، ووجدتها تكوّن، بعفوية بالغة، قصيدة شعرية متينة السبك، مبتكرة القصة، وذات صور شعرية قلّما تزينت بها قصيدة واحدة، أو "شبرأت" شبابها.
كيف حدث ذلك.. لست أدري؟
كل ما ادريه، هو انني لم أكتب حرفاً واحداً في هذه القصيدة، كما ان الشاعر فؤاد نعمان الخوري، الذي نزف ابياتها في أكثر من عشرين قصيدة، سيقرأها باستغراب شديد، وقد "يعقد" ما بين جفنيه ويصيح: ما هذا يا شربل؟
وبالطبع، فسأجيبه وضحكتي تفقع مثل قنينة شمبانيا نقفوا فلينتها: الحق ليس علي يا فؤاد، بل على ما تضمنّه ديوانك من ومضات شعرية خلابة، ابت ان تتشرذم وتتيتم اثر انتقائي لها، فاصطفت، وتوحدت، وتقولبت في قالب قصيدة اسميتها "قومي افتحيلو":
ـ1ـ
لمن بيكون الليل قمريه
ووحدك مسرّب من السهريه
بتسمع ضرب معدور بالوادي
وسحبة عتابا وصوت قرّادي
واللوز والتفاح ردّاده
.. وفي صبي تاكي على التسعين
طالع على صنين
وتعمّد بحالو
ما ضوولو شمع.. قالوا:
مجنون عم يلعب مع خيالو
شاف القمر
دبوس عم يلمع بشعر الليل
ومن يومها حب القمر والليل
ولملم الكلمات وعمل فرقه
تا يقاتل خيالو على الورقه
ولمن كتب سطرين
زتّ حالو بين الهلالين
"قومي افتحيلو: مدنّق من البرد
وطالع خواتو
قومي افتحيلو: كل تلج الجرد
عقّد ع ديّاتو"
ـ2ـ
وطل بعد غياب
والحزن مزراب
وزيّح بطبشورة تلج ع الباب:
ـ كان الشتي شبيني
والعاصفه الزينه
والخاتم
جنون الختم ع صفحة جبيني
وبالبال
جبنا طفال
شلطوا عيونن كلل تا يلعبوا
وعم ياكلو خبز الخيانه ويكتبوا
وانطرت تحت السما جمعه بعشر سنين
موعود فيهن يجوا لعندي قبل تشرين
وصرخت لما التلج شفّق مع كوانين:
يا تلج طفّي اللهب بقلوب محرومه
وقلّن ع كتر السهر رح تنعس نجومي
وكلما قعدت اكتب شعر عند الغياب
ولا اهل لا اصحاب
متل المسا الراجع على الغابات
ازرع عيونك بالحقول
واحصد الخيبات من كل الفصول
ـ3ـ
قومي افتحيلو..
سكران، تحت الشتي عم يحسب قداحو
والدرب ملعب عريض بتلمع زياحو
وحزنك شتي تاني
وحزن الشتي عيانه
بكرا القمح بيطلع
بحقول الغناني
والشوق عمرو سنه وعمر المحبه نهار
وبينك و"بينو" سهر ومعاتبه واشعار"
ـ4ـ
قومي افتحيلو..
كان راعي بزغرتو
والمدرسه ما نطرتو
عليه غبار من هاك الحفافي
بيمشي كتير.. ما بعد المسافه
عصفور الحقاله
حلمو عريشه ما لها سقاله
وورد الطفوله لحاف ابيض ما انغسل
جيتي وختمتي العمر بالشمع العسل.
ـ5ـ
قومي افتحيلو..
اليوم صار يعنّد الشروال
ويغبشو عيونو
وعم يسرج حصان السفر خيّال
تلجت على جفونو.
والآن، بعد ربع قرن، من قراءتي لذلك الديوان، اسمحوا لي أن أرفع كأسي عالياً وأهتف: كاسك يا بو طوني.
**
أصدقائي الكبار
ورحلتي مع الكلمة
بينما كنت أقلّب في أرشيفي بحثاً عن مقالات لم تنشر إلكترونياً بعد، وجدت خبراً ساخراً كتبه المرحوم بطرس عنداري على الصفحة الأخيرة من جريدة "الشرق" التي أصدرها في سيدني، يدافع به بطريقته الخاصة عن شربل بعيني، واليكم ما كتب في العدد 86، الصادر في 6/12/2000:
"رفع عدد من الشعراء شكوى عاجلة الى كوفي عنان مطالبين بجلسة طارئة لمجلس الأمن الدولي لبحث موضوع منح الشاعر شربل بعيني لقب "أمير الادباء والشعراء اللبنانيين في عالم الانتشار"، وقد وعد عنان بمعالجة الموضوع الخطير، والنظر فيه عاجلاً خلال الألفية الثالثة".
وتحت عنوان "علي بعيني" كتب الشاعر الصديق شوقي مسلماني خبراً مسليا في العدد 12 من مجلة "أميرة"، كانون الثاني 2001، جاء فيه:
"عندما كان الشاعر شربل بعيني ينظم ديوانه عن الامام علي بن أبي طالب سمع الشاعر فؤاد نعمان الخوري يطلق على صديقه شربل اسم: شربل علي بعيني".
ومن الأشياء التي لم ترَ النور شهادة ما بعدها شهادة من "بيّاع الفرح" الشاعر فؤاد نعمان الخوري، الذي لا يعرف قلمه سوى تشجيع الآخرين، فلقد قال في حديث أجرته معه جريدة "صوت المغترب" العدد 1952، 31/10/1991، هذه العبارة التي تغني عن ألف مقال:
"شربل بعيني قام بمحاولة جيدة في "مناجاة علي"، حيث اخذ الزجل ليحتك بقضايا جديدة في الفلسفة والمصير والكون.. هذه الخطوة بحد ذاتها مباركة".
ومن أستراليا ننتقل الى لبنان حيث نشر الدكتور المرحوم عصام حداد في جريدة الأنوار اللبنانية ، العدد 12636، 24/6/1996، مقالاً بعنوان "الحنين يفتح الكتاب ويقرأ نبض القلب" استهله بالعبارة التالية"
"بعدما قال الشاعر المغترب شربل بعيني للعائدين: هاتوا لي معكم كمشة تراب من ارض "مجدليا" حتى اذا مت في غربتي، ضعوها في تابوتي، ليمتزج ترابي بتراب لبنان.. الآن الآن اخلي ها هنا كل مباهج الكون، واطير الى بلادي، بلاد الحب والسحر والمجد والضياء".
لقد رحل اثنان من أصدقائي: بطرس وعصام، رحمهما الله، وبقي اثنان: شوقي وفؤاد، أطال الله بعمريهما، ولكن الابقى أبد الدهر هو ما دونته اقلامهم بمداد محبتهم.
أشكر الله الذي منّ عليّ بمئات الأصدقاء الكبار، الذين زيّنوا حياتي بمحبتهم، وأخذوا بيدي خلال رحلتي مع الكلمة، فلهم أنحني.
**
مات الأديب عصمت الأيّوبي
رسالة الكترونية قصيرة استلمتها من ابن أخته الصديق حسن ابراهيم تقول: مات خالي عصمت الأيّوبي، أعادت الألم الى صدري، ذلك الألم الذي عانيت منه الكثير، وأجبرني على الابتعاد عن الندوات الأدبية، والاجتماعية، والناس أجمع، خوفاً من أن يصطادني على حين بغتة، ويرميني أرضاً.
أجل، لقد تألمت طوال الليل، ورحت أبكي وأصلي، كي يرحمه الله، وكيف لا يرحمه وقد كان ملاكاً يسير بثوب انسان.
وقد يتعجّب البعض من عنوان مقالي "مات أبي وأخي وعمي وصديقي الكبير"، فدعوني أشرح لكم ببساطة متناهية:
لقد تعرّفت على الاستاذ عصمت الأيّوبي في إحدى مكتبات سيدني العربية، كنت وإياه نفتّش عن كتب نقرأها، فلقد كنا مولعين باقتناء الكتب، فاقترب مني وعرّفني بنفسه:
ـ عصمت الأيّوبي، مهاجر جديد من لبنان.
كان يتكلم وهو يقبلني ويغمرني بمحبة لم أشعر بها من قبل.. فأدركت للحال أن الله قد وهبني صديقاً كبيراً.
ومرّت الأيام، وتوطدت الصداقة، والزيارات العائلية، حتى أوقعني الحب في بيته، الذي عشت فيه لأكثر من 16 سنة، فوجدت العم أولاً، والأخ ثانياً، الى أن أدركت أن عصمت الأيوبي أكبر من صديق، وأعظم من عم، وأحن من أخ، فلقد كان بمثابة الوالد لي، وبتنا لا نفترق أبداً، الى أن ظلمنا القدر.
صحيح أنني ابتعدت عنه بالجسد، ولكنه بقي في قلبي، ينبض مع نبضات قلبي، وكنت أتجسس عليه عبر أصدقائنا المشتركين، خاصة وقد ودعته بعد أيام من خروجه من المستشفى.
ـ كيف حال عصمت؟ هل تحسنت صحته؟ إني أصلي له.
وكنت أرسل له القبلات مع ابن أخته حسن ابراهيم، وكنت أعلم أنه سيفرح بها.
فمن هو هذا العظيم من بلادي:
شاعر، ينسكب الخيال في كل بيت شعري يخطه قلمه.
معلّم، تتلمذت الأجيال عليه، فعلمها الاخلاص والتضحية والوفاء.
أديب، وناقد، واعلامي، ولغوي، ترك العديد من الكتب والمقالات السياسية والاجتماعية والنقدية، ولقد خصّني بالكثير منها في كتابه الرائع: على ضفاف الكارثة.
ولد في قرية "النخلة" الكورة، لبنان الشمالي.
له ثلاثة صبيان وبنت واحدة.
أنهى دراسته الثانوية في طرابلس، والتحق مدرساً بمدارس المقاصد الاسلامية في الشمال عام 1963.
سنة 1971، عيّن مدققاً لغوياً في جريدة "النهار" البيروتية، ونشر فيها العديد من المقالات والقصائد.
سنة 1977، ناقش أطروحته المعدة لنيل شهادة الكفاءة التعليمية في اللغة العربية وآدابها، بعد أن أنجز في سنة 1975 الاجازة التعليمية في الاختصاص المذكور.
سنة 1979، سافر بتزكية من دائرة الشؤون الثقافية الى سيراليون، حيث درّس في عدد من المدارس اللبنانية هناك، التي كان يسهر على ادارتها، يومذاك، سعادة السفير اللبناني الدكتور لطيف ابو الحسن.
سنة 1981، عينه السفير أبو الحسن مديراً لمدرسة اسسها في مدينة "بو".
وبعد تنقلات عديدة استقر أديبنا الكبير في أستراليا، فحاز على جائزة جبران العالمية، وجائزة شربل بعيني من معهد الابجدية في مدينة جبيل التاريخية. وزين الندوات الثقافية بطلاته المشرقة.
إنه، وباختصار شديد، صاحب أذكى عقل، وأكبر قلب، وأجمل ابتسامة. انه "أبو مصباح" الغالي دائماً وأبداً على قلبي.
رحمك الله أيها الأيوبي العظيم،
رحمك الله أيها الجبل الذي لن يتمكن الثرى من حجب شموخه،
رحمك الله أيها المفضل علي، وعلى الكثيرين من أمثالي،
وأنا على يقين من أن الجنة السماوية ما وجدت إلا لأمثالك، فنم قرير العين، وتأكد من أنني لن أنساك.
تعازي القلبية لعائلته، ولكل من تعرّفت عليه وغمرني بحنانه من عائلة الأيّوبي في الوطن والمهجر. فلقد كنتم أحبة كباراً، وخسارتنا واحدة.
**
لن تحرق كتبنا بعد اليوم
خزانة أدبنا الاغترابي، تنتظر الدفعة الثانية من الكتب، مع ست درف زجاجية، كي تضيق أكثر فأكثر، وهل يتوقف الابداع اللبناني؟
لأول مرة بتاريخ الاغتراب يأمر وزير الخارجية والمغتربين المهندس جبران باسيل بحفظ أدبنا المهجري في قنصلية لبنان العامة في سيدني.
ولأول مرة تستقبل قنصلية لبنانية بشخص ممثل لبنان الاستاذ جورج البيطار غانم مكتبة خاصة بأدب المبدعين اللبنانيين في أستراليا.
وإليكم القصة:
منذ أشهر أخبرتني المحامية بهية أبو حمد أنها ستقفل مكتبها عدة اسابيع بغية السفر الى لبنان من أجل دعم أدبنا الاغترابي. وبطريق الصدفة أخبرتني أنها ستقوم بزيارة عدة وزراء من بينهم وزير الخارجية والمغتربين الاستاذ جبران باسيل.
فما كان مني إلا أن سألتها: أتريدين حقاً أن تدعمي أدبنا المهجري؟
فأجابت: ولهذا أنا ذاهبة الى لبنان.
فقلت: إذن، طالبي معالي الوزير باسيل بحفظه من الانقراض في السفارة أو القنصليات، حتى نؤمن حقاً أن لبنان كان وما زال بلد الحرف. وأخبرتها كيف أن ابن أحد الشعراء في سيدني قام بحرق كتب ابيه كي يشعل بأوراقها النار، ويشوي اللحم والدجاج، كونه لا يقرأ العربية.
كنت أتكلّم وهي تصغي بتمعّن شديد، فخلتها أقفلت الخط، وفجأة قالت: هل بإمكانك أن ترسل لي رسالة تشرح فيها كل شيء كي أسلمها للوزير باسيل.
وبسرعة البرق كانت رسالتي بين يديها، ولسان حالي يردد: آن الأوان كي ننقذ كتبنا من ولائم الشواء والباربكيو.
وبعد أيام من سفرها، جاءني صوتها من لبنان صارخاً: ألف مبروك، الوزير باسيل وافق.
فصحت بدوري: أصحيح ما تقولين؟ هل وعدك بإرسال بلاغ رسمي الى قنصلية لبنان العامة في سيدني؟
وبثقة تامة قالت: أجل، أجل، لن يحرق ابن عاق كتب أبيه بعد اليوم.
وجاء البلاغ حاملا الرقم 13/967 بتاريخ 18/9/2014، وممهوراً بتوقيع معاليه، طالباً من سعادة قنصلنا العام الاستاذ جورج البيطار غانم، تقبّل الهدية من مبدعي الجالية.
والهدية هي كتبهم، وكل ما جادت به عبقريتهم، فإن نجحت الفكرة، وقد نجحت، ستعمم على جميع المغتربات.
والمطلوب الان من كل مبدع مغترب، شاعراً كان أم أديباً أم إعلامياً أم فناناً، طبع كتاباً أو سجل أغنية أن يقدمها مشكوراً للقنصلية كي تحتفظ بها، تماماً كما تفعل استراليا مع نتاج مبدعيها.
وللتاريخ أعترف أنني وعدت بالرسالة بالتبرع بثمن الخزانة التي ستحتضن مؤلفاتنا، ولكن المحامية بهية أبو حمد تحملت تكاليفها عني، بعد أن رأت مدى الجهد الذي أبذله من أجل تجميع أكثر من 280 كتاباً وفيديو، كانت قد اهديت لي من مبدعي الجالية، بغية إهدائها بدوري لمكتبتنا الحلم في قنصليتنا العامة في سيدني.
وكما ترون، وصلت الدفعة الأولى من الهدية، أما الدفعة الثانية فستعرض قريباً، فلا تقولوا الكتب قليلة، والخزانة ما زالت فارغة، لأنها ستضيق وتضيق متى أهدى باقي الأدباء والمثقفين الشرفاء ما لديهم من كتب في جميع الولايات الاسترالية، شرط أن تكون لأدباء وشعراء وفنانين لبنانيين مهجريين فقط.
فألف شكر يا معالي الوزير جبران باسيل، على ارجاع الحرف الاغترابي الى وطن الحرف.
وألف شكر يا سعادة قنصل لبنان العام في سيدني الاستاذ جورج البيطار غانم، على استقبالك المشروع برحابة صدر.
وألف ألف شكر يا حضرة المحامية الذكية الاستاذة بهية أبو حمد على عملك الدؤوب من أجل إنجاح هذا المشروع التاريخي العظيم. فلقد حملت الفكرة الى الوزير، ليتحقق الحلم هنا، فلك أرفع القبّعة، وأنحني إجلالاً، وأتمنى من كل قلبي أن يكرّمك لبنان.
فلا تتأخّروا بتزويد المكتبة بكتبكم قبل أن تأكلها النار، ولن تأكلها بعد اليوم.
**
مصطفى راشد:
ثائر بثوب أزهري
أكثر ما استوقني في قصائد الدكتور الشيخ مصطفى راشد هو أيمانه القوي بالله، الذي انبثق عنه ومنه حبّه الشديد لأخية الانسان، أيا كان دينه أو لونه. فالانسانية الشاملة تكاد تؤرق شيخنا الشاعر لدرجة أنها تلازمه طوال رحلته مع القلم، انه، وباختصار شديد، مجنون وفاق وتوافق ووحدة، وهذا ما نلمسه في قصيدته يا "خالق الكل":
إحنا إتخَلَقنا مُسلِمين
وإخواتى إتخَلقوا يهود ومسيحيين
وولاد عمى بوذا وسيخ وهندوس وبهائيين
وابن خالى مُلحد -- طب آيه ذَنبى يا رب العالمين
انتَ الخالق والقادر على العباد أجمعين
وبهذا ينفّذ ما حفظ من دينه: "ولو شاء ربك لجعل لناس أمة واحدة". ويصرخ بأعلى صوته:
دينى هو دين الحب يا أهل الأرضِ والسماء
فإذا كان الله محبّة، فالدين يجب أن يكون دين الحب، ولكن هل سينصت أهل الأرض والسماء لصرخة شيخنا العلامة، أم ستبقى البشرية تتلذذ بلعق دماء أبنائها باسم الدين، والله بريء من كل الجرائم التي ارتكبت باسمه.
وبما أن أشد الجرائم الطائفية التي ارتكبت كان مسرحها "مصر" نراه يحضن "أم الدنيا" بالحلم، وهو يتلوى على جمر غربته، ويهمس في أذنها:
كل يوم بدعيلك تعيشى بأمان
ويبعد عنك الإرهابيين الخونة
المجرمين مفجرى الحجرَ والإنسان
الملحدين الكفرة الفجرة
المتأسلمين مدعى الإسلام والدين
وليس هذا فحسب، بل راح يبكيها بدموع حمراء، من كثرة المصائب التي ألمت بها، وحصدت خيرة شبابها، من مسلمين ومسيحيين، الذين لا ذنب لهم، سوى أنهم يريدون العيش بشرف وحرية كباقي شعوب الارض:
بكيت عشانك يا مصر
لما سمعت صوت الأدان وقت العصر
ورنين أجراس كنايسك
بتصرخ لرَب المجد والنصر
وشهيد ماسبيروا والإتحادية وكل أحيائك
خيرة ولادك يا مصر
بكيت عشانك يا أمى
يانبت لحمى ودمى وعشقى وهمى
وأنا شايفهم بيخطفوكى
وبأسم الدين عايزين يدبحوكى
وفي قصيدته "ثورة على الاخوان" نجد أن الشيخ تحوّل الى ثائر بثوب أزهري، وراح يدعو الناس الى ثورة جديدة:
ثورة جديدة ---
لأجل بزوغ فجر مصر الوليدة
مصر الحضارة والتاريخ الفرعونى
الرومانى القبطى الإسلامى
أكبر من الإخوان ----
ستبقى مصر ويرحل العدوان
ولكي تحقق رسالته الانسانية هدفها، دعا الشعب المصري الى التمرد، وعدم الخوف من قاتل أحلامهم، من كاره حضارتهم، من كل صاحب لحية وزبيبة، أولئك الذين يكذبون على الله، قبل أن يكذبوا على الانسان:
تمرد يا مصرى
على الفكر الظلامى قاتل الحلم ،
كاره العلم ،
الخطر القادم على كل وليد
تمرد على البلادة ،
وكل لحية بزبيبة وسجادة،
تكذب على الله بتعمد وزيادة
وأخيراً، لو وجد في الاسلام عشرون شيخاً مثل مصطفى راشد، لأصبح المسلمون، دون شك، "خير أمة أخرجت للناس" ولكان العالم الاسلامي جنة الله على الارض.
**
شكراً وزير الثقافة
ـ1ـ
أنا لا أصدّق، أن وزيراً للثقافة من منطقة زغرتا، مسقطِ رأسي، إسمُه ريمون عريجي، بإمكانه أن يمحوَ نصفَ قرن من غربتي الطويلة، بالتفاتة مضيئة، كشمس إهدن، أو كضَحِكاتِ أبنائها.
كيف بإمكانِ هذا المحامي الفذّ أن يدافعَ عنّي ويُطلِقَ سراحي من سجني الاغترابي، ويُرجِعَني الى الوطن بقرارٍ تاريخيٍّ، وبيني وبينَه آلافٌ من الأميال، وأحلامٌ واشتياقٌ ودموعٌ وسهر.
لقد زرعَ في قلبي فرحةً: امتدادُها شواطىءُ سيدني وانتهاؤها بيادرُ قريتي مجدليا، فألفُ شكرٍ لالتفاتَتِه التكريميةِ أولاً، ولحبِّه للشعر والشعراء ثانياً، ولإرجعاعِهِ الحرفَ الى بلدِ الحرفِ ثالثاً.
ـ2ـ
أنا لا أصدّقُ أنّ محاميّةً لامعةً، اسمُها بهية أبو حمد، تعشقُ الشعرَ وتحفظُهُ، تُقفِلُ مكتبَها، توضّبُ حقائبَها، وتسافرُ الى الوطنِ، كي ترميَ بين أيدي المسؤولين ملفاتِ نُخبةٍ من الشعراء، شاءني الحظُّ أن أكونَ واحداً منهم، بغية تكريمهم وحفظ مؤلفاتهم.
المادةُ عندها لا شيء، تعبُها من أجل الشعر راحةٌ، وكلمتُها فعلٌ، ولهذا نحن نُكرَّم.. فألفُ شكرٍ لها ولجمعية إنماء الشعر، ولنقيب شعراء الزجل في لبنان الشاعر جورج بو أنطون.
ـ3ـ
أنا لا أصدق أنني أقفُ اليومَ بين القصائدِ الرائعةِ، المتطايرةِ كأحلامِ الصبايا، من أفواه زملائي الشعراء المكرمين، وأنا أَحبِسُ دمعتي، وأتكيءُ على فرحي، ولسان حالي يردّد: بلى، والله، لقد بدأت أصدّق، فألف مبروك يا شباب.
ـ4ـ
إنها المرةُ الأولى التي يكرّمني بها وطني..
إنها المرةُ الأولى التي يتغلّبُ بها درعٌ ثقافيٌ لبنانيٌ على جميع الحواجز السياسية، والطائفية، والاقليمية، ليصلَ إليّ في غربتي، ويهمسَ في أذنيّ: إرفعْ رأسَك.. أنت لبناني.
إنها المرةُ الاولى التي أشعرُ بها أنني شاعر.
وشكراً.
**
إسمي المزوّد بالزهور
منذ سنة تقريباً أطلعني الشاعر الصديق شوقي مسلماني على مسودة كتاب "اسمي المزوّد بالزهور"، فأعجبت كثيراً بسعة اطلاعه، وبعمق أبحاثه، كي يأتي بما أتى من أشعار، تتغنى بالفراعنة، وباعترافهم بوجود الله الواحد الأحد قبل كل الناس.
انه عمل مدروس جداً، ومصاغ بطريقة شعرية رائعة، تشد القارىء الى معرفة ما لم يعرف، وأن يعترف، بينه وبين نفسه، أن ما من أحد أنكر وجود الله، لأن الله موجود في كل انسان وهبه الحياة، وبهذا يثبت "شوقي" أن لا وجود للملحدين أو للكفّار منذ وجود الخليقة. بل هناك تقصير شديد من ناحية المعرفة والبحث عن الحقيقة.. والاعتراف بالآخر. ومنه أختار:
أنواركَ الساطعة
لا يمكن أن يبلغها القول
تضعُ حدّاً لساعات الليل
وتُعيدها
تُنهيها بتوقيتك الخاص.
ألف مبروك يا أخي شوقي.
**
تقديم فاطمة ناعوت
أيها السيداتُ والسادة
طلبتْ مني رابطة إحياء التراث العربي بشخص رئيسها الاستاذ إيف الخوري أن أعرّفَ بضيفةٍ عزيزةٍ حلّت بيننا.. ويا ليتني رفضت، إذ ليس من حقّ الغربة أن تعرّفَ بالوطن.. وليس من حقّ الظلامِ أن يقترنَ اسمُهُ بنورٍ يُلهبُ الدفءَ في القلوبِ ليُوزعَه على أكواخ الفقراء، كلما هددتهم الطائفيّة بالموت المُخجل.
أجل أيها السيدات والسادة أجدُ صعوبةً كبرى بالتعريفِ بمن أمسكت المجدَ من جميع أطرافه، فهي شاعرة، وأديبةٌ، وإعلامية، ومترجِمة، ومهندسة، ومناضلة، وإنسانة، وأم..
سيرتها الابداعية من مؤلفات وترجمات ومؤتمرات وجوائزَ وتكريمٍ كتابٌ كاملٌ، فكيف لي أن أختصرَ الكتابَ بثلاث دقائق.
حرفـُها بركان.. يرتجف من صوته الحكّامُ الظالمون، تُعلّقه في ميدان التحرير صرخةً، وتحمله على الطرقات يافطة، وتُهديه للحناجر أغنيةً ثورية.
أمومتُها أرضٌ.. تَحرثها مع الفلاحين.. تبذرها قمحاً.. تجنيها خبزاً.. لتُطعمَه للجياع الى الحرية.
هندستُها طبيعةٌ.. تنقلُ الأهرامات الى سيدني، والأوبرا هاوس الى مصر، دون أن يرفّ جفنُ الخالق.. أو أن تتأففَ الجغرافيا..
هي المالكةُ للجمال، وهي المتحكمةُ به. خصّها الله بالكلمة.. وكانَ اللهُ الكلمة.
سَحَرَتْها محبّةَ جبران خليل جبران التي "إن أومأت اليكم فاتبعوها"، فكتبتْ في عيد الحب، "سنعلنُ الحبَّ عليكم أيها الأشرار، ولن نتعلمَ منكم البغضَ والكراهية".
وما أن رفعت صوتَها كامرأةٍ حرّةٍ فوق أصوات أعداء الانسانية، وصاحتْ: إخْرَسوا. حتى أدرجوا اسمَها على لوائح الموت، وعندما يئسوا من التخلّص منها، جرّوها الى المحاكم بتهمة ازدراء الدين.. ومَنْ غيرُها يشرفُ الدين؟
فما كان منا إلا أن أصدرنا لها مجموعةً أدبية تكريمية بعنوان "الملائكة تهبـِط في سيدني" لتوقّعَها ليلَ الاربعاء القادم في السادس والعشرين من نوفمبر في غرانفيل تاون هول. فكونوا معها.
وها هي الليلة تأتي إلينا من أمّ الدنيا، ليتجسّدَ الشعرُ والأدبُ والنضالُ ومحبّةُ جبران خليل جبران بامرأة واحدة.. أنجبتها مصر وأسمتها: فاطمة ناعوت.
**
نجمة حبيب تصفع أمتها العربية
نادراَ ما يضحك لي القدر، ولكنه فعلها الأسبوع الماضي حين حمل لي ساعي البريد ثلاثة كتب للدكتورة نجمة خليل حبيب:
1ـ رؤى النفي والعودة في الرواية العربية الفلسطينية.
2ـ .. والأبناء يضرسون.
3ـ ربيع لم يزهر
ولشدة فرحي بها لم أعد أعرف من أين أبدأ. وعن أي موضوع أكتب، فكل ما في الكتب رائع، ومصقول بعناية فائقة، إن كان في الأبحاث الأكاديمية أم في السرد القصصي.. الى أن أوصلني حظّي الى قصة محزنة جداً، قرأتها عدة مرات، عنوانها: "أمومة أخجلتنا".
نجمة حبيب في قصتها هذه تصفع أمتها العربية دون رحمة بأفعال جعلتها تتراكض أمامنا كعقارب سامة: ماتت.. انتحرت.. كفرت.. يئست. هذا ما حصل لـ"صفية" الأم المسكينة التي خطفوا ابنها الوحيد "علي".. "وكلنا يعرف أن صفيّة ترملت وعلي دون الثانية من العمر"، ورفضت، رغم صغر سنها، أن تتزوّج ثانية، بل أرادت أن تهب عمرها لفلذة كبدها.
وفجأة خطفوا "علي"، من خطفه، لا أحد يعلم، "خطفوه وكفى.. ذهب ولم يعد"، انشقت الأرض وابتلعته، لينشق معها قلب أمه صفية الى نصفين، نصف يستصرخ "ضمائر البطرك والمفتي والامام وشيخ العقل" والنصف الآخر يزور " كهوف العرافين والمنجمين".
ولكي تغرقنا نجمة أكثر فأكثر بمستنقع ألم "صفية"، أخبرتنا أنها "كانت على استعداد أن تبيع لحمها ودمها كي يعود علي".. ولكن دون جدوى. و"يوم إثر يوم تغور صفية في عزلتها، تهزل حنى تكاد تمسي نصف ما عهدناها، وتساءلنا، ترى ماذا يدور بعقل صفية؟".
صفية، عند نجمة حبيب، هي صورة مصغرة لملايين الأمهات اللواتي خسرنَ أبناءهن، لأسباب لا حصر لها، معظمها مخجل ومقرف، في شرق لا هم له سوى سلب الأطفال من أحضان الأمهات.
لماذا خطفوا علي؟
ما جريمته؟
هل لأنه ينتمي الى بلد معين.. أم الى طائفة معينة؟
فالخطف ما كان ليتم إلا لأسباب طائفية: قف، من أنت، الى أي طائفة تنتمي؟ هذا ما كان يدور على الحواجز أثناء الحرب اللبنانية اللعينة، وأعتقد أن نجمة عاشت الكثير من أهوالها، ومن يدري فقد تكون هي "صفية" أو إحدى قريباتها.
ورغم هجرة نجمة حبيب من فلسطين الى لبنان الى أستراليا، ورغم مرور عشرات السنين على خطف "علي بن صفية"، نجد أن القصة تتكرر اليوم بشكل أكثر دموية، وأشد فتكاً.
صفية لم تكن طائفية المشرب، كونها زارت البطرك، "وأضاءت الشموع في كل المزارات" المسيحية منها والاسلامية، إنها امرأة عربية منفتحة، تخطت بحسّها الإنثوي، جميع الحواجز الذكورية المفبركة، التي ما زالت تعاني منها أمتنا العربية.
ولأنها خسرت الأمل برجوع ابنها، الذي هو "العقل" لأمتها العربية، قررت الخروج من لعبة التجاذب الطائفي والعقائدي والسياسي، والخلود الى الراحة. أجل لقد انتحرت صفية.. "ماتت.. كفرت.. استشهدت.. لم يعد يهم".
أمومة صفية لم تخجلني أبداً، لا بل جعلتني أصفّق لها كبطلة، والدموع تنهمر من عينيّ، كونها، ساعة انتحارها، قد نحرتنا جميعاً.
نجمة خليل حبيب وهي تكتب، تتقمّص شخصيات أبطال قصصها، لدرجة تجعلك معها ضائعاً بين الحقيقة والخيال، لتتمكن، بأسلوبها الأخّاذ، من الاستيلاء على جميع احاسيسك.
**
رجال العميد:
رواية محمود شباط الجديدة
صدرت عن دار الكفاح للنشر والتوزيع رواية الأديب اللبناني محمود شباط "رجال العميد"، وهي تتألف من 200 صفحة من الحجم الوسط، وتحكي قصة عذاب اللبنانيين في بلادهم ومغترباتهم، كما تسلط الضوء على تشتتهم السياسي والطائفي بشكل موجع ومقرف أينما حلّوا، وكأن شياطين السياسة والطائفية لا تجرّب سوى اللبنانيين ولو سكنوا المجرة.
محمود شباط في "رجال العميد" صور بدقة موجعة الفرق الشاسع بين تفكير الآباء والابناء في عصرنا هذا، وأن التقنية الالكترونية الحديثة، من هواتف محمولة وانترنت ومحطات تلفزيونية، هي التي تسير الاجيال الصاعدة وليس الأهل، وهي التي ترمي فلذ الاكباد في أتون منظمات ارهابية لا حصر لها.
والملفت في الرواية انها تكملة لقصة صخر الشميساني وزوجته الشيخة ليلكا، التي عالجها في رواية سابقة، وكأننا نشاهد مسلسلاً تلفزيونياً على حلقات.
قصة صخر وليلكا تصلح لأن تتحول فيلماً سينمائياً نظراً لأحداثها المشوقة ولرومانسيتها النادرة.
مبروك مولودك الأدبي الجديد يا أخي محمود شباط، والى اللقاء في رواية اخرى بإذن الله.
**
سارة مكدونالد
أسترالية تعشق الزجل
عندما طلبت مقابلتي للتحدث عن الزجل اللبناني خاصة، والعربي عامة، لم أصدق أن الصوت الآتي من مدينة ملبورن هو لفتاة أسترالية، تعزف الموسيقى، وتعشق الشرقية منها، ومن هنا بدأ غرامها بالزجل والزجالين. إنها سارة مكدونالد.
قالت لي بثقة تامة:
ـ أنا آتية الى سيدني وأريد مقابلتك.. هل من مانع؟
ـ بالطبع لا..
أجبتها، وأنا أبحث عن أسئلة أطرحها عليها، باللغة الانكليزية طبعاً، فإذا بي أفاجأ بها تنزل من السيارة بصحبة طاقم فني مكوّن من مصورين مع هندسة صوتية، وبدأت هي بطرح الأسئلة، فقلت لها:
ـ هل أنت آتية لمقابلتي؟ فلقد حضرت نفسي لمقابلتك أنا؟
ـ ما هم.. المهم أن نتقابل ونتكلم عن الزجل.
ـ أتأتين من ملبورن الى سيدني من أجل عينيّ الزجل؟
ـ أجل؟
ـ ولماذا أنت مهتمة به؟
ـ لأنني أعشقه، وأجد فيه الموسيقى الشعبية التي تقوي الروابط بين الشعوب.
أكثر من نصف ساعة كان لقائي معها لم تنشر منه إلا عشرين ثانية فقط، وهذا ما قلته لها في بداية حديثي، إذ أن جميع البرامج الوثائقية تقابل المئات من الاشخاص من أجل الحصول على زبدة الموضوع.
بعد مشاهدتي للفيديو، لاحظت أن معظم الذين قابلتهم كانوا يتكلمون باللغة العربية، وهذا ما لم تخيّرني به سارة، فعتبي عليها.
شيء وحيد بقي أن أخبركم عنه أن الشاعر عصام ملكي أولم على شرف سارة وصحبها، فطعّم الزجل، وعاشقته، بلقمة يولندا ست الستات الشهية.
ألف شكر يا سارة مكدونلد، أيتها الأسترالية، فلقد أيقظت فينا حب الزجل، الذي اعتقد البعض أنه بدأ بالاحتضار، فإذا به يقوم، كطائر الفينيق، على مساحة القارة الأرضية.
**
لقد أدهشتني بهية أبو حمد
عندما حان موعد لقائي التلفزيوني بالمحامية بهية أبو حمد، رئيسة جمعية انماء الشعر العامي في أستراليا، قررت أن أحصر أسئلتي بالشعر، لأعرف مدى إلمامها بهذا الحقل الأدبي الرحب.
وكنت كلما سألتها سؤالاً تجيبني شعراً، حفظته عن ظهر قلبها، أي لا ورقة ولا من يحزنون. فبدلاً من ان أحشرها بأسئلتي حشرتني هي بأجوبتها الشعرية، وكأنها آلة تسجيل لا تخطىء.
ولم تكتفِ بهية بالاستشهاد بالشعر الزجلي غيباً، بل انتقلت الى الفصيح منه، ولو حدّقت بي ملياً لوجدت دمعة تتدحرج على خدي، ليس فرحاً بما قالت، بل حزناً على "محسوبكم" الذي لا يحفظ بيتاً واحداً من أشعاره. وكم حقّرت ذاكرتي عندما سألتني بدورها، بعدما انتهينا من اللقاء:
ـ أخبروني أنك ألقيت قصيدة في عيد تحرير الجنوب ألهبت الأكف، هل لي أن أسمعها منك؟
وهنا بدأت أغني في سري:
ـ يا داره دوري فينا
ضلك دوري فينا
لأن رأسي بدأ بالدوران وأنا أفكر بمطلع قصيدة ألقيتها منذ سبعة أيام فقط، ولكن دون جدوى. فحسدت، أجل حسدت بهية ابو حمد على ذاكرتها، وندبت ذاكرتي التعيسة.
**
مجلس الجالية يكرمني
أليس جميلاً أن يحبك الناس، وتكرّمك المؤسسات الأدبية والاجتماعية؟
أليس عظيماً أن يقف رئيس "مجلس الجالية اللبنانية" في أستراليا، السيد علي كرنيب، ويدعوك الى المنصة لاستلام جائزتك، أمام المئات من أبناء الجالية العربية؟
بلى، انه شيء جميل وعظيم للغاية، والأجمل منه، هو أن يأتي تكريمك في أكبر عيد وطني، كعيد تحرير الجنوب اللبناني، من الصهاينة الغزاة.
هذا ما حصل معي ليلة الخامس والعشرين من شهر أيار 2014، وهذا ما دفعني الى التمسك، أكثر فأكثر، بكل كلمة كتبتها، لأنها دخلت قلوب الناس دون استئذان، ورمتني حافياً على دروب المجد.
فمهما قلت، ومهما كتبت لن أتمكن من أن أفي المجلس حقّه، فتكريمي في "عيد التحرير" كان عيداً كبيراً لي، ما زلت أستمتع به حتى الآن، وسأظل أستمتع به ما حييت.
وكم كنت مقصّراً حين وقفت ليلتها لأناجي الجنوب، بأبيات زجلية خلتها خجولة وناقصة، ولكن استحسان الجمهور لها، وتصفيقه الحاد، جعلني أحمل جائزتي بفخر، وأريها لكل من اقترب مني بغية تهنئتي بالنصر، وأنا مرفوع الرأس:
ـ1ـ
جايي بعيدك.. يا تحرير
إسكب عَ جْريك الأشعار
وغنيلك والقلب كبير
غنيّه تمجّد أحرار
رفضوا الذل.. وكسروا النير
وخلّوا الإعدى تدوق العار
متل جنوبك صعب يصير
مكلل بأكاليل الغار
شعبو كبير كتير كتير
أكبر من صيحات النار
ما بيتلاقى طفل زغير
أطفالو، بالشده، كبار
رح ينسوا عنتر والزير
لمّا بيحكوا للتاريخ
كيف قاوم هاك الختيار
ـ2ـ
إسمك مشهور ومحبوب
عايش بعيون الأجيال
إسمك بالدنيي مكتوب
بدمعة أم.. بدم رجال
مسيّج بشرايين قلوب
عم تنبض فيها الآمال
رح غيّر اسمك يا جنوب
وسمّيك جنوب الأبطال
لقد غنيّت الجنوب اللبناني بقصائد كثيرة، ولكن قصيدتي هذه، هي الأقرب الى قلبي، كيف لا، وقد ألقيتها بعيد التحرير، وبيوم تكريمي.
مجلس الجالية اللبنانية، سيرافق رحلتي الأدبية من الآن فصاعداً، وسيتراقص اسمه دائماً وأبداً على صفحات كتبي، وسيبقى ثالث اثنين لن ينساهم قارئي: الجنوب اللبناني، عيد التحرير، ومجلس الجالية اللبنانية.
فألف شكر لرئيسه السيد علي كرنيب، ولكل عضو من أعضائه الشرفاء، وأعدهم أن أظل عند حسن ظنهم بي وبأدبي، لأن الكلمة التي كرّمت، ما عليها سوى أن ترد التكريم بأفضل منه.
عيد التحرير.. حررني من عبودية غربتي، وها أنا أنطلق نحو الخلود.
**
وجهان مشرقان من بلادي
عرفت أستراليا الصديقين العزيزين جوزاف ورالدا زخّور عروسين قدما إليها لقضاء شهر عسلهما، ففرحت بهما وأهدتهما طقساً مشمساً دافئاً حتى يتنعّما بوقتهما، ويتفسّحا في أرجائها الواسعة.. فزارا جميع المناطق السياحيّة في سيدني، وأمضيا عدّة أيّام في العاصمة كانبرا، حيث زارا السفارة الكندية هناك.. كيف لا وقد كانا من كبار موظفّي السفارة الكندية في بيروت.
خلال الحرب اللبنانية اللئيمة انتقلت السفارة الكندية من بيروت إلى دمشق، وانتقل معها سكرتيرها الاول جوزاف زخّور، هناك التقى بالصبية الشاميّة رالدا، فالتهب قلباهما بالحب وكان الزواج.. وكانت السعادة الدائمة.
وحين علم جوزاف ورالدا بمروري السريع في لبنان، حتى سرقا اللحظات القليلة التي بحوزتي، ودارا بي على المناطق اللبنانية الشوفية، فزرت معهما متحف ماري باز، وقلعة موسى، وقصر بيت الدين.. إلى أن انتهينا في أحد مطاعم نبع الصفا.. هناك، أثبتت المأكولات اللبنانية جدارتها، وإن دخلها طبق العصافير البريئة المصطادة من أحراشنا..
أيّام قليلة قضيتها في الوطن الحبيب جعلتني استرجع الماضي وابكي فراق الوطن والأهل كالأطفال.. وها انا الآن استرجع ذلك اليوم الذي قضيته برفقة وجهين مشرقين من بلادنا هما جوزاف ورالدا زخّور. فألف شكر يا أحباب.
**
دانيالا يوسف رحمة
دانيالا.. ابنة الفنان الكبير يوسف رحمة، أثبتت للعالم أجمع أن بنات الجالية اللبنانية في أستراليا يرفعن الرأس أينما حللن، وها هي الصبية التي ولدت وترعرعت في سيدني أستراليا، تقرر الرجوع الى وطنها الأم لبنان، بعد أن أغرمت به، وبشعبه، وأحست أنها لبنانية صميمة حتى العظم، وما من شيء سيفرقها عن وطن الأرز.
البارحة، في الثاني من شباط 2014، توجّها لبنان أميرة جديدة على حلبة الرقص، بعد أن توجها الاغتراب اللبناني ملكة لجماله.. فاستحقت التاجين واللقبين عن جدارة.
انها جميلة للغاية، ولطيفة للغاية، وحنونة للغاية، فطوبي للبطن الذي حملها، وللفنان الذي زرع محبة بلادها في قلبها الطفولي، وطوبى للجالية اللبنانية التي رعتها وأحبتها، وأخيراً طوبى للبنان بفلذات أكباده تعود اليه بشموخ ينحني أمامه الشموخ.
وسأخبر قصة حدثت منذ سنين طويلة، يوم كنت أقدم إحدى حفلات الفنانة باسكال صقر، فلقد دخلت الى الكواليس فتاة جميلة للغاية ومعها أختها على ما أذكر، وطلبت التحدث مع باسكال، وكنت أنصت للحديث بسبب وجودي هناك، فسألت تلك الفتاة الرائعة باسكال عن فنان لبناني أحبته وستتزوجه وكان اسم الفنان يوسف رحمة، صديقي الحبيب، وكانت تلك الفتاة الساحرة أم دانيالا..
ورغم جمال دانيالا الخارق.. ما زلت أعتقد أن الفتاة التي رأيتها يومذاك كانت أجمل من دانيالا بكثير.
حمى الله فناننا يوسف رحمة وعائلته.. وما عليه من الآن وصاعداً إلا تنمية موهبة ابنته الموهوبة دانيالا الغنائية.. كي تكتمل معها.. ويكفي أن نقول: هذه النجمة ابنة ذلك النجم.
**
عندما خاف الشعراء
تعرّض الشاعر عصام ملكي لوعكة صحية أثناء مشاركته في حفل تكريمي، فأدخل على جناح السرعة الى مستشفى بانكستاون، وراحت المكالمات تنهال عليّ من كل حدب وصوب. ومن بين المتصلين كان الصديق المشترك الشاعر جورج منصور، الذي أفزعه كثيراً مرض إشبينه عصام فارتجل قائلاً:
يا شربل بعيني عا جنح الهينمات
كلما نظمت بيوت ببعتلك بيوت
عصام هوّي وعم يغني كان مات
وتخمين إلاّ هيك مش حابب يموت
فما كان مني إلا أن أجبته:
يا جورج صعب يموت هالعمّر بيوت
بعمرك شفت شاعر ذكي بهالكون مات
عصام ملكي الشعر مش ممكن يموت
متل الحلم طاير ع جنح المكرمات
وكي أطمئن القراء فإن صحة الشاعر عصام ملكي بألف خير، ومثلما يقول المثل: غيمة ومرقت.
وعندما قرأ الشاعر عصام ملكي ما كتبت اتصل بي وقال:
يا شربل ويا جـــــورج بالإيمان
وحياتكم عَا قلوبكم عــــــم فـُوت
لا تحسّبوني بمُوت كيف ما كان
إلاّ عليكم بالدني مـــــــا بْمُـوت
والظاهر أن الشاعر حنا الشالوحي كان يتابع رداتنا الشعرية، فاتحفنا بهذه المداخلة:
يا شربل وبا جورج عنكن بالغنى
ما بقول مين المتلكن بالكون مين
عصام عم بيموت عا رفاقو وأنا
عم موت تا إقشع جماعه مخلصين
أطال الله بأعمار جميع الشعراء لتبقى محبتهم غامرة كما ترون.
**
أنا وشوقي دلال.. توأمان
ـ1ـ
شوقي دلال.. الأرزة البشرية.. السفارة اللبنانية المتنقلة.. القلم المبدع.. والريشة الخلابة.. هو كل شيء في لبنان،
ومن دونه لا تتفاعل الأشياء.. تارة يقيم معرضاً.. وتارة يوقّع كتاباً.. وتارة أخرى يكرّم رئيساً أو وزيراً أو سفيراً
أو أديباً أو سيدة أولى.. أو بطريركاً.
ومن غير شوقي يكرّم الرؤساء ويعلّق على صدورهم النياشين؟
إنه دولة أكبر من الدولة.. إنه الطاقة التي لا تضمحل.. إنه الإرادة التي رفعت العطاء بيرقاً، إنه الفارس الذي استل المحبة سيفاً، إنه الأديب والفنان والشاعر الذي بإمكانه أن يقول لأي كان:
على رأسك صولحان
وفي يدي قلم وريشة.
والويل ثم الويل لمن يغضب القلم والريشة.
ـ2ـ
شوقي دلال.. هذا اللبناني العملاق أقدر أن أقول فيه:
"وديع متواضع القلب" ولهذا أحببته.. ولهذا احترمته.. ولهذا كتبت عنه.. انه الوفاء بعينه، في زمن أبعد ما يكون عن الوفاء.
وكنت كلما نشرت له خبراً عن تحركاته المفرحة والمدهشة، تأتيني منه المحبة كلمات ولا أروع ومن هذه المحبة اخترت:
"الحبيب شاعرنا وأديبنا الأخ الأستاذ شربل بعيني... محبتك وعطفك وتفانيك ونتاجك عنوان لنا جميعاً في العمل الثقافي والإجتماعي، والكنز الحقيقي هو صداقة أمثالك وليست المناصب سوى حالات عابرة على الحياة.. أطال الله بعمرك ودمت لنا بهذا العطاء".
ـ3ـ
البارحة وصلتني منه رسالة سريعة تقول:
"لك مني القلب دوماً شاعرنا الحبيب وقدوتنا أستاذ شربل بعيني، مع شكري الكبير لأفضالك التي لا أنساها ما حييت".
رحت أفكّر بعدها بأشياء لم تخطر على بالي أبداً.. لماذا فرحي غامر بنشاطات شوقي دلال؟
ولماذا اهتمامي الدائم بأعماله وتركيزي عليها؟
فإذا كنت لم ألتقِ شوقي من قبل، فمن أين أتت كل هذه المحبة؟
ومن أين تفجّر نبع هذا الاحترام؟
وكيف تفاعل هذا التقارب بيننا بدون معرفة؟
إذن.. فالسؤال يطرح نفسه: هل التقيت شوقي من قبل..
في مكان وزمان أبعد من الخيال؟
هذا ما أشعر به كلّما حدّقت بصورته! إذا كان التقمّص حقيقة، فأنا وشوقي توأمان.
**
المحبة الغامرة
قبيل الانتهاء من حديثي التلفزيوني الشيّق مع رئيس جوقة المسرح الزجلية الشاعر الكبير انطوان سعادة، طلبت منه أن يسمع المشاهدين بعض الأبيات الزجلية، فما كان منه إلا أن أنعم علينا بهذه المحبة الشعرية الغامرة:
الألفين وتمانه عَ غربه جيت
وبقيت بعيني غربة بعيني
لكن بهالرحله قبل ما مشيت
قررت بالغربه الحبايب شوف
وشوف غربة شربل بعيني
ولم يكتف ِ بهذه المحبة بل أمطرنا بوابل كرمه:
شربل انت ندر الشمع والزيت
ميله محبّه وزنبق بميله
يغربتي دشّرت عيله وبيت
و"بغربتك" بتشوفني العيله
وما أن انتهت المقابلة حتى التفت رئيس عصبة الزجل اللبناني في أستراليا الشاعر عصام ملكي الينا وارتجل هذه الرباعية بحضور الصديق عيسى كنعان:
الشاعر سعاده بيكبر بعيني
هوّي بعينه وشربل بعينه
وكنعان عيسى ربّها بينعدّ
طبق الأصل عن شربل بعيني
**
أصدق الاصدقاء
أرسل القنصل الشاعر ماهر الخير قصيدته "قداديسُ العِشق تحتَ أجراسِ المطر" لتنشر في مجلة "الغربة"، بعد أن أهداها "الى الأصدقاء في أستراليا"، فما كان مني إلا أن أرسلت له رابط القصيدة مع هذه العبارة:
الى الشاعر الصديق في لبنان
قداديسك هنا ونحن المصلون
مع الف سلام
والظاهر أن العبارة قد ايقظت الحنين في قلب قنصلنا الشاعر الى بلاد الكنغر فأجاب بكلام ولا أجمل:
صديقي الشاعر
تكفي تغريدة واحدة ليضحك الطفل الباكي
وتكفي صلاة واحدة ليبتسمَ الله في السماء
كما تكفي كلمة واحدة (مثل كلمتك هذه) لنكتشف أصدق الأصدقاء
كل المحبة
**
انا بريشة الفنانة رندى بعيني
منذ عشرين سنة تقريباً تطلعت بي الفنانة العالمية رندى عبد الأحد بعيني وقالت:
ـ سأرسمك.. وسأخلّدك بلوحة تجمع بين تقاسيم وجهك وأعمالك الأدبية ومسقط رأسك مجدليا ـ لبنان.
ومرت السنون، وبدأت عائلة رندى تكبر، وهموم تربية أولادها تتكاثر، فالفنانة لا تريد من أبنائها إلا أن يكونوا فنانين مثلها خَلقاً وخُلُقاً، وبدأت فكرة الصورة تتلاشى من مخيلّتي كلياً.
ولن أكذب عليكم إذا قلت أنني شككت بصدق رندى وقلت في سري: مثلها مثل باقي الناس.. على الوعد يا كمّون.. كما يقول المثل الشعبي.
ولكي أضحككم أكثر، كنت كلما التقيت برندى أتمتم:
ـ رندى.. رندى، إياك أن ترسمي اللوحة وأنا ميت، مخافة أن يحملوها ويمشوا بها أمام نعشي.. أريد أن أراها.
وفجأة، أطلّت عليّ اللوحة من شباك الفايس بوك.. قبل أن أستلمها شخصياً، فصحت بأعلى صوتي:
ـ هذا أنا.. وهذا اسمي.. وهذه أسماء بعض مؤلفاتي.. وهذا توقيع رندى عبد الأحد بعيني.. لقد فعلتها والله.
أجل فعلتها.. وضربت عرض الحائط بكل السنين التي مرّت، وأثبتت للتاريخ انها على وعدها، وليمُت بغيظه المثل الشعبي الذي ذكرت سابقاً.
ورندى الزحلاوية الأصل، ابنة حبيب القلب ملك عبد الأحد، شاركت بمعارض فنيّة كثيرة في لبنان وسيدني وملبورن، وعندها مدرستها الخاصة لتعليم فنون الرسم على اختلاف انواعه، كما انها وهبت الابداع لفلذ الأكباد، حتى باتوا يضاهونها عظمة.
ولكي ترسمني استعانت برسم شمسي كنت قد نشرته على موقعي، وراحت تتلاعب بالريشة حتى تفوّقت عليه، وأعطت الفن المهجري لوحة رائعة شاءها الله أن تحمل تقاسيم وجهي.
ولكي تصبح اللوحة أكثر إيحاءً طعّمتها بأسماء بعض مؤلفاتي كأحباب وألله ونقطة زيت.
كما أنها رسمت غلاف كتاب بدون عنوان كتبت عليه: بقلم الشاعر شربل بعيني، لتدل على أن الإبداع لن يتوقف، وستستمر عملية نشر الكتب الى آخر العمر.
وبما أن هذه "الزحلاوية الرائعة" أضحت كنة مجدليا منذ زمن بعيد، أبت أن توقّع اسمها قبل ان توقّع اسم القرية التي أنجبت شربل بعيني، وأهدتها أبنها الوحيد وبنتيها الجميلتين، إذ أنهم "مجدلاويون" بالحسب والنسب، رغم أنف الهجران.
أما لبنان.. فقد احتلّ خلفية اللوحة اسماً وخارطةً، لتعلن للكون أجمع انه في مخيلة مغتربيه ليلاً ونهاراً، أشرقت الشمس أم غابت، هطلت الأمطار أم اشرأب الجفاف، هدرت أمواج البحر أم استكانت.. لبنان في البال وسيبقى في البال ما بقي قلب ينبض وريشة تبدع، وشاعر يبكي.
رندى.. أنا عاجز عن شكرك. وصدقيني أنني كتبت الكثير، ومحوت الكثير، فكل الكلمات التي أعرفها لا توازي شطحةً من ريشتك، لوناً من ألوانك، وإبداعاً مثل إبداعك.. فسامحيني إذا قصّرت أدبياً، فإن لم يكن شكري بمستوى فنّك.. سأصمت.. وعليك أنت أن تتخيّلي مدى امتناني ومحبتي.
أحبك، أحب جون "حنا" زوجك، وأحب عائلتك البعينية. حماكم الله.
**
عيد الأضحى.. عيد الجميع
منذ مدة، عيّد العالـم الإسلامي عيد الأضحى المبارك، عيد تقدمة النبي إبراهيم إبنه للرب، والقصة معروفة عند كافة أتباع الديانات اليهودية والمسيحية والإسلامية.
ونظراً لأهمية تلك الحادثة التاريخية، أدخلها المسيحيون قداسهم، وترنّموا بها، وطلبوا من الربّ أن يقبل قرابينهم كما قبل قربان إبراهيم الخليل، وإليكم الصلاة التي لا يكتمل القدّاس بدونها:
(إقبل، يا وادَّ (محب) التائبين، بحنو حلمك وعذوبتك، البخور المقدّم لك من المؤمنين أبناء بيعتك، بأيدي أرباب الكهنوت، لرضاك ربنا وراحة لاهوتك. وكما قبلت برأس الطور، قربان ابراهيم خليلك، وشبه ما لذَت لك طيوب هارون كاهن شعبك، يلذ لك ربنا بخورنا وارض عنّا، مولانا، بوفور رحمتك)..
فلماذا إذن، لا يحتفل الجميع بهذا العيد المبارك؟
لماذا لا تلتقي الأديان السماوية عند القواسم المشتركة، لتتوحّد القلوب، ويخف الجهل الديني؟
ولماذا يحلو للبعض إقناع المساكين بفئوية اللـه، بانحياز اللـه، بطائفية اللـه، وبأنه يخصّهم وحدهم، ولا دخل للآخرين به؟!
عيد الأضحى، عيد اليهود والمسيحيين والمسلمين.. عيد كل من يسمع كلمة اللـه تعالى، حتى ولو طالبه بذبح ابنه على مذبح الرب..
مذبح الرب، هو المكان الذي أخذ نبيّنا ابراهيم ابنه إليه، وهو المكان الذي يقف وراءه الكاهن ليقدم الذبيحة الإلهية.. فهل من قاسم مشترك، يجمع بين المسيحيين والمسلمين، أقوى من (عيد الأضحى)؟!!..
الطائفيّة أعمت بصيرة (المؤمنين) الجهلة، وخاصة رجال الدين الذين يؤمنون بمبدأ فرّق تسد.. فهل من رؤساء دين أبطال يوحّدون الأعياد المشتركة ويعممونها.. ليعمموا، من خلالها، المحبّة والتسامح والعيش المبني على السلام والحريّة.
أتمنى لجميع المسلمين عيداً مباركاً.. إلى أن يتحقق الحلم ويبدأ الإحتفال الشامل.
**
تنكّر أطفالنا
أفضل من تنكّر البرازيليين
لا يتوقّف البرازيليون، لحظة واحدة، عن التحضير للمهرجانات التنكريّة، التي تغرق شوارع مدينة سان باولو البرازيلية بأمواج بشريّة متنكّرة لا حصر لها، تدفع ملايين الدولارات من أجل الفوز بأجمل لقطة تنكريّة على الإطلاق.
وسكان مدينة مالبورن الأسترالية، أيضاً، يضارعون البرازليين تنكراً، فيحتفلون كل سنة بعيد (المومبا).. ويلبسون أزياء غريبة ومثيرة، وثياب وأقنعة شخصيات عديدة عرفتها الكتب والأفلام السينمائية.
كما أن بعض القرى اللبنانية ما زالت تحتفل بعيد (الحارجة بالبارة).. فيمشي أهل القرية في شوارعها وهم متنكرون.. وأصوات الطبل والزمر والدبكة تلهب ساحتها.
وكثيراً ما نتلقى دعوات إلى أعراس، أو أعياد ميلادية، أو ما شابه، ويطلب منا أصحابها ارتداء أزياء تنكريّة حلوة.. على أن يخصصوا في آخر الإحتفال جائزة لأجمل زي.
وها هم طلاب الصفوف الإبتدائية في معهد سيّدة لبنان، الذي تشرف عليه راهبات العائلة المقدسة المارونيات، يتغلّبون على البرازيليين والمالبورنيين وأهالي القرى اللبنانية بتنكرهم الغريب في أسبوع الكتاب الذي تعدّه، سنوياً، مكتبة المعهد.
شخصيات عديدة من الكتب والأفلام السينمائية، تواجدت في الملعب، وجعلت ركّاب السيارات يمدون رؤوسهم من الشبابيك للتنعم بهذا المنظر الرائع.
سوبرمان كان هناك، وإلفيس بريسلي، وفتيات ألف ليلة وليلة العربيات، والملائكة، والوجوه المفزعة، وزينة النيوزيلندية، وغيرهم وغيرهم الكثير.
الوجوه كانت مفزعة حقاً.. لذلك تتمنى للأطفال مطالعة ممتعة.. وتنكراً أفزع.
**
سعيد عيد ويوسف الخوري
بقرقاشا التي أنجبت الرهبان والادباء والدكاترة..
بقرقاشا التي أهدت العالـم خيرة أبنائها أمثال السادة رومانوس شينا، أنطوان الشعّار، طوني عيسى وكلوفيس البطي وغيرهم..
بقرقاشا القرية الصامدة في أعالي جبالنا أنجبت أيضاً الصديقين العزيزين سعيد عيد ويوسف الخوري اللذين يقدّمان الخدمات الجلّى لأبناء بلدتهما، ولكل من يطرق بابيهما. إنهما يجسدان الكرم اللبناني الاصيل، وتشرئب من أعينهما نخوة أهل القرى الجبلية.
محبتهما للبنان لا يشوبها شائب.. إنها أنقى من دموع الثلج وأمتن من صخور الجبال.. والويل لمن ينتقد أمامهما أرض الاجداد فلسوف يسمع منهما عبارة واحدة تخرسه:
ـ يا خواجه.. لبنان طالع من حرب عشرين سنة.. وفهمك كفاية.
وإذا لـم يكن فهمك كافياً، كان اللـه في عونك.. فسعيد ويوسف لا يحابيان إذا كانت المسألة تتعلّق بلبنان. فللّـه درّهما.
**
نشيد بيروت
أنا مغرم جدّاً جدّاً بالبرامج الفنيّة التي يعدّها المخرج اللبناني المعروف سيمون أسمر وخاصة برنامج (كأس النجوم)، ولهذا تسمّرت أمام شاشة التلفزيون، وألغيت جميع مواعيدي لأتمتّع بحلقة كأس مطرب المطربين الدكتور وديع الصافي.. وكم كانت فرحتي عظيمة عندما سمعته يتلفّظ باسم العميد محمد ياسر الأيّوبي، ويعلن أمام الشرق والغرب أنه سيغني نشيداً لبيروت العائدة، بيروت الثقافة والمجد، من كلمات من وهب لبنان وأمن لبنان أنضر سني عمره، وزيّن الشعر العربي بأروع الصور والأبيات.. ومنحنا، رغم عظمته، حبّه وتواضعه وإنسانيته..
وعندما التقيته في مشواري الأخير إلى لبنان، وجدتني أقف أمام أنسان مثالي خلوق، قلّ أن تجده على هذه البسيطة التعيسة.. وأعجبت به.
أعجبت بتواضعه، بمحبّته، باندفاعه، بصدقه، بعفويته، بشاعريته، بأخلاقه، بمناقبيته، بتسامحه، وبانفاتحه الإلهي المقدّس، وهمست في أذنه:
ـ انت قدّيس ماشي ع الأرض.
وحسبت أن صوت الصافي، صوت اللـه على الأرض، سيهدينا النشيد الذي ألّفه محمد.. ولكن الأمل اضمحلّ عند انتهاء البرنامج.. ليبدأ الحنين الى سماع النشيد أو الى قراءة كلماته.. وها هي الكلمات تقع بين يدي، اهديها لكم بغية حفظها وترتيلها مع (وديعنا) ساعة يحطّ الصوت واللحن على شبابيك الغربة، كما حطّت هذه الكلمات الأيّوبيّة الرائعة:
ـ1ـ
كتابي المجد منذ المهد لـم يزلِ
كأنه قدر قد خُطَّ في الأزلِ
مهد الحضارات لا أحصي لها عدداً
أمّ الثقافات والقانون والمثلِ
مراكب الحرف من شطآنيَ انطلقت
فبشّرت في متاهات الدنى رسلي
هياكل العلم في أرضي قواعدها
تهدي منائر فكري حائر السبلِ
وللثقافة عدت اليوم عاصمة
فهللي يا حروف الأبجديّة لي
ـ2ـ
أنا بيروت عروس العربِ
أمّي العلياء والمجد أبي
سافر الحرف على أشرعتي
يصل الشّرق بدنيا المغربِ
ـ3ـ
أنا بيروت أنا مهد الثقافة
معهد القانون ميدان الصحافة
أنا للأحرار دار للضيافة
دوحة الفنّ وروض الأدبِ
ـ4ـ
سرقوا التاريخ والأمجاد منّي
هجّروا كلّ حضاراتي وفنِّي
أنفض اليوم رماد الموت عنّي
حرّة في الموطن الحر الأبي
ـ5ـ
ردّت الروح مع الأمن إليّا
وجناح العلم قد رفّ عليّا
والثقافات بظلّي تتفيّا
حكمة الفادي وأحكام النبي
**
مي متى مذيعة غير شكل
لولا سرعة التكنولوجيا والبث التلفزيوني، لـم نكن لنحلـم بطلّة مذيعة أنعم اللـه عليها بثقافة عالية، وبإلقاء مسيطر، وبسرعة بديهة أسرع من الأثير، ومن إنترنت السعيد الذكر بيل غايت.. تلك هي السيّدة مي متّى.
وقد أعجبتني ميّ بدراسة الموضوع، وتقليبه على جهاته الأربع، وفحص محتوياته قبل الخوض بغماره.. إنّها، والحق أقول، طبيبة نفسانيّة تنبش العقول لتفرح الأنظار.. وهذا ما لمسته بحوارها مع الدكتور عصام حدّاد، وبدردشتها مع الفنانة نجوى كرم.
فالأول، عرفت كيف تفجّر معلوماته الأدبيّة واللغوية، بتفنّن قلّ مثيله.. فلغة الدكتور عصام حدّاد العربيّة، لا يطأها إلاّ من امتطى صهوة الأدب، ورضع من ثدي الشعر.. ولقد وطئتها مي متى وشربت منها حتى الثمالة.
أما الثانية، فلقد عملت مي المستحيل كي تجمّل صورتها في مجتمع طائفي حقير، ينبذ من يتخطى حدود تقاليده وعاداته.. وراحت تطرح عليها أسئلة مدروسة، حوّلت نجوى من عدوّة لشعب مغلوب على أمره، إلى بطلة قوميّة عند شعب يعرف اللـه حقّ المعرفة، وقرّبتها أكثر فأكثر من قلوب ما زالت متحجرّة رغم ويلات الحرب الطائفيّة التي حصدت البنيان والانسان وأفلست وطننا الحبيب لبنان.
مي متى، مذيعة غير شكل، في زمن كثرت فيه المذيعات، حتى أصبحن أكثر من الهمّ على القلب.. فلتخيّم علينا طلّتها
**
مجلّة الجذور في سنتها الأولى
جميل جداً أن تجد من يشاطرك هموم الجالية الثقافية والأدبيّة، والأجمل من ذلك أن تجد من يتحمّل تكاليف هذه المشاطرة بفرح واندفاع.
وها هو الصديق الجديد علي أبو سالـم يزوّدني بأعداد (جذوره) الضاربة في أعماق الدنيا، والحاملة على منكبيها تراثاً أدبياً أعرق من الأهرام، وأعتق من بابل، وأشرق من مدينة الشمس بعلبك.
جذور.. اسمها يدلّ عليها، والويل لأمة تتخلّى عن جذورها، أو تتلاعب بها، أو تقتطع منها، فلسوف تنهار أمام أعين التاريخ وتصبح مضحكة الأجيال.
والجذور، كما يقول أصحابها: نشرة دوريّة تعنى بالشؤون الثقافيّة في أستراليا. وأنها مجلّة الثقافة العربيّة في أستراليا. وبعد أن تصفّحتها، بأعدادها الأربعة، وجدت أن أصحابها لـم يعطوها حقّها من التقريظ والتبجيل، إذ أنها مدّت رجليها خارج بساطها، وطالت بالإضافة إلى أستراليا كافّة الاوطان العربيّة والمغتربات.
فالعدد الأول خصّص لأمير شعراء العربيّة الحديثة نزار قبّاني، الذي افتقدت رنّة صوته الدافىء التي كانت تنساب إلى أذنيّ، أسبوعيّاً، عبر الهاتف.. (ليفش) خلقه لي، وليشتم حكّام أمّة عربيّة، لا يتقنون سوى اغتيال معارضيهم، ولا يتخلّون عن مناصبهم إلاّ إذا وافتهم المنيّة!
والعدد الثاني خصّص لرحيل الشاعر عبد الوهّاب البيّاتي، ذاك الذي حمل خيمته على ظهره وراح يتنقل بها من بلد إلى بلد. وقد أخبرني، رحمه اللـه، في إحدى رسائله إليّ، أنه أعجب بهذه الأبيات الشعريّة التي أختارها من ديواني رباعيّات:
سكران وحدي بغربتي سكران
ومسكّر بوابي بوجّ الناس
بحاكي كراسي البيت والحيطان
وبصير أتخانق أنا والكاس
وقال لي: أكتب، فالكتابة تساعدك في التغلّب على غربتك. وها هو يموت غريباً، ويدفن غريباً.
كما وجّهت بالعدد الثاني التفاتة تاريخيّة لشهيد الكلمة غسّان كنفاني، أول من نشر لي في مجلته (الهدف)، ديواني يوميّات مراسل أجنبي في الشرق الأوسط.
أما العدد الثالث.. فلقد تربّع على غلافه شاعر الإبداع والرقّة المرحوم نعيم خوري، ذاك القابع في تراب الخلود، بينما نحن نحار أين ندفن أتربتنا التعبة منّا.
وأخيراُ، العدد الرابع.. فلقد أشرقت على غلافه ابتسامة البروفسور فيليب سالـم القائل: ويل لانسان لا تربطه محبّة بأخيه الإنسان وبالأرض. وعلى ذات الغلاف أضاءت الجذور شمعتها الأولى، ولسان حالها يقول: الأفضل أن أضيء شمعة من أن ألعن الظلام. وها هي شمعة الجذور تتحول إلى شمس مفرحة، وهبت فرحها للعديد من شعراء المهجر، وأدخلتهم العالمية من خلال شبكة الإنترنيت التي تشرف عليها. فسنة حلوة يا جذور.. أغنّيها من القلب.. وعقبى لمئة سنة بإذن اللـه.
الجذور.. يجب أن تبقى، لا حبّاً بالشهرة، بل رحمة بنا نحن أدباء وشعراء المهجر في أستراليا. فمدّوها بنسغكم كي تنمو أكثر.. وكي تنعشكم أكثر.
**
علي سلطان بحّار من باكستان
الكل يعلم أن ديواني (مناجاة علي) قد ترجمه إلى الإنكليزية السادة: ناجي مراد، إيلي شعنين وجو اليموني. وإلى الفرنسيّة الاستاذ عبداللـه خضر، وإلى الإسبانية الصديق إبراهيم سعد. وها هو السيّد علي سلطان قبطان إحدى السفن القادمة من باكستان إلى أستراليا، يطلب مني أذناً بترجمة (المناجاة) إلى الأوردية، ليتنعّم بقراءته معظم شعوب الكون، على حدّ تعبيره.
والقصّة بدأت عندما ذهب علي إلى مكتبة سيدني العامّة، وراح يفتّش بالكومبيوتر عن كتاب نهج البلاغة للإمام علي باللغة الإنكليزيّة. ولمّا لـم يجده، طبع على الشاشة اسمAli ، فإذا باسم ديواني (مناجاة علي) المترجم إلى الإنكليزيّة، يتراقص أمامه كأشّعة الشّمس فوق مياه الغدير. فطلب الديوان، ولكن الموظّفة أمهلته بعض الوقت، حتّى يحضروه له من مكتبة أخرى.
وما أن بدأ بتصفّح الديوان حتى بدأت الدموع تنساب على خدّيه، وأحسّ بشغف شديد لاقتناء الكتاب، فسأل الموظفة إذا كان بإمكانه شراؤه، فسمحت له فقط بتصوير عدد قليل من صفحاته.. فما كان من علي سلطان إلاّ أن صوّر عنواني، وأرسل لي رسالة من باكستان يطلب منّي فيها شراء نسخة من (مناجاة علي) بالثـمن الذي أحدّده. فأرسلت له نسخة منه بلغاتها الأربع، ففرح بها أشد الفرح، وسمح لجميع سكّان منطقته أن يصوّروه ويتناقلوه ويعلّموه لأطفالهم.
وراحت الأيّام والأسابيع والشهور تتسابق، وراحت الرسائل والإتصالات الهاتفية تصلني منه، إلى أن دق جرس بيتي منذ أسبوعين، ففتحت الباب وأنا أسأل:
ـ من الطارق؟
فإذا بصوت غريب يتناهى إلى مسمعي قائلاً:
ـ أنا علي سلطان من باكستان، تركت سفينتي المسافرة غداً وجئت لأراك.
تتطلّعت به عدّة مرّات قبل أن أسمح له بالدخول. فلقد أحسست أنني في حلم، وأن من أرى لا يعقل أن يصل إلى بيتي على حين غرّة.
ـ من أوصلك إلى هنا؟ سألته.
ـ رجلاي.. جئت ماشياً من محطة قطار ماريلاندز ، لأن الباص أقلع قبل وصولي بلحظات.
ـ وكيف عرفت أنني في البيت؟
ـ كنت أصلّي طوال الطريق كي أراك..
ـ صدّقني أن صلاتك قد استجيبت.. لأنني وصلت منذ دقائق، وكنت على أهبّة المغادرة بعد دقائق. فما رأيك لو شاركتني طعام الغداء، كي نربح الوقت؟
تطلّع بالطاولة، فوجد عليها طنجرة مليئة بمحشي ورق العنب، فسألني:
ـ ما هذا؟
فقلت له:
ـ كُل دون أن تسأل.. إنه طعام لذيذ للغاية.
فأكل، وأكل، وأكل حتى شبع، وهو يتمتم:
ـ الأكل اللبناني شهي للغاية.
وبخبرة الطبّاخ المتمرّس، راح يسأل عن كيفيّة تحضير ورق العنب وطبخه.. وما هي أنواع البهارات التي نستعملها، وكيف نقوم بتقطيع اللحم إلى فرم صغيرة. وأعتقد أنه سجّل (الطبخة) في رأسه دون أن يستعين بقلم وورقة، لذكائه النادر.
وما أن بدأت الشمس بالرحيل، سألني حتى أوصله إلى أقرب محطّة قطار، فقلت إنّها على مرفأ بوتني. فضحك وقال:
ـ هناك ترقد سفينتي.
فقلت:
ـ سأوصلك إلى هناك، فما رأيك؟.
فابتسم وقال:
شرط أن تزور سفينتي.
السفينة كبيرة جداً، إنّها (تايتنيك) من نوع آخر. كونها تنقل 3600 (Containers) دفعة واحدة. طولها 200 متر، وارتفاعها 14 طابقاً سكنياً.. فتصوّروا!!
وحده محرّك السفينة يحتلّ سبعة طوابق.. معظمها تحت الماء.. أمّا الطوابق الأخرى فيسكنها البحّارة وقادة السفينة.. بالإضافة إلى المطابخ وغرف الطعام والمستشفى وقاعة التمارين الرياضية وما شابه. إنها مدينة بحد ذاتها.. يسكنها ثلاثون شخصاً لا غير، يديرونها كما تدير الحكومات البلدان، ويتفانون في سبيلها كما تتفانى الأم في سبيل العائلة.
وفي مكتبه الرابض في أعلى السفينة، بدأ علي يفلش امامي صور عائلته، ويقول لي بفرح ظاهر:
ـ هذه زوجتي رانا، وهذه ابنتي زينب.. هذا إبني محمّد وهذا أخي عبّاس وعائلته على ضفّة نهر (سوات) في باكستان.
وكان كلّما تطلّع صوب مدرج مطار سيدني ليراقب طائرة مقلعة، أدسّ في جيبي صورة أعجبتني من صور أفراد عائلته، وأعتقد أنه ضبطني بالجرم المشهود، ولكنه تجاهل الأمر، ورماني بابتسامة رضى. وكنت كلّما حصلت على صورة، تتراءى أمامي خطوط مقالي هذا، وتتجمّع في مخيّلتي كحلم جميل، أحببت أن لا أستيقظ منه، وعندما استيقظت أقسمت أن أطلع قرّائي عليه لطرافته وواقعيته.
عندما ودّعت علي، أحسست أن أخاً عزيزاً قد فارقني، ولولا وعده لي باللقاء القريب لانهمرت دموعي، ولتطايرت محارمي في الهواء، تماماً كما كنت اودّع أقاربي على مرفأ بيروت أيّام زمان.
علي سلطان، بحّار من باكستان، علّمني كيف يجب أن يحترم الإنسان أخاه الإنسان.
**
رسالة إلى جوزيف حايك
عزيزي الرئيس..
من كعب الارض أكتب إليك، لأبثّك، والمجلس القاري، حبّي وامتناني. ولأخبرك عن العبير النادر الذي فاح في أرجاء غربتي الطويلة.
كنت أعتقد أن الغربة تحجّر قلوب وعقول الناس، وكم حجّرت منها، ولكنّ قلبك رفض أن يتنشق ما تنشقّه غيرك من سموم، فظلّ ينبض بالحبّ، ويوزّع علينا في مواسم الأعياد هداياه، كالبابا نويل، أو كأولئك الجدود الأشاوس الذين ما أن تبادرهم بتحيّة العيد حتى يفرغوا ما في جيوبهم من خير أمام أعين سعادتنا.
لقد حاولوا أن يسرقوا السّعادة التي زرعتها، دون معرفة، في قلبي وعينيّ. همّك فقط أن تسعد مغترباً أعطى الغربة سني عمره، وعصارة فكره دون أن يمنّن أحداً.. وكيف يمنّن، وهناك من أعطاه أيضاً دون منّة.. هناك من كرّمه ومن خلّده ومن أحبّه.. ألـم يشرح لنا المعلّم الأكبر، صاحب الميلاد، كيف تكون المحبّة؟!.. وأن المحبّة المجزوءة لا تلفحها الشمس، ولا تعترف بها الورود، ولا تغني لها البلابل!!..
محبّتك، يا حبيبي جوزاف، وأقولها بملء فمي، كانت أكبر من عالمنا الاغترابي هذا، وأوسع من حدقات عيوننا، وأعمق من تفكيرنا، لذلك خافها البعض، وحاول أن يستتر بأنانيته، دون أن يعلـم كـم هي مفرحة، وكـم هي لذيذة، وكـم هي منعشة تلك المحبّة التي أرسلتها لنا جميعاً، باسمك، وباسم المجلس القاري للجامعة اللبنانية الثقافية في العالـم ـ فرع أميركا الشمالية.
منك نطلب المعذرة، فاعذرنا أيّها الكبير، لعدم تفهّمنا واستيعابنا لتطلعاتك الإغترابية، لالتفاتاتك الأدبيّة، ولاعترافك بنا، كطاقات تحمل الضوء في قناديل قهرها وعذابها وقلقها المتواصل، لتهديه، كما أهديتنا، للقوافل الآتية من الشرق.
أمامك.. وأمام من يقرأني.. وأمام سنوات غربتي الطويلة.. أقسـم أن لا أحد من أدباء وشعراء المهجر في أستراليا، أنكر جميل بادرتكم، وإن كان كلّ واحد منهم قد عبّر بطريقته الخاصّة، وفقاً لأصول الديموقراطيّة التي بها نؤمن جميعاً، لذلك باسمهم، وباسم كل الادباء والشعراء في عالـم الانتشار اللبناني أرجوك أن لا تتراجع، وأن لا تتوقّف عن تكريم طاقاتنا الاغترابيّة، فلا فضل لنا إذا أحببنا من يحبّنا، بل الفضل، كل الفضل، أن نحبّ من أشاح بوجهه عنّا. فأنا وعالـم الانتشار الذي تحبّ، بانتظار تتويج أمير آخر تختاره والمجلس القاري لعام 2001، فما أجملها من ساعة حين أسلّم صكّ الإمارة لأمير آخر أفنى عمره وهو يبني قلاع إمارته الأدبيّة في غربة لا ترحم أحداً.
كلّنا نحبكم.. فلا تشيحوا بوجهكم عنّا.. جاليتنا غنيّة بأقلامها.. بتسامحها.. وبمحبّتها. ومن هذه المحبّة المتدليّة الأغصان أقطف لك ولزملائك الكرام أجمل الشكر وأصدق السلام.
**
إستفتاء "أميرة"
حول "إمارة" شربل بعيني
الإستفتاء الذي أجراه رئيس تحرير مجلّة أميرة الصديق شوقي مسلماني حول إمارتي الأدبيّة، كان رائعاً شكلاً ومضموناً.. وبعيداً كل البعد عن فلسفتنا الإجتماعيّة (مسّحلي تا مسّحلك).. إذ أنه اختار أناساً لا أعرفهم، ولـم ألتقِ بهم، أو ألقِ عليهم ولو تحيّة عابرة. كالسيّدات والسادة: حيدر سعيد، رياض الأشقر، الياس فرحات، أكرم حنّاوي، إنتصار عبد اللـه، زهوت حب اللـه، هادي ماهود، حسين الحاج، وأبو أنيس غانـم. لذلك جاء استفتاؤه مشرقاً كالشمس، وناصعاً كقلوب جميع الذين استفتاهم:
إلى صديقي أنطوني ولسن أقول: أنا لـم أشجّعك على نشر مؤلّفاتك، بل أنت من شجّعني على تشجيعك، كوني وجدتك إنساناً مبدعاً، وقاصّاً محلّقاً، وقلماً أعطى بصدق، فاستحق محبة واحترام كل من عرفه. فشكراً على محبتك.
إلى أخي رئيس الجامعة الفلسطينيّة السيّد حيدر سعيد أقول: أنا لست بحاجة إلى جائزة الإنتفاضة.. لأنني حصلت على ملايين الجوائز منها.. فكل حجر ضربه أطفال فلسطين باتجاه الأعداء كان وساماً يعلّق على صدري.. وما كتبته عنهم كتبته بدموعي.. ودمي. فشكراً لك على محبتك. ولينصرنا اللـه.
إلى رئيس جمعيّة بنت جبيل الدكتور خليل مصطفى أقول: لقد كرّمتني بنت جبيل يوم أرسلت أبناءها لزيارتي وهم يحملون إليّ المركب الفينيقي الأول الذي تلمذ العالـم. وبما أنني أعيش كل يوم ذكرى ذلك التكريم الرائع.. لا داعي للتعب.. فلك ولبنت جبيل ـ حبيبتي ـ كل المحبّة والفرح.
إلى المثقّف الوطني رياض الأشقر أقول: لقد حزنت جداً عندما قرأت أنك لـم تقرأ كل إنتاجي، لأنني ما كتبت إلا لأناس مثلك، يحملون هم الناس والوطن، ويعترفون بفضل المبدعين من أبناء جلدتهم. أعدك بأن أرمي بين يديك بعضاً من نتاجي. شكراً لك.
إلى أخي الشاعر الياس فرحات أقول: إمارة الشعر ما وجدت إلاّ لشعراء من أمثالك.. يحاربون الطائفيّة، ليبنوا الوطن الأجمل لشعب مثالي.. فاسمح لي أن اتقاسم معك صك إمارتي. وألف شكر لك.
إلى رئيسنا الدكتور مصطفى علم الدين أقول: إن الذي أوجد في الجاليّة مناخاً تضامنياً هو أنت. فهنيئاً للجالية بك.. وهنيئاً لي بصديق نظيف الكف واللسان، ويدرك أن الصداقة متى وجدت لا تنهيها الغايات.. ولا الأمزجة الهوائية. أشكرك يا رئيس الجالية.
إلى صديقي الجديد أكرم حنّاوي أقول: كيف عرفت يا أكرم أن اللقب أتعبني بدلاً من أن يفرّحني؟. كيف عرفت بأنه قد ألقى على كاهلي أعباء كبيرة؟. أجل يا عزيزي.. فلقد بدأت أشعر بهذا التعب. ولكن كلامك أراحني.. وأعطاني دفعاً جديداً. فألف شكر لك.
إلى الكاتبة إنتصار عبد اللـه أقول: السعادة ليست في أن نسمع أن في المغتربات من يكرّم الإبداع، بل السعادة في أن نجد في المغتربات من يحمي المبدعين وإبداعهم. وأعترف أنك واحدة من هؤلاء العظماء. فشكراً لك.
إلى الصديق ميشال سعادة أقول: لقد كنت من أوائل المذيعين الذين أجروا معي حديثاً إذاعياً، ومن ذلك اليوم، وأنا أتذكر استقبالك لي في منزلك. لست أنا الرجل العاقل يا ميشال، بل هو أنت. وأتمنى لك النجاح الدائـم.
إلى ذواقة الأدب زهوت حب اللـه أقول: أنا لـم أغضب من النقد، بل غضبت من التجريح الشخصي الذي يدينه المجتمع والقانون. النقد عندي يا زهوت بمثابة السماد للنبتة. منه تستمد قوتها واخضرارها، وصدقني أن تهنئتك الصادقة لي تساوي طن سماد أدبي. فألف شكر لك.
إلى حبيب القلب الدكتور علي بزّي أقول: إذا كنت أنا المحبوب من أبناء جميع الطوائف اللبنانيّة في المغترب.. فكم بالأحرى أنت يا دكتور.. فلا أحد مثلك ينافسني على سنة 1951، أو على محبّة الناس. الجائزة الكبرى التي حصلت عليها يا علي هي محبّتك لي. فشكراً لك. آخ يا ضرسي..
إلى المخرج السينمائي المعروف هادي ماهود أقول: نعم يا هادي، إن لقب الإمارة مسؤوليّة كبرى، لـم أشعر بثقلها كما أشعر به اليوم.. ولو لـم تكن المغتربات تعج بالأدباء والشعراء المغتربين الكبار لـما أوجد المجلس القاري للجامعة اللبنانية الثقافية ـ فرع أميركا الشماليّة مثل هذا اللقب. تهنئتك لي بالجائزة فيها إخراج إنساني وأدبي وفني رائع. فألف شكر لك.
إلى الناشط الإجتماعي والسياسي والأدبي حسين الحاج أقول: دعمك لي كي أكون قدوة للكتاب ليكونوا على قدر كبير من المسؤوليّة تجاه قضايا بلادهم، هو مسؤوليّة بحد ذاته. ولكنني أعدك بأنني سأكون عند حسن ظنّك، طالما أن نجاحي ونجاحك يصبّان في مصبّ واحد، ألا وهو (النجاح الكامل للجالية اللبنانية والعربية في المغترب الأسترالي).. ألف شكر لك.
إلى الممثل الكبير سعيد الدهّان أقول: دعني أهديك ما قلت فيّ: أنت هو الممثل الممتاز، وأنت من يمثّل بنبض القلب.. ولو كان للتمثيل إمارة لكنت أول من يتربّع عليها. فالإنسان الذي يعطي بنبض القلب ستنبض له القلوب لا محالة. شكراً يا سعيد.
إلى صاحب الوفاء النادر أخي الصحفي جوزاف بو ملحم أقول: إذا كنت أنا الرقم واحد أخلاقيّاً.. فاسمح لي أن أقدّمك عليّ.. لأنني تتلمذت على يديك طوال سني معرفتي بك.. وها أنا أعترف اليوم أنني كنت أغبطك على أخلاقك الرائعة.. وكنت أتعلّم منها محبّة الآخرين وطول البال. أشكرك يا أبا الزوز.
إلى السنديانة المهجرية الشامخة كأرزة أبو أنيس غانـم أقول: لـم أتفاجأ بوجود إسمك بين المهنئين، فمن أعطى الصحافة إبناً كأنيس غانـم، عجيب أن لا تستفتيه الصحافة، وأن لا يصبح الشعر طوع بنانه. واسمح لي أن أهديك هذه الأبيات:
بْتِسْتَاهِلْ التِّقْديرْ يا بَيّْ الأَدَبْ
يا بُو أَنِيسْ.. الْـ زِيَّنِتْ دُنْيَا الْعَرَبْ
أللَّـه يْطَوِّلْ عُمْرَكْ.. وْعُمْر الأَنِيسْ
إِسْـم الْحَبَايِبْ بِاْلقُلُوب بْيِنْكَتَبْ
وأخيراً.. إلى الوفي الأكبر شوقي المسلماني أقول: عندما استلمت مجلّة (أميرة)، ووجدت صورتي على الغلاف الملوّن.. لـم أفاجأ ابداً، لأنني أعرف معدنك.. وأعرف أنّك من القلائل الذين تجتاحهم العظمة، من شعر رؤوسهم حتى أصابع أرجلهم. ولكنني همست لنفسي وأنا أتطلّع بإخراج الغلاف الرائع: مسكين شوقي.. سيكون أول سؤال يوجّه إليه: كم دفع لك شربل بعيني لتبرزه هذه البرزة التاريخيّة. أنا أعرف جوابك يا شوقي.. أعرفه جيّداً فلا تحبسه في قلبك.. أطلقه في الريح، ليتعلّم الآخرون كيف يكون الوفاء. أحبك.
**
نجاة فخري مرسي
وجائزة جبران
"رابطة إحياء التراث العربي في أستراليا وجائزتها الجبرانيّة".. كتاب جديد أهدتنا إيّاه الأديبة المهجريّة نجاة فخري مرسي، لنزيّن به مكتباتنا العطشى إلى أعمال خالدة كهذه، ترجعنا إلى الماضي، لا لنرتمي في السلفيّة، بل لنصحّح أخطاء ارتكبناها ساعات العطاء والإندفاع نحو العمل بتلقائيّة الأطفال وبراءتهم، همّنا فقط التغلّب على غربة سوداء، كل ما فيها ينعب!
يقع الكتاب في 340 صفحة من القطع الكبير، أزهرت فيها مقالات وقصائد الفائزين الجبرانيين منذ السنة الأولى لمنح الجائزة. وأعطت الكتاب رونقاً أدبياً رائعاً، وبعداً عالمياً قد لا يتمكن من الوصول إليه إلاّ من دخل الكتاب من بابه الضيّق جداً جداً، الذي هو (الجائزة).
أخطاء الكتاب هامشيّة لا قيمة لها، سببها النقل السمعي عن أشرطة الفيديو، كما حصل في قصيدتي الجبرانية، التي تغيّرت فيها كلمات عديدة.. أو الصفّ الإلكتروني، كما حصل في عبارة (جميع الحقوق محفوظة). ولكن إذا وضعنا الكتاب في كفّة النقد، نجده أبعد من النقد، لأن ما احتواه أسمى من أن يتطاول عليه أحد. إنه يحضن بين دفّتيه كلمات أناس عباقرة غيّروا مسار أدبنا، وأعطوه زخماً، أنّى للأيام أن تمحوه، وأنى لمزاجيّة البشر أن تتلاعب به. منهم من طواه الموت، ومنهم من يواصل معاناته اليوميّة مع الحياة، علّه يهدي أمته العربيّة فجراً جديداً مرصّعاً بالحريّة، والعيش الكريم.
لقد أتحفتنا نجاة مرسي بمؤلفات عديدة، أحببتها حرفاً حرفاً، ولكن الأحب إلى قلبي سيكون هذا.. لأنني أعيش بين صفحاته، كما يعيش العطر بين وريقات الزهرة. أتضوّع تارة، وأختفي تارة أخرى.. ولكنني هناك، بجسدي، بأنفاسي، بإلقائي، وبكلماتي، فألف شكر يا نجاة.. وألف شكر يا أنيس.. فلولا سخاؤكما ما بزغ فجر تاريخنا.. ولبقيت مواقفنا الأدبيّة تتوق لأرصفة تنقذها من زحمة الغربة، ومن غبارها القاتل.
**
الفنّان يوسف رحمة
الفنان المعروف يوسف رحمه أصبح مغترباً مثلنا، أي أن الغربة ربحته بعد أن خسره الوطن، فهنيئاً لغربتنا به، وهنيئاً لفنّنا المهجري بصوت أثبت وجوده على امتداد خريطة الفن الشرقي في دولنا العربيّة.
علينا أن لا نكتفي بفرحة وجوده بيننا، بل يجب أن نؤمّن له الراحتين الفكريّة والفنيّة كي يعطي، وما أروعه حين يعطي.
مرّة سمعته يغنّي، فوجدت أن الفرقة الموسيقيّة في وادٍ، وصوته في واد آخر، وفي نفس الوقت وجدت الألـم مرتسماً على وجهه لأن النغم لا يلبي الصوت، ولأن الجمهور الذي يدبك على قرقعة الطناجر لا يعرف الفرق بين صوت (ألغراب) وصوت (البلبل)، المهم أن يطبّلوا له كي يرقص.
أغنيات يوسف رحمه أشهر من نار على علـم، فلماذا لا تتدرّب عليها فرقنا الموسيقيّة، احتراماً لفناننا الكبير، ورحمة بنا وبفنّنا المهجري.
إلى أن نصبح محترفي كلمة ولحن وموسيقى، سنظل نصغي لصوت يوسف رحمة، وسنظل متجاهلين كل ما حولنا، حتى النشاز الموسيقي.
حماك اللـه يا يوسف، وحمى أوتار حنجرتك الذهبيّة.
**
شعر نعيم خوري
مثقل بالإيمان
صوت المغترب ـ العدد 2018 ـ 25/3/1993
تحسّه، وأنت تسافر معه في وجعه الحزين، انه يعمل المستحيل من أجل إسعادك، وترطيب أجوائك بندى محبته.
قساوته على نفسه، يبررها صمته المثقل بالايمان، وهو يترنّح على شاطىء العاصفة، وكأنه "يعيش حالة نفسية وعاطفية مضطربة، يتخذ معها موقفاً من الوجود، من ناسه، من قضاياه والاشياء"، على حد تعبير الاستاذ انطونيوس بو رزق، او كما يقول الاستاذ جوزاف بو ملحم: "انحنى للحزن فتعمد بالدموع".
وانا اعلم علم اليقين مدى اتساع شاطئه، وسرعة تحرك رماله.. لانني عشت تحرك رماله، وحالات جزره ومده، لحظة بلحظة، وانتفاضة بانتفاضة، وانحساراً بانحسار:
أنا لولاك لم يكن لي أمسي
ولا كان لون الحب لي غدا
ألا يوجعك اعتراف نعيم خوري هذا، ويوقفك امام صراحته مبهوراً كالفراشة بالضوء؟
ألا يذكرك رثاؤه لرفيقة عمره، برثاء الخنساء لأخيها:
غداً أصفف أيامي على وجعي
حتى تُعَتَّقَ أزمانٌ وأدهارُ
ولا أغالي إذا قلت إنه تغلّب عليها، وبزّها بأشواط، من ناحية تصويره لحالاته النفسية، التي صورت له، بحد ذاتها، اللا معقول معقولاً:
كأني أرفرف فوق الضباب
ويبكي ويضحك
حبي معي
أضم الضباب
أضم السحاب
أضمك أنت إلى أضلعي
كلام كهذا لن يقوله إلا عملاق شعري، عمّده الوجع، رغم ترفّعه، بدموعه:
ملامح صوتي استرقت اليها
وذابت عليها مآقي السهر
شتاء هنا، وصيف هناك
ونحن الرحيل.. فأين المفر؟
يقول رسول حمزاتوف: "على الكاتب أن يصغي الى نبضات قلبه قبل أن يعقد قرانه على موضوعه".
وأقول بدوري: ان الشاعر نعيم خوري لم يصغِ الى نبضات قلبه، لأنه كان القلب والنبضات في آن واحد، ولم يعقد قرانه على موضوعه، لأنه كان الموضوع بكل أبعاده.
به فقط، يصح قول سفيرنا الدكتور لطيف أبو الحسن، في مقدمة ديوان "سفر الوجع الحزين": "يحاور الموت ويحتفل بالحياة".
ولا أذيع سراً إذا قلت ان تلك المقدمة كتبت قبل وفاة المرحومة "فيكي خوري" بسنتين ونيّف، فكيف عرف سعادته ان القدر سيدخل نعيم خوري كهف يوليسيس ليحاور الموت حقاً، وليحتفل بالحياة؟".
وبما انني أؤمن بأن ناقل الكفر ليس بكافر، سأنقل إليكم العبارة البعيدة المدى، التي سجّلها جوزاف بو ملحم على غلاف "صمت على شاطىء العاصفة": "مرّات تقول الحمد لله، ان ماتت زوجته قبله، وإلا لكانت ماتت..".
وأترك للقارىء فلسفة هذه العبارة، لأنني مجبر على إعادة قراءة ديوانيْ نعيم خوري الأخيرين، مرة ثانية، وثالثة، ورابعة.. لأن لا أحد يقدر أن يتذوق شعره ما لم يعد إليه عودة الطفل الى حضن أمه.
**
نعيم خوري في "قال صنين"
شاعر له قلب يطوف على الدنيا
الوفاق ـ العددان 5 و6 ـ حزيران وتموز 1986
حين ابتدأ شاعر العرب الأكبر ابو الطيّب المتنبي، يلقي الشعر في بلاط سيف الدولة، وقلوب الشعراء الباقين تتلظى على جمر الحسد، ولد، باعتقادي، الحسد الشعري، الذي لولاه، لما وجد فن الهجاء، ولما مدح عبد سيىء ككافور الاخشيدي.
وكي لا أكون كاذباً، شعرت بشيء من هذا الحسد، إثر اطلاعي على الكتيّب الذي صدر عن دار الثقافة للطباعة والنشر، للشاعر نعيم خوري، بعنوان "قال صنين"، والذي قدّمه الأديب كامل المر قائلاً: "من صلابة صخر صنين، ومن عليل هوائه، وطيب رياحينه. من قدسية وطن الأرز، ومن صفاء انسانه، اشتق الشاعر نعيم خوري كلماته، واستمد معانيه، فكانت لنا رائعة "قال صنين".
وبالطبع، فلقد أجبرتني هذه الرائعة على الانحناء امام خيال شاعر له قلب يطوف على الدنيا:
أنا منه قلب يطوف على الدنيا
وزند مشمر بنّاءُ
يخطف الوعد خاطري فلهيبٌ
في حنيني وفي الضمير إباءُ
دون أن تقدر هذه الدنيا على احتضان جنونه الواعي:
يا جنون الرياح بعض جنوني
يتبناه في الورى العقلاءُ
او اقتفاء خطواته الثابتة:
موجة الوعي تقتفي خطواتي
في زمان طغى عليه الغباءُ
او مضاعاته عظمة، وهو ابن صنين الجبل الأشم الذي:
نصفه يحضن البحار ويزهي
نصفه الآخر العلى والسماءُ
ويكفي نعيم خوري في "قال صنين" انه صفع غربته "وشد أذنها"، وأخذ ينظر بازدراء الى كل من يعتقد ان غربته كانت فألاً حسناً يجب أن لا يتخلى عنه أبداً:
أنت شعبي وموطني وملاذي
لا تلمني، فليس عنك بديلُ
والذي يجعل اغترابي حلماً
أن حبي محصّنٌ مأمولُ
ولكي يؤكد صحة كلامه، نراه يعدنا بالرجوع، ويحدد موعده:
يوم لا يفسد انتماءنا حقدٌ
بربريٌ ومارقٌ مرذولُ
يوم لبنان يسترد هداه
وعلاه، وتطمئن العقولُ
وحتى لا تبعده الايام عن مبتغاه، نراه يستنجد ببلاده، علّها تمده بالعون والامل وتحقق بعضاً من أحلامه:
شخب الجرحُ.. فانهضي يا بلادي
واغزلي الحلم والعبير ستائر
فتخيّلوا معي شدة هذه الصرخة، وكم عانت حنجرة الشاعر إثر اطلاقها، وفي نفس الوقت تخيّلوا صورة نهوض بلاد بأكملها وسط زغاريد أبنائها المقيمين والمغتربين، وقولوا لي: أليس هذا حلم كل انسان لبناني، حمل ثقل السنين فوق منكبيه، ومشى على طرقات القدر غير عابىء بما ستحيكه الاقدار من مآسٍ، همه الوحيد السير بقوة ايمانه فوق مياه البحر الذي قال عنه يوماً:
مر كالحلم خاطفاً ورقيقاً
في خيالي وثار فيه العتابُ
نغمة الحب في عروقه تغلي
والهناءات والشذا والرضابُ
ولطالما حاول هذا البحر الطفيلي ان يتحرش به بغية سبر اغواره، وكشف مكنونات صدره الممتلىء بالطموح والتشاوف، وحثه على الاستكانة في غربته، وانرال رحاله، ونصب خيمة طمأنينته، فكان يصده قائلاً:
لا تسلني، جرحي نزيز وروحي
في حروفي وفي الشفاه جوابُ
أنا في غربتي سجين وقلبي
يتلوى وتعصف الاعصابُ
وسجن الغربة، يعتبر من أكثر السجون بداءة، فالرطوبة والعفونة تعششان في جدرانه النتنة، والعناكبُ تغزل خيوطها بين ممراته، بينما الفئران تتسلى بقضم أظافر أرجل نزلائه.
سجن الغربة هو الباستيل" الدائم للانسان اللبناني، كيف لا، وبلاده ما زالت تعاني الأمرين، من ظلم واستبداد حكامها، الذين لا هم لهم، سوى الجلوس الدائم على الكرسي، وزيادة ارصدتهم في بنوك سويسرا، والتلاعب بحياة المواطنين الابرياء:
أين ارض الجدود؟ اين المبادي؟
أين انساننا واين الجهادُ؟
زمر تحكم الشعوب وتبغي
ويراغي أسايدها أسيادُ
وبعد كل هذه الشاعرية الفياضة عند نعيم خوري، أفلا تعذرني، قارئي العزيز، اذا دبت الغيرة في قلبي، وتخيلت نفسي لأول مرة واحداً من شعراء بلاط سيف الدولة الذين حاربوا المتنبي علانية، في حين كانوا يصفقون له تصفيقاً حاداً كلما اختلوا بأنفسهم وشمّروا للصلاة.
**
هل تفاعلت الجالية
مع وفاة نعيم خوري؟
النهار ـ العدد 1364 ـ 8/6/2000
تفاعل الجالية مع حضور أو غياب إنسان مبدع موضوع يطرح نفسه بإلحاح حين خلت الساحة الأدبية من أحد أهم أعمدة الأدب المهجري، ليس في أستراليا فحسب، بل في كافة المغتربات، بعد أن خطفته يد الموت من بين ايدي الكتابة الهادفة، والابداع اللامحدود، عنيت به الشاعر المرحوم نعيم خوري.
فماذا قدمت الجالية لنعيم في حياته، قبل ان نتساءل عما ستقدمه له بعد مماته؟
بالطبع، سيأتي الجواب سلبياً الى اقصى الحدود، لولا بعض الالتفاتات من بعض الأشخاص والتجمعات. مثلاً، لولا حماسة السيد طوني الحلو لشعر نعيم خوري، لما أوجد مكتبة تحمل اسمه، وتحوي مؤلفاته، وقد طالبته مؤخراً بأن يضم إليها كل المخطوطات والشهادات التقديرية التي حصل عليها نعيم في حياته.. شرط أن لا يصيب مكتبة نعيم خوري في ملبورن، ما أصاب مكتبة شربل بعيني في سيدني، التي أنشأها تجمّع المسنين العرب في أوائل الثمانيات، وضاعت مع ضياعه وتوقف نشاطه.
تفاعل الأدباء مع بعضهم البعض.
قبل أن نطالب الجالية بالتفاعل مع المبدع، أياً كان، علينا أن نطالب المبدعين بالتفاعل مع أنفسهم أولاً وثانياً وثالثاً.. واعتقد أن تفاعلاً كهذا في الوقت الحاضر يعتبر من سابع المستحيلات إن لم أقل من أولها، والاسباب عديدة، أذكر منها:
1ـ عدم وجود تجمعات ادبية قادرة على السمو بمبدعينا، منتسبين إليها او غير منتسبين، الى درجات من الرقي الاخلاقي، تجبرهم على احترام الآخر وتشجيعه، وتصويب خطواته الابداعية، ومن ثم التلاحم الكلي معه في السراء والضراء، تماماً كما كان يحدث مع اعضاء الرابطة القلمية في الولايات المتحدة الأميركية، خاصة عندما يتعرض واحدهم للنقد. فيوم هاجم بعض الادباء المصريين جبران خليل جبران على لغته العامية في قصيدة المواكب، انبرى اعضاء الرابطة ومعظم ادباء المهجر في ذلك الوقت، للدفاع عنه والتضامن معه الى ابعد حدود التضامن.
اما اليوم، فها هو الشاعر وديع سعادة الساكن بيننا، يتعرض لأعنف هجوم أصولي من أدباء مصريين أيضاً، بسبب كلمات معبرة كتبها، دون أن نحرّك ساكناً، أو أن نقح قحة احتجاج واحدة، وصدقوني انني، رغم اتصالي به، وعرض خدماتي عليه، ما زلت أشعر بخجل ادبي عارم لعدم تمكني من الدعوة الى مهرجان تضامني معه، يُري من يحب ان يرى، ماذا بامكاننا ان نفعل؟
2ـ التغيب.. كي لا اقول التهميش، عادة سيئة ومزمنة في اوساطنا الادبية والاعلامية، وكأن عبارة الصحافي جوزاف بو ملحم "من ليس معنا ليس منا" قد أسيء فهمها، وفرغوها من وطنيتها، وحولوها الى صرخة ثابتة ما زالت سارية المفعول، ليس على الساحة السياسية، كما ارادها يوم أطلقها، بل على الساحة الأدبية أيضاً.
3ـ التبجح مرض فتاك أصاب معظم شعراء وادباء الجالية، فأينما ذهبت تجد اللعاب يتطاير من أفواههم، وكلمات الثناء على انفسهم تصم آذان مستمعيهم:
ـ أنا وأنا وأنا..
ـ أنا أفضل شاعر في أستراليا.
ـ أنا مسحتهم كلهم في الندوة.
من منا سيلوم أبناء الجالية المساكين اذا امتنعوا عن حضور اية ندوة ادبية يدعون اليها، مخافة ان يصابوا بصداع، تسببه لهم ثرثرات "مبدع" أناني، تسيء الى صاحبها قبل أن تسيء الى من يستغيبهم بغية تحجيمهم.
ومن سيلومنا ايضاً اذا رفضنا، احتراماً لأنفسنا ولأدبنا، المشاركة بأية ندوة يشارك بها هؤلاء المتبجحون، كي لا يمسحونا ويمسحوا الأرض بنا؟
4ـ عدم التشجيع.. وما من أديب مهجري إلا ويشكو من عدم تشجيعه. واذا القينا نظرة سريعة على الندوات التي تطلق بها مؤلفاتنا، لاستلقينا على ظهورنا مقهقهين لقلة وجود "المبدعين" بها، الذين، ان أتوا، يأتون لأخذ صورة في المناسبة، لا لتشجيع صاحب المناسبة.
5ـ الاستهتار: وهذا يحدث عندما يهدي المبدع نتاجه الى مبدع آخر، دون أن يتلقى منه كلمة شكر، وكأنه يريد ان يقول له: لاتنتج بعد الآن.. نتاجك لا قيمة له.
سأكتفي الآن بهذه الأسباب الخمسة كي لا أطيل البكاء على الأطلال، وكي لا أبكيكم معي، لأننا نعيش في عربة لا عدو للمبدع فيها سوى المبدع ذاته!
الإعلام والإبداع:
اعلامنا المهجري لم يقصّر أبداً مع أحد من المبدعين، لا بل حضنهم وقدّم لهم الشهرة على طبق من ذهب. ولولا تشجيع الاعلام المهجري لي لما تمكنت من نشر أكثر من ثلاثين كتاباً، ترجمت بمعظمها الى لغات عديدة كالانكليزية والفرنسية والاسبانية، كمناجاة علي، وألله ونقطة زيت، ورباعيات، وقصيدة حب لأستراليا، وعالم أعمى، وغيرها.
ولولا اعلامنا المهجري أيضاً لما تمكن احد من الكتابة عنّي، وقد وصلت الكتب التي أشادت بشعري الى أكثر من اثني عشر كتاباً، مثل سلسلة شربل بعيني بأقلامهم (سبعة أجزاء)، شربل بعيني ملاح يبحث عن الله، مشوار مع شربل بعيني، الوهج الانساني في مناجاة شربل بعيني، شربل بعيني قصيدة غنتها القصائد، شربل بعيني في مناجاة علي، وغيرها.
ولا أغالي اذا قلت ان معظم هذه الكتب قد نشر في صحافتنا المهجرية بطريقة مشرفة قبل أن يرى النور بين ضفتيْ كتاب.
وبالطريقة ذاتها وأكثر، مدّ اعلامنا يده لفقيدنا الكبير نعيم خوري، ولكل مبدع أثبت وجوده على الساحة الاغترابية، منهم من اشتهر فتواضع، ومنهم من اشتهر فانتفخ ولسان حاله يقول: يا أرض اشتدي ما حدا قدّي!.
اعلامنا المهجري كان راقياً في التعامل معنا، ولم تشُبْهُ سوى شائبتين فقط: نشر نتاج مهجري سيىء للغاية الى جانب النتاج المهجري الجيد، وتفضيل المنقول عن الصحف والمجلات المستوردة على المجبول بعرق غربتنا، وكأن مبدأ (كل فرنجي برنجي) سيقضي على مضاجعنا حتى في أستراليا.
وصدقوني إذا قلت إن نعيم خوري فرح في قبره، ضحكته أقوى من السابق، واشراقة وجهه لتضاهي اشراقة الشمس ضياء بسبب الوداع الاعلامي الراقي الذي حصل له. فلقد نشر خبر وفاته في الصفحات الأولى، وامتلأت الصفحات الداخلية بدمعات أحبائه.. فألف شكر لصحافتنا، ولكافة وسائلنا الاعلامية المسموعة والمرئية.
تفاعل الدولة مع المبدعين:
إذا شكرنا الاعلام المهجري على اهتمامه بنا، فلن نشكر الدولة اللبنانية، والدول العربية، بسبب تجاهلها الدائم لنا. وكم كنت أمنّي النفس بأن أرى مسؤولاً لبنانياً واحداً يحضر جنازة صديقي العزيز نعيم خوري، ويرمي على نعشه الطاهر باسم الوطن لبنان "تنكة" تافهة لا ثمن لها، اسمها وسام الاستحقاق اللبناني، ويقول له باسم وطنه وشعبه: شكراً يا أبا "ماتيو".
وأعترف هنا، وللمرة الأولى، ان احد السفراء قد عمل المستحيل من أجل منحي أنا ونعيم خوري وسام الاستحقاق، دون أن تصغي له دولته، وكأننا لا شيء، لا شيء البتة، في هذا المهجر البعيد، وكأن دولتنا لا تكرم سوى القتلة وقطاع الطرق ومهربي المخدرات.
نعيم خوري كرّم لبنان الوطن، ولكنه رفض أن يكرّم لصوصه، فأسقطه اللصوص من قائمة المحظوظين المكرمين، متناسين ان ابن "بطرّام" ان الكورة الخضراء، ابن غربتنا، أكبر من حدود مستعمراتهم، وأوسع من تفكيرهم الضيّق. انه وطن بحد ذاته، ومن كرّمه نعيم في شعره، فلقد كرّمه الوطن.
الجالية والمبدعون:
والآن جاء دور الجالية، التي انضم نعيم خوري الى احضانها منذ اربعين سنة وأكثر، ساهم في مد اعلامنا بأدبه وحضوره، وشاركها في لأفراحها وأتراحها، وقد لا أذيع سراً اذا قلت انه كان يكتب معظم الخطابات التيى ألقاها أناس مختلفون في حفلاتها ونسبوها لهم، وهذا ما أسرّ به إلي مراراً.
ولقد كان، رحمه الله، أشهر أقلامها، وكان من حقّه أن يلقى منها ما لقيه نزار قبّاني من أبناء شعبه، يوم حملوا نعشه وداروا به في شوارع دمشق. كما من حقّه ان يشارك 10 آلاف مغترب في تشييعه، وأن يهتفوا باسمه عالياً، حتى تتهافت وسائل الاعلام الغربية والعربية على السواء، وتتناقل الخبر: اليوم مات عظيم من أبناء الجالية اللبنانية في أستراليا.
لماذا شيّع نعيم خوري هكذا؟ حتى أقرب المقربين إليه لم يعرفوا بوفاته!.
لماذا لم يؤخّر دفنه الى يوم السبت، ليتسنى لنا إعلام الجالية وحثّها على المشاركة؟
لماذا كانت جنازة شاعر بوزن نعيم خوري لم تستقطب أكثر من 300 مشيّع؟ فاصرخوا معي إذن: الويل لنا، الويل لنا اذا وافتنا المنية، فلن يشيّعنا أحد على الاطلاق.
تفاعل الجالية مع حضور أو غياب مبدع، مسألة من الأفضل أن لا نخوض بها، حتى لا تعترينا قشعريرة او نصاب بيأس شديد.
**
نزلاء المنام للأديبة امان السيّد
عندما طلبت مني الأديبة "أَمان السيّد" إلقاءَ كلمةٍ في حفلِ توقيعِ كتابِها "نُزلاءُ المَنام" وافقتُ بفرحٍ، لأن الأدبَ الأُنثويَ بحاجةٍ إلى دعمٍ مستمر، كي يستمرَّ حرفُ "النون" بالإشراقِ والتألّقِ في مغتربِنا هذا.
وما أن وصلني الكتابُ عَبرَ البريدِ حتّى تلاشتْ فرحتي، ورحتُ أردّدُ: يا إلهي.. كيف لي أن أتكلّمَ عن ستّة وثلاثين قصّة قصيرة بخمس دقائق؟
ورحتُ أقرأ وأقرأ إلى أن وصلتُ إلى قصةٍ بعنوان "في مَتاهة" فانفرجتْ أساريري وصِحتُ بصوتٍ عالٍ: وجدتُها.. أجل وجدتُها!
في هذه القصة تسألُ "أمان السيّد" أسئلةً مدروسةً بتأنٍ، وكأنها تريدُ التغييرَ والإصلاحَ واختراقَ الحواجزَ الطائفيةَ وهي تحلمُ.. أجل تحلمُ.. كما نحلمُ نحنُ تماماً، فلنسمعْها إذنْ:
ـ "أرى سلمى ما تزالُ هناكَ تقرفصُ بسُمرتِها اللاذعة، وبفخذيْها اللتينِ تَظهران من تحتِ تنّورة المدرسة التي شمّرتها مرّاتٍ لتبدُوَا قطعتين من السّجقِ الشهيّ، وقد رقدَ على عُنُقِها صليبٌ ذهبيٌّ، أستفسرُ عنه، وهي التي أعرفُها مسلمةً، فتغمزُ، وتضحكُ مجيبةً: إنّه هديةٌ من حبيبي".
هذا هو الأدبُ التنويريُ الانسانيُ الغائي عند "أمان السيّد"، فلقد عكستِ الحبَّ تماماً، لتجعَلَهُ بين فتاةِ مسلمةٍ وشابٍّ مسيحيٍ، عكسَ ما نراهُ في الأفلامٍ والمسلسلاتِ وما شابَه، فالحبُّ دائماً يكونُ بين شابٍّ مسلمٍ وفتاةٍ مسيحيّةٍ، فجاءت "أمان" لترخيَ الأمانَ في النفوس وتعلنَ أنّ اللهَ محبةٌ، وأن الحبَّ أقوى من كل الطوائف.
وتظهرُ معرفةُ "أمان السيد" الجيّدة والمتمكنة باللغة العربية، عندما استبدلت فعلَ "علّقتْ" على عنقِها صليباً ذهبياً، بفعل "رقد" على عنقِها صليبٌ ذهبيٌ، أي نام وغفا وأخذ قسطاً وافراً من الراحة، بدلاً من أن يتدلّى كالأرجوحة. وهذا دليلٌ واضحٌ لاحترام أديبتِنا لشعائر الآخرين الدينية.
وبعودةٍ إلى تلكَ العبارةِ التي أنقذتني الليلةَ، أرى أن "أمان السيّد" قد تخطّت المحظورَ أيضاً من ناحية إبراز جمالِ المرأة العربية بشكلٍ مثيرٍ وملفتٍ. فلقد صوّرت "سلمى" وهي تجلس مشمّرةً عن فخذيها بعد أن رفعت تنورتَها مراتٍ ومراتٍ لتُظهرَ قطعتين من السجق الشهي.
واللهِ واللهِ لم أقرأ من قبل تشبيهاً لفخذيْ إمرأة بالسجقِ الشهيّ إلا عند "أمان السيد".
فمبجردِ نعتِ السجق بالشهي، تُشعرنا بمدى جمال فخذيْ تلك الفتاة العربية، ومدى انفتاحها على الحياة، إذ أنها كانت تشمّرُ عنهما مراتٍ عديدة وكأنها تدركُ مدى جمالِهما، وأن المحجوبَ غيرَ مرغوبٍ به بتاتاً.
قد يقولُ قائلٌ: أليسَ من العيبِ أن تكتبَ أديبةٌ عربيةٌ محافظةٌ مثل هذا الكلام؟
إلى هذا القائلِ أقولُ: العيبُ كلَّ العيبِ أن ترميَ الأديبةُ العربيةُ، محافِظةً كانتْ أم متحررةً، شعُورَها المنيرَ في عتمةِ الجهلِ دونَ أن تطلِقَه في الريحِ ليعانقَ الضوءَ، وينشُرَ التوعيّةَ والبهجةَ في القلوبِ.. فأتعسُ الناسِ هم أولئكَ الذينَ يُضمرونَ شيئاً ويُظهرونَ شيئاً آخر.. وحاشا أن تكونَ "أمان السيد" من هؤلاء الناس.
ها قد انتهى وقتي في الكلام، ولكنه لم ينتهِ بالقراءة، فكتاب "أمان السيد" بحاجة الى قراءة متعمّقة لنتلذذَ أكثرَ فأكثر بجمال عباراتها.
**
إيلي ناصيف
ماذا أقول عنه؟ وكل الكلمات لا تكفي، فهو الصديق القدوة، صاحب الأخلاق الرفيعة، والأيادي البيضاء، ورئيس جمعية كفرصارون الخيرية.
لقد عرفته منذ أكثر من نصف قرن، عندما زارني لأقدم له إحدى حفلات جمعية قريته التي يترأسها، بغية المساهمة في بناء مستوصف لطبابة الفقراء من أبناء لبنان. فأكبرت فيه هذه النخوة الانسانية التي لم تتوقف طوال سنيْ معرفتي به.
فما من سنة تمر إلا ويدعوني لحضور حفلة خيرية من أجل دعم مشاريع طبية في أستراليا، فمن مرضى السرطان، إلى المعوقين، الى تحاليل الدم، الى إلى إلى مساعدة جمعية كلاب المكفوفين.
أنا أتكلم عن عشرات الحفلات الخيرية الانسانية التي ساهمت في تخفيف آلام البشرية.
هذا من الناحية الانسانية، أما من الناحية الأدبية فحدث ولا حرج، إنه المشجع الأول لكل من وقّع كتاباً في أستراليا. ترأس رابطة إحياء التراث العربي التي تعنى بالأدب والادباء والشعراء، وتمنح جائزة "جبران" العالمية، فتكرّم على يده المئات من المبدعين الأستراليين واللبنانيين والعرب، وكنت وبكل فخر واحداً منهم.
إنه صديقي الأوفى، والأجمل، فرغم مرور السنين الطويلة التي جمعتني به، فما زلت أتوق الى سنوات أكثر، لأنه الضمانة للفرح والطمأنينة، وأمثاله لا يمرون إلا مرة واحد في العمر.
إيلي ناصيف.. شكراً.
**
عزير.. بلدة الفنان المهجري
الياس اسحق
الياس اسحق.. بلبل الجالية وابنها البار، قدّمته بعدة حفلات، ورافقته طوال غربتي، ومع ذلك لم يخبرني شيئاً عن مسقط رأسه في سوريا.
فجأة، اتصل بي وأصر على لقائي، وعندما التقينا وجدته يحمل لي ذخائر عديدة من شفيعي القديس شربل، فصحت بأعلى صوتي:
ـ هل كنت في لبنان؟
ـ كنت في سوريا ومنها انتقلت الى وطن أمي لبنان.
ـ وأين كنت في سوريا؟
ـ في بلدتي "عزير"..
ـ إذا قلت لك بأنني لم أسمع بها من قبل، هل ستزعل مني؟
ـ لا.. ولكنني سأعرفك عليها وعلى أهلها الآن من خلال هاتفي.
وراح "أبو داني" يكحّل عينيّ بأجمل المناظر الطبيعية التي تتمتع بها "عذير" جارة النهر الكبير، الذي يفصل سوريا عن لبنان، ولولا النهر لاتصلت أراضيها بأراضي القرى اللبنانية المتاخمة.
كان يريني الأفلام والصور بفرح غامر، وكأنه اختصر الدنيا بأكملها بقرية صغيرة اسمها "عزير"، وكأنه أيضاً جمع شعوب العالم أجمع بشعب واحد، هو شعب "عزير".
أخبرني عن كنيسة القرية وكاهنها المحترم، وعن دير الراهبات، وعين المياه العذبة، وعن أقربائه عمداء الركن، والأطباء، وصبايا القرية الجميلات المتعلمات المثقفات، المتحدرات بأغلبهن من أمهات لبنانيات، إذا أن التصاهر بين لبنان وسوريا هو اللحمة الأقوى بين هذين البلدين.
وأهالي "عزير" هم من أقحاح الموارنة، أي أنهم أبناء القديس مارون أباً عن جد. والغريب في الأمر أن لهجتهم ليست سورية بل لبنانية مئة في المئة.. وهذا ليس بمستغرب طالما أن معظم الأمهات، كما ذكرت، من لبنان.
والظاهر أن أخي وصديقي الفنان الياس اسحق "أبو داني" قد نقل لي عدوى حبّه لبلدته فكتبت عن لسانه هذه القصيدة، وكلي أمل أن يغنيها، بعد أن اعتزل الغناء بسبب رحيل من أحب:
ـ1ـ
يا عْزيْر من بْلاد الغربه
بهديكي الدمّات بقلبي
مهما إبرم مهما شوفْ
ما بلاقي أعظم من شعبي
ـ2ـ
من إيدِك طلّ المعروفْ
ومن نبعِك حليانه الشربه
مدّي للمظلوم كْفوف
تا إرسم ع كفوفك دربي
ـ3ـ
جاييكي متل الملهوف
مشتقلِك.. والغربه صعبه
بالأهلا بتلاقي ضْيوف
بابِك ما تسكّر يا حُبّي
ـ4ـ
يا عْزيْر بتتباهى حروف
بإسمك.. تا الإنسان تربّي
إنسانِك قلبو مكشوف
وعم يسكن بـ قلبو ربّي
**
عزيزي الدكتور مصطفى الحلوة
كلامك من موقعك في الوطن لا غبار عليه.. إذ أصبح العالم بفضل الانترنت قرية كونية صغيرة. بإمكاننا أن نتواصل مع بعضنا البعض بسرعة البرق، كلمة ونطقاً وصورة.
ورغم كل ذلك تجد أن المغترب اللبناني ولو فرشت له الغربة ذهباً سيظل يحن الى مسقط رأسه.
هنا في استراليا توجد جمعيات قروية لبنانية بالمئات، تجمع أهالي كل قرية تحت جناحيها، رغم بعد المسافات بينهم، تراهم يلتفون حول بعضهم البعض بالأفراح والأتراح، عكس الغربة تماماً، فأنا لم أعلم أن جاري الذي شباكه على شباكي قد مات إلا بعد شهر أو أكثر. فلقد لمحت أرملته صدفة وسألتها عنه، فباحت بسر وفاته.. فتصور.
وتصور أيضاً انني بعد نصف قرن من اغترابي ما زالوا ينادونني "بابن مجدليا" التي عشت فيها عشرين سنة فقط من عمري، ولم أسمع أحدا يناديني "بابن ماريلاندز" المنطقة التي سكنتها 50 سنة وبنيت فيها مسكناً.
سأخبرك يا عزيزي الدكتور مصطفى قصة لم أخبرها لأحد من قبل ولا كتبت عنها: بعد اسبوعين من وصولي الى أستراليا أحسست بحنين حارق وجارف الى الوطن، وأن أستراليا ستدفنني وأنا حي، فقررت الهروب بأية طريقة كانت، وكانت محطة القطار قريبة من مسكني، فركبت أول قطار وصل المحطة، بغية العودة الى "مجدليا"، ونسيت أن أستراليا جزيرة معلقة بكعب الارض، لولا صراخ إمرأة أخي وتحذيري من أن القطار سيرميني في البحر لا محالة.
أستراليا بالقلب.. ولكن القلب في لبنان. وهذا الاحساس لا يشعر به إلا المغتربون، ولهذا اضمحل عدد ابناء الجاليتين اليونانية والإيطالية في أستراليا بعد أن عادوا بمعظمهم الى مدنهم وقراهم الأصلية، ولو كان حال لبنان السياسي والاقتصادي والامني كحال ايطاليا واليونان لعاد نصف المغتربين اللبنانيين وكنت الأول بينهم.
هذه هي حالنا يا عزيزي الدكتور مصطفى الحلوة. أبعد الله عنك الغربة وعن كل لبناني.
واسلم
**
عبدو الياس اللبناني..
قصة رامز رزق الرائعة
أهداني الدكتور رامز رزق مجموعة جديدة من كتبه القيّمة، فما أن تصفحت العناوين حتى تسمّرت عيناي على "عبدو الياس اللبناني" هذا العنوان المؤلف من ثلاث كلمات، كل واحدة منها تشدّك لقراءة القصّة، فكلمة "عبدو" تدل على اسمٍ مشترك بين كافة الأديان، تماماً كإسم "الياس"، أما كلمة "لبناني" فتنقلك حالاً إلى خارج لبنان، وتخبرك أن القصة تدور في بلد ما، لتصبح أداة تعريف بجنسية بطل القصة "عبدو الياس".
و"عبدو الياس" ليس سوى طفل من بلدة "الدامور" لا يتجاوز عمره الثماني سنوات، جرفه الحكم العثماني الظالم من مكان الى مكان كوريقة خريفية ضائعة في مهب الريح.
عندما ضرب الوباء معظم المناطق اللبنانية، وتسلّط شبح الجوع والموت على سكانها، قرر سعيد أخو عبدو الأكبر أن يحمل أخاه على كتفيه، ويهرب به من عالم الفناء الى عالم البهاء، ولكن حساب حقله لم ينطبق على حساب بيدره، فشعر أن أخاه الطفل قد بدأ يتلاشى بين يديه، وأن الاصفرار بدأ يغزو وجهه، فراح يناديه وما من مجيب، فأيقن أن الطفل مات، فتركه على حافة الطريق، وأكمل سيره الى المجهول، وهو يندبه بهذه الكلمات الموجعة:
ـ يا حسرتي عليك، أنا عاجز حتى عن دفنك، سامحني.. سلمتك بيد الله".
والظاهر أن الله قد سمع نداءه، وتسلّم بيده أخاه "عبدو" ليسلمه الى عابر سبيل، بغية إنقاذ حياته:
ـ سآخذك معي الى صيدا، تركب خلفي على البغلة.
هذه هي الانسانية التي أراد الدكتور رامز رزق أن يسلط الأضواء عليها، بغض النظر عن الانتماءات الدينية والقبلية، فالانسان أخو الانسان، أولاً وآخراً، وهذا ما رأيته عندما اقتربت إحدى سيدات "صيدا" من ابن الدامور الطفل وسألته:
ـ ما اسمك؟ ومن أين؟
ـ أنا عبدو الياس من الدامور.
ـ الليل في أوله.. ابق الليلة عندنا.
إنها الأم اللبنانية التي تحضن أبناءها بحنان بالغ، تماماً كزوجها الشهم الأبي الذي دخل منزله فوجد ضيفه الصغير فقال:
ـ بنت حلال، دائماً تسبقينني الى عمل الخير.
رامز رزق في قصته هذه يريد أن يعيد أمجاد العائلات اللبنانية، أن يحيي قيمها الاجتماعية، وضيافتها المميزة، وحنوها الطاغي. يريد أن تصل رسالته الى الاجيال الجديدة التي طغت أنانيتها على محبتها، وتقوقعت في زوايا الانكماش الذاتي غير عابئة بأحد.
قصة "عبدو الياس اللبناني" ملأى بعمل الخير، فما أن يمر فصل حتى ترى الفضل ينهمر على "عبدو" من أيادٍ مباركة، إلى ان وصل الى قرية "الدامون" قرب عكا في فلسطين، هناك استقبله شيخ "الدامون" بترحاب ومحبة، وسلّمه لصديقه كاهن "الدامون" الذي ربّاه بين بناته، وحسبه كإبن له.
وكما ترون، فلقد فتّش الدكتور رزق عن اسم بلدة مشابه لاسم "الدامور" فاختار "الدامون" كمسرح ثانٍ لأحداث قصته، ليعلم القارىء أن أسم القرى في وطننا العربي تتشابه كثيراً، لا بل تتآخى من حيث اللفظ.
كنت وأنا أقرأ، أفكر بشيء واحد فقط، هل سيجد "عبدو" أخاه "سعيد" الذي رماه على حافة الطريق وأكمل سيره الى فلسطين. وماذا سيقول له عندما يلتقيه؟ هل سيشتمه؟ هل سيضربه؟ وقد أصبح شاباً مفتول السواعد. فلنستمع إليه:
ـ يا لئيم، كيف طاوعك قلبك وتركتني؟
ـ أنا ما تركتك، قال "أخوه سعيد" بأسى، حتى قطعت الأمل، لم يكن أمامي إلا صورة الولد الأصفر الوجه، كان بينك وبين الموت نفس واحد.. حركتك، ناديتك.. كانت قوتي خائرة لا أستطيع أن أفعل شيئاً سوى البحث عن لقمة، أي لقمة، ولو نفاية".
ـ الحمد لله أنك كنت خائر القوة، وإلا لكنت دفنتني.
ـ المهم أننا اجتمعنا أخيراً.
صحيح أن نهاية قصة الدكتور رزق مفرحة، ولكنها موجعة في آن واحد، إذ اختصرت المصائب التي حلت بالشعب اللبناني خلال الحكم التركي العثماني بعبارة واحدة "كانت قوتي خائرة لا أستطيع أن أفعل شيئاً سوى البحث عن لقمة، أي لقمة، ولو نفاية".
قصة "عبدو الياس اللبناني" يجب أن تتحول الى فيلم سينمائي يجسد معاناة الشعب اللبناني على مر العصور، ويظهر محبته واندفاعه في خدمة بعضه البعض، لأن المصير واحد، والعيش واحد، والتراب واحد، والوطن واحد.
**
لقد ظلمناك يا بديع مظلوم
أجل ظلمناك..
لأننا لم نتوافد بالآلاف لسماع صوتك الصافي كمياه الينابيع الرقراقة في أعالي جبالنا.
ظلمناك.. لأننا تخلينا عنك نحن الذين نصفّق وندبك ونهز لمئات المطربين والمطربات الذين لا تنفع معهم سوى هزات البدن.
ظلمناك.. لأننا لم نحاول أن نتعرّف عليك، ونغرف من فنك حتى ولو من باب الفضول.
ظلمناك.. لأننا تقاعسنا عن القيان بالواجب تجاه فنان أراد أن يكون فأبينا ذلك.
ظلمناك.. لأنك، والحق أقول، غنيت لبنان كما لم يغنه فنان قدم الى هذه البلاد من قبل.. فأغنياتك وحّدت لبنان المشتت بشماله وجنوبه، بجباله وبيروته، وكل بقعة نائية فيه.
لبنان المغلوب على أمره بدا ضاحكاً ليلة السبت في "الشاوغراند". لقد أرجعت اليه السعادة، وجعلتنا نحن الحاضرين نعيش أحلى أمسية غنائية، ونشعر أن اغنياتك كانت أقرب الى قلوبنا من: "بحبك يا لبنان، ويا لبنان دخل ترابك"، لأنها تجسد طموح فنان موهوب مبدع، سيبتسم له المستقبل، وسينفتح أمامه باب الشهرة على مصراعيه.
ظلمناك يا بديع..
ولكن عذرنا الوحيد اننا لم نعرفك من قبل، ولم نتمتع بسماع صوتك من خلال الاذاعة او الاسطوانات او الكاسيت او الفيديو، فالجمهور هنا في أستراليا، اذا لم تسبق الفنان شهرة سنوات طويلة، وأغنيات حفظها عن ظهر قلبه، لن يتجاوب معه.
لقد حفظت البارحة جميع أغانيك، لذلك ارجوك ان تضمني الى قافلة المعجبين والمعجبات بك، أولئك الذين تهافتوا الى الكواليس للتسليم عليك، وتهنئتك بنجاح وصلتك الغنائية الرائعة، ولسان حالهم يقول:
جايينا جايي بديع
يغني لعيون الجميع
حتى العيون الدامعه
تفرح بملقى الربيع
وفقك الله.. والى اللقاء.
صوت المغترب، العدد 822، 28/2/1985
**