الغلاف للفنانة رندى بعيني
**
نشرت في مواقع إيلاف، دروب، قدموس والغربة
**
علينا أن نقرأ وأن نفهم
مصيبة البعض منّا أنهم يقرأون بعواطفهم وليس بعقولهم، والقراءة العقلية أهم القراءات على الإطلاق، إذ أن صاحبها يملك زمام الفهم والتلقي والإدراك منذ اللحظة الأولى لملاقاة النص واستيعابه. أي أنه يفكّر، ويحلل، ويراجع ما يقرأ، قبل أن يدلي بدلوه في انتقاد النص أو إطرائه. أما القراءة العاطفية فتعمي صاحبها، وتحجب عنه الرؤية الذكية، وترميه في حفر شتى، هو الذي حفرها وهو الذي أوقع نفسه بها، كما أنها تخذله وتحجّمه وتشككه بنفسه وبطاقاته متى عاد إلى عقله.
ومن مراجعة الردود التي تنشر بين الحين والآخر تحت مقالات الكتّاب، نجد أن الكاتب في واد وبعض المحتجين عليه أو الموافقين معه في واد آخر، وأخشى إذا قمت بجردة بسيطة لتلك الردود، أن تقوم القيامة علي، وأن يتهموني بالشذوذ والنفاق والعنصرية والبله.
جميل جداً أن نقرأ، ولكن الأجمل منه أن نفهم ونستوعب ما نقرأ. فلا يجوز استبدال كلمات انتقاها الكاتب بتأن ووضوح من أجل تبسيط الموضوع وتفسيره للقارىء، بكلمات جهّزتها عواطفنا، وأمرتنا أن لا نحيد عنها، وكأننا مسيّرون ولسنا مخيّرين.
مرّة، طلبت من شاعرة أسترالية أن تراجع قصيدة مؤلفة من عشرة أسطر فقط، كان ترجمها لي أحد الأصدقاء، فراحت تقرأ وتقرأ وتقرأ، وأنا أتطلّع بها، وأتمتم في سري: ألم تشبع قراءة بعد؟.. وبعد نصف ساعة من القراءة العقلية الحكيمة التي أخبرتكم عنها، تطلعت بي وقالت:
ـ هل بإمكاني أن أترك النص معي، لأنني بحاجة لقراءته مرّات ومرّات، كي أعطيك تقييماً يرضي أدبي قبل أن يرضيك أنت.
وبعد أسبوع، أرسلت لي عبر الفاكس النص والتعليق، فعملت بكل ما ارتأت، لأنني أدركت منذ القراءة الأولى لتقييمها أنها قرأت بعقلها وليس بعاطفتها التي قد تخذلها كوننا أصدقاء.
منذ أيام، كتبت مقالاً بعنوان (لبنان في خطر..)، فاهتز البر والجو والبحر، والتهب بريدي وهاتفي، وراح البعض يتهمني بالعنصرية ومحاربة الغرباء، خاصة اللاجئين الفلسطينيين، الذين كتبت عنهم وعن قضيتهم الدواوين والقصص والمقالات، ويكفي أن أذكر قصيدة واحدة من ديواني (يوميات مراسل أجنبي في الشرق الأوسط) الذي لم تبقَ صحيفة لبنانية إلاّ ونشرته عام 1969، والذي حولت بعض قصائده إلى ملصقات في الشوارع، لتدركوا مدى تعاطفي معهم:
لم يقتلوا طفلاَ إخواني
أعرفهم، حتماً، أعرفهم
فالرحمة هم
والرأفة هم
وليسمعْ كل إنسانِ
لولا عدالة ثورتهم
لفقدت بالعدل إيماني
ولم ينتبه، إلا القليلون الذين قرأوا بعقولهم، أنني أتحدّث عن المهاجرين اللاشرعيين، الذين تهربهم شركات خاصة مشبوهة، وتعاملهم كالخنازير، وقد عاينت ذلك بأم عيني، والله يشهد على ذلك.
ولأبسّط الأمور أكثر، سأذكّركم بضحايا ذلك المركب (العجوز) الذي غرق في المياه الإقليمية الأندونيسية، وأغرق معه عشرات اللاجئين العراقيين، الذين رماهم لصوص تلك الشركات في البحر بعد أن قبضوا، أو بالأحرى، سرقوا أموالهم، بغية الوصول إلى الوطن الحلم أستراليا، دون أن يأمّنوا لهم مركباً (فتياً) يقدر على شق اليم، وتكسير رؤوس الأمواج. همهم فقط الربح، ورحم الله من يموت من زبائنهم الأبرياء.
ومن منا لا يذكر الباخرة (تامبا) التي أنقذت أرواح المئات من اللاجئين، بعد أن غرق مركبهم أيضاً في المياه الإقليمية الأسترالية، ومن يدري فقد يغرق معه في الانتخابات القادمة رئيس وزرائنا جون هاورد، بعد أن اتهمه البعض بالكذب بشأن تلك الحادثة.
فلولا تدفّق الأغراب إلى فلسطين لما ترك الفلسطينيون أرضهم، ولولا تلاعب الأغراب بأحلام العراقيين لما سمعنا بهجرة الملايين منهم، ولولا تغلغل الأغراب في شوارع وبيوت اللبنانيين لما كتبت لكم من أستراليا.
فوالله والله، لو جاء لبنان، في هذه الأيام العصيبة التي يمر بها العراق، ملايين اللاجئين العراقيين لفتحنا لهم قلوبنا قبل بيوتنا، تماماً كما فعلنا مع إخواننا الفلسطينيين، وإخواننا الأرمن، ولكنت أول من قدّم بيته لاستقبالهم.
فما دخل المهاجرين اللبنانيين المنتشرين في العالم بطريقة قانونية ومشرفة، وما دخل اللاجئين الفلسطينيين الذين يعانون أكثر مما نعاني من تدفّق الغرباء اللاشرعيين على أرض رموهم بها قسراً وقهراً، ففرص العمل كانت متاحة لنا ولهم، أيام زمان، في وطن صغير كلبنان، أما الآن، فكلنا سنصبح عالة على منظمة الإنروا.
لقد فرحت كثيراً عندما أحسست أن العديد من الناس قد قرأوا مقالي، ولكنني حزنت أكثر عندما أدركت أن البعض منهم لم يفهم ما قصدت إليه.
علينا أن نقرأ وأن نفهم، وإلاّ كان الله في عوننا جميعاً.
**
صدّق أو لا تصدّق
صدّق أو لا تصدّق.. هذا ما حدث معي اليوم!
كنت ماراً بالشارع التجاري في منطقة "ماريلاندز" وكدت أن أقع أرضاً بعد ان ارتطمت رجلي بحزمة الجرائد الملقاة على الرصيف بين أرجل المشاة، لولا لم يمسك بي رجل عجوز كاد يقع هو أيضاً بعد أن (تفشكل) مثلي، كما نقول بالعامية اللبنانية، بتلك الحزمة، ولسان حاله يشتم من رماها هناك بطريقة لا أخلاقية. كما أنه راح يسأل الآخرين بغضب عن نوع اللغة التي طبعت بها هذه الصحيفة. وأشكر الله تعالى أنني كنت الوحيد في ذلك المكان الذي يقرأ العربية، فنسبتها زوراً الى لغة أخرى، كي أبعد شتائمه عن لغة الضاد.
وهذه ليست المرة الأولى التي أسمع بها شتائم الناس على طريقة توزيع الجرائد العربية، فلقد شاهدت امرأة تنظف موقف سيارات أحد المعابد الدينية في سيدني من أوراق الجرائد المتطايرة في الهواء، وسمعتها تشتم الجرائد، ومن يطبعها، ومن يوزّعها، ومن يقرأها.. كونها كانت تركض وراءها كالمجنونة بغية التقاطها وزجها في كيس القمامة (الزبالة) الذي تحمله. فاقتربت منها وقلت: كي لا تتطاير الجرائد في الهواء ضعي حجراً عليها.. وهكذا تتخلصين من الركض والشتائم.
وأذكر يوم دخلت محلاً تجارياً بغية الحصول على إحدى الجرائد، ففتشت عنها دون جدوى، فما كان مني إلا أن سألت العامل هناك: أين تضعون الجرائد العربية؟ فتلعثم بعض الشيء، وراح يتطلع بي من تحت الى فوق ويتمتم: لقد نفدت.. فقلت له: منذ لحظات شاهدت الموزّع يسلمكم إياها، أرجوك ابحث عنها. فتركني للحظات عاد بعدها وهو يحمل الجريدة ويقول: هذه آخر واحدة.. أنت محظوظ جداً.
ولأنني محظوظ جداً، اتصلت بصاحب الجريدة، وأخبرته بما حصل، وانهم يخفون جريدته عن القراء، بغية استعمالها في أمور أخرى. فحجب التوزيع عن ذلك المحل.. لا بل أنّب صاحبه.
الحق ليس على أصحاب الصحف، بل على من يستلمونها بغية توزيعها مجاناً على زبائنهم، فمنهم من يعامل الصحيفة باحترام، ومنهم من يرميها بين الأرجل، ومنهم من يخفيها عن الأعين، وكأن لا حرمة للكلمة.. وقد قيل: "في البدء كان الكلمة".
الصحيفة التي التقطنا صورتها وحجبنا اسمها احتراماً لها ولأصحابها، كان يجب على صاحب المحل التجاري الذي وضعت أمامه، أن يحضنها كما يحضن بضاعته، لأنها أهم بكثير من تلك المأكولات والأواني التي يعرضها للبيع.
لن أشجع أصحاب الصحف، كي لا أحرم الناس من مجانية القراءة، على الاقتداء بزميلهم الذي سمع إحدى النساء تطلب أعداداً كثيرة من الجرائد بغية استعمالها في تنظيف شبابيك البيت. فما كان منه إلا أن سحب صحيفته من المحلات المجانية وأودعها المكتبات بسعر كنا ندفعه قديماً من تعب زنودنا، وكنا نحمل الصحيفة بفخر واحترام، ونرجو كل من يستعيرها منا لقراءتها أن يتصفحها برفق، وأن يرجعها إلى أعيننا سالمة من أي تشويه، كي تأخذ حقّها من القراءة.
أما اليوم، فها هم معظم أصحاب الصحف يتكارمون علينا ويقدمونها لنا مجاناً على طبق من ذهب، ونحن نعاملها بازدراء شديد. وكأننا نطبق المثل الشعبي القائل: "كل شيء ببلاش ما له قيمة".
هناك أزمة فعلية تواجه إعلامنا المهجري العربي، يجب علينا جميعاً حلّها قبل أن تتطاير صحف كثيرة في الهواء.. إذ ليس من العدل أن تدوسها الأرجل، ولكن كيف نحلّها؟.. هنا تكمن المشكلة.
**
هل هذا قطار أم طاولة شرف؟
الضجة التي أحدثها مقالي السابق (حاربوا طاولات الشرف)، دفعت العديد من أبناء الجالية للكشف عن معاناة مزمنة موجعة أحرقت قلوبهم، وأبكت عيونهم، وجعلتهم يشعرون بالتمييز الحاد، من أناس أنانيين بلهاء دعوهم للمشاركة بحفلاتهم ومد يد العون لمشروعهم الخيري، فإذا بهم يذلونهم ويجلسونهم على طاولات عادية، رغم دفع ثمن بطاقاتهم، ويرفعون غيرهم ممن دخلوا مجاناً، ويجلسونهم على طاولة بشعة نتنة نجسة أسموها زوراً (طاولة شرف).
قال لي أحد الأصدقاء: لقد أصبت بدوار شديد عندما دخلت إحدى الحفلات ووجدت جاري جالساً على طاولة الشرف، رغم بعده عن كل ما له علاقة (بالشرف)، وكأن من أجلسه هناك لم يدرِ أنه قد خرج لتوّه من السجن بكفالة مالية كبرى.. واسمحوا لي أن لا أخبركم عن السبب، لأنكم تعرفونه جيداً.
كما أخبرني أحد نواب منطقة باراماتا السابقين أن طاولة الشرف التي كان يجلسه عليها معظم أصدقائه اللبنانيين، كانت تخيفه، كونه لم يعتد عليها بتاتاً في مجتمعه الاسترالي، نظراً لغرابتها وبطشها بباقي المدعوين المساكين
أما الصورة المنشورة مع مقالي هذا فلقد التقطها رجل الأعمال جميل البابا، وزوّدني بها، وهو يعلن أمامي أن طاولات الناس الدافعين ثمن بطاقاتهم كانت شبه فارغة، لا بل مضحكة، بينما طاولة الشرف التي ترونها أمامكم مزينة بالورود والمازات الشهية والمشروبات الروحية على اختلاف انواعها، وقد حذفنا طاولة المشروبات كي لا يظهر وجه المشرف عليها.
هذه الصورة آلمتني كثيراً كونها التقطت في مركز ديني مسيحي، كان من المفروض على القائمين عليه أن يكونوا قدوة للآخرين، فإذا بهم يتناسون أن السيد المسيح ولد في مزود حقير، ليعطينا درساً في التواضع، وعمل نجاراً كي يفرح قلوب المتعبين في الأرض ويدفعهم الى التمسك أكثر فأكثر بأعمالهم الشريفة مهما كانت وكيفما كانت. كما أنه نزل من السماء وتجسّد بشراً مثلنا.. أي مثلي ومثلك.. لا فرق عنده بين فقير وغني، أو بين أجير وملك.. محبته وحّدتنا، فكيف نهدم ما بناه المسيح بطاولة شرف.
والظاهر أن المشرفين على الحفلة قد أذهلتهم المفاجأة عندما علموا أن المدعوّين على طاولة الشرف أكثر من المدعوّين العاديين، فبدأوا بتطويلها وتطويلها وتطويلها إلى أن أعياهم التعب وأصبحت مضحكة للغاية.
ولكي تضحكوا أكثر، عرضت الصورة على مجموعة من الأطفال اللبنانيين، وسألتهم: ماذا ترون في الصورة، فصاح الأول: هذا قطار. وزمجر الثاني: أم أربع وأربعين.. أما الثالث فقال: إنها طاولة شرف. وعندما سألته كيف عرفت؟ همس في أذني: أبي يشتم الجالسين عليها كلما عدنا من حفلة ما.
يقول قائل: ماذا تريدنا أن نفعل بوجود ضيوف أجانب يجب تكريمهم! فأجيب: كرّمهم كما تكرّم باقي الناس، أجلسهم على طاولات تشبه طاولات باقي المدعوين.. وهكذا تكون قد احترمت كل من أمّنك على كرامته.. إذ أن القادم الى حفلتك لم يترك كرامته في البيت بل حملها معه ليسلمك إياها لحظة دخوله القاعة.. فكن شريفاً واحفظ كرامات الناس.
**
طرد الشيطان حقيقة أم خرافة؟!
لقد كثر الكلام عن (عبدة الشيطان) في العالـم العربي، وعن كيفيّة التخلص منهم، حتى لا يشكلوا خطراً على اليهود والمسيحيين والمسلمين المؤمنين الموعودين بالجنة.. الذين، وللأسف، يحاربون بعضهم البعض ، باسم اللـه، بوثنية متوحشّة تؤدي الى الغدر والسحق والموت، ويخجل منها الحيوان، والانسان والانبياء.. واللـه عز وجل.
إن التناحر الديني الذي تتخبّط به أدياننا السماوية، جعل الشيطان يتلاعب بنا، كما يتلاعب الهر بفأره، وجعلنا نبتعد عن اللـه، كردة فعل سلبية تجاه رجال الدين وفتاويهم وأعمالهم وتسخيرهم الدين للشر فقط.
بإمكان كل رجل دين صالح تقي محاربة الشيطان، وطرده من مجتمعاتنا، دون تكفير أو تطبيل أو جعجعة.. فقط بالصلاة والتقوى.
وفي تحقيق رائع عن (طرد الشياطين) أجراه الصحافيان جورج حايك ورانيا طايع لـ (نهار الشباب)، ما زلت أحتفظ به في أرشيفي لساعة كهذه الساعة، روى أوسابيوس، وهو أحد سكان عبادات من المتن، حادثة جرت لابن عمته يوسف المصاب بالروح الشريرة، فقال:
ـ كان يوسف ابن عمتي يصاب بنوبات يغيب فيها عن الوعي، فتعتريه هزات جسم قوية.. ولـم يستطع مغربي ولا طبيب قانوني ان يشفيه، ولـم ينجح فيه دواء.. ويوسف هذا من بلدة حجولا وأكثر سكان هذه القرية من الشيعة، ويسكن فيها شيخ عرف بمقدرته الفائقة على إخراج الشياطين ، اسمه سليمان عسّاف، فعندما احضروا المريض يوسف الى الشيخ سليمان امره ان ينام ارضاً على بطنه، وان يسترخي ويسلّم امره للـه، ثـم أخرج الشيخ كتاب صلوات وادعية واخذ يتمتم، ثـم أخرج من تحت الطرّاحة قضيباً من اللوز أخضر، وأخذ يضرب به الأرض ويقول: (أخرج منه).
وكنت اسمع صوتاً يقول: (من أين أخرج؟.. هل أخرج من عينه؟).. فيجيب الشيخ سليمان عسّاف:( بل تخرج من ابهام رجله، أخرج يا ملعون وادخل في الدجاجة السوداء!!).
وكان امام البيت دجاجات تنقّب في الارض آمنة، وما هي الا برهة حتى انتفضت الدجاجة السوداء، ودارت على نفسها كالمجنونة تضرب بجناحها و( تقاقي ) ثـم اختفت عن انظارنا. وعندما رفع الشيخ عنه الدثار، رأينا العرق يتصبب من جبينه، وكذلك وجدنا المريض مسترخياً وجسمه مبللاً بالعرق البارد. تلفّتنا ناحية الابهام، واذا هناك بقعة مستديرة لونها أزرق. فعلمنا أن الروح خرجت من هناك ودخلت الدجاجة..
كما روى الأب مروان خوري هذه الحالة:
ـ فتاة لبنانية، 14 عاماً، بدأت تنتابها نوبات هستيرية في الليل، فأجرت فحصاً طبياً في مستشفى الجامعة الأميركية، تبيّن بنتيجته أن صحتها واعصابها جيدة، فعندما أدخلتها إلى الكنيسة أخذت تلهث وتسعى الى الهرب مرعوبة.. أثناء الاعتراف شعرت بأمر يلقطها على حنجرتها، فعجزت عن متابعة الكلام، وتغيّر لون عينيها وشكلها وصوتها وقالت: ( ماذا تريد؟.. لا تقترب ) عندها رميتها بالماء فسجدت على ركبتيها وغطت وجهها بشعرها، ورددت بصوت رجل: (لا تقترب..). فلـم أتراجع، بل وضعت يدي على رأسها وزاد صراخها وشعرت بقوة خارقة تمسك بيدي، حتى كادت الدماء تتوقف في عروقي. أمرت الشيطان بالخروج بعدما صليت وصلّبت على عنقها بالزيت.. فجأة كشف الشيطان عن اسمه وكيف دخل إليها، فخرج وارتاحت الفتاة..
وعن قوة الشيطان، روى الأب دون كانديدو حالة فتاة نحيلة هشّة ظاهرياً، اقتضى لتجميدها اثناء التقسيم (طرد الشيطان) اربعة رجال.. لقد قطعت الرباطات كلها ومنها الحزامات الجلدية العريضة التي حاولوا تكبيلها بها، وعندما كانت موثقة الى سرير حديدي بحبال غليظة، كسرت جزءاً من الاطار الحديدي وطوت زاوية مستقيمة.
وعن قوة الشيطان أيضاً، يخبرنا الشيخ هشام خليفة هذه الحالة:
ـ كنت أقيم في حمّانا ايام الصيف، فأتى إليّ شاب، 25 عاماً، برفقة ذويه وطلبوا مني ان اصلي عليه.
دخلنا الجامع، وبمجرد ان وضعت يدي على رأسه لأقرأ الآيات الخاصة بطرد الشياطين أخذ يصرخ: (دعوني).. فلـم اتركه. عندئذ قال: (أريده لأن الملك يريده..) أي أنه سيقتله ـ الشاب حاول الانتحار مراراً في منزله في عرمون ـ لذا أكملت صلاتي، فارتمى على الأرض وانتفض كالدجاجة المذبوحة، مما دفع والده ووالدته وشقيقه الى تكبيله، وبعد قراءة دامت ربع ساعة انتهيت، فكأنني كنت أخوض معركة مع سبعة رجال..
وفي جاليتنا الأسترالية طرد أحد الأبطال المسلمين، الذين يؤمنون بأن اللـه محبة وعدالة، وان الإسلام ما جاء إلاّ رحمة للعالمين.. (شيطاناً رجيماً) من منزله في منطقة بلمور ـ سيدني. وإليكم القصة كما رواها لي السيّد يوسف نادر:
ـ كنت بزيارة أحد أصدقائي المسلمين القدامى، لتهنئته بمولوده الجديد، فإذا بجرس الباب يدق، وبأحد (المبشرين) المسلمين الكويتيين أو السعوديين لست أدري، يدخل ويبدأ بالبسملة والصلاة والدعاء بذبح الكفّار عن بكرة أبيهم، فقلت له: ومن هم الكفّار يا شيخ . فقال: المسيحيّون.. فصاح به صديقي المسلم: إخرس.. لعنك محمد والمسيح معاً. فقلت للشيخ: أنا مسيحي.. قم اذبحني.. فتعجّب قائلاً: أمسيحي بيننا.. أنا أقصد المسيحيين الأستراليين. فصاح صديقي المسلم مرة ثانية: إذا لـم تخرج الآن.. سأذبحك أنا لأخلّص البشرية من شرّك. فهرول خارجاً وهو يتمتم أشياء لـم نفهمها.. فأكملت الزيارة، وودعت صديقي المسلم البطل.. على أمل اللقاء معه نهار عيد الفطر المبارك.
قصّة مماثلة حصلت معي في منطقة غرانفيل.. إذ أوقفني أحدهم وقال: لـم نعد نقرأ لك في الصحف، هل جفّت شاعرية شربل بعيني؟.. فقلت: لا، ولكنني أشرف على طباعة أعمالي الكاملة، قبل أن يطويني ثرى الغربة.
في هذه الأثناء مرّت امرأة مسلمة محجّبة بقربنا.. فهمس في أذني: لقد وسّخوا البلد.. فقلت له: لماذا؟!.. ألأنّها ترتدي (الإيشارب) الذي كانت جدّتك وأمك ترتديانه في قريتك عند دخول الكنيسة؟!.. أم لأنها تشبه الراهبة التقيّة في لباسها؟!
وقبل أن يفتح فمه، مرّت سيّدة هندية تلتف بشرشفها الطويل، فقلت له: وماذا ستقول عن هذه السيّدة الهندية الفاضلة أيضاً.. هل وسّخت البلد؟.. أم أن (المحجّبات) المسلمات هنّ اللواتي وسّخنه فقط، لأنهن من دين غير دينك؟.. كلامك وكلام أمثالك من المتعصّبين هو الذي وسّخ هذه البلاد.. وأتلف أعصابنا..
وعندما رأى الريق يتطاير من فمي، أطلق لرجليه العنان.. وصوتي يهدر خلفه: الويل لكم.. ساعة الدينونة.
أنا لست من مؤيّدي الحجاب ولا من محاربيه.. أنا مع حريّة الإنسان التي لا تتجزأ.. فكما يحق لملايين الفتيات التعري على البحار وفي الشوارع، يحق أيضاً لملايين النساء ارتداء ما يرغبن من اللباس، وما علينا سوى احترام شعورهن..
الشياطين بيننا، يلبسون لباسنا، يتكلمون بلساننا، يحملون كتبنا المنزلة، يختبئون بين صفحاتها، ويزرعون الفتنة أنى ذهبوا.. فهل من أبطال، كذاك المسلم ، يقدرون على طردهم من مجتمعاتنا الآمنة قبل ارتكاب المجازر البشرية في الكنائس والجوامع والمجمعات السكنية الآمنة، كما حصل ويحصل في كثير من البلدان التعيسة.
**
إعصار كاترينا وثرثرات المتدينين
ما أن تقع كارثة طبيعية في العالم، حتى تبدأ صولات وجولات من التأويلات والثرثرات حول تلك الكارثة، خاصة من المتدينين الذين يعرفون ما لا يعرفه الله تعالى من أسرار سماوية ودنيوية، لا فرق من أي دين كانوا، أو لأي طائفة انتسبوا، المهم أن يدلوا بدلوهم. فكم بالحري إذا كانت الكارثة قد وقعت في أقوى دول العالم، وأكثرها تقدماً، عنيت بذلك أميركا، هنا تثور شماتة البعض وتعصف، ويتطاير لعابهم.
مدينة نيو أورليانز الأميركية ما زالت تفتش عن ضحايا إعصارها في الشوارع والأزقة والمنازل والأنهر والمستنقعات، لتدفنهم، قبل أن تحصد الأوبئة ما عجز الإعصار عن حصاده، ومع ذلك ما زلنا نقرأ من التفاهات ما تقشعر له الأبدان، وتتقيأ من سماعه الآذان، وإليكم بعض ما قرأت وسمعت، فتأهبّوا:
بعض المسيحيين المتدينين يعتبر أن ما أصاب نيو أورليانز يشبه تماماً ما أصاب البشرية من فيضانات أيام نبينا نوح، الذي بنى سفينة عملاقة، أكبر من البوارج الحربية، لتتسع لجميع أنواع الحيوانات والطيور والزواحف والنباتات والبشر إلى آخره، كي لا تنقرض مخلوقات الله بسبب غضبه من تصرفات البشر اللا مسؤولة. فمات كل شيء، ولم يبق لنا إلا ما حفظه سيدنا نوح في سفينته، الذي أصبح، عن حق، بعد أبينا آدم، والد هذه البشرية التعيسة التي ما زالت تتخبط بالآثام وتجلب على نفسها لعنة الله وغضبه. وتناسى هذا البعض أن يشرح لنا سبب الجفاف الذي يصيب الكثير من البلدان، وعلى رأسها أستراليا، فيتلف مزروعاتها، ويقضي على إنسانها وحيوانها وطيورها، ويصحّر بساتينها، ويدمّر اقتصادها.
بعض المسلمين يعتبر أن إعصار كاترينا ما هو إلا لعنة إلهية أصابت الولايات المتحدة الأميركية لتتعظ، وتسحب جيوشها من العراق وأفغانستان، وتساعد الفلسطينيين على استرداد وطنهم المسلوب، وأن توقف تدخلها بمصير الشعوب وفرض ديمقراطيتها عليهم، وتبديل أنظمتهم المؤمنة بأنظمة كافرة. وتناسوا أن يشرحوا لنا سبب الزلازل التي ضربت وما زالت تضرب تركيا وإيران وغيرهما من الدول الإسلامية، هذا إذا عجزوا عن تفسير أسباب التسونامي الذي ابتلع كل شيء في جزيرة أتشيه (سومطرة) الأندونيسية، وماذا فعلوا لمساعدة آلاف الضحايا من إخوانهم المسلمين الأبرياء، الذين كانوا في أسوأ حال، لولا استنهاض الهمم في الدول الغربية، وتبرع دولها السخي لإعمار ما ابتلعه التسونامي، أو هدمته الزلازل، دون التفات إلى دين أو عرق أو لغة.
بعض اليهود، اعتبر أن اللعنة قد حلت على الولايات المتحدة، وعلى الرئيس جورج بوش بالذات، لأنه أيّد الإنسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة، ولكي لا يذكره أحد بأن أميركا صديقة إسرائيل الوفية، راح يفلسف الأمور على ذوقه ويعدنا بكوارث طبيعية كثيرة بسبب إهمال تدريس التوراة في كل بقعة من بقاع الأرض، فلو كان السود، أي سكان نيو أورليانز، على حد تعبير هذا البعض، يدرسون التوراة لما أصابهم ذلك الإعصار، وإذا لم يبدأوا بدراستها سيقضون غرقاً لا محالة.. فتصوروا.
سألت أحد البوذيين عن رأيه بإعصار كاترينا، فقال وهو يتطلع بتمثال بوذا الموضوع في خزانة زجاجية أمام محله التجاري في منطقة (كبراماتا ـ سيدني): لتجلب لنفسك حظاً سعيداً كل يوم، أنر شمعة أمام تمثال بوذا، وقدم له بعض الفاكهة، فيرد عنك وعن مدينتك المصائب، وتناسى أخونا أن ملايين الشموع تضاء كل يوم في تايلاند البوذية دون أن تتمكن من رد موجة واحدة من موجات التسونامي القاتلة التي ضربتها.
أما صديقي اللا ديني فقد اعتبر أن ما يصيب البشرية من كوارث طبيعية مرده تطاحن الأديان ومحاربتها لبعضها البعض، وتكالبها على زيادة أتباعها، وتكفيرها لكل من ليس معها، ولو كان الله راضياً عن تصرفاتها لأبعد عن شعوبها الكوارث.
يقول المثل الشعبي: ما أن تقع البقرة حتى يتكاثر السلاخون. أما أنا فأقول: ما أن تقع كارثة طبيعية في العالم، وخاصة في أميركا، حتى يتكاثر الثرثارون.. فنجنا أللهم من ثرثرات المتدينين، آمين.
**
ركّاب الكراسي الأماميّة
هل قادك سوء طالعك لحضور إحدى المناسبات الرسمية أو غير الرسمية، في أي مكان بالعالم داسته الأقدام العربية؟ فلسوف تتنعّم بمنظر الأوراق الملصقة على المقاعد الأمامية والمكتوب عليها: (محجوز من فضلك)؟.. فإذا جلست على مقعد منها، كونك مدعواً أيضاً، صاح بك أحد المسؤولين عن التنظيم (غير المنظّم):
ـ أرجوك.. إجلس في مكان آخر.. هذا المقعد محجوز..
وتبدأ عملية مطاردتك وطردك من كرسي إلى كرسي، وكأنك حشرة ضارة، دعوك لحضور مناسبتهم من أجل التنكيل بك، وتعذيبك، وتحطيمك، وتحجيمك، وبخّك بجميع أنواع المبيدات. وكأن من حُجِزت لهم الكراسي الأمامية أفضل منك بدرجات. فتصهصل..
أما إذا كان الطعام سيّد الحفلة، وهذا الأرجح، فلسوف ترى طاولة ممدودة عكس باقي الطاولات، ومزينة بشكل ملفت للنظر، كي يراها الكبير والصغير والمقمّط في السرير، إسمها (طاولة الشرف)، يجلس عليها فقط بعض المختارين والمختارات، وكأن الجالسين على الطاولات الأخرى بلا شرف. وصدقوني أن معظم الجالسين على طاولة الشرف، حسب خبرتي الطويلة بتقديم الحفلات، يدخلون إلى الحفلة مجاناً، ويخرجون منها دون أن يتبرعوا بدولار واحد. بينما تنهمر التبرعات من ركاب الدرجة الثانية والثالثة.. والعاشرة، ومع ذلك لا يتعظ أحد من مسؤولي الجمعيات والأندية العربية، كلهم أسرى طبقيتهم، وكلهم ضحاياها.
عيب يا جماعة عيب، فالذي يدعو الناس لمشاركته احتفاله عليه أن يحترم كبيرهم وصغيرهم، وأن يفسح المجال أمامهم للجلوس أينما أرادوا، حسب وصولهم إلى القاعة، فالواصل الأول له حق الصدارة، هذا إذا أردنا أن نصبح بشراً كباقي البشر، وأن نعطي المثل الصالح لأجيالنا، ونرضي، أولاً وأخيراً، أنفسنا واللـه.
أيضاً، هناك مسألة أخرى، لا تقل عن الأولى أهميّة، ألا وهي الترحيب بفلان وفليتان، وتجاهل علتان وعليتان، والاعتذار من حديدان وسليمان.. ثـم إعادة الترحيب بخرمان ونعمان.. إلى آخر المعزوفة المملة التي لا يحتملها إنسان.
إنها جرصة ما بعدها جرصة.. فلماذا نوقع أنفسنا بها؟ لماذا نبيّض وجوهنا مع أربعة أشخاص في الحفلة، ونسوّدها مع أربعمئة شخص معظمهم من الشرفاء؟.
علينا أن نقول في بداية الكلام: سيداتي آنساتي سادتي.. وكفى. فمن لا يكون من السيدات يكون من السادة، ومن لا تكون من السيدات والسادة تكون من الآنسات.. ومن ليس من السيدات والآنسات والسادة ليس منّا ولا نريد أن نتعرّف إليه.. وما علينا سوى تجاهله كلياً بدل الترحيب به!!
ومن منا لـم يضحك على عريف حفلة تلعثـم ألف مرة وهو ينفث سمومه الترحيبيّة، ويتطلّع بالجمهور ويقول:
ـ لا تؤاخذوني إذا نسيت أحداً منكم.. الذاكرة تخون...
بربك، أليس هذا الرجل خبيثاً ومدّعياً وجاهلاً؟!.. ألا يحق لنا أن نرميه بالبندورة والجزر والفستق والحمص واللبنة والجبنة والبطاطا المقلية والمسلوقة، وبكل ما تصل إليه أيدينا من أدوات الإحتجاج والتظاهر العصرية؟.. بلى، يحق لنا ذلك، لأنه يضحك علينا وهو يضحك لنا، وكأنه لا يدري أنه مضحكة الناس أجمع.
أمراض جوالينا العربية في كافة أقطار العالم كثيرة ومقيّحة، يجب مداواتها عن طريق (الكي)، رحمة بها وبنا وبمن سيأتي بعدنا.
**
الأستراليون لم يقتلوا الحريري
يريدون أن يلصقوا التهمة بنا، نحن الأستراليين، دون أن يعلموا أن الحكومة الأسترالية لا يمكن بلفها، أو جرّها إلى اعتقال ابنائها لمجرد الشبهة فقط، فالـ (تي أن تي) الذي وجد على بعض المقاعد في مطار بيروت، كما ادعوا، قد تبخّر كلياً في الطائرة، ولم يعد له أثر البتة، لأن الأستراليين اللبنانيين المتهمين بجريمة تفجير موكب الرئيس الحريري أبرياء.. من رؤوسهم حتى أخامص أقدامهم، وليخيّطوا بغير هذه المسلّة وليفتّشوا عن متهم آخر، لا يكون أسترالياً لأننا لن نغفر لهم ذلك.
صحيح أن البوليس الفيدرالي أخضع بعض أبنائنا للتحقيق إثر وصولهم إلى أستراليا، ولكنه أطلق سراحهم دون أن يرشقهم بوردة، أو يعتقلهم اعتقالاً اعتباطياً، كما يحصل في معظم أوطاننا العربية التعيسة، لا بل اعتذر منهم على تأخرهم بالخروج من المطار.. فتصوّروا!
منذ شهرين أو أكثر، كتبت مقالاً في (إيلاف) أخبرت به قرائي أنني سأغيب عنهم شهرين، ولكنني عاودت الكتابة بعد أسبوعين دون أن يعرفوا السبب، فلقد ذهبت إلى لبنان لأقضي إجازتي السنوية به، ولكن كابوساً مزعجاً راح يقلق راحتي إثر وصولي إلى مطار بيروت، فلقد بدأت أتصوّر أن انفجاراً هائلاً سيهز لبنان، لذلك رحت أتطلع بداخل كل سيارة متوقفة على جانب الطريق التي أسير عليها، وألتفت، كالمجنون، يمنة ويسرة، ولم يتوقف الكابوس عن ملاحقتي دقيقة واحدة، فأطلعت أصدقائي عليه، وأخبرتهم أنني سأعود إلى سيدني حالاً، لأن انفجاراً هائلاً سيحدث، وحاستي السادسة لا تكذب أبداً، فتطلعوا بي مستغربين وقالوا: إذا كانت حاستك السادسة تلهمك ذلك، فلسوف نشتاق إليك.
وأصدقائي يعلمون كم من المرات صدقت حاستي السادسة، لدرجة بدأت تخيفني، وأحاول قدر المستطاع أن لا أخبر أحداً بما يعتريني من شعور، كي لا يتهمني بالجنون، ومن حقّكم أن تصدقوني أو أن تسخروا مني، ولكنني على يقين من أن البعض منكم يتعرّض لما أتعرّض إليه، دون أن يعرف مصدره، وها هي المرة الأولى التي أتطرق بها إلى حاستي السادسة في مقال، لأن الجريمة التي وقعت أوقعتنا في ذهول مميت، وإليكم بعض قصصي معها، وجميع الشهود أحياء يرزقون:
مرّة، كنت أقدم إحدى الحفلات الخيرية، وكان بصحبتي أخي جوزاف، فاقترب مني المرحوم الياس الترس، وراح يقبلني ويعبّر عن اشتياقه لي، كان هو فرحاً، وكنت أنا حزيناً، لأنني تخيّلته ميتاً، وعندما غادر المكان، همست بأذن أخي جوزاف:
ـ مسكين الياس.. سيموت الليلة.
وبعد ثلاث ساعات توفاه الله، فأصبت بخوفٍ شديد، ورحت أتساءل عن سر ما اعتراني من شعور، حتى أن أخي راح يصرخ على الهاتف:
ـ كيف عرفت أنه سيموت؟!
ومرة، وصل السيّد حنّا الخوري إلى النزاع الأخير، فدبّت عائلته الصوت، ورحنا نتراكض نحو المستشفى لإلقاء نظرة أخيرة عليه، وما أن وقفت فوق سريره حتى تخيّلته خارجاً من المستشفى.. وهكذا صار.
ومرة، التقيت بالأستاذة الجامعية (مارينا بابك) بعد عطلة مدرسية طويلة، وما أن اقتربت مني لترحب بي، حتى قلت لها:
ـ كيف حال كريستوفر؟
ـ من هو كريستوفر؟
ـ الجنين الذي في بطنك..
فكاد يغمى عليها، لأنها أخفت حملها عن الجميع، كما أنها اختارت اسم (كريستوفر) لتطلقه على طفلها حين ولادته.
ومرة، كنت أقود سيارتي وبقربي ابن عمتي جوزاف، فتوقفت على الشارة الحمراء، وفجأة أضيئت الشارة الخضراء، فصاح بي:
ـ تحرّك.. ما بك لا تتحرّك؟
وبدأت السيارات التي خلفي تطلق زمامير الاحتجاج، فقلت له:
ـ سيقع حادث سير مروع، ولا أريد أن نكون من ضحاياه.
وبدلاً من أن يسخر مني، راح يقبلني ويبسمل ويصلي، لأن حادثاً مروعاً وقع بالفعل بين السيارة التي انطلقت عن يساري وسيارة مسرعة لم تتوقف على الضوء الأحمر.
وقبيل طباعة هذا الكتاب بعدة أسابيع تزوج ابن أخي مرسال، حامل اسمي، المهندس شربل بعيني على ابنة بلدة حدشيت جارة قاديشا، العروس رامونة غنّوم، وقاما برحلة شهر عسل الى أوروبا، وقبل أن يرجعا إلى ديارنا، همست بآذان أخي مرسال وامرأة أخي لور أن الكنة رامونة حامل، وأعدت عليهما الهمس عدة مرات لكي يتأكدا من كلامي.. وما أن عاد العروسان حتى زفا البشرى للعائلة.
قد تطول المرات التي أخبركم بها عن إزعاج حاستي السادسة لي، ولكنني سأكتفي بهذا القدر، لتتأكدوا من صحة ما حدث لي في لبنان، وكم كنت أتمنى أن تخونني حاستي هذه، في المرة الأخيرة، كي أستمتع بعطلتي السنوية، وكي لا يحزن وطني لبنان على خيرة شهدائه.. وما أكثرهم.. وما أكثر عويلنا عليهم.
الأستراليون المتحدرون من أصل لبناني قدموا للبنان، خلال حربه الطويلة المؤلمة، خدمات إنسانية لا ينكرها إلا جاحد، كما أنهم، ورغم الحرب الطائفية التي حصدت أهلهم، تمسكوا بوحدتهم الوطنية بشكل يحسدون عليه، لأن حبهم للبنان، لا يضاهيه سوى حبّهم لله تعالى، لذلك لا ولن يساهموا بقتله وتفجيره، كي لا يقتلوا حلم الرجوع إليه، والإرتماء بأحضانه.. وكي لا يعود كما يريده أعداؤه أن يعود وطناً طائفياً ممزقاً.. تعشش فيه المخابرات، وتنحره التفجيرات الخبيثة المشبوهة.. فليتركونا بحزننا وليتسلوا بغيرنا.
**
سجن القلعة.. شوّه القلعة
أجمل مركز سياحي في القاهرة، بعد الأهرام طبعاً، هو قلعة البطل العربي الخالد صلاح الدين الأيّوبي.. تلك التي تتعملق فوق القاهرة، تشرف عليها، تسأل عن أحوالها، وتطمئن على أبنائها. كل شيء فيها جميل ورحب: الساحات، الطرقات، الشرفات والجوامع.. ما عدا السجن. سجنها.. أقرب ما يكون إلى زريبة للحيوانات. غرفه ضيقة، منتنة، رطبة، مغبّرة، باردة، وخالية من كل ما يمت إلى البشرية بصلة.
عندما وصلت إلى باب السجن، قرأت ورقة كتب عليها (ممنوع الدخول، السجن مقفل)، فطلبت من الحارس السماح لي بالدخول لدقيقة واحدة كي ألتقط بعض الصور التذكارية، ولكنه رفض وأشاح بوجهه عني، فسحبت من محفظتي عشرين دولاراً، ودسستها في جيبه، فتطلع بي وهمس، وهو يلتفت يمنة ويسرة: أدخل.. معك ربع ساعة فقط.
زريبة الحيوانات هذه، استقبلت العديد من شرفاء الأمة العربية ومفكّريها وأحرارها، أولئك الذين رفضوا تدجين الحاكم لهم.. فحاججوه وقاوموه وفضحوه.. فما كان منه، وهو الضعيف أمامهم، إلاّ أن (زربهم) في سجنه الزريبة كي يتخلّص من صوتهم الفاضح.
من أولئك الشرفاء كان الصديق الدكتور رفعت السعيد.. ولقد كانت (زريبته)، كي لا أقول زنزانته، حيث يجلس تمثال السجين الذي يقرأ في كتاب (العدالة)، فعن أية عدالة يقرأ؟ وبأي حاكم عادل يفكر؟.. ولقد أخبرني الدكتور رفعت أنه كتب أجمل كتبه في هذا السجن، منها ما حفظه في ذهنه من كثرة الترداد، ومنها ما دفع، كما دفعت تماماً، بغية تهريبها مخطوطة على وريقات هرّبت إليه أصلاً.
الآن، تحوّل السجن، والحمد للـه، إلى متحف، وكان آخر من دخله أولئك الذين اغتالوا الرئيس المصري أنور السادات.. مع العلم أن غرفه لـم تتسع لكل المشاركين في عملية الاغتيال.. نظراً لكثرتهم وقلّة عدد غرفه!!
السجناء، اليوم، تماثيل من جفصين، ولكنها، رغم صمتها، تخبرنا حكايات التعذيب والألم اللذين كان يتعرض لهما السجين العربي، الذي شاءه قدره أن يفتح فمه ويحتج على فساد الحاكم، أو أن يطالبه بلقمة عيشه، أو برفع الغبن عن شعبه، وهذه من المحرمات في شرقنا التعيس، من نطق بها نطق كفراً، وأجازوا قطع لسانه في بداية التحقيق كي لا يسمعوا صوته، وجزّ عنقه في ختامه كي لا يروا وجهه مرة ثانية.
التماثيل تظهر بعض السجناء من عصر المماليك، حيث كانوا يعلّقون للسجين ثلاث طابات حديدية، واحدة في رقبته، وواحدة في رجله، وواحدة في يده، بغية قطع أنفاسه، وشل حركته، ومنعه عن الكتابة. مروراً بعصر محمد علي، حيث كانوا يعلّقون طابة حديدية واحدة في رجل السجين كي لا يشمّع خيطه ويهرب. إنتهاء بعصرنا هذا حيث كانوا يخضعون السجين لكل أنواع التعذيب، التي تجعلنا نترحم على طابات المماليك ومحمد علي الحديدية.. وما عليكم إلاّ الحكم والترّحم على الحريّة والديموقراطية والانسانية والعدل.. إلى آخر المعزوفة العربية المضجرة.
**
إرحموا الحيوان يرحمكم اللـه
قد تكون من المعتوهين جداً إذا فكّرت بتهريب مخدر ما عبر مطارات العالـم الدولية، فالكلاب المتخصصة باكتشاف المخدرات، ولو كانت في بطنك، ستلقي القبض عليك، وتسلّمك لرجال الجمارك.
حادثة بسيطة حدثت معي في مطار سيدني تثبت لكم صحة ما ذكرت. فلقد أكلت تفاحة ووضعت ما لا يؤكل منها في حقيبة السفر، ونسيت الموضوع كلياً، وعندما وصلت إلى مطار سيدني، سألوني إذا كنت أحمل فاكهة أو خضاراً، فأجبت بالنفي، ولكن كلباً صغيراً تقوده إحدى الفتيات الجميلات راح يقفز عليّ، فالتفت إلى مدربته وقلت:
ـ كلبك يحبّني كثيراً.
فضحكت المدربة وقالت:
ـ إنه يريد الفاكهة التي في الحقيبة.
ـ فاكهة ـ صحت ـ لقد رميتها في سلة المهملات قبل خروجي من الطائرة.
ـ فتّش جيّداً، وستجد أن كلبي على حقّ.
وبعد لحظات أخرجت بقايا التفاحة من الحقيبة التعيسة وأنا أتمتم:
ـ كلبك على حق.. وأنا على خطأ.. لقد نسيت أنني رميت بقايا تفاحة في جزداني كي أحافظ على نظافة الطائرة.
ومما لا شك فيه أن هذه الكلاب قد لاقت الامرّين بسبب التمرينات الصعبة التي خضعت لها، بما فيها شم المخدرات والادمان عليها، كي تصبح القوة الوحيدة الفاعلة والرادعة على ساحات مطارات العالـم!
وكثيراً ما تتعرض الكلاب البوليسية للقتل أو للمرض أثناء قيامها بواجباتها الأمنية.. وخير دليل على ذلك ما حصل منذ مدة لـ (كلبتنا) الأسترالية روكسي، التي أصيبت بالهذيان في مدينة مالبورن إثر تناولها كميّة كبيرة من الهيرويين أثناء قيامها بالتدريبات اليومية العادية.
ما هي التدريبات (العادية) التي تقوم بها روكسي بوجود (الهيرويين).. لا أحد يدري؟! كل ما نعرفه هو أن روكسي أصيبت بالدوران داخل مركز العلوم القضائي التابع لرجال البوليس في منطقة ماك لويد. وقد نقلت إلى عيادة أحد الاطباء البيطريين في منطقة برود ميدوز.
الرقيب راس مور يعتبر الحادث الذي تعرّضت له الكلبة روكسي قضاءً وقدراً.. فبينما كانت تقوم بالدريبات اليومية تنشّقت كميّة من الهيرويين كانت مخبّأة في علبة بلاستيكية.. وانتشر المسحوق على وجهها، فأصيبت بدوران شديد، وبدأت تترنح كالمخمورين، وتهذي بشكل جنوني.
ولأن روكسي كلبة مكلفة للغاية، اتصلت دائرة البوليس بقسم الطوارىء والاسعاف لتأمين كميّة من الادوية المضادة للمخدر، وبعد خمس ثوانٍ فقط من المعالجة وقفت روكسي على رجليها، وهزت ذنبها، ولمعت عيناها. بعدها مباشرة تعرّض زميلها الكلب البوليسي (بوتشي) لعدة طعنات كادت تودي بحياته، ولكنهم أحفوا الخبر عنها كي لا تنتكس صحّتها أكثر.
ومن الكلاب إلى الفئران.. إلى عذاب بشري آخر للحيوان. فلقد أجرى العالـم فرانسيس روشر من جامعة ويسكونسن الأميركية تجارب على مجموعة من الفئران. أسمع قسماً منها موسيقى (موزار) والقسم الآخر موسيقى حديثة صاخبة. ومن ثـم أخضعها لسباق في تعاريج صعبة للغاية من أجل الحصول على كميّة من الطعام ـ هذا يعني أن الفئران تعرّضت للجوع ـ وتبيّن له أن الفئران التي تنعّمت بسماع موزار كانت أذكى من الفئران التي سمعت الموسيقى الحديثة الصاخبة، وأنهت السباق بسرعة فائقة. وهذا ما ذكّرني بمزارع هولندي صديق، زار أميركا منذ عدة أعوام، وأخبرني أن بقراته تحلب أكثر من بقرات جيرانه، لأنه يسمعها موسيقى (باخ).
وبعد التجارب والاختبارات العديدة التي أجراها العلماء على جميع أصناف القرود، من أجل زرع أعضاء القرد في جسم الانسان، تصديقاً لنظرية النشوء والارتقاء التي أطلقها جدنا داروين، وأعلن بها أن الانسان كان بالاصل قرداً، ثـم تتطور حتى أصبح على ما هو عليه الآن. فإذا بالشركة البريطانية (أموتران) تثبت أن الخنزير أقرب الى الانسان من القرد، وأن بإمكانها زرع أعضاء خنازير في أجساد البشر، وخاصة الاكباد، التي ينشأ عنها مرض السكري. وقال متحدث باسم الشركة ان (أموتران) ستطالب بإجراء تجارب على البشر فقط، وستستعمل اعضاء الخنازير خارج الجسم، تماماً كما تستخدم آلات القصور القلوي والكبدي وغيرها، وعند نجاح العمليات الخارجية تبدأ الشركة بزرع الاعضاء داخل جسم الانسان.
مسكين الحيوان، يقطعونه إرباً إرباً من أجل عينيّ الإنسان، وإذا لـم تنجح تجاربهم نادوا بعضهم البعض وأكلوه في احتفال ضخم يطلقون عليه اسم (باربكيو)..
إرحموا الحيوان يرحمكم اللـه.
**
مطاعم المكدونالد تكتسح لبنان
ما أن حطّت الطائرة في مطار بيروت الدولي، حتى تملكنا فرح غريب لـم نقدر على تفسيره. وحده الوطن.. ذلك القريب البعيد المنتظر عودة غيابه، يقدر أن يمنحك سعادة مستبدة، تجبرك على البكاء عند مغادرته.
مطار بيروت الجديد، طمأننا، ساعة دخوله، على أن لبنان قد استعاد عافيته، واستبدل الدمار بناطحات السحاب. أنّى اتجهت، وأنّى ذهبت، تجد العمارات الجديدة، والشوارع المعبّدة، وإشارات المرور، وشرطة السير، والمحلات التجارية الكبيرة، وهيصة البائعين، وضحكات الناس الطيّبين. كل جمال لبنان عاد إلى لبنان.. حتى تمثال شهدائه على ساحة البرج الذين انضم إليهم مؤخراً الشهيد رفيق الحريري.
شيء واحد لم يعجبنا في مطار بيروت ألا وهو أصوات المنادين على الركاب، فلقد كانت عالية ومزعجة، تجعلك تجفل عند سماعها، وكأن من يقوم بهذه المهمة قد وظّف اعتباطياً، دون أن يخضع لدورة تدريبية تجعله يتكلم بطريقة تسحر الأسماع وتستميلها، واعذروني إذا تكلمت بصيغة المذكر، لأنني لم أسمع صوتاً أنثوياً واحداً في المطار.
فندق الهوليداي إن الشهير يتوق للعودة إلى أحضان الوطن والسياحة المزدهرة بفارغ الصبر..
وكم كنت أتمنى أن يحولوه إلى (أثر حربي) يشد آذاننا ويوجعها كلما مررنا ببيروت، ويصرخ بألم: هذا ما اقترفت أيديكم يا أبناء وطني.
صحيح أننا شاهدنا ونحن نتجوّل بعض البنايات المخردقة، لكننا لـم نعرها انتباهنا، لأن عملية ترميمية بسيطة تعيد للبناية جمالها.. ورحم اللـه القائل: إذا ما عندك فرش.. عندك طرش. أي دهان.. فليتّفق سكان البنايات على صيانتها وخذوا العجب.
لبنان عاد رغم أنوف أعدائه وتفجيراتهم الحاقدة، ومطاعم ماكدونالد الشهيرة تشهد على ذلك.. فلقد زُرعت في كافة المناطق اللبنانية، ومن المقرر ان يصل عددها إلى ثـمانين مطعماً، تأمّن الطعام السريع.. والحمّامات الأسرع. وصدقّوني أن حمامات المطاعم هي التي تريح الناس من نفاياتهم، بعد أن تجاهلت الحكومة هذه الحاجة الضرورية جداً جداً ولـم تبنِ مرحاضاً واحداً ينقذ مخلوقات اللـه مما ابتلاهم الله به.
شيء واحد ما زال ينقص اللبنانيين، ألا وهو استقلالهم التام، والقضاء على زمر المفخخين والمفجرين بإذن الله.
**
جبل المقطّم: بيت وقلعة
يتّهم بعض المصريين جبل المقطم بأنه وراء تلوّث هواء القاهرة، بسبب أتربته الكثيرة المتطايرة.. وهو، بالفعل، جبل ترابي يقع في وسط القاهرة، ويشتهر ببنائين: الأول ارتفع فوق قمته وهو بيت المناضل الإنساني الحر الدكتور رفعت السعيد، والثاني ارتفع قبالته وهو قلعة البطل العربي الشهير صلاح الدين الأيّوبي.
القلعة تحت الحراسة الدائمة، والبيت أيضاً.. وأعتقد أن البيت حراسته مشددة أكثر من القلعة، وأن حرّاسه لا يمزحون مع أحد، والصورة التي التقطتها مع أحد الحرّاس لا تعني أبداً أنهم متساهلون مع الزوار الحشريين، أو مع من تخوّله نفسه مراقبة البيت أو مهاجمته، لا سمح اللـه.
الخطأ الأمني الوحيد الذي لاحظناه، أن للجبل شارعاً واحداً يحمل اسمه: شارع المقطم، وهذا ما يشلّ حركة التمويه، التي يتّبعها جميع زعماء العالـم.. فالخروج من الجبل والدخول إليه يتـم من شارع المقطّم.. أي أن سكانه مكشوفون ومعرضون أكثر من غيرهم للملاحقة وللإغتيال.. وفي وسط هذا الشارع، وعلى الرقم 48، بنى الدكتور رفعت السعيد عمارة شاهقة مؤلفة من أربعة طوابق، أهدى مكتبته طابقاً كاملاً، وسكن وعائلته في باقي الطوابق. أما الحرّاس فلقد وهبهم المرآب، أي الكاراج..
منزله هو سجنه الدائم.. وقد لا أبالغ إذا قلت ان السجن الذي دخله عدة مرات كان أخف عذاباً على الدكتور رفعت من الثاني.. لأن الإنسان الذي لا يقدر على التنقل بحرية من عمله إلى بيته.. هو إنسان معذّب ومسجون أبد الدهر في وطنه.. فكيف الحال لو أخبرتكم أن الدكتور رفعت لا يحق له التنقل إلا ضمن خطوط محددة.. جريمته الوحيدة أنه يدافع عن حق الأقباط في المواطنية الصحيحة، وعن حق الأقليات في العيش المشرّف.. وعن حق المصريين، كل المصريين، بالتمتع بالحرية المطلقة، وبالديمقراطية التي لا يشوبها شائب، ولا يشوّهها مخبر!!.. وأنه يريد أن يجعل من مصر دولة عصرية بكل ما لهذه الكلمة من معنى.. تحضن إنسانها بحنان الأم وعطف الأرض المعطاء.
أتربة جبل المقطّم لا تلوّث البيئة في مصر، بل تزيدها عنفواناً وحرية وسلاماً.. وهنيئاً لمن يسكنه أو يتنشّق هواءه المنعش الجميل.
**
صراصير إلى الفضاء
سفن ناسا الفضائية ستكون، في المستقبل القريب، مثل سفينة نوح، التي أنقذ بها الإنسان والحيوان عندما ضربنا الطوفان، وستنقل على متنها الحشرات الزاحفة والأسماك والفئران وما شابه. كان من المفروض أن ينتقل إلى الفضاء 1514 صرصوراً، و135 بزّاقة، و223 سمكة، و152 فأرة، منها 18 فأرة حاملاً. أي أن الفئران ستلد في الفضاء، وستنال التهنئة من الأرض على أكمل وجه. ولكنني لست أدري إذا كان هذا المشروع قد تحطّم مع تحطّم مركبته، أو أوصلوا (الركاب الصغار) إلى مزارعهم الفضائية سالمين.
يقول العلماء أنهم سيدرسون في الفضاء تغيّرات الجهاز العصبي عند الحشرات: هل سيضيق خلقها، كما يضيق خلقنا، أثناء الطيران؟ أم هل ستتجاوب مع تغيرات المناخ والجاذبية، متى وطأت أقدامها الصغيرة أرض أحد الكواكب؟.. وكيف سيكون شكل (الأطفال) متى أنعم الله عليها بهم؟.. هل ستظل صغيرة، كما هي على الأرض، أم ستنمو وتكبر، إلى حد مذهل، كي تفرّح قلوب مخرجي هوليوود، وتدر عليهم الأرباح الطائلة؟.
أما متى ستطأ كافة الحشرات الأرضية، ما عدا البرغش طبعاً، أرض الكواكب الفضائيّة، فلا أحد يدري. ولكنني أدري، حسبما قرأت، أن التجارب ستجري على الروّاد، وعلى الحشرات المنقولة في بيوت خاصة بها، في آن واحد. ومَنْ غير الكواكب وانعدام جاذبيتها يقدر أن يساوي بين الانسان والحيوان؟!
تقول نانسي هايز الاستاذة المساعدة في علوم الجهاز العصبي في جامعة نيو جرسي: (ان بعض الرواد سبق وأعلنوا أنهم يشعرون في الفضاء بالبلاهة.. وهذه الاختبارات ستساعد على معرفة ما كان يحصل لهم).
وبما أن البلاهة مصدرها الدماغ، فستظهر الدراسات كيفية نمو الدماغ في الفضاء: وهل سيقلّص انعدام الجاذبية نمو الخلايا أم لا؟
ولمعرفة كل هذا سوف تلقّح الفئران الحوامل كل ساعتين بمادة ملونة يستوعبها الجنين، وتظهر كيفية نمو خلاياه العقلية. كما أن تأثير غياب الجاذبية سيظهر على الصراصير والحشرات لأن تأثيرات الجاذبية تظهر عليها فوراً.
هذا عن غزو الحشرات للفضاء، فماذا عن غزو النيازك للارض؟!
يقول علماء أميركيون أن نيزكاً صغيراً يقل قطره عن كيلومترين سيقترب من الارض سنة 2028. وبالتحديد: الساعة السادسة والنصف مساءً بتوقيت غرينتش، يوم السادس والعشرين من تشرين الاول سنة 2028. وأن احتمالات حصول صدام مع الارض ضعيفة، ولا يمكن استبعادها نهائياً، على حد تعبير عالـم الفضاء بريان مارسدن.
وطالما أن العلماء لا يستبعدون اصطدام هذا النيزك بالارض، فالمسألة خطيرة جداً.. والأخطر من ذلك أن هناك 107 أجسام فضائية خطرة قد تقترب من الارض خلال القرون المقبلة لتهددنا في عقر دارنا. نحن مشغولون بالفضاء والفضاء مشغول بنا.. فمن سيربح؟
الفضاء هو الذي سيربح.. طالما أنه خالٍ من الحروب، والدجل السياسي، والتذابح الطائفي، وكافة أنواع الهمجية التي تمارس كل دقيقة على سطح هذا الكوكب المسكين.
ورحمة بالناس الأوادم الذين يفكّرون بالهرب من كوكبهم الأرضي، اكتشفت (ناسا) نجماً جديداً يبدأ في تكوين عائلته الكوكبية، ويبعد عن الارض 2100 تريليون كيلومتر، وبإمكاننا من خلاله (سبر أغوار تكوين كواكب مثل التي تكوّنت حول شمسنا قبل نحو أربعة مليارات سنة). على حد تعبير ديفيد كويرنر من معمل الدفع النفّاث في كاليفورنيا.
بمختصر العبارة ان الهالة الترابية التي اكتشفت حول النجم تثبت أن هناك كواكب مثل الارض تدور حولها. ومن يدري فقد تكون صالحة للسكن، فتأهّبوا للرحيل!
إذا أردتم أن تستملكوا قطعة من الارض على الكوكب الجديد إتصلوا بـ (ناسا)، وأنا كفيل بأنها ستراعيكم بالسعر، شرط أن تدفعوا مسبقاً؟. أما إذا أردتم البقاء على سطح هذا الكوكب المهدد من سكانه الطائفيين العنصريين البلهاء، ومن النيازك الفضائية وموجات تسونامي القاتلة ، فأنصحكم باتباع المثل القائل: عند هبوط النيازك احفظوا رؤوسكم؟. حماكم الله.
**
تاكسي.. إلى القمر من فضلك!
قد يضحك البعض من عنوان مقالي هذا، لأنهم تعوّدوا أن يسمعوا أو أن يقولوا هذه العبارة وهم على سطح الأرض، ولكنهم لـم يفكّروا أبداً أنهم سيقولونها في المستقبل القريب لأحد سائقي المركبات الفضائية التي بدأت (ناسا) بتصميمها بغية نقل البشر من وإلى القمر.
وها هي الأزمة المعيشية الكبرى في الفضاء تنحل أمام اكتشاف 11 مليون طن من المياه المجمدة الممزوجة بالطبقة السطحية للقمر، والتي قد تملأ بحيرة مساحتها 10 كيلومترات مربعة، وعمقها 11 متراً.
وكان المسؤول عن البعثة الفضائية إلى القمر ألان بيندر قد قال في مؤتمر صحافي: (نحن متأكدون من وجود الماء على القمر).. ولقد تأكد من ذلك بواسطة التلسكوب (لوناربروسبكتر)، الذي ضبط المياه في القطبين الجنوبي والشمالي.
أما وليام فيلدمان العالـم في مختبر لوس ألاموس الوطني في ولاية نيو مكسيكو فقد أعلن أن كمية المياه المكتشفة تسمح للإنسان باستيطان القمر لسنوات.
(ناسا) كانت أكثر وضوحاً من السيدين بيندر وفيلدمان إذ بدأت بإجراء حسابات دقيقة: (إذا كان كل شخص يستخدم 38 ليتراً من الماء يومياً، وإذا كان على سطح القمر 33 مليون طن من الجليد أو 27 بليون ليتر ماء، فإن ذلك سيكون كافياً للسماح لمجموعة تضم ألف عائلة من شخصين بالعيش لأكثر من قرن دون إعادة معالجة المواد المستعملة).
إذن، العيش على سطح القمر أصبح ممكناً، ولكن الخواجة بيندر المسؤول عن البعثة الفضائية إلى القمر يتطلع إلى أبعد من ذلك، فهو يريد أن يتحوّل القمر إلى قاعدة لاكتشاف الفضاء، فطالما أن الماء مؤلف من الأوكسجين والهيدروجين (وهما العنصران الرئيسيان للوقود المستخدم في محرك المركبة الفضائية.. كما أنها موارد يمكن استخدامها لاستكشاف الفضاء، وللذهاب إلى المريخ وأماكن أخرى في النظام الشمسي).
وبشّرنا، في حال ذهبنا إلى القمر، أن عملية استخراج المياه سهلة للغاية، يكفي فقط أن نجمع التراب الممزوج بالجليد ونسخّنه في غرفة خاصة، فتنساب بين أيدينا الجداول التي قد تنسينا مياه الينابيع الرقراقة العذبة المنسابة على سطح الأرض.
ولكن المشكلة الكبرى تكمن في كيفية الدفاع عن النفس في حال وجدنا أناساً آخرين يستوطنون القمر.. وهل سيسمحون للغزاة (أي نحن) باحتلال قمرهم؟!
مسؤول ناسا للرحلات إلى القمر السيد لويس بيتش يقلل من طموحاتنا برؤية أناس على سطح القمر بعد رحلات أبولو المكوكية التي حملت اليه أحد عشر رجلاً لا غير.. كما أنه يرفض الحديث عن موعد جديد لمهمات بشرية جديدة نحو القمر.
واللـه أمرنا عجيب، فالسيد بيندر يبشرنا بالماء الزلال والعيش الحلال لقرن أو أكثر على سطح القمر، بينما السيّد بيتش فيرفض الحديث عن رحلات بشرية إليه.. فمن نصدّق بيندر أو بيتش؟! ولماذا تواصل (ناسا) مهرجانها الجوي الفلكلوري والتطبيل لعمليات التحام المركبات بالمحطات الفضائية المشتركة؟!
هناك تكتم ملحوظ حول برنامج استكشاف الفضاء، خاصة عندما بدأوا يشعرون بوجود (حياة) خارج كوكب الأرض.
والبرنامج الإستكشافي الجديد قد يمتد إلى سنة 2015، يعملون خلاله على إطلاق مجموعة كبيرة من المركبات والمراصد والتلسكوبات العالية الكفاءة، تجوب المسافات الهائلة المقدرة بخمسين ومئة سنة ضوئية من نظامنا الشمسي. ومن يدري، فقد يتمكنون بذلك من اكتشاف كوكب مماثل للأرض يسكنه أناس قد لا يشبهوننا بالشكل ولكنهم أذكى منا بالعقل..
وفي المقر العام لوكالة (ناسا) يعمل البروفسور إد ويبلر أحد مصممي التلسكوب (هابل) على جمع أجزاء هذه السمفونية الفضائية الضخمة. وفي عام 2005 ستوضع مجموعة من التلسكوبات الفضائية، وسترسل عربات فضائية، وسيطلق (باحث) عملاق حجمه أكبر من حجم ملعب كرة قدم، وسيخبرهم هذا (الباحث) عن الأجواء الفضائية المتعددة، وأيّها يحتوي على ديوكسيد الكربون والأوكسيجين والبخار والتركيبات الكيمائية التي تساعد على نشوء الحياة، وإمكان نقل البشر إلى الكوكب المحظوظ.
ويؤكد إد ويبلر:( أن هناك 200 مليون نجمة في مجرتنا، مجرة درب اللبانة.. وهناك 50 مليار مجرة في الكون، فكيف يمكننا أن نتصوّر أن الكون وجد لنا فقط.. هناك فرص بنسبة 100 في المئة أن تكون هناك أشكال أخرى من الحياة الذكية).
سطح القمر ينعم بالماء، وبعض المجرات تنعم بالحياة، فلماذا لا نبدأ بتوفير المال لنكون أول الراكبين في التاكسي الصاعد إلى الفضاء؟!.. رحلة ممتعة أتمناها لكم، فشدّوا أحزمة الأمان، وعلى الله الإتكال.
**
الصيت للمصريين والنشل للإيطاليين
منذ صغري وأنا أسمع الناس يحذرون كل مسافر إلى القاهرة من (نشّالي مصر)، حتى أن بعض الأقرباء عندما عرفوا بسفري إلى مصر منذ سنوات، همسوا في أذني، وهم يلتفتون يمنة ويسرة كالخائفين: انتبه يا شربل من نشّالي مصر، إنهم كالبرق، ما أن تراهم حتى يختفوا. ولكنني، وبعد زيارتي لإيطاليا، ولمدينة فلورنسا بالذات، حيث حاولوا نشلي، تغيّرت مفاهيمي ورحت أردد: الصيت للمصريين والنشل للإيطاليين.
وفلورنسا هذه مشهورة جداً بملابسها الجلدية، لذلك نجد أن السيّاح يأتون إليها من أجل شراء ما يلزمهم من الألبسة الجلدية المتينة، بعد أن يكونوا قد متّعوا أعينهم برؤية تمثال داود (دايفيد) الذي نحته وهو في السادسة والعشرين من عمره ابن فلورنسا الفنان الخالد مايكل أنجلو.. واستغرق نحته مدة 3 سنوات، من عام 1501 ولغاية عام 1504.
منذ عدة سنوات تناقلت وكالات الانباء العالمية خبر الإعتداء على التمثال، إذ دخل رجل مهووس إلى متحف فلورنسا وبيده مطرقة، وراح يشبع التمثال ضرباً، فترك خدوشاً كثيرة في جسم التمثال (الحي)، تمكنّوا، والحمد لله، من إصلاحها.. وقديماً قالوا أن (خالقه) مايكل أنجلو أمره أن يتكلّم، وعندما لـم يتكلّم ضربه بالإزميل وصاح: تكلّم يا داود.
من أبناء فلورنسا المشهورين أيضاً الشاعر دانتي (1265ـ 1321)، كاتب الكوميديا الإلهية التي تحتوي على مشهد للجحيم يعتبر من أشد المشاهد تأثيراً. و(غاليلو) الذي اعتذرت من روحه الطاهرة الكنيسة الكاثوليكية لأنها لـم تفهمه في ذلك الوقت، ونكّلت به كما تنكّل الحكومات والجماعات المتطرفّة في دولنا العربية برموزنا الفكرية الرائدة، لأنها لـم تستوعب أفكارها النيّرة المتعارضة مع تزمّتها.
ومسكين من يعتقد أن فلورنسا هي مدينة الكنائس الأثرية فقط، بل أن (السيناغوغا) المعبد اليهودي الذي بناه المهندسون ماريو فالسيني، ماركو تريفر، وفينسو ميتشالي يعتبر من أشهر معالـم فلورنسا الأثرية.. قببه ملبّسة بالنحاس، وشبابيكه مزيّنة برسوم زجاجية رائعة.. وقد استغرق بناؤه سنتين وأكثر. من 1872 ولغاية 1874. وما عليكم سوى زيارة فلورنسا لتعرفوا مدى عظمة هذا المعبد.
أهالي فلورنسا طيّبون للغاية، ولكنهم يعانون، كما نعاني نحن في أستراليا، من التفكّك العائلي.. فلقد نشرت مجلة (بوردا) أن إيطالياً من أصل خمسة يطلّق زوجته لأنها لا تشبه أمه، لا من ناحية المنظر والمظهر، ولا من ناحية الطبخ والكلام. وأن 23% من النساء الإيطاليات يبتعدن عن أزواجهن لأنهم مملّون للغاية. بينما اشتكت 10% من (خيانتهم لهن)، و13% من (غيرتهم المفرطة). كما رفضت 11% منهن التحوّل الى (ربّات بيوت) وفضّلن الاستمرار في العمل والإبتعاد عن أزواجهن (ضغفاء العقول)، والمضحك حقاً أن 4% من هؤلاء النساء لجأن إلى وكالات التعارف على رجال جدد.. ومن يدري فقد يتعرّفن من خلال الوكالة على أزواجهن السابقين.. وهذا ما حصل للعديدات منهن.
جرائـم السرقة في فلورنسا أقل بكثير من روما.. وإن كانت موجودة بشكل كثيف، تصوّروا أن أحدهم وضع يده في كيس كبير للملبوسات كنت أحمله، وراح يفتّش فيه عن شيء يسرقه، ولو لم أشعر بثقل الكيس، لما أدركت أن نشالاً إيطالياً يغزوه، فصحت بالإنكليزية: ماذا تفعل؟ فتابع سيره وهو يضحك وكأن شيئاً لم يكن.
هذه الحادثة ذكرتني بما أخبرتني إياه إحدى السيدات اللبنانيات يوم زارت الفاتيكان للمشاركة بتطويب القديس نعمة الله الحرديني، وكيف سطا أحد النشالين على حقيبتها بينما كانت تضعها قربها وهي تصلي داخل الكنيسة، ولو لم يسعفها الوفد المرافق مالياً لبقيت بدون مأكل أو مشرب، فلقد سطا (المصلي التقي) على كل ما حملت من مال دفعة واحدة، فتصوروا عظمة إيمان هذا السارق.
كما أخبرني أحد الأقرباء، أنه أثناء تجوّله في شوارع روما، اقترب منه رجل محترم لا يشك به أحد، وأخبره أنه تعرّض لمحاولة نشل، وأنه جائع وبحاجة لبعض المال كي يشتري (بيتزا) يأكلها، فأشفقت زوجة قريبي على الرجل، وطلبت من زوجها مساعدته، كي يرد الله الضربات والمصائب عن أطفالها، حسب اعتقادها، وما أن سحب قريبي محفظته من جيبه حتى نتشها الرجل من يده وراح يعدو بسرعة الغزال، وزوجة قريبي تصيح: بوليس.. بوليسيا.. وما من مجيب.
أما القصة الأجمل فلقد حصلت أمامي في فلورنسا، عندما طلبت سيدة عجوز أسترالية من إحدى الفتيات المارات في الساحة أن تلتقط لها صورة أمام البوابة الذهبية، وما أن أعطتها آلة التصوير حتى اختفت الفتاة بين الجموع، وكأن الأرض انشقت وابتلعتها.. وعبثاً حاولنا التفتيش عنها بين الناس، بغية إرجاع الكاميرا إلى العجوز المسكينة التي أطلقت لدموعها العنان حزناً على (الفيلم) التاريخي الذي صورته في إيطاليا، وليس على الكاميرا كما قد يتبادر للذهن.
عندئذ بدأت أتساءل: لماذا يتهمون المصريين بالنشل؟ ولماذا يدّعون أن نشالي مصر أشطر من غيرهم في هذه المصلحة، إذ أنني أمضيت أسبوعاً كاملاً في مصر ولم ينشلني أحد، بل نشلوا قلبي، لكثرة ما أحببتهم وأحبّوني. أما في إيطاليا فقد حاولوا نشلي في اليوم الأول لوصولي، فتصوروا.
حوادث السير لا حصر لها، وخاصة دهس الناس على الممرات المخصصة للمشاة. فالسائق الإيطالي لا يعير اهتماماً لا للضوء ولا لممر المشاة.. ولذلك نجد أن سيارات الاسعاف تعمل على مدار الساعة، يسمع الناس زماميرها أكثر مما يسمعون أجراس كنائسهم الكثيرة عندما تقرع.
إذا زرت إيطاليا، في يوم من الأيّام، إيّاك أن تحمل مالك كله في محفظتك، أو أن تتوقّف، ولو للحظة واحدة، وأنت تقطع الشارع، لأنك بذلك تكون قد اشتريت آخرتك، ونفّذت المثل القائل: الحق على الطليان.. حماك اللـه من النشالين ومن السائقين المسرعين، وإلى اللقاء.
**
هل سنأكل القطط والكلاب؟
أعتقد أن الشيخ عبد الحميد الأطرش، رئيس لجنة الفتوى بالأزهر، قد بدأ يحس بسخونة الانفلات السكاني في مصر والوطن العربي، وبضرورة تحضير طعامه قبل حصول الكارثة، فأصدر فتوى، وما أكثر الفتاوى في هذه الأيام، يحلل بها أكل القرود والكلاب والقطط والذباب والفراشات والجرذان، وكل ما اشتهته النفس، ما عدا الخنزير، فكم هو محظوظ هذا الحيوان، وأعتقد أن أبقار الهند ستحسده على منزلته المنجسة عند الله، فلقد حماه من الموت الزكام على أيدي اليهود والعربان، وتزيين الموائد بلحومه البنفسجية، بينما حلل ذبح كل ما يرى وما لا يرى من كائناته، والتهامه دون فحوص مختبرية، أو موافقة طبية. أما إذا مضغنا لقمة واحدة منكهة خنزرياً، فالويل، ثم الويل لنا، فقد نكون قد ارتكبنا معصية تغضبه تعالى، وترمينا في أتون جحيمه!.
باختصار شديد، لا يحق لنا أكل لحم الخنزير إلاّ إذا بدأنا بالتهام لحوم بعضنا البعض، أي أن لحم الخنزير يساوي بنجاسته لحم الإنسان، ولا يسمح الله بأكلهما إلاّ في الحالات الاضطرارية. ولا تتعجبوا إذا سمعتم إنساناً مؤمناً مثلي يتضرع لربه كي يمسخه خنزيراً، عله يتخلص من جهل أخيه الإنسان وطائفيته، وينعم بعطفه وحمايته كخنزير يدب آمناً على وجه هذه البسيطة.
تقول الحكاية أن أحدهم مارس الجنس مع قرد، فأهداه القرد على طبق من ذهب جرثومة الأيدز ـ السيدا، التي أهلكت الإنسان في مشرق الشمس ومغربها، ولم تهلكها جميع الأدوية التي ابتكرها العلماء من أجل مكافحتها.. فماذا سيصيبنا إذا بدأنا بالتهام القرود دون رقابة صحية؟.. من المؤكد أن القرود ستتنعم بحياة أزلية، وستفنينا نحن عن بكرة أبينا!.
وفي آسيا، تقول حكاية أخرى، أن مرض (السارس) انتقل للإنسان عن طريق الكلاب، فكيف سنمضغ لحم كلب ونحن نرتجف خوفاً من (سارسه)، وكيف سأقتنع، أنا العبد المسكينً، بأن الشيخ عبد الحميد الأطرش قد سمح لي بذبح كلبتي (ليلي) وتزيين مائدة العيد بها؟. والله والله سأقطع يدي قبل أن أفكر بذبحها، ولو أفتى بذلك فناني الخالد المفضل فريد الأطرش، وليس الشيخ عبد الحميد الأطرش.
ألا تكفينا إنفلونزا الطيور، التي امتنعت نصف البشرية عن تناولها بعد البلبلة الصحية التي أحدثتها في العالم، لدرجة منعتنا من السفر إلى آسيا الصفراء، والتنعم بنكهة دجاجات عمنا الكولونيل طابخ الـ (KFC)، الذي استبدلها بالأسماك كي يحمي مملكته التجارية من الانهيار.
وماذا سنقول أيضاً عن جنون البقر، فلقد جنّن أوروبا كلها، وكاد يجنن قارة أميركا الشمالية، بالإضافة إلى أمنا الحبيبة أستراليا؟. فإذا كانت الطيور والأبقار التي اعتاد الانسان على التلذذ بلحومها منذ تكونت البشرية قد أرعبتنا جميعاً، فماذا سيحدث إذا بدأنا بمضغ الذباب والفئران والصراصير والعقارب والعناكب والهوام؟ هذا ما يجب أن تقرره المختبرات الطبية قبل دعوة الناس إلى حشو إمعائهم بها.
ومن منا لم يقرأ ما سببته الفئران، أيام أجدادنا، من نقل مرض (الطاعون) من بيت إلى بيت، حتى حصد من أبناء آدم ما لم تحصده الحربان العالمية الأولى والثانية، رغم فتكهما وضراوتهما.
أما إذا بدأنا بالتهام الذباب والبرغش (الناموس)، فسيلتهمنا مرض الملاريا حتى آخر مخلوق فينا.. عندئذ لن تنفعنا الفتاوى، ولا من يفتي بها.
ثلاثة أرباع البشرية تأكل الخنزير، وتتلذذ بلحمه، حتى أن شركات تعليب البطاطا والمقبلات على أنواعها تنكّه مأكولاتها المعلبة بلحم الخنزير المجفف، فلماذا سمح الله لهؤلاء بأكل الخنزير وحرّمه على آخرين؟.. وإني لأتساءل: ماذا سيأكل الإنسان في الحالة الاضطرارية إذا خيّر بين لحم خنزير أو لحم فأر أو لحم صرصور أو كلب؟
بدلاً من أن يفتي سماحته بأكل الكلاب والقطط والجرذان، كان الأجدى به أن يفتي بتحديد النسل، وأن يمنع تعدد الزوجات، وأن يطالب بإعداد دراسات علمية متطورة من أجل تخصيب الصحارى العربية، وزرعها بالقمح والأرز والملوخية والباذنجان وغيرها، كي لا يضرب شعبنا الجوع والمرض والموت، ويحصد الأخضر واليابس، مع العلم أنني لست ضد التلذذ بكل ما خلق الله لنا من خيرات حيوانية وحشراتية.. تماماً كما يفعل الصينيون، شرط أن تشتهيه النفس.. فإذا كانت نفس نبينا العربي العظيم لم تشتهِ الضبّ الذي التهمه خالد بن الوليد، فما أصعب ما تشتهي أنفسنا.
**
سجناء لبنان وصالون الحلاقة
أعترف أنني زرت بعض السجناء اللبنانيين في السجون الأسترالية.. وأعترف أيضاً أنني حسدتهم على رفاهية العيش التي يتنعمون بها، إنهم والحق أقول، يعيشون أفضل منا نحن الأحرار بألف مرة. وإليكم بعض الأمثلة:
أولاً: لقد دفعت السنة الماضية أكثر من ألف دولار لدخول نادٍ رياضي، وممارسة بعض التمارين التي نصحني بها طبيبي الخاص. أما السجناء في استراليا فيمارسون رياضتهم البدنية مجانا على أحدث الآلات الرياضية المستوردة.
ثانياً: علي أن أعمل ليل نهار من أجل لقمة عيشي، بينما هم يتناولون ما لذ وطاب ويلبطون صحونهم كما يقول المثل اللبناني.
ثالثاً: في غرفة نومي لا يوجد تلفزيون حتى الآن، وغرف سجونهم مزودة بتلفزيونات كبيرة بغية الترفيه عنهم.
رابعاً: أنا أكد وأجتهد كي أقبض راتباً، والسجناء يقبضون رواتبهم دون أن يعملوا.
خامساً: لم أتمكن حتى الآن من دخول فريق رياضي فوق سن الخمسين، بينما فرق المسجونين الرياضية، وبأعمار مختلفة، أكثر من أن تحصى.
تذكرت هذا القليل من كثير النعم التي يترفه بها السجناء الأستراليون، وأنا أقرأ خبراً مؤلماً للغاية، بأن بعض الجمعيات الانسانية اللبنانية تضامنت وتكاتفت من أجل إيجاد صالون للحلاقة في سجن طرابلس.
ولأن الحدث مهم للغاية، فقد دعي الاعلام البلدي والعربي والعالمي لنقله الى أعين كل من يتهم السلطات اللبنانية، منذ الاستقلال، بأنها لا تهتم بالمواطنين، وخاصة السجناء منهم، فكم بالحري إذا كان معظم اللبنانيين سجناء، إما في بيوتهم، التي يخافون أن يغادروها كي لا تحصدهم قنبلة موقوتة، وإما في أحزابهم التي تجرهم من ساحة إلى ساحة بغية التظاهر الممل من أجل تمرير مشاريعها وأهدافها، وإما في السجون التي دخلوها بعد أن مارسوا حقهم في التعبير عن آرائهم.
ومشروع افتتاح صالون للحلاقة في سجن طرابلس، لم ينبت من العدم، فلقد أنهك التعب مسؤولي مركز (ريستارت)، حتى تمكنوا بمساعدة جمعية العزم والسعادة الاجتماعية من تحقيقه، فلهم منا التقدير والشكر.. لأنهم حققوا شيئاً في وطن لم يعرف سوى الدمار.. ولم ينتج سوى الدمار.. ولم يهدَ إليه سوى الدمار.
لقد قرأت الكثير عن أحوال السجناء اللبنانيين المزرية، كيف أنهم ينامون بالعشرات كالماعز في غرف صغيرة نتنة، ويمارسون اللواط أمام بعضهم البعض، ويبتلعون كافة أنواع المخدرات دون حسيب أو رقيب.. لدرجة أن الكثيرين منهم حاولوا الانتحار بغية التخلص من عذاباتهم.
ولكنني لم أدرك أبداً ان مشروع افتتاح صالون للحلاقة في سجن لبناني، يساوي مشروع افتتاح السد العالي في مصر، ويلزمه كل هذا التطبيل والتزمير.
يقول المثل اللبناني: هنيّال من له مرقد عنزة في لبنان.. أما أنا فأقول: هنيال من له غرفة في سجن أسترالي.
**
بلجيكا مضجرة للغاية
زيارة بلجيكا مضجرة للغاية، فهي بلد أوروبي مساحته 30519 كلم2، وعدد سكانه 10 ملايين نسمة، ويتكلم شعبه الداتشية والفرنسية والالمانية، وعملته الفرنك البلجيكي، (اليورو الآن)، وعاصمته (بروكسيل) بالفرنسية، و (براسل) بالإنكليزية، وفي إحدى مدنه المسماة واترلو، تحطّمت عنجهية الامبراطور الفرنسي نابليون.
بلجيكا فقيرة بالنسبة لجيرانها.. تقع بين فرنسا وألمانيا وهولندا. وصدّقوني أن الدول الأوروبيّة قد أنعمت عليها أكثر من اللازم، عندما اختارت عاصمتها عاصمة للإتحاد الأوروبي، ومركزاً لبرلمانه.. وأعتقد أن فرنسا كانت وراء هذا الاختيار، نظراً لقربها من بلجيكا أولاً، ولعلاقتها الوثيقة بها ثانياً، وحتى تضع يدها على البرلمان الاوروبي، وتتلاعب به كما تشاء ثالثاً.
بمختصر العبارة، لـم تختر فرنسا باريس، بل اختارت بروكسيل، حتى تبعد عنها شكوك السيطرة والتلاعب بالبرلمان العالقة بعقول الشعب الأوروبي، وخاصة الإنكليزي.
ولولا معرض الزهور الذي تحتفل به بروكسيل في منتصف شهر آب من كل عام.. لما تحمّلت مشقّات السفر، وقصدت الساحة الكبرى (GRAND PLACE)، المسيجة بأجمل القصور القديمة، والمرصوفة بحجارة منمنمة رائعة.. والتي يقام بها معرض الزهور، بشكل لا يتصوّره عقل.. فهم يصفّون الزهور قرب بعضها البعض، لتصبح سجّادة ملوّنة تسرق منك الشهقة والنظر، وتجعلك تسبّح الخالق العظيم على ألوان زهوره، وعبقرية مخلوقاته.
عام 1994، كان عرض سجّادة الزهور 24 متراً، وطولها 70 متراً، ومؤلفة من 775 ألف زهرة ملونة.
عام 1996، كان عرض السجّادة 24 متراً، وطولها 77 متراً، واستهلكت 800 ألف زهرة. وهكذا دواليك في كل عام، أزهار تصطف وعيون ترف.
وأعتقد أن سجّادة هذه السنة قد لا تختلف بطولها وعرضها عن سجّادات الأعوام السابقة، بل برسومها فقط.. والسبب يعود إلى أن البلدية تريد ممراً للمشاة، وطريقاً صغيراً لعربات الزهور.
إذا عطشت، وأنت تتسوّح، فسيدلك البلجيكيّون على عين ماء صغيرة قريبة من معرض الزهور.. هناك ستجد طفلاً صغيراً من البرونز يبول ماء.. وما عليك إلا أن تضع فمك تحت (حمامته) لتروي غليلك.. إنه أحد أهمّ معالـم (بروكسيل) السياحيّة.. يقصده السيّاح من كافة أقطار العالـم لارتشاف جرعات من (بوله) الأنقى من مياهنا الملوّثة في معظم دولنا العربية.
كما لا يسعني إلا أن أذكر البيوت الحكومية التي يعود تاريخها إلى القرن السابع عشر، فهي آية في الجمال والفن المعماري الرائع.. عليها تعاقب حكّام كثيرون، ولكن ولا أحد منهم تمكن من أن يجعل من بلجيكا بلداً غنياً كباقي الدول المحيطة بها.
لقد دخلت كنسية السيدة مريـم الغارقة في القدم، وصليّت للـه تعالى كي ينقّي مياهنا ومياهكم من الجراثـيم، حتى لا يمرض إنسان واحد.. حماكم اللـه وأبعد عنكم الضربات، ولوّن حياتكم بزهور بروكسيل الشهيرة.. وإلى اللقاء.
**
بلجيكا لم تعد مضجرة
الضجر الذي تملكني عندما زرت بلجيكا انقلب إلى سعادة وقراءة متواصلة، فلقد وصلتني عشرات الرسائل من القراء حول مقالي (بلجيكا.. مضجرة للغاية) الذي نشرته إيلاف منذ أسبوعين تقريباً.
لم أكن أصدق أن مقالاً كهذا سيفجّر قريحة قرائي، وسيلهب ثورتهم، فمنهم من أشاد بالمقال، ومنهم من طالبني بعدم ذكر اسم بلجيكا، لأن البلجيكيين قضوا على 15 مليون أفريقي دفعة واحدة، ليس بقنابلهم الذرية، بل بسيوفهم وبنادقهم البدائية، وإليكم بعض ما جاء برسالة أخينا حيدر: (رغم احترامي لكتاباتك في إيلاف، إلاّ أنني هذه المرة سأختلف معك حول ما كتبت عن بلجيكا، فلقد تألمت كثيراً وأنا أقرأ عن تاريخ بلجيكا الإستعماري في أفريقيا، وبإمكانك أن تطلع على المجازر التي ارتكبها البلجيكيون بحق الأفارقة من خلال زيارة هذا الموقع المرفق، وليكن بمعلومك أن البلجيكيين لم يعتذروا بعد على مجازرهم، رغم أن عدد ضحاياهم قد تخطى الخمسة عشر مليوناً).
ومن (ديد إند) وصلتني رسالة يصرخ بها صاحبها بأعلى صوته: (من يهمه أمر بلجيكا حتى تكتب عنها؟) وعندما أخبرته بعدد الرسائل التي وصلتني حول بلجيكا، وزودته ببعضها، أرسل لي رسالة ثانية يشرح بها رسالته الأولى ويقول: ( أنا آسف.. ولكنني أحببت أن أعلمك أنني من المعجبين بكتاباتك، وخاصة عندما تتطرق لمواضيع المرأة والحرية وما شابه.
نحن كعرب، يجب علينا أن نعيش حاضرنا، ونحضّر لمستقبلنا، أي أن علينا أن نتخطى الماضي، فالماضي مات، والمستقبل هو المستقبل.
لقد عشت أياماً حلوة في أوروبا، أنا الآن في الولايات المتحدة الأميركية، زرت خلالها البارات، الملاهي الليلية، ورافقت العديد من الفتيات. كما أنني زرت بلجيكا، التي أكرهها كبلاد، لأن كل ما فيها ميت، وشعبها يكره العرب، هذا كان في التسعينات (1998).
المهم أن نتكلم عن مشاكلنا، وكيفية حلها، إذ أننا، كعرب، ما زلنا عاجزين عن مماشاة العالم، وقد لا أستبعد محونا عن وجه الأرض. لذلك أرجوك، ككاتب ذكي، ذي أسلوب رائع، أن تضم صوتك إلى أصوات الدكتور شاكر النابلسي، والدكتور كمال نجار، والسيد ف. نمري وغيرهم.. فهؤلاء هم كتّابي المفضلون).
وإذا كان (حيدر) و(ديد إند) قد ثارا علي كوني ذكرت اسم بلجيكا، فلقد ثار الأخ عماد مهدي ثورة مضادة، إذ اعتبرني قد قللت من شأن بلجيكا، وإليكم ما كتب: (لقد قرأت بالصدفة على موقع إيلاف ما كتبته عن بلجيكا، وأرى فيه الكثير من الغرابة والتناقض، فقد بدأت مقالتك وقد حكمت على المملكة البلجيكية بأنها.. مضجرة!! ثم عطفت وأنت تذكر زيارتك للغراند بلاس، وسجادة الزهور الشهيرة بروعتها، والمباني الرائعة في بروكسيل (على حد قول المرحومة داليدا)، وحكمت عليها بالضجر، ولم ترَ منها شيئاً حتى الآن. فهل سمعت بفينيسيا الشمال أو مدينة بروج وأبنيتها التاريخية الشهيرة، ومنها (بيل فورت)، أو هل رأيت مدينة (أنتويرب)، ولا أدري لماذا يأخذ العرب الإسم الفرنسي رغم أن سكانها ناطقين الفلمنكية وهي لهجة هولندية، وهل رأيت مدينة (أوستندة) أو ما يسمى لديهم مدينة (كنوكة هايست) أو مونت كارلو بلجيكا.
ثم لماذا أنت متضايق لهذا الحد من اختيار بروكسل عاصمة للإتحاد الأروبي؟! ألا تعرف أن أحد الأسباب الرئيسية لاختيارها هو أن لغاتها الرسمية ثلاث، فهل وجدت بلداً أوروبياً آخر فيه ثلاث لغات رسمية يقدر أن ينافس بلجيكا ما عدا سويسرا؟!
وفي النهاية، أرجو أن تصحح وجهة نظرك حول بلجيكا، فهي تستحق الكثير رغم صغرها، ولا أدري ما سبب تأثر العرب الدائم بالدول الكبرى، واستهانتهم بالصغرى، فهل يرجع هذا إلى تأثرهم بتقاليدهم الشعبية زمن القبضايات، أم حبهم الكبير للقوة والسلطة؟).
الشاعر شوقي مسلماني رمى علي سؤالاً سريعاً في رسالته الأسرع: كيف تكون بلجيكا مضجرة وهي تحتفل كل عام بالزهور؟
الدكتور صفوت رياض قال: ان ما كتبته عن بلجيكا يذكرني بمهرجان الزهور الذي يقام كل عام في العاصمة الأسترالية كانبرا. والظاهر أن الدكتور رياض أخصائي بالمجاري البولية، وإلا لما سألني بدعابة إذا كان البول النازل من حمامة الطفل ذا طعم أو رائحة.
أما الدكتور عبدالله عقروق، فلقد فجّر مقالي بعض ذكرياته الحميمة، ولا أجد ضرراً من إطلاع القراء عليها: ( ذكرتني يا أخي شربل أيام بدأت دراستي الجامعية في الدانمرك عام 1954، كنت طالباً آنذاك، في كلية فريدنسبرج، إذ ذهبت بصحبة بعض الزملاء بطريقة (الهيتشايكينغ) الطريقة المفضلة عند الطلاب للتنقل والسفر، إلى بلجيكا، وقضينا هناك أسبوعاً كاملاً بكلفة أربعة دولارات في اليوم، بين منامة وأكل وشرب، كنا أعضاء فيما كانوا يسمونها بيوت الشباب، وكانت المنامة مع استعمال الحمام والمطبخ لا تتجاوز الدولار الواحد. كنا نقضي سهراتنا في البارات الجميلة، وكان لكل واحد منا على الطاولة ما يقارب سبعة فتيات، فلقد عانت بلجيكا من خسائر بشرية هائلة أثناء الحرب العالمية الثانية، وخاصة من الذكور، مما جعل عندهم نقص في صفوف الرجال، فلقد كانت بلجيكا (طاسة التصادم) في الحرب، ومنيت بخسائر ذكورية لا تعد ولا تحصى.
مقالك حرّك بعض الذكريات الحلوة، مما جعلني أفكر بالذهاب ثانية لأستقي من حمامة الولد..).
وقبل أن أختم مقالي أود الإعتذار من الذين لم أتمكن من نشر رسائلهم، ومن الذين نشرت رسائلهم أيضاً، فالغاية تبرر الواسطة، وغايتي من كل هذا أن أثبت للقارىء أن أدب الرحلات ما زال ساري المفعول، ومرغوب كأغنيات نانسي عجرم.. رحم الله ابن بطوطة، فلقد علمنا السفر، ولكنه أوقعنا برسائل القراء وبالف سين وجيم.
**
ماذا سيأكل الهنود؟
كلنا يعلم أن القوّة البشرية العظمى في الوقت الحاضر هي الصين، إذ يبلغ عدد سكانها ربع سكان العالـم تقريباً (مليار ومئتا مليون نسمة)، يسكنون ثالث أكبر مساحة أرضية مربّعة (516000 كلم2) بعد الإتحاد السوفياتي وكندا .
ولكن، وبعد تحديد النسل الصارم في الصين، طفل لكل عائلة، وجد الخبراء أن الهند ستتغلب عليها بعدد السكان في مطلع القرن الحادي والعشرين، إذ أن الهند لـم تشرّع بعد قانوناً صارماً لتحديد النسل كما فعلت الصين، وهذا ما سيعطيها دفعاً سكانياً لا مثيل له، قد يغيّر المعادلات الدولية، ويقلب الطاولة رأساً على عقب .
والظاهر أن السؤال الذي طرحته في (إيلاف) الأسبوع الماضي: هل سنأكل القطط والكلاب؟ قد أثار حماسة أحد القراء فكتب ما يلي: اطمئن يا شربل، فلا أنت ولا نحن سنأكل القطط والكلاب حتى ولا ضب خالد بن الوليد، فشعوب البلاد العربية ما زالت تعيش في رفاهية تحسد عليها من قبل شعوب أخرى، كالشعب الهندي مثلاً، فماذا سيأكل الهنود بعد عشر سنوات، وهم يتزايدون بسرعة هائلة؟ هذا هو السؤال الواجب طرحه والإجابة عليه.
والهند، لمن لا يقرأ كتب الجغرافيا، شبه جزيرة تقع في جنوب قارة آسيا، تحدها من الشمال جبال حملايا التي تفصلها عن الصين وبهوتان ونيبال، ومن الشرق بورما وبنغلادش وخليج البنغال، ومن الجنوب المحيط الهندي، ومن الغرب باكستان وبحر عُمان .
ومن يدري، فقد يبدأ سكان الهند، المتزايدون بشكل مخيف، بأكل لحوم البقر، إذ أن عاداتهم رغم فقرهم وعوزهم، تحرّم ذلك، فأصبح لديهم، من جراء هذا التحريم، أكبر قطيع من الأبقار في العالـم، يسرح ويمرح على ذوقه في طول البلاد وعرضها، ومن حسن حظّهم أن جنون البقر لم يضرب قطيعهم بعد، كما ضرب أبقار إنكلترا وغيرها من دول العالم .
بمختصر العبارة، هم يعتبرون البقرة حيواناً مقدّساً، يموتون جوعاً ولا يأكلونها، وهذا من حقّهم طبعاً، طالما أن الدين المسيحي يحرّم علينا أكل اللحوم يوم الجمعة، خاصة في الصيام الخمسيني، والدين الاسلامي يحرّم علينا أكل لحم الخنزير، تماماً كما يحرّمه الدين اليهودي .
فإذا كان الهنود لا يأكلون البقرة لأنها مقدسة، واليهود والمسلمون لا يأكلون الخنزير لأنه منجساً، أفلا تعتقدون مثلي أن القداسة والنجاسة اتفقتا على مبدأ واحد ألا وهو تحريم أكل لحوم معينة، على شعوب معينة، بينما باقي الشعوب يتهافتون لملء بطونهم منها، دون أن يصابوا بأي مكروه!.
ورغم وجود قصر(تاج محال) أحد عجائب الدنيا في الهند، إلاّ أنها تعتبر دولة غير متطورة من ناحية العمران والاقتصاد بسبب كثرة السكان وانتشار الفقر والطبقية في البلاد، أضف إلى ذلك وحشية مناخها المتقلّب الذي كثيراً ما يقضي على مواسمها الزراعية .
في الصين يأكلون الحيّات والكلاب والنمل وغيرها، وقد أخبرتني إحدى الزميلات أنها زارت الصين، ودخلت مطعماً يوفّر لزبائنه أطباق النمل، ولكنّها لم تأكله، ليس كرهاً به، بل نظراً لارتفاع ثمنه، إذ ناهز المئة دولار .
يقول بعض الأخصائيين الغذائيين أن طبق النمل مفيد جداً لصحّة الإنسان كونه يحتوي على كمية هائلة من البروتين، ومن يدري فقد يصبح الطبق الأوسع انتشاراً في العالم بعض همبرغر الماكدونالد، التي بيع منها ما يصل الأرض بالقمر، إذا وضعت فوق بعضها البعض، على أربع رحلات مكوكية .
فماذا سيأكل الهنود بعد عشر سنوات، إذا أصبحوا القوة البشرية الكبرى في العالـم؟ .
الأرز مفقود .
لحم البقر محرّم ..
الهمبرغر لا يقدرون على شرائها، ولا يأكلونها أساساً.
الدجاج احتكرته شركة الـKFC
السمك لا يسد جوع الصين ..
النمل أغلى من الذهب والماس ..
القمح.. سلاح بيد أميركا، وبلادنا العزيزة أستراليا .
القطط والكلاب والقرود والفئران والصراصير وغيرها وغيرها، انضمت إلى لائحة مأكولاتنا الشعبية في الوطن العربي، بعد أن أفتى الشيخ عبد الحميد الأطرش بذلك، وهيهات تسد جوع 300 مليون عربي، ومليار ونصف صيني.
الحل الوحيد يكمن في تحديد النسل.. طفل واحد لكل عائلة، ومن لا يعجبه القانون فليبقَ عازباً.
**
رقصة الدبكة كالطائفية تفرّق ولا توحّد
قرأت خبراً أضحكني جداً، كوني عاينت مثله في أستراليا، أثناء حضوري حفلة فنانة لبنانية معروفة، لن أذكر اسمها، تقديراً لها ولصوت استرحامها المتعاركين كي يهدأوا ويعقلوا، ويعودوا الى طاولة الفرفشة والحوار.
وصدقوني إذا قلت ان صوت استغاثتها، رغم مرور السنين، ما زال يطن في أذنيّ، خاصة وأن الجمهور المتدافش لم يسمعه على الاطلاق، وكيف يسمعه وصراخ المتشاجرين يصم الآذان ويدعو كل ذي عقل وبصيرة الى الهرب.
والخبر يقول ان مشاجرة جماعية حصلت في ريف دمشق بين أفراد من خمس عشائر بسبب رقصة الدبكة الشعبية.
والظاهر أن كل عنتر من عناتر العشائر الخمس أراد أن يبزّ الآخرين (بخبطة) قدمه على الأرض، تيمناً بأغنية فيروز الشهيرة:
خبطة قدمكن ع الأرض هدارة.. هدارة.. هدارة
ليسحر برقصته الصبايا، علّه يحظى بحبيبة، أم بزوجة، أم بعشيقة لا فرق، المهم أن لا يطلع من مولد الدبكة الشعبية بدون حمّص.
إلى أن هدرت القبضات الفولاذية والعصي والحجارة فأصيبت امرأتان مسكينتان أرادتا الرقص فحصدتا اللكمات والألم والنوم في المستشفى.
وبما أن الشعوب العربية تتمتع، والحمد لله، أنّى حلّت، بأرجل متشابهة، وبدبكة واحدة، سورية كانت أم لبنانية، فلقد أشعلت الدبكة ليل سيدني أيضاً، وجعلت الشرطة الأسترالية تلعن كل ما يمت الى الرقص بصلة، كما أن زمامير سيارات الاسعاف قد طيّرت النعاس من أعين الآلاف من سكان الضواحي المجاورة للقاعة.
لماذا؟!.. لأن امرأة جميلة ومهضومةً جداً، نزلت على الدبكة، كما نقول في لبنان، وأرادت أن تمسك بيد آخر رجل في ذنب الدبكة، كون الدبكة تسير كالحية، لها رأس وذنب، رأسها القائد وذنبها كل من أراد الالتحاق بالرقصة، فرفض أخونا تسليم أصابعه الخشنة لأصابعها الناعمة، لسبب ما، فغضبت أختنا من تصرفه الأرعن، ونزعت عنها ثوب الجمال والأنوثة، وعادت الى طاولتها المجاورة لطاولتي والشرر يتطاير من عينيها، وراحت تهمس في أذن زوجها أشياء وأشياء والدموع تترقرق على وجنتيها الخجولتين.
وما هي إلا لحظات حتى هبّ أبو زيد الهلالي حاملاً قنينة ويسكي، وهجم على حلبة الرقص ليقذفها على رأس الرجل الذي لم يشبك يده بيد زوجته، ويشج رأسه.
هنا، قامت القيامة ولم تقعد، إذ انحشد للرجل المغمى عليه جميع الرجال الجالسين على طاولته، وبالمقابل انحشد للرجل الضارب جميع رفاقه.. لدرجة أصبحنا معها عاجزين عن الهرب، لكثرة المتعاركين والمتدافشين والمصلحين. ناهيكم عن الصحون الطائرة التي كانت تصيب رؤوس الناس الآمنين دون أدنى شفقة.
وصدقوني أنني كنت محظوظاً جداً، كوني كنت أجلس قرب المطبخ، فدخلت إليه لأجد الطباخين يأكلون ما طبخوه لنا، نكاية بنا وبجميع فنون الدبكة الشعبية التي وجدت أصلاً للتضامن والتكاتف والتعايش والتسامح والتلاقي، فأصبحت كالطائفية مصدر شرّ، ما ان تعقد حلقاتها حتى تظهر شراراتها وويلاتها.
العبرة من هذا كله، أن الشعوب العربية لا تجتمع إلا من أجل الشجار والقتل وزرع الفتن، وكأننا لا نستأهل العيش الكريم كباقي الشعوب.
فمن غيرنا، يتعارك أثناء تأدية الصلاة، كما يحصل الآن في عالمنا العربي؟
ومن غيرنا يرمي العديد من القتلى والجرحى أثناء مشاركته باحتفالاته الدينية؟
ومن غيرنا يهلل لبطولات الذين يفجّرون أنفسهم بأطفالنا ونسائنا وشيوخنا باسم الدين، بينما العدو يحصي عدد موتانا، ويساعدنا في نبش قبورهم؟
ومن غيرنا إذا رقص أشعل حلبة الدبكة حقداً حتى لا تتمكن كل سيارات الاطفاء من إطفاء نار همجيته واستبداده؟
من غيرنا، بربكم قولوا، يصطحب عقليته العربية المتزمتة المريضة أنى رحل، فيشوه بها البلد الذي يستضيفه، ويجعل كل من يشاهده أو يعاشره أو يستمع اليه يلعن ساعة وصوله الى بلده، كما يحدث الآن في كثير من بلدان الله المتأففة منا.
لقد تعب الكون منا ولم نتعب بعد من جهلنا وجاهليتنا وفحيح ألستنا الحاقدة. ومع ذلك نقول: نحن أفضل خلق الله.. قولوا: ألله!
**
كاد المعلم أن يكون.. ديكتاتوراً
شاءني الله أن أمارس مهنة التعليم لأكثر من ثلاثين سنة، وأن أشرف كل هذه المدة على تربية وتهذيب الطلاب في بلاد كل ما فيها قانوني، وعليك، قبل أن تتكلم مع الطالب أو تقاصصه، أن تحصي أنفاسك، وتنتقي مفرداتك كي لا يجرك الى المحكمة، ويقضي على مستقبلك المهني والاجتماعي.
ولهذا السبب يخضع المعلمون في أستراليا لدورات مكثفة حول كيفية التعاطي والتعامل والتكلم مع التلميذ، كي لا يجرحوا شعوره، أو يسببوا له بأذى نفسي، مخافة تعرّضهم للملاحقة القانونية.
وكم تألمت وأنا أقرأ خبرين تربويين، أحسست أنهما أقرب الى النكات منهما الى الحقيقة، الأول من الهند ومفاده أن معلماً أجبر تلميذه على السير عارياً أمام المدرسة لمدة ثلاث ساعات، بعد أن أوسعه ضرباًً، والسبب كما أوردته صحيفة (ذا تايمز أوف إنديا) ونقلته الى العربية (الشرق الاوسط): ان تلميذاً اسمه “راكيش” لم يرتدِ بنطال (بنطلون) المدرسة المناسب، فوبخه المعلم، وأوقفه خارج الصف في احدى المدارس الحكومية في العاصمة نيودلهي.
والظاهر أن طقس نيودلهي كان حاراً جداً في ذلك اليوم، والوقوف خارج الصف المكيّف بالهواء مضجر ومتعب للغايةً، لذلك قرر (راكيش) مع مجموعة من رفاقه السباحة في خزان المياه الخاص بالمدرسة، وفجأة لمحهم نائب المدير، فلاذوا بالفرار، ولم يقع في قبضته إلا (راكيش) المسكين العاري حتى من ورقة التوت ، كونه لم يجد ثيابه، فأوسعه ضرباً، وأجبره على السير عاريا أمام المدرسة لمدة ثلاث ساعات.
لا أدري إذا كان يحق للمعلم، في بلاد كالهند، أن يضرب تلميذه أم لا؟ إذ أن مسألة الضرب لم تحسم بعد في بلدان كثيرة، ولكن لا يحق لأي كان، لا في الهند ولا في السند، أن يوقف طفلاً عارياً لمدة ثلاث ساعات أمام أعين الآخرين. فهذه جريمة أخلاقية قبل أن تكون تربوية، يجب أن يتعرّض مقترفها لأشد العقوبات، لا لأنه عاقب تلميذه، بل لأنه زرع بذور الشر والكراهية في قلبه وقلوب كل من شاهد منظره العاري، وأوحى لهم أن مسيرة الحياة لا تستقيم إلا بالبطش والتعذيب.
وكم يكون المشهد رائعاً ومؤثراً لو خلع المعلم قميصه وستر عورة تلميذه، مهما كان مذنباً وشقياً، لأنه بذلك ينمّي فيه روح الفضيلة والأخلاق، ويشعره بحنانه الأبوي، وبأن الحياة لا تقوم على السلبيات فقط، بل على المحبة والتسامح.
والخبر الثاني من السعودية، حيث أجبر معلم أحد طلابه على تقبيل قدمه أمام زملائه الطلبة في إحدى المدارس الابتدائية في المنطقة الشرقية.
والقصة كما روتها (الشرق الاوسط) تعود إلى مدرسة “محمد الفاتح” الأهلية في الدمام، حيث قام أحد الطلبة المشاغبين في الصف الخامس الابتدائي بشتم معلمه، مما أثار غضب المعلم وقام بتوجيهه إلى مرشد المدرسة، الذي اتفق معه على اعتذار الطالب علنا أمام زملائه بتقبيل رأس معلمه وقدمه.
ما هذا المرشد الذي يرشد إلى تقبيل الأقدام؟!
تقبيل الرأس مقبول نوعاً ما، أما تقبيل القدم، فجريمة مخجلة لا يرتكبها إلا معلم عربي، لأنه لن يعاقب عليها، كونه يعيش في مجتمع لا يفكّر إلا بالقدمين، والفخذين، والساقين.. وما فوقهما، وما تحتهما، وما يحيط بهما.
من هنا أجد أن التعليق على الخبر لا يجدي، طالما أننا نعيش في شرنقة جاهلية معتمة نسجنا خيوطها بغبائنا، وسجنّا أنفسنا بداخلها، ورفضنا أن نعايش عصرنا، مهما سطعت شمسه، ومهما قدم لنا من خدمات حياتية، قد نموت بدونها، ومع ذلك نفضّل أن نموت.
صدق من قال: الشعب العربي شعب ميت.. وإن كان يتنفّس.
**
عمر الشريف مسيحي، مسلم، يهودي
ادعت صحيفة الغارديان البريطانية في عددها الصادر في 31 تشرين الأول 2005، أن الفنان المصري عمر الشريف ولد يهودياً، وكان اسمه ميشال شلهوب قبل أن يعتنق الإسلام ديناً عام 1950، بغية الزواج من سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة.
والحقيقة أن فناننا العالمي القدير من مدينة زحلة اللبنانية، ومن الحارة الشرقية بالذات، مسقط رأس المغنية الشهيرة شاكيرا (مبارك)، التي فازت بالجائزة العالمية للموسيقى، وغنت بلغة أجدادها اللبنانيين، كما لم تغنِ بالإسبانية والإنكليزية والفرنسية. كما أنه من عائلة شلهوب الكاثوليكية، وكعادة معظم اللبنانيين، هاجر والده إلى مصر أيام الحكم العثماني، حيث برع بالتجارة، فيما كان ابنه ميشال يبرع في التمثيل، لدرجة أوقعت بغرامه أجمل فنانة عرفتها الشاشة العربية، وأنجبت منه ولداً، قبل أن يفرق أبغض الحلال بينهما، وقبل أن ينتقل فناننا إلى العالمية عام 1962 في فيلم (لورنس العرب).
وأعتقد أن عمر بإيعاز من مدراء أعماله، تنكّر لإسلامه بسبب الشهرة العالمية، كما تنكّر لمسيحيته كرمى لعينيْ فاتن، وراح يروّج لأصله اليهودي، الذي لا أصل له بالأساس، كي يتقرّب أكثر من أصحاب القرار في هوليوود، وكي يحبب به مسؤولي شركات الإنتاج السينمائي العالمية، التي بمعظمها يهودية الإستملاك، وكي يجني من وراء تعاقده معها ملايين الدولارات، تماماً كما ادعى المؤلف الأسترالي اللبناني الزحلاوي دايفيد معلوف، الذي لم يدرِ أنه لبناني كاثوليكي، وأحد أقرباء الشاعرين فوزي وشفيق المعلوف، إلا من فترة وجيزة.
ومن الفنانين العالميين الذين ينتمون لعائلة شلهوب اللبنانية، الفنان طوني شلهوب، الذي اشتهر بأدواره في (الليلة الكبرى ـ 1996)، (والرجال باللباس الأسود)، الأول والثاني، 1997 و2002، (وأطفال الفضاء) 2001، كما أنه ما زال يتعملق بدوره البطولي في المسلسل الشهير (المونك). والجدير بالذكر أن طوني يفاخر بأصله وفصله ومسقط رؤوس أجداده، ولم يدع الإنتماء إلى أديان أخرى، كما فعل عمر تحت ضغط الغرام، والشهرة، والحروب العربية الإسرائيلية التي كانت في أوجها في أواسط ستينات القرن الماضي.
من حق فناننا الكبير عمر الشريف التنقل بين الأديان كما يتنقل من بلد لآخر، ومن حقّه أن يختار المذهب الذي يريد وساعة يريد، فحرية الإنسان لا تصادر، لا باسم السياسة ولا باسم الدين، فلقد خلقنا الله أحراراً، عقولنا تسيّرنا وتخيرنا بغية الحفاظ على وجودنا واستمراريتنا. ولكن من حقنا أيضاً أن نعرف الحقيقة، لا أن نذر فوقها ادعاءات فارغة لا صحة لها.
وادعت الغارديان أن تنظيم القاعدة هدد برسالة نشرها على الإنترنت بقتل الفنان عمر الشريف، لأنه قام بتمثيل دور القديس بطرس في فيلم إيطالي، ولأنه أبدى إعجابه بالوثنية الصليبية، لذلك هو صليبي أهان الإسلام والمسلمين، ويجب التخلص منه.
عمر الشريف اعتبر أن لعب دور القديس بطرس كان مهماً جداً بالنسبة له، تماماً كما كان دور حمزة عم الرسول محمد مهماً بالنسبة لأنطوني كوين، دون أن يهدده أحد من اليهود والمسيحيين، لا بل أثنوا على تمثيله الرائع، وإتقانه للدور دون التفتيش عن طائفته ومعتقده ومن أي البلدان تحدر.
عام 1968 تعرّض عمر الشريف لغضب العرب الطالعين من نكسة 1967، لأنه قبّل شفتيْ ممثلة يهودية اسمها بربارة سترايسند في فيلم (فتاة مرحة)، فتدخل مكتب مقاطعة إسرائيل المنتقل إلى رحمته تعالى، ووضع حظراً على الفيلم، فاستجابت مصر للحظر، بينما حضرته أنا في لبنان، وفي مدينة طرابلس بالذات. وكادت قبلة فنية أن تقضي على عروبة هذا الفنان، وأن تحرمنا من إبداعه باللغة العربية، لولا تدخل المصلحين وأصحاب القلوب الكبيرة، والعقول الراجحة.
ولأننا لا نتعظ من أخطائنا، ومن أحكامنا المتسرعة على الأمور، عاد اللغط يدور عام 2003 حول فناننا القدير لأنه لعب دور تاجر مسلم يصادق شاباً يهودياً في الفيلم الفرنسي (السيد إبراهيم وأزهار القرآن)، وكأن الزيارات التي يقوم بها المسؤولون العرب لإسرائيل، لم تصبح شيئاً طبيعياً، حتى أن الإعلام العربي لم يعد يعلّق عليها، فالإجتماعات تدور في السر والعلن، والإتفاقات توقع على عينك يا تاجر، ولم يبق في الساحة إلا عمر الشريف لأنه مثل دوراً أعجبه في فيلم أميركي، أو فرنسي، أو إيطالي، لا فرق، وما علينا إلا أن نتخلص منه بسبب انفتاحه وعبقريته الفنية.
عمر الشريف وجه أمتنا العربية الحضارية، مسيحياً كان أم مسلماً أم يهودياً، وأحد أيقوناتنا الفنية التي بها نفخر، فبدلاً من أن نرهبه، وجب علينا تكريمه وتشجيعه، لأن الأمة التي لا تكرّم الفنان، لن يكرّمها أحد.
* ملاحظة: عند نشر هذا المقال أثنى عليه الفنان عمر الشريف، وعند وفاته استعانت به بعض الوكالات الاعلامية كمرجع هام.
**
التظاهرات الدينية من طرابلس للإسكندرية
مجرد إشاعة، مهما كانت صغيرة وتافهة، قد تحرق بلداً بأكمله، فكم بالحري إذا كانت تلك الإشاعة دينية، روجها بعض المهووسين المرضى من أجل غايات في قلوبهم، وليس في قلب يعقوب، كما يقول المثل.
الإشاعة الأولى تطايرت شرارتها في مدينة طرابلس الفيحاء، ثاني أكبر المدن اللبنانية، وأشدها تعايشاً وتسامحاً، بعد أن قررت لجنة إنماء السياحة في بلدية طرابلس استضافة الفرقة الإيطالية (Figurazione) بغية تقديم عرض مسرحي إيمائي، يطلي خلاله الممثلون والممثلات ثيابهم بالجفصين الأبيض، كي يظهروا كالدمى المتحركة، ولأن أعضاء الفرقة يفضلون تقديم عرضهم بين الناس مباشرة، ليأتي أكثر جمالاً، وأشد تعبيراً، اختارت اللجنة مقهى (موسى) في منطقة الحدادين الشعبية. وما أن علمت بعض الجهات (المتدينة) بذلك، حتى بدأت التهديدات المبطنة تصل عبر الهاتف إلى مجلس بلدية طرابلس، وتطالب بعدم تقديم العرض لأن الممثلين والممثلات عراة، وهذا شيء منافٍ للحشمة، على حد تعبيرهم، وراح مسؤولو البلدية يوضحون صورة العمل الفني الراقي، وأن الممثلين يرتدون ثيابهم، ولو طليت بالجفصين، إلى أن تم العرض، الذي لاقى استحساناً من قبل المشاهدين، وفجأة علت أصوات التكبير والهتافات الدينية، وبدأت مجموعة من الشباب المتحمس دينياً بمهاجمة الفنانين العالميين، ولكن عناصر الجيش والدرك كانت لهم بالمرصاد، ففرقت التظاهرة، وتفرق الممثلون، وتوقف العرض المسرحي العالمي الراقي، دون أن تنفع احتجاجات العديد من الفعاليات الطرابلسية السياسية والتجارية والأكاديمية، واستنكار الهجوم على الفرقة، وتخويف أعضائها باسم الدين.
ومنذ سنتين، عرضت في الإسكندرية، وفي إحدى كنائس حي محرم بك، مسرحية دينية لمدة يوم واحد، ليس في الشارع العام، كما حصل في طرابلس، بل ضمن جدران أربعة، دون أن يحرك أحد ساكناً، أو أن تسير التظاهرات، وتهاجم الكنائس والمؤمنين، إلى أن أوقد أحدهم نار الفتنة، لغاية في قلبه طبعاً، ولكي يبعد الفوز عن بعض المرشحين الأقباط للإنتخابات التشريعية، وكأن لا يحق للأقباط الترشيح والفوز بل التعيين من قبل الحاكم بأمره.
البابا شنودة أكد رفضه لمحاسبة المسيحيين، وإحراق كنائسهم، ومتاجرهم، بسبب شائعة أطلقتها بعض الوسائل الإعلامية، ونفى أن تكون إحدى الكنائس قد أهانت الإسلام أو القرآن الكريم. كما أن المسرحية لم يرها مسلم واحد، وكانت تتحدث عن التطرف الذي يتأفف منه جميع المسلمين في كافة أنحاء الأرض، ولم تنتقد لا من قريب ولا من بعيد المقدسات الدينية عند المسلمين.
ومع ذلك تمكنت شائعة تافهة من تثوير الآلاف، وحقنهم بمورفين الطائفية القاتل، وتوجيههم نحو أهداف معينة، ليس من أجل حماية الدين الإسلامي الحنيف، وليس من أجل الدفاع عن نبينا العربي العظيم، بل من أجل مكاسب سياسية بحتة، والفوز ببعض المقاعد النيابية في الإنتخابات التشريعية المقبلة. وهذا ما لم يكن خافياً على البابا شنودة، الذي أعرب عن أمله في ألا يكون للإنتخابات التشريعية المقبلة دور في إثارة أو استغلال تلك الأحداث.
من منا لم يسمع مئة مرة باليوم بعض شيوخ المنابر، ومذيعي الإذاعات الإسلامية المتطرفة، وهم يتهمون المسيحيين بالكفر، ويدعون إلى قتلهم وسحقهم، حتى في الدول المسيحية ذاتها، كأستراليا مثلاً، دون أن يحرك أحد ساكناً، أو دون أن تنطلق التظاهرات من الكنائس بغية حرق الجوامع، وإقفال الإذاعات الإرهابية المتطرفة. هناك طرق قانونية بإمكان أي كان أن يلجأ إليها من أجل الوصول إلى حقّه، فلماذا لم يلجأ الثائرون على مسرحية (كنت أعمى وفتحت) إلى القضاء المصري بغية تلقين المؤلف والمخرج والممثلين درساً لن ينسوه، إذا كانوا، لا سمح الله، قد أساؤوا إلى معتقدات إخوانهم المسلمين؟ فمن نحتج عليه هو منا، إبن بلدنا، يتكلم لغتنا، ويسكن معنا في عمارة واحدة، أي أنه مصري أبا عن جد، فلماذا لا نتعامل معه قانونياً، بدلاً من أن نرهبه طائفياً، وندعوه إلى التقوقع في كانتون طائفي، لن يرضاه ولو أجبر عليه، ونعمل على تقسيم وطننا العربي إلى دول عرقية وطائفية بسبب همجيتنا الدينية، في وقت نجد أن تركيا المسلمة تعمل المستحيل من أجل الإنضمام إلى الإتحاد الأوروبي المسيحي بغية تأمين عيش أفضل لسكانها، وبغية التأقلم مع محيطها الأوروبي، وكي لا تبقى بمنأى عنه.
لم أعد أدري من يفتي من المسلمين، ولأي سبب يفتون، فلقد أصبح بإمكان أي كان تثوير الناس طائفياً، وجرهم إلى التظاهر ضد أي شيء لا يعجبه، حتى وإن كان يجلب الخير لمدينته، ضارباً عرض الحائط باستنكار الفعاليات الإسلامية، واحتجاج مفتي الجمهورية، وتوضيح البابا شنودة، ودعوة شيخ الأزهر إلى التهدئة، وتدخل جميع الأحزاب الدينية والمدنية من أجل جمع شمل الشعب الواحد، وتفريق التظاهرات من قبل الشرطة، ووقوع العديد من الضحايا، فالشر يجب أن يحرق البلاد، ومن يقف بوجهه، أو يحاول إطفاء حرائقه، سيرمونه بالكفر، عندئذ سيصطاده مطلق جاهل جبان، كما حصل مع النوبلي نجيب محفوظ.
كي يعم الخير في عالمنا العربي، يجب أن يخضع جميع أبنائه لقوانين مدنية صارمة، تفتك بكل من يحاول أن يفتك بمجتمعه، أو أن يفككه ويشرذمه طائفياً، عندئذ نصبح بشراً كباقي البشر، وإلا.. فرحمة الله علينا.
**
التزمت المسيحي ومعالجته سينمائياً
هذه هي المرّة الثانية التي أتنعّم فيها بمشاهدة فيلم سينمائي يعالج التزمت المسيحي في القرون الوسطى.. الفيلم الأول كان لدامي مور بعنوان (العلامة الفارقة) والثاني بعنوان (التزمت) لواينونا رايدا ودايفيد داي لويس.. ووجه الشبه بين الفيلمين كان سفك دماء الأبرياء الذي ارتكبه بعض رجال الدين المسيحيين باسم اللـه تعالى.
دامي مور، في الفيلم الأول، مثلت دور امرأة متزوجة، أحبت وزوجها أن ينتقلا إلى المدينة المثالية (أورشليم) التي بناها بعض المتعصبين المسيحيين في الغرب، تحت إشراف أحد الكهنة الشباب.. بغية تثبيت دعائـم الدين وتطبيق الوصايا العشر.. وكل من يخالف الوصايا جزاؤه الموت.
وتشاء الصدفة، أن يتأخر زوجها عن الركب، فوصلت المدينة (المقدسة) قبله، فأحدثت بذلك بلبلة بين الناس: امرأة متزوجة تسافر لوحدها!!.. تعيش بينهم لوحدها!!.. بمعنى آخر، ستسرق من النساء رجالهن.. وهذا غير مسموح في (أورشليم) الجديدة.
ذات يوم، كان كاهن القرية يستحم في النهر المجاور لبيتها، فشاهدته عرياناً ، دون أن تعلم أنه الكاهن.. فتركته يداعب المياه الباردة، وأسرعت متجهة نحو الكنيسة لحضور قداس الأحد.. وفي الطريق، أوقف الكاهن عربته، وكان قد انتهى من حمامه، وطلب منها الصعود.. فأخبرته أنها في عجلة من أمرها، لأن الكاهن سيغتاظ إذا دخلت القداس متأخرة.. فأجابها وهو يضحك: أنا هو الكاهن، لا تخافي.
وتبدأ زيارات الكاهن لها، ويبدأ الحب يتلاعب بقلبيهما، ولكنها قاومت الإغراء، رغم تأخر زوجها عن اللحاق بها عدة أسابيع.. ولـم تستسلم له إلا عندما جاءها نبأ مقتل زوجها على يد أحد الهنود الحمر.. عندئذ وهبته جسدها، ليهبها جنيناً ما أن كبر في بطنها، حتى تنادى مجلس الأمناء على (الدين) وطالبوا بمحاكمتها وشنقها لأنها لـم تحترم الوصية التي تقول (لا تزنِ)..
أرادوا معرفة اسم والد الطفل دون جدوى.. سجنوها.. ضربوها.. هددوها بالموت.. ولـم تنبس ببنت شفة.. كل هذا، والكاهن (الوالد) يدير المحاكمات دون أن يرف له جفن.
وما أن ولدت طفلها، حتى سلمتها المحكمة لحبل المشنقة.. وفي الساحة العامة، حيث يحتشد المئات من (المؤمنين) سألها أحدهم عن اسم والد الطفل.. فلم تجب.. فوضع الحبل حول رقبتها بغية شنقها.. عندها ارتفع صوت الكاهن ليعلن للجميع انه والد الطفل.. وان اللـه محبة.. يرفض كل ما نقوم به من أعمال سيئة باسمه.. وان معظم الذين حاكموها، وهو واحد منهم، حاولوا ممارسة الجنس معها وكانت تصدهم بقوة.. أي أنهم نصّبوا أنفسهم أوصياء على الدين والأخلاق وهم أبناء الرذائل.
أما فيلم (التزمت) فيبدأ بمشهد لمجموعة من الفتيات المراهقات يرقصن حول النار ويقدمن القرابين للشيطان.. كي يحبّب الشبان بهن.. واحدة ترمي العدس في النار وتتمتم اسم (دايفيد)، وأخرى ترمي القمح وتنطق باسم (أنطوني).. أما (واينونا رايدا) فلقد ذبحت دجاجة وشربت دمها من أجل عينيّ حبيبها المتزوج (دايفيد داي لويس)، الذي أقسمت أن تسرقه من زوجته مهما كان الثـمن، خاصة، وأن علاقة غرامية جنسية قد جمعتها به أثناء مرض زوجته وقيامها هي بالسهر على راحة أطفاله.
وفجأة، يظهر كاهن القرية ، ويبدأ بملاحقتهن بين أشجار الغابة، فيضبط ابنته الصغيرة، التي أوهمته أنها خسرت نطقها، وراحت في غيبوبة لامتناهية. عندئذ، اتهم الشيطان بذلك ، وطالب بطرده من القرية، وشنق كل من يتعامل معه!! (هكذا واللـه)!!.
هنا، لمعت الفكرة في مخيلة (واينونا)، فجمعت رفيقاتها وطالبتهن بتقليد كل ما تفعله، وإلا، أوقعتهن بمشاكل لا حصر لها.. فبدأت تصرخ وتشهق أمام رجال المحكمة المكلفين بطرد الشيطان، وتتهم أناساً أبرياء رأتهم يرافقون الشيطان في القرية.. وإمعاناً في التضليل كانت المراهقات الأخريات يوافقن على كل كلمة تقولها.. لا بل كن يشهقن كما تشهق ويصرخن كما تصرخ.. إلى أن وصل الدور الى زوجة حبيبها.. فاتهمتها أيضاً بمصاحبة الشيطان بغية التخلص منها والتفرغ لزوجها، الذي بات يصدها ويدعوها الى التعقل واحترام شعوره.
ولكن الزوج دافع عن زوجته، عن إخلاصها له، عن إيمانها المسيحي القويم، واتهم (واينونا) بالكذب.. بالرذيلة.. وبفقدان عذريتها.. وعندما سأله رئيس المحكمة الدينية كيف يعرف ذلك؟ اعترف بممارسة الرذيلة معها، وانها أوقعت بزوجته بغية الوصول اليه ليس إلا.. كما أنه قدم للمحكمة الروحية ورقة تعترف فيها إحدى الفتيات بعدم رؤية الشيطان.. وبأن (واينونا) هي التي أوحت إليهن بذلك..
ولأن (واينونا) لا تريد أن تقع في الفخ.. صاحت: ها هو الشيطان.. ها هو الشيطان.. اني ارى هذه البنت التي شهدت ضدي ترافقه ..
ترافقه؟! صاح رئيس المحكمة.. فأدركت الفتاة المسكينة أنها راحت ضحية صدقها، وان المحكمة ستشنقها كما شنقت الآخرين لا محالة.. فبدأت بالصياح أيضاً، وادعت انها ترى الشيطان وبرفقته زوج المرأة (دايفيد داي لويس)، الذي أجبرها على الشهادة ضد (واينونا) ورفيقاتها !!
عندئذ، أمرت المحكمة بإعدام (الزوج) أيضاً.. فما كان منه إلا أن صاح بصوت عالٍ جداً: لقد مات اللـه.. أنتم قتلتموه.. أنتم الشياطين.. وكل الذين سفكتم دماءهم أبرياء وقديسون وسترتد عليكم دماؤهم.. فالويل لكم.. الويل لكم يا أفاعي الأرض.. وبدأ بالصلاة الربّانية التي علمنا إياها السيّد المسيح: أبانا الذي في السماوات ليتقدس إسمك..
هكذا كان وضع المسيحيين في القرون الوسطى، يوم باع رجال الدين المسيحيون صكوك الغفران بملايين الدولارات، ووعدوا كل من يشتريها بدخول الجنة!
اليوم، تعيش أمتنا العربية حالة من التخبط الديني الوسخ الأليم، فهل يتعظ رجال الدين الذين يصدرون الفتاوى المخجلة التي تزهق ارواح الملايين من الأبرياء، وتعيدنا الى القرون الوسطى، في زمن الكومبيوتر والإنترنيت والعمل على استيطان المريخ .. لست أدري!
**
لا تفتح فمك أميركا تسمعك!
كانت جدتي تقول لي ولاخوتي:
ـ أميركا أم الدنيا..
وكنّا نضحك من عبارتها هذه ونصرخ:
ـ قولي لها أن تزودنا بالحليب حتى نرضع.
ولـم تكن جدتي تدري أن أميركا ستتخلى عن أمومتها وتتحوّل إلى جاسوس عالمي يقدر أن يسمع ويفهم كل كلمة نتلفظ بها!.. فإذا قلت لزوجتك عبر الهاتف: أنا أحبّكِ.. سمعتها أميركا مترجمة: I love you ..
فقاعدة (يوركشاير) تحتوي على آلتين مبرمجتين كومبيوتيرياً لترجمة كل لغات الأرض الحيّة.. والشاطر يفتح فمه!
الأوروبيون بدأوا يشعرون بالخطر اللآتي من هذه المراقبة، وها هو مستر غلين فورد (البريطاني أباً عن جد) يعلن أن الأميركيين يراقبون أوروبا.
إذن، أصبحت فاكساتنا، بريدنا الإلكتروني، ومكالماتنا الهاتفية مكشوفة ومسجلة ومترجمة ومفهومة عند الأميركيين.. (ولا أستبعد انهم يقومون ببيع ما يحصلون عليه، وعلى ذلك فان اسرارنا وميولنا الشخصية وكذلك اتجاهاتنا معرضة للبيع والتبادل).. على حد قول صديقنا الغالي غلين فورد.
الجهاز العملاق (أكيلون) يبدأ بترجمة المكالمة او الرسالة إذا كانت بلغة مختلفة.. بينما العملاق الآخر (آراتوري) فيبدأ بتحويلها إلى نص مفهوم يرسله إلى الأجهزة الأميركية المختصة.. (وهي عملية تكنولوجية لا يملكها إلا الأميركيون) كما قال فورد.
وما إطلاق القمر الصناعي Early Bird 1 إلا دعم للمشاريع التجسسية التي تنتهجها الادارة الاميركية، وتلبية لاحتياجات القواعد العسكرية الاميركية المنتشرة في العالـم للمعلومات السريعة والفعّالة.. وها هو السيد فورد يقول: (كانت القواعد العسكرية عامة مقبولة في الماضي، عندما كانت هناك أخطار، لكنها تزامنت الآن مع تقدم تكنولوجي تملكه الولايات المتحدة وحدها، وهو تقدم حولها إلى وحش الكتروني، بل عصا يومية فوق رؤوسنا وتجارة تجسس جماعية).
شاهدنا في بعض الأفلام السينمائية التي تنتجها هوليوود أن باستطاعة أميركا أن ترى كل ما يتحرك على الأرض من خلال أقمارها الصناعية.. فإذا كنت تقود سيارتك مثلاً، وأرادت أميركا أن تعرف من بداخلها، لتمكنت من ذلك في لحظات.. وصدقوني أن ملايين الدولارات التي تصرفها أميركا لتشغيل قواعدها الجويّة المنتشرة فوق الأراضي الأسترالية والأوروبية والآسيوية، ما كانت لتصرف لولا المداخيل الكبرى التي تجنيها (أم الدنيا) من بيع المعلومات التجسسية المختلفة.. (مما يعني اتجاهنا الى واقع مستقبلي قريب تصبح معه الولايات المتحدة محتكرة للاسرار والمعلومات او تبيعها لمن يرغب، وهي تجارة القرن المقبل) حسب ما ورد على لسان النائب الانكليزي فورد.
فورد ليس وحده في المعمعة بل انضم إليه العديد من النواب الاوروبيين الخائفين على حرية اوروبا.. ولكن لو كان الامر يتعلق بحرية آسيا أو أفريقيا أو أوقيانيا هل كان السيّد فورد سيحرك ساكناً.. هذا ما نجهله، ويجهله معنا كل متفهم للامور السياسية في العالـم.
اخيراً، انني أتأسّف لعدم وجود فاكس أو تلفون أو بريد الكتروني عندما قالت جدتي عبارتها الشهيرة: أميركا أم الدنيا.. لأنها لو قالتها اليوم لوصلت إلى أذن العم جورج بوش مترجمة على هذا النحو: America is the mother of the world ولكان، رحمه اللـه قبل أن يموت، أنعم على جدتي بوسام أو بوظيفة أو بسيارة فورد بو دعسة نركبها ونريح الحمار (التاكسي) المربوط طوال النهار تحت الشجرة بانتظار كلمة (حا.. هش).
سؤال يطرح نفسه : هل بإستطاعة أميركا ترجمة لغة (حا.. هش) التي نتكلمها مع حميرنا إلى الانكليزية؟!.. بالطبع لا.. لأن هذه اللغة لـم تدخل بعد عالـم الكومبيوتر والشيفرة.. فقولوا معنا: الحمد للـه.. أسرارهم مكشوفة وأسرار حميرنا مستورة.
**
إنتبهوا إنه عام الموت
أولاً، أحب أن أهمس بإذن القارىء أنني لا أؤمن بالتنجيم، ولا بالمنجمين، ولكنني، رغم ذلك، أطالع تنبوءاتهم بشغف كبير، لا لمعرفة ما سيحدث، لأن الغيب لا يعلم به سوى الله تعالى، بل لمراقبة ما سيصدق منها، وكثيراً ما تخدم الصدفة المنجم، ويحظى بشهرة عالمية.
وكما نرى كل عام، فإن آلاف المنجمين سيدلون بدلوهم، وكل واحد منهم سيرى الأمور بمنظاره الخاص، فمثلاً إذا كان المنجم أميركياً تنبأ بوفاة أسامة بن لادن، وباغتيال الظواهري، وباستسلام الزرقاوي، وبتدمير المفاعل النووي الإيراني، هذا إذا لم يتنبأ باجتياح الجيش اللبناني لسوريا. أما إذا كان المنجم يهودياً، فتأكدوا بأنه سيفني العرب، وسيقيم دولة إسرائيل الكبرى. أما إذا كان عربياً فسيقول ما قاله الأميركي واليهودي مع زيادات فلكية عربية قد لا تخطر على بال الجن، فكم بالحري إبن الإنسان، وهذا ما حصل بالفعل، فلقد تنبأ الفلكي التونسي حسن الشارني بالموت الزكام لجميع الحكام من واشنطن حتى بلاد الشام، وإليكم أهم ما سيحدث من موت في عام 2006 حسب توقعاته الفلكية:
1ـ إغتيال الرئيس الأميركي جورج بوش.
2ـ إنسحاب القوات الأميركية من العراق، إثر عملية إرهابية ضخمة للمقاومة العراقية.
3ـ وفاة الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة.
4ـ إغتيال الرئيس الفلسطيني محمود عباس
5ـ إغتيال رئيس الوزراء العراقي السابق إياد علاوي.
6ـ نهاية مسيرة أرييل شارون السياسية.
7ـ سقوط حكومة بلير البريطانية.
8ـ محاولات إنقلاب عسكري في سوريا.
9ـ عمل إرهابي ضخم بباريس.
10ـ تفجيرات إرهابية في إحدى المدن الساحلية بأميركا.
11ـ إشتعال طائفي بمصر، بسبب فوز الإخوان المسلمين بالمقاعد النيابية، ودعم إيران لهم.
12ـ إعلان وفاة الرئيس صدام حسين من قبل الأميركيين، إنهاء لمحاكمته المضحكة.
13ـ موت المغني الفرنسي جون هوليداي.
هذا غيض من فيض أحد أشهر الفلكيين في العالم، فلقد تنبأ أخونا الشارني العام الماضي بوفاة العاهل السعودي الملك فهد، والبابا يوحنا بولس الثاني، وبتفجيرات لندن أيضاً، كما أنه توقع من قبل وفاة الأميرة دايانا بحادث مروع.
والفلكي حسن الشارني يحتل منصب نائب رئيس الاتحاد العالمي للفلكيين، وحاصل على دكتوراه في الفلك الفيزيائي، وله كتب ومقالات عديدة في المجال الفلكي، كما أنه يعمل مستشاراً لعدد من الشخصيات العالمية. فإذا صدقت توقعاته للعام القادم، قولوا إن القيامة قد اقتربت، وأننا سنرى الجحيم بأم أعيننا، وأن الموت سيلاحقنا في كل مكان، وسيضحك سكان القبور على أجنة البطون، ويأسفون لقدومها إلى عالم تعيس، لا يعرف إنسانه كيف يتعايش مع جاره، كما أنه لا يمتهن سوى القتل والتفجير.
هذا ما توقعه الشارني، فماذا سيتوقع لنا باقي الفلكيين؟ أتمنى أن يجد فلكي منهم فسحة أمل نقدر أن نتنفس منها ولو إلى حين. وإلا، فليصلِّ كل واحد منا عن روحه، قبل أن يحصده منجل الموت، ويغتاله حقد أخيه الإنسان.
**
مسلمو أستراليا ضد الإرهاب
ما أن أعلن رئيس وزراء ولاية نيو ساوث ويلز السيد بوب كار أن سيدني عاصمة الولاية، التي يكثر بها المسلمون، قد تتعرض لتفجيرات انتحارية، رغم ادعاء الإستخبارات الأسترالية (آزيو) أن الوضع الأمني ممتاز، وأن التفجيرات الإنتحارية في أستراليا قد تكون مجرد أوهام، حتى سارع مشايخ المسلمين الأستراليين وزعماؤهم إلى وصف الإرهابي بالرجل الغبي جداً جداً، وإلا لما أقدم على تفجير نفسه، بغية الفتك بأناس أبرياء، كما طالبوا بترحيل أئمة المساجد الذين يدعون للجهاد، ويشجعون على التطرف والإرهاب.
تفجيرات لندن التي أصابت بعض الأستراليين أيضاً، جعلت بوب كار، وقبله رئيس وزراء أستراليا جون هاورد، يعلن أن الأفكار المتزمتة المتطرفة قد لا تنبت في أستراليا إلا وسط حلقات ضيقة، تماماً كما نبتت في بريطانيا وأذهلت الجالية الإسلامية هناك. صحيح أن تلك الحلقات مراقبة على مدار الساعة إلا أنه لا يضمن المفاجآت. إذ ما من أحد كان يصدق أن إنساناً سوياً سيخون وطنه وشعبه من أجل دينه، كما فعل انتحاريو لندن.
واعتبر كار أن لا أحد بإمكانه مكافحة الإرهاب إلا المسلمون أنفسهم، كونهم يقعون ضحيته كباقي الناس، وذلك من خلال مواجهته، ودحض تعاليم كل من يبشّر بمفاهيم أصولية تحض عليه، لتدمر من خلاله المجتمع.
غزوة لندن، كما يسميها الإرهابيون، رمت أوراق المخابرات الأسترالية في مهب الريح، ومحت أفكارها السامية التي تقول إن الإرهاب سيأتي من الخارج، ولا يمكن أن ينبت في الداخل، لأن المواطن، ولو كانت وطنيته شحيحة ومتقلبة، لن يخون وطنه، ولن يقتل شعبه، ولن يدمر مجتمعه، مهما كانت الأسباب والدوافع، فكم بالحري إذا كان ذلك المواطن مطروداً من بلده الأم، ومضطهداً من أتباع دينه، ووجد المأوى، والملبس، والمأكل في وطن جديد، أقل ما يجب أن يفعله هو إعلان الولاء له، ورد الأخطار عنه.
إذن، غدر حفنة من المسلمين البريطانيين بأمهم بريطانيا، قلب الدنيا رأساً على عقب، وزرع الشك في كل عقل، والحيرة في كل عين، والكره في كل قلب، وهذا ما أدركه المسلمون الأستراليون، فسارعوا إلى التظاهر ضد الإرهاب، والتنديد به، وكشف كل من يدور في فلكه، خاصة المكتبات الإسلامية التي تبيع كتباً عن الجهاد والاستشهاد والتطرف.
ولأن المسألة أكثر من جدية، داهم الإعلام الأسترالي العديد من تلك المكتبات، قبل أن تداهمها الشرطة، وتعتقل كتاباً ثمنه 11 دولاراً، للشيخ عبد الله عزام بعنوان (الغرب المجرم والدفاع عن بلاد المسلمين)، وسط استغراب وقلق وزير الشرطة كارل سكالي الذي أعلن: أن كتباً كهذه لا يمكن التسامح معها، كما أنه لأمر مثير للقلق أن تباع كتب في مكتبات أسترالية تحث على التطرف والعدوان والقتل في هذه البلاد.
مسلمو أستراليا.. لن يخونوا أستراليا، ولن يطعنوا الصدر الذي حضنهم بعد تهجير وموت، كما أنهم لن يمارسوا الجحود مع شعب مضياف، عمل المستحيل من أجل إسعادهم، وتأمين العيش الرغيد لهم ولأبنائهم، ولو قطّعوا إرباً، ولو دعا ألف داعية طائش، وتشدق بالدين الحنيف مليون متشدق أبهل، هم يميّزون جيداً بين الحلال والحرام، وبين الوفاء والغدر، والإسلام والتأسلم، كما أنهم يمارسون دينهم أكثر من غيرهم، ويعرفون كيف يحمونه من نيران التطرف والتزمت والموت الحرام.
**
يا رذيل.. متى تستقيل؟
خطاب القسم الشهير الذي ألقاه الرئيس آميل لحود يوم توليه الرئاسة هو الذي شجعني على العودة إلى لبنان عام 1999، فلقد ارتحت إليه وآمنت به، وشعرت أن وطناً جديداً مستقلاً سيولد من رحم المأساة، نقدر أن نعيش به أحراراً، نتفاعل معه ويتفاعل معنا، دون خوف أو رعدة.
ومع الأيام بدأ الإعجاب يضمحل، والارتياح يتململ، والإيمان يندثر، خاصة بعد أن قبل بتمديد ولايته، فأدركت للحال كم هو ضعيف أمام المنصب، تماماً كباقي الرؤساء العرب، الذين يتمسكون بكراسيهم إلى أن يتذكرهم عزرائيل ويريح شعوبهم منهم، ولكن، وللأسف، يرثهم أبناؤهم وسط هتافات الجماهير الغفيرة لهم بطول العمر، دون أن يرف لهذه الجماهير المسحوقة التعيسة جفن أو يردعها ضمير، وكأن الأوطان مزارع لحكامها، وكأن مواطنيها أجراء عند هؤلاء الحكام المتحفزين دائماً وأبداً للشر، وللقتل، ولسحق طموحاتنا.
خطأ الرئيس لحود الأول أنه لم ينفذ بنداً واحداً من خطاب القسم، وبدلاً من أن يشعر بالذنب، راح يفاخر بهواياته، وبأنه يسبح مسافة كيلومتر في اليوم، لدرجة أن شعبه اتهمه بأنه سبح يوم تشييع الرئيس رفيق الحريري. ولقد أخبرتني الشاعرة الأسترالية آن فيربيرن، أن الرئيس لحود لم يسألها، حين زارته، إلا عن أماكن الغطس في أستراليا، وهذا من حقّه طبعاً، ولكن ليس على حساب خطاب القسم الذي كان من المفروض أن يأخذ معظم وقته، وان يغطس بمواده مادة مادة حتى ينتهي منه، ويرميه بين أيدي شعبه لآلىء ولا أجمل.
وطالما أن الرئيس لحود يستعمل كلمة (رذالة) إثر كل حادث جلل، أخبره أن قبوله بتمديد ولايته كان رذيلة الرذائل، أوقعت الوطن في دوامة من الفوضى قد تجره إلى حرب أهلية ثانية، لا سمح الله، فإذا كانت مدة الست سنوات لم تروِ غليله في الحكم، فثلاث سنوات إضافية لن تبل ريقه، وجريمة أن يحرق الوطن من أجل البقاء على كرسيه أمداً لا يعرف غير الله مدته، قد يستمر أسابيع، ويطيح به الشعب، وقد يمتد لسنوات وسنوات إلى أن يصبح الأخضر يابساً، والتراب رماداً، والمواطنون جثثاً متناثرة من أجل لقب تافه، ومركز تافه، وسلطة تافهة، وبدلاً من أن يناديه الشعب: فخامة الرئيس، سيرفع بوجهه اليافطات الناقمة، كما رفعها البارحة، وقد كتب عليها: يا رذيل.. فتصوّروا!.
لو كنت الرئيس لحود لاستقلت حالاً، ولاعتذرت من أبناء وطني على عدم تمكني من حمايتهم، وتأمين لقمة عيشهم، وتنفيذ خطاب القسم الذي أقسمت على تنفيذه.. وتخليصهم من احتلال مخابراتي بدأ يقلقهم ويقض مضاجعهم وينهب ثرواتهم، عندئذ أتحول من إنسان مكروه من قبل شعبي، كما كان تشاوشيسكو، إلى إنسان محبوب أقر بأخطائه فنال احترامه.. كما فعل الرئيس بشارة الخوري.
قال لي أحد الموارنة المتشددين: لو خيّرت بين الحريري السني رئيساً للجمهورية ولحود الماروني لاخترت الأول، لأنه كان لبنانياً حتى العظم، همّه الأول والأخير لبنان، بينما لحود فهمّه الأول منصبه، وهمّه الأخير.. السباحة.
لقد أضاء الرئيس لحود شمعة في ليل غربتي، يوم آمنت بطروحاته، وبابتسامته، وبقسمه، ولكنه، وللأسف، أطفأها، وأعادني وأعاد الوطن إلى ظلمة حالكة من أجل ثلاث سنوات عجاف لن يبقى له منها غير صرخة شعب ثائر: يا رذيل.. متى تستقيل!
**