كتابات على حائط المنفى

الغلاف للفنانة رندى بعيني
**
نشرت في مواقع إيلاف، قدموس، دروب والغربة
**

عفوك يا ألله
   
   لقد دمعت عيناي وأنا أشاهد على التلفاز تفجيرات لندن اللئيمة، وما أحدثت من دمار، وما حصدت من ضحايا أبرياء، لبّوا نداء ربّهم: (حيّوا على الفلاح)، فهبّوا إلى أعمالهم، والإبتسامات تسبقهم، والآمال بمستقبل أفضل تلفهم، فإذا بأيدي الغدر تنصب لهم الأفخاخ، وتجندلهم أفراداً وجماعات، دون أن تميّز بين طفل أو كهل أو رجل أو امرأة، أو بين مسلم أو يهودي أو مسيحي أو لا ديني، همها الخراب، وكان لها ما أرادت.
   ولأن الإرهاب مقرون دائماً باسم الإسلام بغية الدفاع عنه، ودحر القوى الصليبية التي تبيت له الشر والإضمحلال، كما تدعي (قواعده)، تألمت أكثر حين شاهدت معاناة العائلات المسلمة في بريطانيا، إثر (غزوة لندن) التي تبنتها حتى الآن جماعتان، إحداهما جماعة أبي حفص المصري. فلقد كانت كل عائلة تحمل صورة ابنة أو ابن أو أخت أو صديق، فقدوا في تلك الغزوة اللعينة.
   حاولت جاهداً، عبر الشاشة طبعاً، أن أكفكف دموع والد (شاهرا إسلام)، الصبية التي لم تقفز بعد فوق ربيعها العشرين، ولم تنعم بالحياة التي وهبها إياها الله، فإذا بيد الغدر تمتد عبر الضباب لتخنق الإبتسامة المشعة كوجهه تعالى، ولتشوه تعاليمه السماوية، التي ما دعت إلا للتآخي، وما نادت إلا بالمحبة، وما بشّرت إلا بالإنسانية، وبتعايش الإنسان مع أخيه الإنسان بتناغم أخوي وغبطة بشرية. 
  كانت (شاهرا إسلام) تفتخر باسم عائلتها، تكسر حرف الألف بلكنتها المحببة، وتسكن السين، وتمد اللام والميم، لتأتي كلمة (إسلام) متجانسة، متماسكة، ومحببة، فإذا بتلك (الغزوة)، التي يصفها المجرمون (بالمباركة)، تبعثر اسم عائلتها المحبب إلى قلبها، وتبعثر أيضاً آمال عائلتها بوجودها حية ترزق.
   وما قلته عن (شاهرا) أقوله عن الشابة المسلمة (نيتوجان) زوجة الشاب (علي جوس)، الذي يدور، كمجنون ليلى، في شوارع لندن، بحثاً عن حبيبة قلبه، ورفيقة دربه دون جدوى. فلقد عمل (علي) جاهداً على تلاقي الأديان، والتقريب فيما بينها، وترأس مجلساً محلياً لهذه الغاية، فإذا بتنافر الأديان يجرفه، ويجرف حبّه، ويخطف ربّة منزله، ويقضي على آخر أمل له بتلاقي الأديان السماوية.
   وماذا عن الشاب الفرنسي الجزائري (سليمان إيهاب) الذي لم يبلغ التاسعة عشرة من عمره، فلقد وصل بريطانيا قبل ثلاثة أسابيع، لتمحو آثاره (غزوة لندن المباركة)، وتقضي على زهرة شبابه، لا لشيء، إلا لأنه ذهب إلى عمله كالمعتاد، لتوفير نفقات عيشه في غربة جديدة، فلم يرحموه.
   ومثلما أصيب الشاب الجزائري أصيبت الطالبة التركية المسلمة (جامزي جون أورال)، فلقد وصلت لندن منذ أسابيع قليلة لتدرس اللغة الانكليزية، وتضيف إلى لغتها الأم لغة عالمية ثانية، تساعدها على تحقيق أحلامها، وتفتح أمامها عالماً ثقافياً واسعاً، فإذا بمخالب الإجرام تخفي آثارها، وتقضي على ربيع أحلامها.
  أتمنى أن يعود هؤلاء المسلمون الأبرياء، وكل الأبرياء المفقودين، من أي دين كانوا، وإلى أي بلد انتسبوا، إلى عائلاتهم، وأحبائهم، ليخبروا الكون أجمع عن إجرام عقائدي، لن يهلل له إلا القتلة والمجرمون، ولن يقبله أي إنسان كامل، ولن يرحب به كل ذي عقل ودين، فكم بالحري، خالق الإنسان على صورته ومثاله، عفوك يا ألله..
عفوك يا ألله. 
**
ليتني كنت يابانياً..
   
   منذ خمسين سنة ونيّف، ألقت أميركا قنبلتين ذريتين على مدينتي نغازاكي وهيروشيما اليابانيتين، فأحرقت الانسان والبنيان، وتحولت الارض إلى جحيم قاتل. فرفع اليابانيون أيديهم استسلاماً، وأعلنت يابانهم الأم انكسارها في الحرب، دون أن تفكّر بالثأر، أو أن تهدد بانتقام عسكري جديد، أو أن تزنّر أبناءها بقنابل متفجّرة تقتل الأبرياء قبل أن ترعب الأعداء، كما يحصل الآن في عراقنا الحبيب، بل راحت تحضّر نفسها لانتصار أعظم، ألا وهو انتصارها الاقتصادي على معظم دول العالـم بما فيها أميركا.
   باختصار شديد، أرادت اليابان أن تركع أميركا التي أركعتها عسكرياً، لا بالتسلح والموت، بل بالاقتصاد والتكنولوجيا والحياة السعيدة، وكان لها ما أرادت.
   وخير دليل على ذلك الألعاب الألومبية الشتوية التي استضافتها منذ سنوات ، فلقد قدمت لضيوفها الرياضيين القادمين من كافة دول العالم، وخاصة المتقدّمة منها، وجبات من الدجاج المبرّد مع بعض المواد التي لا تؤكل باردة. فاحتج اللاعبون وقامت قيامتهم، واعتبروا أن اليابان تستخف بهم، فما كان من منظمي الالعاب إلا أن طمأنوهم قائلين:
ـ هذا ليس أكلاً بارداً. إنه أكل ساخن.
   فصاحوا بصوت واحد:
ـ وكيف يكون ساخناً وهو بارد كطقسكم تماماً.
   فابتسم اليابانيون لضيوفهم المتخلفين عنهم تكنولوجياً، وعلامات السخرية بادية على وجوههم وقالوا: 
ـ إسحبوا هذا الخيط الرفيع وسيصبح الأكل ساخناً بغمضة عين..
   وعندما سحب اللاعبون خيطاً لا يتجاوز طوله 20 سنتم، أصبح الأكل ساخناً، وكأنه خارج لتوّه من الفرن. 
   سطح الجزر اليابانية بمعظمه بركاني، وأشهر براكينها (فوجي ياما) المقدّس. ورغم فقر أرضها للمواد الأولية كالمعادن والفحم الحجري، وضيقها من الناحية الزراعية، تعتبر اليابان أول دولة اقتصادية في العالـم. ويعود الفضل بذلك إلى تصميم شعبها على بنائها بعد هزيمة لا يقوم بعدها سوى الجبابرة.
   والظاهر أن اليابانيين عرفوا كيف يعيشون حاضرهم ويحضرون مستقبلهم، فقاموا بتصميم سيارات رائعة كانت السبب في كساد السيارات الأوروبية والأميركية، خاصة بعد أن أصبحت المعامل اليابانية تصدرها الى جميع دول العالـم، كالهوندا والنيسن ، والتويوتا وغيرها. وصدقوني إذا قلت إنني، وبسبب الفوضى القاتلة التي تعم أوطاننا العربية، تمنيت من كل قلبي لو كنت يابانياً، أحمل جرحي إلى الحضارة والنبوغ وليس إلى الموت الأسود، وأسخر طاقاتي العقلية في بناء وطني المهدم لا بتهديمه أكثر فأكثر.
   عروبتي أصبحت عبئاً ثقيلاً علي، أخاف أن أجاهر بانتمائي إليها، أو بالسكن في أوطانها المسكونة بالخوف.. والموت، فالعالم كله يسير إلى الأمام بخطوات جريئة، أما هي فتتدحرج إلى الوراء، إلى الماضي السحيق، إلى العدم. 
   عجيب أمر هذا الشعب الأصفر، فلقد تمكن من احتلال العالـم تكنولوجياً بعد أن أخفق في احتلاله بقوة السلاح. وصدق من قال: العقل دائماً يغلب البندقيّة.. بربكم، أما آن الأوان كي نتعظ ونعانق السلام؟ 
**
أبداً.. لن نصبح إرهابيين
   
   الحكم على خبيرة التجميل الأسترالية شابيل كوربي بالسجن عشرين سنة، بسبب كمية من الماريوانا وجدت ضمن حقيبتها، هيّج الأستراليين ضد أندوسيا أكثر مما هيجتها تفجيرات بالي التي راح ضحيتها مئة شهيد من أبنائنا، والسبب في ذلك يعود إلى اعتقادهم الراسخ ببراءة شابيل كوربي، وبواجب عودتها إلى بلادها معززة مكرمة. 
   هنا، بدأت مجموعة كبيرة من الشعب الأسترالي الغاضب تلجأ إلى الاحتجاج السلمي، منها من أعلن مقاطعة السفر إلى جزيرة بالي، المستهدفة مرتين، ومنها من طالب بإعادة الأموال التي دفعوها لمتضرري السيىء الذكر (تسونامي)، وخاصة المليار دولار الذي تبرعت به حكومة جون هاورد لضحايا المد القاتل من أموال دافعي الضرائب، ومنها من توقّف نهائياً عن التبرع للصليب الأحمر أو للمؤسسات الخيرية الأسترالية إذا لم تعلن للناس أنها لن ترسل سنتاً واحداً إلى الشعب الأندونيسي.
   وبما أن كل هذه المقاطعات لم تجدِ نفعاً، ولم تغيّر بنداً واحداً من حكم القاضي المسيحي الأندونيسي، لجأ بعض الجهلة إلى إرهاب آخر يخيف الحكومتين الأسترالية والأندونيسية في آن واحد، الأولى، لأنها لم تقم بالواجب المطلوب منها تجاه ابنتها البريئة، والثانية، لأن الإجحاف آتٍ من فوق كفّة ميزان عدالتها، حسب اعتقادهم بالطبع، فقاموا بإرسال طرد يحتوي مسحوقاً بيولوجياً إلى السفارة الأندونيسية في العاصمة كانبرا، فأرعبوا بذلك خمسين موظفاً لا ناقة ولا جمل لهم بحكم القاضي الأندونيسي ذاك، ولا بماريوانا شابيل كوربي.
   والظاهر أن (إرهابيي) أستراليا لم يعجبهم وصف رئيس حكومتهم لما قاموا به بالعمل الإجرامي، ولا اعتذار وزير خارجيتهم ألكسندر دوانر من الشعب الأندونيسي على تصرفهم المشين، فأهدوا الأخير طرداً ثانياً، أقفل البرلمان، وأوقف عمله، واستنفر البوليس الأسترالي أشد استنفار، والويل، ثم الويل، لمن تقع عليه التهمة.
   ولكي أرسم البسمة على شفاهكم، أحب أن أخبركم أن المسحوق المرسل إلى السفارة الأندونيسية لم يكن ضاراً، وإن كان بيولوجياً!.. كما أن المسحوق المرسل إلى الوزير داونر أقرب ما يكون إلى الحليب المجفف، وبدلاً من أن يساعد (إرهابيو) أستراليا ابنة بلدهم شابيل كوربي عقدوا قضيتها ألف عقدة إضافية، وأضروا بالعلاقات المتحسنة، كي لا أقول الحسنة، بين أستراليا وأندونيسيا، وكان من الأفضل أن يجمعوا لها التبرعات، ويفتشوا عن محامين بارعين يعرفون من أين تؤكل الكتف، لا أن يرموا بلدهم في متاهات الخوف، ويعرضوا أنفسهم للمعاقبة الشديدة.
   قد تكون شابيل كوربي بريئة، وقد يصدر الحكم من المحكمة الأندونيسية العليا ببراءتها، فتعود إلى وطنها محمولة على أكف محبّيها، ولكن، وفي نفس الوقت، سيدخل السجن أناس تلاعبوا بأعصابنا، عندما تلاعبوا بأمننا، وأساؤوا إلينا، قبل أن يسيئوا إلى جارتنا أندونيسيا، يوم صورت لهم مخيلتهم المريضة إرسال طردين مشبوهين إلى سفارة دولة صديقة، وإلى برلمان أستراليا المسالمة المضيافة.
   لن نصبح إرهابيين كرمى لعينيّ أحد.. حتى ولو كانتا كعينيّ شابيل كوربي الساحرتين.. فما يحصل في العالم العربي من تشويه وسحق للإنسانية، يدفعنا ويدفع شعوب العالم كافة للتمسك بإنسانيتها أكثر، وبديمقراطيتها أكثر، وبحرية تعبيرها أكثر، وبحماية مواطينيها من الموت الأسود أكثر فأكثر. 
**
سلموا دوغلاس وود.. للهلالي
   
   من يقرأ عنوان مقالي هذا، سيتساءل: من هو الشيخ تاج الدين الهلالي ليخضع له الخاطفون ويسلموه المخطوف الأسترالي دوغلاس وود على طبق من ذهب؟ 
   إنه، وبدون أدنى شك، وجه الجالية الإسلامية في أستراليا، حوله تدور الوسائل الإعلامية، وعليه تسلط أضواءها، ومنه تأخذ الكلمة الفصل. ولو كانت لغته الإنكليزية مطواعة لصنع العجب العجاب، خاصة وأنه تخطى ألغام التكفير، والتضليل، والرجعية، وإلغاء العقل والتفكير، ليصل إلى الإعتدال، ومشاركة الآخرين، كي لا أقول المسيحيين، مناسباتهم الدينية، وأفراحهم وأتراحهم.
   قد يقول البعض أنني كتبت ما كتبت بسبب صداقتي بالشيخ الهلالي، أو بسبب إعجاب الشيخ بأدبي، إذ أنه شارك بتكريمي، وطرّز لي قصائد المديح التي بها أفخر. ولكنني، والحق أقول، إن ما يهمني، أولاً وأخيراً، ليس مديح الهلالي، بل تنقية سمعة الجالية الإسلامية في أستراليا، بعد أن وصلت إلى الحضيض بسبب تصريحات بعض مشايخها اللا مسؤولة.
   من منا ينسى هجوم المسؤولين السياسيين ووسائل الإعلام، منذ أسبوعين، على الشيخ الذي قال أمام ألف شخص من أتباعه: إن اللوم، كل اللوم، يقع على المرأة التي تظهر مفاتنها، في حال تعرضها للإغتصاب، وليس على مغتصبها.. فتصوروا.
   لقد تناسى هذا الشيخ أنه يعيش في أستراليا، وأن أستراليا دولة ديموقراطية علمانية، يحق لكل امرأة فيها اختيار ملبسها، وتسريحة شعرها، وعلو كعب سكربينتها، دون أن تخاف من أحد، ودون أن تتعرض لمكروه. وكأنه يشجع، من حيث لا يدري، المغتصبين المرضى على اغتصاب النساء السافرات، لا لشيء، سوى لأنهن سافرات، بينما المحجبات، لأنهن محجبات، فهن في مأمن، ولن تلتفت إليهن أعين المغتصبين. ومن له أذنان سامعتان فليسمع!.
   مسؤول أسترالي قال لهذا الشيخ الشاب: لماذا لا تحزم حقائبك وترحل، هذه البلاد بلادنا، ونحن نريدها هكذا، فلا أنت ولا غيرك سيقدر على تغييرها.
   وشيخ آخر، سجلوا خطبته دون أن يعلم، لعن حظه وحظ أتباعه، لأن أطفاله يذهبون إلى المدارس الأسترالية، ويتلقون العلم على أيدي أساتذة مسيحيين ويهود ومسلمين منفتحين، انتبهوا إلى كلمتيْ (مسلمين منفتحين)، وهذا، بنظره، عار وشنار، سوف يغضب الله تعالى. سامحنا يا ألله، فلقد أصبح عدد المتكلمين باسمك، أكثر من المصلين لك.
   أما الشيخ الذي قال لأتباعه: لا تدخلوا الأجانب إلى بيوتكم، فلقد استنتجوا من كلامه أنه يدعو إلى شرنقة المسلمين، وعزلهم عن مجتمهم الجديد، واعتبار الأستراليين (أجانب) في وطنهم، وهذا طعن بظهر الوطن الذي احتضنهم، وفتح أحضانه لاستقبالهم.
   مشايخ يتكلمون، وإعلام يسجّل ويبهدل، وجاليتنا الإسلامية المغلوب على أمرها تدفع الثمن، ولقد آن الأوان كي نرد اعتبارها، ونثبت للعالم أجمع أننا أبناء السلام والتعايش والتفاعل والانفتاح، ولن نرضى مطلقاً أن يخطف أحد مواطنينا دون أن نحرّك ساكناً. وها هو الشيخ الهلالي، يحمل مرضه وهمومه، قبل أن يحمل حقيبة سفره، ويتجه إلى المجهول، إلى بلد عزيز يتلاعب بأمنه ألف شيطان رجيم، من أجل أن يجلب معه أخاه دوغلاس وود، على حد تعبيره.
   جاليتنا الإسلامية بحاجة إلى دعم، فليأت هذا الدعم من مسلمين يتمنون الشهادة حباً بلقاء المصطفى. هذا إذا كانوا حقاً يتمنون لقاءه، وهل أجمل من أن يعود الشيخ الهلالي وبمعيته الأسترالي دوغلاس وود، لتقرع أجراس الكنائس، وتتباهى مآذن الجوامع الأسترالية بارتفاعها، وبانتمائها لهذا الدين الحنيف، ولهذه البلاد الأمثولة: أستراليا.
سلموا دوغلاس وود للهلالي، لنسلم نحن.. وإلاّ، تكونون، أيها الخاطفون في العراق، قد عقدتم اتفاقاً جهنمياً مع أعدائنا هنا، لاضطهادنا، وللهزء بنا، ولتحجيم جاليتنا الإسلامية، ولشرشحتها أكثر فأكثر.
**
ابكوا علي.. أنا عربي

ـ1ـ
   عندما كنت في الثالثة عشر من عمري كتبت ما يلي:
عربي..
ما دمت أنت عربي
فأخي أنت..
ابن أمي وأبي
وعندما وطأت الثامنة عشر حفظت ما يلي:
سجل.. أنا عربي.
وعندما أصبحت في الثالثة والخمسين كتبت والغصة تعتصر فؤادي:
ابكوا علي.. أنا عربي! 
ـ2ـ
   أجل، ابكوا علي.. لأنني إذا كنت مسيحياً عربياً فلا حول لي ولا قوة، سأعيش نكرة، وأموت نكرة. وإذا كنت شيعياً عربياً، فسيفخخون لي السيارات ويفجرونها كي لا أفتح فمي، أما إذا كنت سنياً عربياً، فالويل لي إذا عارضت، والويل لي إذا لم أدجّن في قن الحاكم، والويل ثم الويل لي إذا طالبت بالإنفتاح على باقي الطوائف، فالـ (تي أن تي) من نصيبي، والموت الزكام.
ـ3ـ
   أنا عربي.. إذا أنا مضطهد.. صديقاً كنت أم عدواً، موالياً أم معارضاً، مثقفاً أم أمياً، فتهمتي جاهزة، أولها التعامل مع العدو، وآخرها التآمر على النظام. 
ـ4ـ
   ليس من حقي كعربي أن أتعرف إلى أكثر من حاكم، فالإله أنزله إلي، والإله سيأخذه مني متى حان رحيله، أما أنا فما علي إلا الدعاء له بطول العمر، وبكثرة النسل، وبالتصفيق المتواصل إذا حكى أو سعل أو شخر. 
ـ5ـ
    إذا كتبت، لا أحد يقرأ، وإذا قرأت لا أحد يسمع، الأمية متفشية في شعبي، والطائفية تبول على رأسه، وما زلنا نردد أننا خير أمة أنجبت للناس.. فأين الخير؟ وكل ما نتنفسه سم زعاف، وكل ما نشربه سم زعاف، وكل ما نأكله سم زعاف.. حتى صلواتنا أصبحت مسممة.. وقاتلة.  
ـ6ـ
   لا يحق لي أن أمشي في الشارع، ولا أن آخذ عائلتي في نزهة، ولا أن أشتري الآيس كريم من بائع متجول، ولا أن آكل الذرة المشوية أو المسلوقة كباقي الناس، ولا أن أرتاد المقاهي وأدخن الشيشة، فعلى كل زاوية تقف سيارة ملغومة، وخلف كل حائط يتلطى حزام ناسف.. وداخل كل سيارة يجلس شيطان رجيم.. فكيف لي أن أعيش، وكيف لي أن أنمو.. وكيف لي أن أبتسم. 
ـ7ـ
   لم أعرف الحرية، ولم أمارس حقي في النطق، أو في الإصغاء، أو في التطلع، فكل هذه الأشياء محرمة عربياً، وكل من يمارسها أو يفتش عنها، أو يدخلها باب بيته مفقود، مفقود، مفقود. 
ـ8ـ
   علي أن ألعن كل من يدعو للديمقراطية، أو للمساواة، أو للتقدم، أو للتعايش، أو للسلام.. فكل هذه الموبقات غير مسموح بها.. إنها مستوردة، وإمبريالية، ورجعية، وعميلة، والخير كل الخير في تركها والابتعاد عنها كي لا نقع في المحظور ونغضب الله. 
ـ9ـ
   أحلامي كوابيس، وكوابيسي حقائق، فلا طفولتي بريئة، ولا شبابي منتج، ولا رجولتي مخصبة، ولا شيخوختي مأمنة، النظام العربي لا يحميني في طفولتي، ولا في شبابي، ولا في رجولتي، ولا في شيخوختي.. أما أنا فعلي أن أحميه، وأن أفديه، وأن أنجب له جنوداً ومخبرين، قد أكون أول من يقتلون.  
ـ10ـ
   ابكوا علي كي أبكي عليكم، فكلنا في الهواء سواء.. نستيقظ خائفين، ونسير خائفين، وننام خائفين، فأمن الدولة ليس أمننا، ورفاهية الدولة ليست رفاهيتنا، ونعيم الدولة ليس نعيمنا، نحن في دولتنا العربية.. لا شيء.. لا شيء.. لا شيء.. أموات يتنفسون.. صدق الله العظيم. 
**
الفاتيكان.. والإعتذار من اليهود
   
   مرجعيّات يهوديّة عديدة متشددة، كالتي تقف حجر عثرة بوجه السلام، وتمنع الحكومة الإسرائيلية من الإنسحاب من مستوطنات تعرف أنها ليست لها، وتصم آذانها عن نداءات ملايين اليهود الذين يحلمون بالأمن والعيش المشترك، وتهدد حياة كل زعيم يهودي معتدل، إذا فكّر، ولو للحظة، بإطلاق حمائم السلام في سماء شرقنا التعيس، وإنهاء حالة مرضية جعلت إمعاء الله تعالى تتقيأ، وجعلتنا نقبر كل ثمرات بطوننا، وبطونها طبعاً، على مدى صفحات تاريخ دامٍ ومقيّح.
   هذه المرجعيات ما زالت تطلب من الفاتيكان اعتذاراً رسمياً عن أخطاء المسيحيين الكاثوليك حيال عمليات الإبادة التي تعرّض لها اليهود على يد رودولف هتلر وأتباعه النازيين خلال الحرب العالمية الثانية، وكأن البابا بيوس الثاني عشر هو الذي أصدر أوامره بإبادة ستة ملايين يهودي بريء، وكأن هتلر، الذي دمّر أوروبا، بحاجة إلى (بابا) ليحثّه على القتل، وهو الذي أنكر الله، يوم تنكّر لإنسانيته.
   فرنسا.. كانت وما زالت الأم الحنون لجميع المسيحيين، ومع ذلك لم يرحمها هتلر، ولم يرحم شعبها، ولولا بطولة الجنرال ديغول ورفاقه لما أنقذت فرنسا الكاثوليكية من براثن النازية. فلماذا لم يتمكن البابا بيوس الثاني عشر من إنقاذ الكاثوليكي الفرنسي من الموت؟ وهل بإمكان العاجز عن إنقاذ أتباعه أن ينقذ اليهود؟! أعتقد أن الجواب واضح للجميع.
   إذا كان اعتذار بابا روما يريح اليهود، ويخفف هول المحرقة، فإن اعتذارهم عن صلب المسيح واضطهاد أتباعه وزرع الملل المختلفة في جسم كنيسته الواحدة، قد يخفف أيضاً من ألم المسيحيين المتراكم على مر العصور.
   الفاتيكان لم يقتل يهودياً واحداً، ولكن اليهود الأوائل شتموا وصلبوا وقتلوا من يركع بابوات الفاتيكان له ولهم، أي السيّد المسيح وأتباعه الأوائل. ومع ذلك أصدر الفاتيكان وثيقة من عشر صفحات أبدى فيها أسفه للأخطاء التي ارتكبها مسيحيون كاثوليك لأنهم لم يقدموا المساعدة لليهود خلال إبادتهم على يد النازية في الحرب العالمية الثانية وقال: (إن المحرقة كانت صنيعة نظام عنصري وثني جديد تجد معاداة السامية فيه جذورها خارج المسيحية، ولم يتردد في المضي قدماً وراء أهدافه في معارضة الكنيسة واضطهاد أعضائها). 
   إذن، وكما ورد في الوثيقة، فإن هتلر كان يعارض الكنيسة الكاثوليكية ويضطهد أعضاءها، فأين هو الذنب الذي اقترفه البابا بيوس الثاني عشر بحق اليهود، طالما أنه كان مضطهداً وأعضاء كنيسته من قبل النازية؟! 
   الوثيقة تشيد بحكمة البابا ودبلوماسيته خلال الحرب العالمية الثانية، وان جهات يهودية عديدة أثنت على دوره في إنقاذ مئات الآلاف من اليهود، فلماذا الإعتذار إذن؟
   الحاخام (مائير لاو) أحد الناجين من معسكرات النازيين رفض الوثيقة جملة وتفصيلاً (لأنها تتجاهل الموقف الشائن للبابا خلال المحرقة، وتكتفي بعموميات عن العلاقات بين المسيحيين واليهود). 
   الباحث اليهودي (أفراييم زوروف) قال: ( كنت أود لو اعترف الفاتيكان بأن اللاسامية المسيحية أدت إلى المحرقة.. المهم أن يكون الفاتيكان واعياً لحجم الجرائم النازية، ولكن الوثيقة التي أصدرها تثبت أنه لا يريد تحمل مسؤولياته، ولا يستطيع أن يفهم مداخل المذبحة ومخارجها). 
   الوثيقة تقول أن البابا أنقذ مئات الآلاف من اليهود، وأن الكنيسة الكاثوليكية كانت مضطهدة من النازيين كاليهود تماماً، ومع ذلك يريدون إلصاق (المحرقة) بالفاتيكان!.. (ومن غير الواقعي أن نتوقّع من الوثيقة انتقاد بيوس) على حد تعبير الحاخام دايفيد روزين.
   لقد انتقد الفاتيكان تصرفات باباوات كثر، دون أن يخاف أحداً سوى الله تعالى، وما اعتذاره عن الحروب الصليبية التي شوّهت تاريخه إلا انتقادات لاذعة ومؤلمة لباباوات شاءهم قدرهم السيىء أن يسيروا تحت راياتها السوداء المذلة. وأعتقد أن من تجرأ على الإعتذار من حروب حملت اسم الصليب زوراً وبهتاناً لن يتوانى للحظة واحدة من الإعتذار لليهود الذين حصدهم حقد هتلر القاتل، وحصد الآلاف من المسيحيين وغيرهم، لو كان له أي علم، ولو طفيف، بذلك.
   إسرائيل تحتل مزارع شبعا اللبنانية، ومرتفعات الجولان السورية، وفلسطين الحبيبة، فهل قدم اليهود اعتذاراً بذلك؟
   إسرائيل ارتكبت المئات من المجازر بحق الشعب الفلسطيني، والشعب اللبناني، كمجزرة (قانا) التي لم تنته آثارها بعد، فهل قدّم اليهود اعتذاراً بسيطاً بذلك؟
   لليهود الحق في أن يفكروا كما يشاؤون، وأن يطلبوا اعتذارات كما يريدون، ولكن لنا الحق أيضاً أن نقول: ما فعله هتلر بحقهم جريمة لا تغتفر، وما فعلته وتفعله حكوماتهم بحق شعوبنا العربية جريمة بشعة لا تغتفر أيضاً.. فتعالوا نتخطَّ التاريخ لنعانق المستقبل. 
**
يا عراقيي أستراليا.. انتخبوا
  
   رغم تطبيل وتزمير الوسائل الإعلامية الأسترالية لولادة دولة ديمقراطية جديدة في الشرق اسمها العراق، وتخصيص صفحاتها الرئيسية، ونشراتها الإخبارية للتكلم عن ذلك، نجد أن العديد من عراقيي أستراليا يحجمون عن تسجيل أسمائهم على لائحات الشطب أو الإقتراع، لا فرق، مخافة أن ترميهم الحكومة الأسترالية في أول مركب عائد إلى العراق بعد الإنتخابات، لأنهم بمعظمهم لم يحصلوا على إقامة شرعية، ووضعهم الإغترابي غير مستتب، ورجوعهم إلى بلادهم مرهون برجوع الأمن والسلام إليها. وهذا ما يخيفهم حقاً.  
   عيب.. يا جماعة.. عيب، ألا يشتري الواحد منا استقرار بلاده الأم، وعودة الديمقراطية والسلام برجوعه إليها والإرتماء في أحضانها، والمساعدة على ازدهارها وتقدمها، وتسخير خبرته الإغترابية التي اكتسبها في هذه البلاد الرائعة من أجل رفع شأنها، وجعلها أجمل البلدان قاطبة؟.
   أخوفنا من العودة إلى أحضان أمهاتنا، وشوارع مدننا وقرانا، ومواجهة العنف بالسلام والحضارة، يجعلنا نحجم عن تسجيل أسمائنا والاقتراع لعراقنا الممزق، وهو بأشد الحاجة إلينا؟.
   إنها مهزلة ما بعدها مهزلة، وكل من خضع أو سيخضع لها سيلعنه العراق والديمقراطية التي يحلم بها الشرق إلى الأبد، وستسقطه أستراليا من بنوتها، ولو بعد أجيال، لأن من لا خير فيه لوطنه الأم، لا خير فيه لوطن جديد يحاول الإنتساب إليه زوراً.
   بعض العراقيين الشرفاء تكبّدوا مشاق السفر من ولاية، لا مكاتب للتسجيل فيها، إلى ولاية أخرى، بغية تسجيل أسمائهم والإدلاء بأصواتهم الذهبية في مسيرة تاريخية نأمل أن تعم شرقنا التعيس بأكمله، ألا وهي خطوة الألف ميل على طريق الديمقراطية المشرقة، وقد التقت وسائل الإعلام ببعض هؤلاء الشرفاء، وسلطت الأضواء عليهم، وأشادت بهم، كما لم تشد بمواطن أسترالي من قبل. كيف لا، وقد أعطوا درساً في الوطنية لشعوب كثيرة، أوضاعها الإنسانية والإغترابية في أستراليا، كوضع الشعب العراقي الحبيب تماماً.
   إنها انتخابات مباركة، رغم كل ما سيشوبها، ويجب أن لا تفشل، لا حبّاً بأميركا، ولا نكاية بالإرهاب، بل كرمى لعينيّ العراق، ومن له أذنان سامعتان فليسمع.
   يا عراقيي أستراليا عراقكم يناديكم، والشرق يناديكم، والكون كله يتطلع إليكم، فلا تتكتفوا، ولا تتستروا، ولا تتخاذلوا، ولا تتباخلوا، ولا تتجاهلوا، ولا تتقوقعوا، مستقبلكم ومستقبل أطفالكم على بعد خطوات منكم.. فانتخبوا.. ثم انتخبوا.. ثم انتخبوا.
**
بنايات لبنان تباع على العظم
   
   حركة العمران في لبنان ناشطة على قدم وساق، ولكن ليس هناك من يشتري، وليس هناك من يكمل البناء، فمعظم البنايات ما زالت على العظم، كما يقولون، أي أنها أشبه ما تكون بهياكل بشرية مرعبة، جمعوا عظامها، ليعلّقوها في عيادات الأطباء. فكيفما اتجهت، وكيفما التفت، تجد الباطون المسلح الرمادي اللون مشرئباً في الفضاء، يحجب الجمال، ويشوه الطبيعة، ويخبرك حكاية الإفلاس الاقتصادي والهجرة البشرية المؤلمة. 
   الكل يبني، والكل يعاني، والكلّ ينتظر.. ولن يأتي الفرج إلاّ عن طريق المغتربين القادمين إلى لبنان لاستثمار بضعة آلاف من الدولارات، جمعوها بعرق جبينهم، بغية استملاك مرقد عنزة لهم في وطنهم الأم. وكثيراً ما يقع المغترب المسكين فريسةً بأيدي تجّار الشقق، فيسلخون جلده وفمه مفتوح اندهاشاً بالمنظر الخلاّب الذي تطل عليه الشقة. فيدفع ثمنها أضعاف الاضعاف وصوت التاجر يرن في أذنيه: هذه شقة فخمة لن ترى مثلها في كافّة أنحاء لبنان. أجل، سترى مثلها، وأفضل منها، وأرخص منها لو فتّشت. فأنّى ذهبت، وأنّى اشتريت في لبنان ستجد المناظر الخلاّبة التي تسحر النظر، وتجعلك تقف مشدوهاً أمام الجمال اللبناني الخلاب، وتصرخ مع وديع الصافي:
جنّات ع مدّ النظر
ما بينشبع منها نظر
   يباع متر البناء المربّع في لبنان بـ 350 دولاراً، ومنهم من يبيعه بـ 450 دولاراً، ولكن إذا كاسرت فلسوف تحصل عليه بـ 280 دولاراً، وستوفر على جيبك أكثر من 10 آلاف دولار في الشقّة الواحدة.. هذا طبعاً في المناطق الشعبية، وليس في منطقة الفنادق أو الروشة أو ما شابه. هناك لن يستملك إلا الوليد بن طلال ورفيق الحريري ومن هم على شاكلتهما. 
 صحيح أن الدجّالين كثر، ولكن (الأوادم) أكثر منهم بكثير، فإذا تعاملت مع دجّال فلا تيأس، لأن اللـه سيمنّ عليك بإنسان شريف لـم تلد الامهات مثله، وسيأخذ بيدك إلى برّ الامان. 
(العفش) رخيص جداً في لبنان، فإذا اشتريت شقّة باشر بفرشها، ولكن عليك، كي توفّر، أن تزور الاسواق الشعبيّة قبل أن تشتري، وأن تبتعد قدر المستطاع عن الأسماء اللامعة الساطعة في دنيا المفروشات، فكل شيء يباع (شرفية) في لبنان، وما عليك إلاّ أن تحفظ شرفك ومالك وتفرش شقتك بدون (شرفية)، فالإنسان العاقل أبعد ما يكون عن هذه السفسطات التي لا طعم لها. تسوّق في الاماكن الشعبية قبل أن تشتري، فإذا كانت أستراليا أم الفقراء، فلبنان، بنظري، أبو الفقراء، وجدّ الفقراء، وحامي الفقراء، فانتبه فيه على قرشك ولا تدع أحداً يضحك عليك.
**
لماذا مات هؤلاء؟

يا قارئاً كتابي
إبكِ على شبابي
اليوم كنت بينكم
غداً تحت الترابِ 
   هذان البيتان من الشعر لـم يكتبهما الأخطل الكبير ولا الأخطل الصغير، إنهما، والحق أقول، لمجنّد مجهول كتبهما على ظهر أحد مقاعد (بوسطة ـ حافلة) للنقل تعمل على خط طرابلس ـ بيروت. ولأنني لم أجد ورقة في محفظتي، دونتهما على كف يدي كي لا أنساهما، وحملتهما معي إلى أستراليا، كأثمن شيء جلبته من بلادي.
   لقد هزّني خوف هذا المجنّد من الموت ـ لست أدري إذا كان لبنانياً أم سورياً ـ وبدأت أفتّش عن أي مجنّد، يقدر أن يشرح لي خوفه، ارتباكه، وهواجسه. وأعترف أنني فشلت فشلاً  مؤسفاً. فلقد وجدت كل من تكلّمت معهم فخورين بجنديتهم، بكرامتهم، ببذلتهم العسكريّة، ومتأهبين للموت من أجل بلادهم، والانسان سيموت عاجلاً أم آجلاً، على حدّ تعبيرهم.
   فممَ يخاف إذن ذلك المجند الشاعر؟!. 
   ولماذا كتب ذينك البيتين من الشعر؟!..  
   أهما (للتفنيص) أم (للتخويف)؟!. 
   أم أنهما يعبران عن معاناة حقيقية موجعة ومخيفة؟!
    الحقيقة، أنني لم أصدّق معظم ما تبجّح به أمامي أولئك المجندون الشباب، رغم احترامي لمشاعرهم الوطنيّة، وتساميهم في الدفاع عن بلادهم، ولكن الإنسان يبقى إنساناً من لحم ودم، حياته تأتي أولاً وأخيراً، وخير دليل على ذلك استسلام الجنود في الحرب، أو فرارهم من أرض المعركة، ولسان حالهم يردّد: ألف كلمة جبان ولا كلمة ألله يرحمه.
   نحن، كعرب، نمتهن التبجح البطولي، ونمارس عنتريتنا على أكمل وجه، ولكن بالثرثرة فقط: 
ألا لا يجهلن أحد علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
   ولكن عندما يدق نفير الحرب، نخلع أحذيتنا، ونرمي أسلحتنا في أرض المعركة ونتوارى عن الانظار، ومع ذلك نظل نردد:
الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم
   فما جدوى الحروب إذن، والأعداء سينقلبون أصحاباً بتوقيع واحد على معاهدة صلح؟ 
   وما جدوى التفجيرات، وزهق أرواح الأبرياء، خاصة أولئك المغرّر بهم، إذا كان العنف لا يحصد إلا الموت، والحوار البنّاء أفضل سبيل للحياة؟.
   فالإرهابي، بنظري، مجند في خلية إرهابية، صادرت تفكيره، وداست إحساسه، واعتقلت إنسانيته، وحبّبت إليه الموت، فأصبح مسيّراً من رأسه حتى أخمص قدميه، تتلاعب بحياته وفق أهواء أمرائها ومنظّريها، وأعتقد أن خوفه من الموت لا يقل عن خوف ذلك المجند الشاعر، وإن نجح في إخفائه كي لا يتهم بالزندقة والكفر!
    مجنون إبن مجنون من يفكّر بدخول الجنة ومضاجعة الحور العين عن طريق سفك دماء الأبرياء، فنيران الجحيم بانتظاره، وكل شياطين الهلاك! فلماذا إذن يتدافع هؤلاء الشبان البسطاء للموت، ومن أجل مَنْ؟ 
   هل من أجل حقنة من المخدرات أم حفنة من الدولارات؟ 
   هل من أجل نصرة دينهم، ودينهم يخجل من شرورهم؟ أم من أجل رفع شأن أناس يعملون، دائماً وأبداً، من أجل دنياهم ليس إلاّ.
   ألا تكفينا الزلازل والبراكين والعواصف والفيضانات وموجات تسونامي العاتية التي بلعت الانسان والبنيان في لحظة مميتة، كما بلع الحوت النبي يونان في غابر الأزمان؟ فلماذا إذن نزيد فوق مصائبنا الجيولوجية الفتاكة مصائب صنعناها بأيدينا لنبتلي نحن بها؟
   إذا كانت هذه هي حالنا، فحال غيرنا أسوأ منا، ويكفي أن نراجع ما كتبه أو قاله الجنود الأميركيون أو جنود الحلفاء، لا فرق، إثر مقتل أحدهم، لندرك عمق الخوف، وفظاعة المأساة، وصدقوني أن الموت ضيف ثقيل لا أحد يرحب باستقباله.     
   كلما قرأت خبراً محزناً عن فتك الإنسان بأخيه الإنسان، أراجع بذاكرتي ما كتبه ذلك المجند المجهول: إبكِ على شبابي. وصدّقوني أنني بكيت.. وبكيت، كما لـم يبكِ والد مفجوع من قبل، وأحسست أن كل هؤلاء الضحايا، الذين يتساقطون بدون ذنب اقترفوه، أبنائي، وأنني المسؤول الوحيد عنهم. وأن عليّ واجب المطالبة بحقوقهم، وبتوجيه سؤال ملح إلى زعماء العالـم، سياسيين وعلمانيين ودينيين وإرهابيين:
ـ لماذا مات هؤلاء؟!
   أجل.. لماذا ماتوا، ولماذا يموت غيرهم؟!. وهم يريدون الحياة!! 
**
إلى اللقاء بعد شهرين..
   
   الكتابة في (إيلاف) أكثر من رائعة، فلقد عرّفتني بقراء أعزاء، اقتلعتهم عنجهية حكامهم من حقولهم الخصبة، وزرعتهم أشجاراً مثمرة في أقاصي الأرض، يقتات منها الغريب، ويتحسّر على خيراتها القريب. ولولا صفحات (إيلاف) الرائدة، لما سمعوا بي، ولما أحسست أن كلمتي مقروءة. فمعظم مقالاتي مستمدة من رسائلهم المثقلة بالمقترحات والتذمر من الحالة الوسخة التي يتخبط بها عالمنا العربي.. ذاك الذي حرمنا منه قسراً، وسيحرم منه أيضاً كل من بقي فيه، إذا لم تتطور عقليات حكامه وشعوبه، وتماشي العصر.. إذ من المضحك جداً أن تتطلع شعوب الكون أجمع إلى غد مشرق، ونتمسك نحن، حد الهوس، بماضٍ سحيقٍ، أكل عليه الدهر وشرب.. وبال.
   أنا أعلم جيداً أنني أتعبت العاملين النشيطين بالمجلة، بمقالاتي المتواصلة، التي شبّهها أحد قرائي الظرفاء برحلات العم كسينجر المكوكية إلى الشرق الأوسط، فما أن يختفي ذنبه حتى يطل رأسه، وهذا ما فعلته في (إيلاف)، ليس حباً بالنشر، بل حباً بإثبات الذات، وبترسيخ اسمي الجديد في أذهان القراء، خاصة وأنني أطل عليهم ككاتب مجهول، في موقع أحببته منذ النظرة الأولى، وأحسست أنني، كأصحابه والعاملين به، مسؤول عن استمراريته وازدهاره، كيف لا، وكل ما ينشر فيه يصب في مجرى تقدم شعوبنا العربية التعيسة. لذلك، أغمضت عينيّ، ووضعت رأسي بين رؤوس زملاء كبار (حان قطافها) على حد تعبير الحجاج بن يوسف وكل حكامنا العرب، لا لشيء، إلا لأنها تدعو إلى الحرية والديمقراطية ومحاربة الجهل بغية رفع شأن شعبنا العربي المضلل حتى أذنيه، فإذا قالوا له: مت، حمل جسده المتعب ورمى به في الجحيم، دون أن يفكّر أو أن يلتفت إلى الوراء، وكأنه مسير وليس مخيّراً.. بينما الذين دفعوه إلى الموت يدفعون ملايين الدولارات من أجل حماية أبنائهم من عطسة برد أو من عضة ذبابة.
   وصدقوني أنني كنت من الكتاب المحظوظين الذين تربعت مقالاتهم، مرات عديدة، في قائمة أكثر المقالات قراءة، ولكن حظي هذا أوقعني بالخوف وبالمثابرة كي أظل عند حسن ظن المشرفين على الموقع والقراء معاً، فرحت أقرأ (القائمة) المحظوظة يومياً، وأدرس عناوين المقالات التي احتلت المرتبات العشر، لأن العنوان الصارخ المدروس، بنظري، هو الذي يشد القارىء إلى قراءة المقال، تماماً كما تغري واجهات المحلات الزبائن بالدخول إليها وشراء حاجياتهم.. بعدها، أبدأ بكتابة عنوان مقالي، وقد لا أكون مغالياً إذا اعترفت أن العنوان ينهك تفكيري أكثر من المقال، خاصة إذا أردت اختصاره كي يقرأ كاملاً على الصفحة الرئيسية.
   أما الآن، فسأغيب عنكم شهرين أو أكثر، سأفتقد خلالهما تعليقاتكم الهادفة، وتشجيعكم المحب، ولكنني بحاجة ماسة إلى الراحة فأرجو أن لا تنسوني، وأن تعودوا إلى مقالاتي المحفوظة في أرشيف (إيلاف)، وكل ما عليكم فعله هو الضغط على (بحث متقدم) وكتابة اسم (شربل بعيني) في خانة اسم الكاتب، فتتراقص أمامكم مقالاتي، فإذا غاب عنكم أحدها ولم تطلعوا عليه، أرجوكم قراءته وتسجيل تعليقاتكم حوله، وأعدكم، كما فعلت سابقاً، بالرد على كل رسالة من رسائلكم، تماماً كما كان يفعل معي المرحومان الخالدان نزار قباني وعبد الوهاب البياتي، اللذين أحتفظ برسائلهما في أرشيفي، وأخاف عليها من الضياع، أكثر مما أخاف على قصائدي ومقالاتي وأشيائي الثمينة.
   إلى أن نلتقي مجدداً في العام 2005، أتمنى لمجلتي الرائدة (إيلاف)، وللعاملين فيها، ولكل قرائها الأعزاء، حتى أولئك الذين اعتادوا على شتمي، عيداً مجيداً وعاماً سعيداً، تحمل إطلالته الخير والسلام لوطننا العربي، ولأوطاننا الجديدة المضيافة التي منحتنا الأمان والمسكن.. خاصة البلدين الأحب إلى قلبي: لبنان وأستراليا. 
**
أين محمد الفايد.. يا جلالة الملكة؟
    
   منذ عدة أيام تناقلت وكالات الأنباء العالمية خبر تدشين نصب تذكاري في ذكرى وفاة الأميرة دايانا، وأنعمت علينا بمشاهدة نهر إلكتروني يتسابق الأطفال فرحين للتلاعب بمياهه. كما أرتنا ما لم يخطر ببالنا من انسجام وتفاهم تام بين عائلتي وينزور (عائلة الملكة) وسبينسر (عائلة خطيبتنا دايانا) رحمها الله. أخذت الصور التذكارية العديدة، ولكن صورة واحدة لم تؤخذ، ألا وهي صورة رجل الأعمال العربي محمد الفايد، الذي لم يدع إلى الإحتفال، رغم كونه والد المرحوم دودي حبيب قلب وخطيب ووالد الجنين الشهيد كما اعترف البعض.
   أين محمد يا صاحبة الجلالة؟ فإذا كنت تريدين طي صفحة الماضي، وبينك وبين آل سبينسر ما يشهد الله عليه، عليك أن تبدإي بآل الفايد أولاً، وأن تقولي عن دودي ما قلته عن دايانا في خطاب التدشين أو الإفتتاح أو التمثيل لا فرق. فمحمد الفايد خسر فلذة كبده الوحيدة، التي تساوي بنظره ونظرنا خسارة جيش كامل، فعماد كان الحلم، وعماد كان أمل العائلة في إكمال الإسم والمسيرة. أم أنك أردت تنفيذ ما قاله مثلنا الشعبي: أنا وأخي على إبن عمي وأنا وإبن عمي على الغريب؟!.
    منذ خمس سنوات زرت باريس، وأخذت بعض الصور لنفق ألما وشعلة الحريّة القريبة منه، كما قررت زيارة فندق الريتز لتقديم التعازي بالمرحوم عماد الفايد، ولقد وجدت بين أوراقي بعض ما كتبت عن تلك الزيارة أحب أن أطلع قرّاء إيلاف عليه:
   ما أن تلفظ الرقم 15 حتى يعرف سائق التاكسي أنك تقصد فندق الريتز الشهير الواقع على العنوان:
 15, Place Vendome  75041 Paris Cedex 01 
فيأخذك إليه في الحال. ومن يدري، فقد لا تتمكن من الإقتراب منه، أو الدخول إليه، إلاّ إذا كنت حاجزاً غرفتك من قبل، بسبب الاجراءات الأمنية المشددة المضروبة حوله من قبل الملياردير المصري محمد الفايد، خاصّة بعد مقتل ولده دودي (عماد) والأميرة دايانا.
   أما أنا فلقد شفعت بي بعض المقالات التي كنت كتبتها عن دودي ودايانا، وأدخلتني الفندق بعد أن منعت من دخوله عدّة مرّات في السابق.. فلقد أطلعتهم على المقالات التي نشرتها، وأنني متعاطف مع ابن عروبتنا محمد الفايد، فتطلعوا بالمقالات عدّة مرّات دون أن يقرأوها، وأدخلوني الفندق لمدّة ربع ساعة فقط بصحبة أحد الحرّاس.
   (الريتز) مؤلف من 142 غرفة، و54 جناحاً، وعدة مطاعم فخمة، وقاعة تتسع لألف مدعو، ونادٍ رياضي، وبركة سباحة، وصالونات لتصفيف الشعر والمكياج، وملعب رياضي، وناد للرقص والعشاء، ومدرسة لتعليم فن الطبخ. ولهذا تجدون أن سعر قضاء ليلة واحدة في الريتز يقصم ظهر البعير، فكم بالحري ظهر فقير (معتّر) مثلي.
   (الريتز)، والحق أقول، آية في الجمال، يسحر النظر، ويفتن الألباب، ويجعلك تقف مشدوهاً أمام فخامته.. فمنه انطلقت الأميرة دايانا لتلاقي حتفها عند نفق (ألما) الشهير، حيث حوّلوا شعلة الحرية المنتصبة فوقه الى شعلة للأميرة الفقيدة، وبعد أيام على وفاتها بدأت الأيدي المشوّهة بتشويه الشعلة، وبطليها بالدهان، وبكتابة عبارات تسيء إلى الأميرة الراحلة.
   وبما أن صاحب (الريتز) هو نفسه صاحب محلات (هارودز) البريطانية العريقة، وبما أن (اليورو) الأوروبي هو الذي يتكلّم في هذه الأيّام.. فلقد أعلن الملياردير محمد الفايد انه يريد أن يستنسخ نفسه أكثر من مئة مرة.. بغية ملاحقة جنسيته البريطانية المرفوضة دائماً وأبداً من قبل الحكومة، والحصول عليها ولو بعد ألف عام.. واعتبر أن الحكومة البريطانية تعامله كإنسان منبوذ!!
   وأعلن أيضاً أنه يريد تحنيط جثمانه بعد الوفاة وعرضه في محلاّت (هارودز) التي يملكها في لندن. كما أنه لـم يتقبّل بعد قرار حكومة طوني بلير بعدم منحه الجنسية البريطانية التي ينتظرها على أحر من الجمر.. ووصف الوزراء بأنهم (أشباح) تتحرّك على مسرح الحياة ليس إلاّ.
   أنا أعتقد أن إصرار الفايد على اعتبار الحادث الذي أودى بحياة ابنه والأميرة دايانا مؤامرة مدبّرة من قبل المخابرات البريطانية، هو الذي يؤخّر عملية منحه الجنسية.. فتصريح واحد منه يعلن فيه أن الحادث وقع قضاء وقدراً قد يمنحه هو وجميع (نسخاته) مليون جنسية بريطانية، هذا إذا لـم نتكلم عن الاوسمة الملكية العديدة التي قد يحصل عليها..
   سؤال يطرح نفسه: لماذا يصر الفايد على الحصول على الجنسية البريطانية بالذات، وبإمكانه الحصول على جميع جنسيات أوروبا، وفي مقدمتها الجنسية الفرنسية؟!. 
   كل ما عليه هو أن يتحرّك باتجاه أستراليا، مع ملايينه بالطبع، واتركوا الباقي علينا.
   الجواب على السؤال سيكون: إنها الكرامة.. إنه التحدي.. إنه الثأر.. وفهمكم يكفي!!
**
فلنقاطع الألعاب الألومبية
    
   جلست أفكر لساعات في الألعاب الأولمبية المزمع إقامتها في أثينا عاصمة اليونان، وأتخيّل الصورة الناقصة البشعة التي ستظهر بها الوفود العربية المسترجلة المشوربة، القليلة العدد، معظمهم إداريين، كما ظهرت في أولمبياد سيدني عام 2000، باستثناء البعض منها والحمد للـه.
   كثيرون، متى قرأوا مقالي هذا، سيشنّفون أذنيّ بمليون محاضرة عن الأخلاق والشرف والدين ومنافع الحشمة.. ولكن ولا عربي واحد سيسأل نفسه: لماذا غُيِّبَ نصف مجتمعنا؟. ولماذا حاولوا حجبه عن الأنظار، وخنقه في المهد، أو بالأحرى وأده، والأديان السماوية حرّمت وأد البنات؟.
   رجال، فقط، يمثّلون أوطاننا العربية، يتشاوفون برجولتهم، بعضلاتهم، بطلاتهم الوسيمة، ويمتعون أنظارهم بأجساد المتباريات العالميات اللواتي يرفعن اسماء دولهن، ورأس كل من انتسب إليهن من بعيد أو قريب، بينما نساؤنا العربيات مغيّبات قسراً، بسبب ألف كذبة وكذبة.
   هنا في أستراليا، نجد أن الشوارع الضخمة لا تطلق على اسماء الزعماء السياسيين، مهما علا شأنهم، بل على أسماء الرياضيين والرياضيات الذين حصدوا الذهبيات والفضيات والبرونزيات لشعبهم الأسترالي، إذ أن المربح للشعب قبل أن يكون للفرد.
   صحيح أن بعض الفتيات العربيات كسرن طوق العزلة، وقفن وقفة الأبطال، خضن المباريات الألومبية وفزن بالذهب، ولكن ماذا كانت النتيجة؟.. منهن من رموهن بالبيض والبندورة ـ الطماطم لدى عودتهن إلى ديارهن متوجات بالغار الألومبي، ومنهن من ألقيت عليهن لعنة رجال الدين بسبب ارتدائهن الشورت. تصوروا امرأة تسابق رفيقاتها بالشرشف والشادور والعباءة المطرزة!.. إنها مهزلة لن ينقذنا منها إلا الله تعالى، الذي باسمه نهان، وباسمه نحجب عن العظمة.
   دولة فقيرة مثل اليونان، تستضيف الألعاب الألومبيّة، التي انطلقت منها أساساً، وتعمل على استرجاع أمجادها الرياضية والتاريخيّة، وما من دولة عربيّة، رغم البترول والمال، تقدّمت بطلب استضافة هذه الألعاب المربحة، التي تضخّ الذهب الأصفر والأسود في اقتصادها، وتنعش حالة شعوبها الإجتماعيّة والرياضية، وتبيّض صفحتنا السوداء جداً جداً أمام أعين الناس والتاريخ.
   سيقول قائل: الأمن في بلادنا العربية مفقود، أي أن الحياة مصادرة إلى حين، ولا يجوز تعريض حياة الرياضيين للخطر. فتجيبه الأحداث المتتالية: وهل الأمن موجود في أثينا، أو سيدني، أو لوس أنجلوس أو سيول أو موسكو أو غيرها؟ العالم كله يعيش حالة غليان محزنة ومميتة، ولكن الشعب الذي يريد الحياة، لا بد أن يستجيب له القدر، على حدّ تعبير شاعر الأمل المرحوم أبي القاسم الشابي.
   يجب أن نستعين بكبار المدربين العالميين بغية تدريب فتياننا وفتياتنا معاً على كافة الألعاب الرياضية، وأن نخصّص ميزانية كبرى لذلك، تماماً كما تفعل الدول الراقية، وإذا عجزنا عن إقناع اللواتي يعشن في الداخل، بسبب الحظر المفروض عليهن، علينا الاستعانة بالفتيات العربيات اللواتي يعشن في الخارج، ويقدن السيارات، ويذهبن إلى السينما، ويتمتعن بحريتهن الكاملة. عندئذ نقف على المدرجات الرياضية، ونهتف لشبابنا وبناتنا معاً، وهم يمرّون أمامنا، بأعداد كبيرة، حاملين أعلام دولنا العربية، أو وهم يتبارون مع الفرق العالمية التي يجب أن لا نقل عنها خبرة واحترافاً. وإلاّ، فلنقاطع الألعاب الأولمبية عن بكرة أبيها، حتى لا يظهر رجال أمتنا العربية التعيسة في وفود لا يتعدى عددهم فيها عدد أصابع اليد، وبدون نصفهم الأجمل، ونصبح مضحكة القرن الحالي.. والمقبل.
   آن الأوان كي نصبح ناساً كباقي الناس. ألا تعتقدون ذلك؟.
**
لبنان في خطر
   
   يرزح لبنان منذ سنوات عديدة تحت نير مشاكل لا حصر لها أهمها مشكلة التخلص من الغرباء اللاشرعيين المستوردين من الخارج بغية العمل في ربوعه الجميلة.
   أينما ذهبت، وأينما تطلعت، تجد جحافل من الغرباء يستوطنون الشوارع والساحات ويعملون في شتى الحقول: التبليط، التلييس، التعمير، التزفيت، الزراعة، الحراسة، النهب، التشليح، التهديد، الخطف والاغتصاب إلى آخره.. حتى أن الخادمات الأجنبيات مرفهات في البيوت أكثر من ربات البيوت، وفي بعض الأحيان يتخذهن الازواج عشيقات سريّات، ومن يدري فقد ينجبن لهم البنين والبنات، ويلقّحن العرق اللبناني بأعراق غريبة لا يعلم غير اللـه تعالى كيف ستكون.
   ولا يعتقدنّ أحد ما أنني عنصري أو رجعي أو انطوائي، لا سمح اللـه، ولكنني أتطرّق إلى مشكلة أناس تستوردهم شركات تهريب خاصة لتحارب بهم العمال اللبنانيين وترميهم في بطالة قد لا يتخلصون منها إلا إذا تخلّص لبنان من عمّاله الغرباء.
   مصدر حكومي يقول: لولا هؤلاء العمال لما تمكنّا من إعادة إعمار لبنان. وتناسى حضرته أن هؤلاء العمّال الذين يعمّرون لبنان (بالرخص)، يرمون العائلات اللبنانية في أزمات مادية واجتماعية وعائلية لا حل لها. فكيف نعمّر لبنان وبيوته العائلية تتهدّم؟!.. 
   قد يقول قائل: ولماذا لا يرخّص العمّال اللبنانيون أسعارهم ويضاربون على الغرباء؟ فأقول: لأن العامل الغريب يأتي لوحده وبدون عائلته، أي أنه يأكل ما يقدمه له رب العمل، أو ما يتيّسر بين يديه من مأكولات قد لا تكلّفه شيئاً.. كما أنه ينام في الشوارع والساحات، ينصب خيمته أنّى شاء، لا إيجارات ولا كهرباء ولا غاز ولا مدارس ولا أي شيء. بينما على العامل اللبناني أن يرفع أجره بغية تسديد ثـمن شقته، ودفع أقساط أطفاله المدرسية وتأمين العيش اللائق بعائلته.
   اللبناني جائع، خائف ومهجّر في بلاد اللـه بسبب الغرباء.. وكذَّاب من يقول العكس. الحرب انتهت لتبدأ حربٌ من نوع آخر.. 
   لقد أطلقوا علينا في أستراليا إسم جالية،  ونحن أيضاً بتنا نطلق على الغرباء المستوردين من الخارج إسم جالية: الجالية السيرلانكية، الجالية الروسيّة، الجالية اليوغسلافية، الجالية الموريتانية إلى آخره، أضف إلى ذلك الجاليات العربية التي لا حصر لها.
   مصيبة كبرى أوقعنا بها جشع أصحاب شركات الاستيراد البشري، فمن أجل حفنة من الدولارات يبيعون الوطن وشعبه، ويضربون عرض الحائط بسمعتهم وإنسانيتهم.
   ذكرت (انسانيتهم) لأنهم يعاملون المهاجرين المستوردين كما يعامل البعض الحيوانات.. ومحظوظ جداً من يضعه معلمه فوق سطح بيته، ومحظوظة الخادمة التي تلاقي عملاً لحظة وصولها، لأنها قد تبقى أياماً بدون طعام.. فالتاجر الذي استوردها من أجل الربح فقط، لن يصرف عليها دولاراً واحداً.
   أخاف أن يغيّر وديع الصافي ، في يوم من الأيام، كلمات أغنيته الشهيرة:
يا مهاجرين ارجعوا
غالي الوطن غالي
الى كلمات حزينة ويائسة: 
يا مهاجرين اهربوا
بالي الوطن بالي
   لأن الوطن في ظل شركات الإستيراد البشري، والتنافس المهني، والتضخم السكّاني،  سيجبر اللبنانيين على الرحيل إلى عالـم مجهول، قد لا يستقبلهم إلا لمدة محدودة، كما يحدث مع بعض المهاجرين إلى أستراليا وغيرها. عندئذ سيبقى لبنان بأيدي أناس لا ولن ينتسبوا إليه.. لأنهم ليسوا منه ولأنه ليس لهم.. لبنان لأبنائه المقيمين والمغتربين معاً.. هواؤه لهم، مياهه لهم، ترابه لهم، خيراته لهم وفرص عمله لهم أيضاً.. وبئس المال وبئس التجارة وبئس الشركات المشبوهة التي نتمنى لها الإفلاس من كل قلوبنا.
**
حزب إسلامي في أستراليا
   
   "ما أن نقلت جريدة المستقبل في سيدني هذا المقال عن موقع ايلاف الالكتروني، حتى هجم على بيتي بعض المتأسلمين وراحوا يرشقونه بالبيض والسباب، عند الساعة الرابعة فجراً في 6 ايلول 2005"
      كنت أنتظر أن يتحول المجلس الإسلامي الأعلى إلى حزب سياسي أسترالي، أو أن تعلن الجمعية الإسلامية في لاكمبا أنها تحولت إلى حزب يدافع عن المسلمين في هذه القارة البعيدة.
   كنت أعتقد أن فكرة تأسيس حزب إسلامي ستأتي من أحد الإخوة العرب، بعد أن تكاثروا، وأصبح لهم ثقلهم في المجالات الإجتماعية والتربوية والسياسية، ولكن الفكرة جاءت من أحد المهاجرين الفيتناميين، فلا تتعجبوا.
   أخونا كيرت، وهذا اسمه، غايته من إنشاء الحزب هي تحضير جميع الأستراليين إلى العيش في ظل القانون الإسلامي الذي ينص عليه القرآن، أي أنه يريد تحقيق القوانين الواردة في القرآن، ضارباً عرض الحائط بالقوانين المدنية الراقية التي تتنعم بها أستراليا، والتي لولاها لما تمكن (كيرت) من التعبير بحرية عن معتقده، كما يفعل الآن.
   يقول (كيرت) أن القوانين القرآنية لن تشكل قلقاً لأحد، وستنصف الجميع، لأن من يقرأ القرآن لن يجد فيه أشياء سلبية قد تؤثر على حياته أو ممتلكاته. وكأن السلبية ما وجدت إلا في الأديان الأخرى، أو في القوانين المدنية الأسترالية، ويجب تغييرها، نكاية بالتعايش الإجتماعي، والتسامح الديني، وكل ما أنتجت الديمقراطية من نعم إنسانية راقية، فاقت برحمتها جميع النعم التي قيل أن الله قد أنعم بها علينا.
   والظاهر أن حزب أخينا (كيرت) ما زال طفلاً يحبو، إذ أنه يضم في عضويته، على حد ادعائه، مئتي عضو لا غير، بما فيهم زوجته وأمه وأبوه وإخوته وأولاد حميه، ولكي يسجل الحزب فيدرالياً عليه أن يضم أكثر من 500 عضو، وهذا ما سوف يعجز عن إيجادهم، لأن لا أحد من المسلمين العرب ستنطوي عليه الحيلة، وهم من شردتهم الأحزاب، والطائفية، والتلطي وراء دينهم الحنيف من أجل غايات وغايات سئموا منها ومن أصحابها.
   ولأن (كيرت) يعلم أن ما ذكرته عن قرف المسلمين من الأحزاب الدينية هو الحقيقة بعينها، راح يخبرنا أن حزبه سيدافع عن الذين يؤمنون بالله، وكأن من يؤمن بالله هو المسلم فقط، وبحاجة إلى (كيرت) كي يدافع عنه، فأين مفتي المسلمين في أستراليا، وأين الجمعيات الرائدة التي ذكرت، لا بل أين الحكومات الأسترالية التي تحمي جميع مواطنيها دون استثناء؟
   ولكي تدب الحمية فينا أكثر فأكثر، وننضم إلى حزبه، راح ينفث فينا سموم الطائفية فيقول: لنكن صريحين وواضحين، نحن نؤمن بالله ودينه، ونطيع القوانين التي في القرآن، ويحق لنا أن نعلن ذلك دون خوف. ومتى خاف المسلم الأسترالي من إعلان إيمانه بالله، وتمسكه بقرآنه، والحكومات الأسترالية تدفع الملايين من أجل أن يعرف كل إنسان دينه، وأن يتمسك به أكثر؟.
   وكما قلت، فانضمام 500 عضو إلى حزب (كيرت) ليس سهلاً، لذلك أعلنها جهراً أن من حق غير المسلم أن ينضم للحزب البعيد عن فساد الذين يرسلون الأغذية لمساعدة العراقيين، ثم يرسلون الجنود لقتل الأبرياء. 
   أف.. لقد دخلت السياسة في الموضوع، وما دخلت السياسة شيئاً إلا أفسدته.. حتى الأحزاب الدينية.
   الكلمة الوحيدة الصادقة التي نطق بها أخونا (كيرت)، هي أنه لا يضمن عدم دخول متطرفين إلى حزبه، رغم أنهم لن يجدوه مناسباً لهم، إذ أنه حزب ديمقراطي سلمي. وكيف سيكون سلمياً وهو سيفرض على جميع الأستراليين، مسيحيين وبوذيين ولا دينيين وغيرهم وغيرهم، ما يؤمن به فقط، وإلغاء كل ما تؤمن به جميع شرائح الشعب الأسترالي، المكون من طوائف، وإثنيات، ولغات، وأعراق، قد يعجز الحاسب الآلي عن تعدادها؟.
   لا لن يصبح الإسلام حائطاً للتلطي وراءه، فالمسلمون المسلمون، أنى وجدوا، باتوا يدركون أن إسلامهم ما جاء إلا رحمة للعالمين، وهذه الرحمة لن تتحقق إلا بالتعايش واحترام قوانين الدول التي يعيشون بها، ويعتاشون منها، وهذا ما يحصل الآن في أستراليا، ففتش عن غيرها يا (كيرت)!
**
رؤساؤهم.. ورؤساؤنا
    
   فاجأ رئيس ولاية نيو ساوث ويلز السيد بوب كار أعضاء حزبه العمالي وسكان الولاية باستقالته، لا لشيء، إلا لأنه استمتع بالمناظر الخلابة، بعد يوم واحد قضاه هو وزوجته في أرجاء الطبيعة، بعيداً عن الحكم، وأحس، لأول مرة، أنه خسر الكثير من الأيام الطبيعية الجميلة طوال عشرين سنة قضاها في الحكم، وهذا ما لا يغفره لنفسه 
   يوم واحد جميل وهادىء كان كافياً لأشهر زعيم عمالي بتاريخ أستراليا، وأطولهم حكماً، كي يقدّم استقالته، حتى لا يحرم بعد الآن من النزهات في أرجاء الطبيعة، فاضي البال، مشرق الوجه، وبعيداً، كل البعد، عن الأضواء وهموم الحكم. حياته الخاصة تأتي أولاً، بعد أن أعطى بلاده أجمل وأنضر سني حياته، أفلا يحق له التنزه والترحال من مكان إلى آخر دون إزعاج، أو دون مطاردة الصحفيين له؟ بلى والله.
   هكذا يفكّر الرؤساء في الغرب، إذ أن رئاستهم وظيفة، متى ضجروا منها استقالوا، وفتّشوا عن عمل آخر. وكم ستكون دهشة القراء العرب قوية إذا أخبرتهم أن أحد الرؤساء الأستراليين (نيفيل راين) عاف الحكم من أجل تأسيس وكالة لتنظيف المكاتب، أي أنه أصبح زبالاً بعد أن كان رئيساً، دون أن يرف له جفن، أو أن تنقص قيمته الإجتماعية أو الحزبية، فالتجارة عند الغربيين أهم من الحكم، طالما أن الحكم لا يدوم، والتجارة باقية.
   أما في دولنا العربية التعيسة، فالرؤساء لا يستقيلون من مراكزهم، ولو عمّت التظاهرات البلاد، وانتهك الدستور، وصاح مليون مواطن
   كفى، واحتجت جميع وسائل الإعلام وفندت أخطاءهم، هم متمسكون بالحكم، شاء من شاء، وأبى من أبى، لا تهمهم النزهات كبوب كار، ولا جمال الطبيعة، حتى ولا تأسيس تجارة كذاك الرئيس السابق، والزبّال الحالي بشرف ما بعده شرف.
   منذ أسبوعين، زغردت الأمة العربية من المحيط إلى الخليج، وأقيمت الحفلات الغنائية الراقصة، ودبجت مئات المقالات الأدبية والسياسية والقصائد العصماء، حين أعلن الرئيس اليمني علي عبد الله صالح أنه لن يترشح للرئاسة في الدورة المقبلة، أي أن شهوراً طويلة ستنقضي قبل أن يصبح الوعد حقيقة، خلالها سيخلق الله للشعب اليمني ما لا يعلم، وها هي الأحداث تترى، والتظاهرات تعم البلاد، والمستشفيات تنوء بالقتلى والجرحى من الشعب الفقير، المغلوب على أمره، والرئيس ينتظر الإنتخابات القادمة، هذا إذا حصلت تلك الإنتخابات.
   كان على الرئيس اليمني، لو كان جاداً، أن يدعو إلى مؤتمر صحفي مفاجىء، كما دعا بوب كار، ويعلن استقالته، عندئذ يحق لنا تمجيده وحرق البخور تحت أقدامه. بوب كار حاكم شجاع أما علي عبد الله صالح فمتردد وطامع بالحكم.. ولو لأشهر قليلة، هذا إذا صدق بوعده.
   أما إذا تطلعنا صوب مصر، فنجد أن الرئيس حسني مبارك قد ناهز السابعة والسبعين من العمر، ومع ذلك فهو يطمع بست سنوات إضافية توصله إلى الثلاثة والثمانين، أو إلى القبر، لا سمح الله، دون أن يفكّر براحته، بصحته، بعائلته، بكتابة مذكراته أو بالتنزه في أرجاء الطبيعة الخلابة دون حرس أو مرافقين، صحيح أن الحياة حلوة، ولكن الحكم بنظره أحلى،أما يقول المثل: لو آلت لغيرك لما وصلت لك، فلماذا يسلمه لغيره على طبق من ذهب، طالما أن بإمكانه الاحتفاظ به إلى أن يأمر ربه.
   عجيب أمر رؤسائنا في الوطن العربي، نتعب منهم ومن مناظرهم، ولا يتعبون منا، يريدون أن يحكمونا، ولو بالقوة، إلى أبد الآبدين، بينما الرؤساء في الغرب، فيتعبون من الحكم، قبل أن يتعب منهم، ويرتاحون من أعبائه قبل أن يريحهم شعبهم، أو الله تعالى.. هم يعرفون حدودهم فيتوقفون عندها، ولذلك يخلدهم التاريخ، أما رؤساؤنا فيخجل التاريخ من ذكر سيئاتهم.. وهل عند من يتمسك بالحكم حد الجنون من حسنات؟ بالطبع لا.
**
صرخة أطفال العراق.. من يسمعها؟
    
   عندما يتظاهر أطفال العراق في ساحة الفردوس البغدادية من أجل المطالبة بالإفراج عن صديقتيهم الرهينتين الإيطاليتين سيمونا تورتريتا وسيمونا باري، تأكدوا من أن صياحهم قد لاقى الأذن الصاغية عند ساكن الفردوس الإلهي الأعلى.
   وعندما تمسك الأمهات بأيدي أطفالهن الصغار غير عابئات بالخطر الذي قد يتعرضن له، ويهتفن بأعلى أصواتهن: أطلقوا سراح عاملتين إنسانيتين جاءتا العراق من أجل مساعدة أطفالنا المساكين، تأكدوا من أن مريم العذراء قد أمسكت بيد يسوع، وفاطمة الزهراء قد أمسكت بيد زينب، وأن جميع الأنبياء قد تضامنوا مع الأطفال، وسكبوا اللعنة على مضطهديهم.
   لقد حاولت (السيمونتان) الإيطاليتان بناء (جسر إلى بغداد)، لتحوّلا صيفها الدامي الحار إلى (صيف حلو)، فإذا بالأيدي الشريرة تهدم الجسر، وتنهي الصيف بفاجعة أصابت أطفال العراق في الصميم.
   لا لن يرضى العراقيون الصغار باختطاف صديقتيهم من بين أحضانهم دون أن يحرّكوا ساكناً، فها هم يتظاهرون، وها هم يستدرون عطف أطفال الكون أجمع، وها هم ينتصرون ببطولتهم الإسلامية المحبة للسلام، على جبن من يأخذ الإسلام ذريعة وهو أبعد ما يكون عنه وعن تطلعات وأحلام بنيه.
   إذا كان برلسكوني، ساكن قصر (كيجي)، قد أرسل جيشاً إلى العراق، فما ذنب تورتريتا وباري ساكنتا الخيم والمخيمات الإنسانية؟. ما ذنبهما وهما على خلاف سياسي شديد معه، كونهما ضد الحروب، وضد القتل والدمار؟.. ومع ذلك وقعتا ضحية حقد الإرهاب الأعمى المعادي لكل ما هو إنساني.
   حسنة الإرهاب الوحيدة أنها بدأت توحّد بين الحكام ومعارضيهم في الدول التي تتعرض لإرهابهم، وهذه آفة كبرى بالعرف الديموقراطي، كون المعارضة وجدت أصلاً لمحاربة الحكومة وكشف ألاعيبها بغية إسقاطها، لذلك من المستحسن، لا بل من المفروض أن لا تتوحّدا.. وها هي المعارضة الإيطالية التي ترفض إرسال جيوش إلى العراق قد نددت بالإرهاب وعرضت المساعدة على غريمها الحاكم برلسكوني، ومن يدري، فقد تشكل معه جبهة موحدة ضد الإرهاب. وهذا ما حصل مؤخراً في أستراليا بعد ضرب السفارة الأسترالية في جاكرتا، فلقد اجتمعت الحكومة والمعارضة في خندق واحد، وتناسى الطرفان الحملات الانتخابية الحامية، والتنافس على الفوز بالحكم، بغية محاربة الإرهاب والتصدي له.
   فإذا كان (أنصار أيمن الظواهري) حقاً أنصاراً له، وجب عليهم احترام شهادة الطب التي يحملها، والتي تدعو للرحمة، ولتطبيب العدو قبل الصديق، فكم بالحري هؤلاء الأطفال الذين حرموا من ملاكين يبلسمان جراح أفئدتهم اليافعة، فراحوا يهتفون لإطلاق سراحهما في بلد أضاع حاسة السمع، وانطبق عليه المثل القائل: لا حياة لمن تنادي.
   الوفود الإيطالية التي أرسلها برلسكوني إلى مصر ولبنان والأردن واليمن وسوريا لن تجدي نفعاً، ولن تطلق سراح هاتين الفتاتين، بل قد تزيد مأساتهما تعقيداً، لأن لا أحد من الخاطفين سيصغي لحكام تلك الدول المستهدفة أيضاً. وحدهم أطفال العراق، متى تحرّكوا بالآلاف، كما تحرّكوا في ساحة الفردوس، قادرون على تغيير وجه عراقهم الغالي، وإطلاق سراحه وسراح أصدقائهم من اعتقالهم القسري، لأنهم مستقبله الزاهي، من بين أصابعهم ستشرق شمس حريته، وعلى أكفهم ستتراقص حوريات فردوسه، وعلى مسامعهم ستغني بلابله ألحانها الجميلة، فإذا لم يستجب لصرختهم الخاطفون فلصراخ من سيستجيبون؟
   صرخة أطفال العراق بمليون صرخة، فمن له أذنان سامعتان فليسمع.
**
الأستراليون ليسوا كفرة
   
   كل يوم، لا بل كل دقيقة تتناقل وسائل الإعلام العربية والعالمية أخبار اختطاف الرهائن الأبرياء في الوطن المسلوب الإرادةً.. العراق. وقد كان آخرها خبر اختطاف اثنين من الأستراليين (الكفرة)، على حد تعبير مؤمني (كتائب الأهوال) الذين كتبوا البيان، وعلقوه كالخفافيش على جدران مدينة سامراء.
   هذه المرّة لن أتكلّم عن المخطوفين الأستراليين كما تكلّمت عن الرهينتين الإيطاليتين، بل سأتوقف عند كلمة (الكفرة)، التي يصمون بها كل من ليس بمسلم، لا بل راحوا يصمون بها كل مسلم حر أبي يختلف معهم بالرأي، تماماً كما كانت تفعل، وما زالت تفعل، بعض الأنظمة العربية مع معارضيها، يوم كانت تودعهم المقابر أو السجون بتهمة العمالة.. لمن؟.. لست أدري!.
   اسمعي يا (كتائب الأهوال): لقد عشت في أستراليا حتى الآن 35 سنة، أي أنني أصبحت أعرفها وأعرف شعبها العظيم المسالم المضياف أكثر مما أعرف وطني الأم لبنان الذي تركته وأنا أجر ورائي 20 عاماً لا غير. ولو طلبت مني أستراليا دم قلبي لقدمته لها على طبق من ضلوعي. إنها دولة نموذجية أتمنى أن يتحول العراق الذي تدعين تحريره عن طريق الخطف والذبح، وكل العالم العربي، إلى أوطان مماثلة، تحترم العرق والدين واللغة والتعدد الثقافي وحرية التعبير كما تحترمها أستراليا.
   أنت تحترفين قطع رؤوس ضيوف العراق، والأستراليون يحترفون الحنان والعطف وتضميد جراح ضيوفهم، وزرع الطمأنينة في نفوسهم القلقة المعذبة.
   أنت تتهمين كل من ليس على شاكلتك بالكفر، والأستراليون يبنون المعابد والجوامع، ويسمحون للمسلمين، أيام الأعياد، بالصلاة في شوارعهم، وسط حراسة مشددة كي لا تؤذيهم برغشة، أو يعكّر صفو صلاتهم زمور سيارة مارة في شارع مقابل. تصوّري أن أحد رجال الدين المسيحيين طالب بمنع الحجاب في أستراليا فإذا بالشعب الأسترالي المسامح يفقأ بعينه حصرمة ويقول: لا.. لأن الحرية بنظره لا تتجزأ. فكيف لا ننتمي لهذا الشعب الحر العادل؟ وكيف لا ندافع عنه؟
   أنت تخطفين الرجال والنساء والأطفال، والأستراليون يؤمّنون لهم المنازل الحكومية بدفعات رمزية، الحكومة تدفعها لهم أصلاً، كي لا تبقى عائلة مشتتة، ولا طفل دامع أو جائع.
   أنت تبيحين الموت الحرام، والأستراليون يطبّبوننا، مسيحيين ومسلمين، مجاناً، كي تطول أعمارنا وننعم بضيافتهم الإنسانية الرائعة التي حرمنا منها في أوطاننا العربية.
   أنت يا (كتائب الأهوال) تزرعين الهول أينما حللتِ، والأستراليون يزرعون المؤسسات الخيرية والإنسانية أنى وطأت أرجلهم، بغية مساعدة أبنائنا وأبنائك المحتاجين، أجل أبنائك أنت بالذات، وإن كنت تنكرين.
   أنتِ تحرّمين على من تعتقليهم النطق بالشهادة قبل الموت، كما فعلت مع الكثيرين من المسلمين الذين يبحثون عن لقمة عيشهم ليس إلاّ، والأستراليون يعلمون أبناءنا لغة الضاد، وتجويد القرآن، ويدعمون وسائلنا الإعلامية كي نتابع أخباركِ المقرفة من خلالها، وكي لا نشعر، ولو للحظة واحدة، أننا غرباء. ناهيك عن حريّة التعبير التي يقدّسونها، عكسك تماماً. أجل، لقد علّمتنا أستراليا أن ننصر قضايانا العربية بالتظاهر السلمي، وأن نشتم حكّامها، وأن نرميهم بالبندورة والبيض، وأن نعود إلى منازلنا آمنين من غدرات الزمن، ومن زيارة أشباح (الهول) لنا.
   الإنتخابات الأسترالية على الأبواب، ومن يدري، فقد تطيح الحرب العراقية برئيس وزرائنا جون هوارد (الكافر) على حد تعبيرك، لأن معظم الأستراليين ضد قراره الحربي، وأنا واحد منهم، فإذا، اسمعي جيّداً، طارت شعرة من رأسيْ هذين الأستراليين البريئين، فلسوف تنقلب الأمور رأساً على عقب، ولسوف تكونين أنت يا (كتائب الأهوال) السبب في جلوس جون هاورد (الكافر) على كرسي الرئاسة مرّة رابعة، لأننا جميعاً، مسلمين ومسيحيين، سننقلب عليك وليس عليه، وسنصوت له وليس لغريمه العمالي المطالب بسحب قواتنا من العراق بأقرب فرصة ممكنة، لأنك بجريمتك هذه تكونين قد أثبت لنا بأن جون هاورد كان على حق حين أرسل جيشنا لمحاربة الإرهاب.. وهل من إرهاب أشنع من هذا؟!
   الأستراليون ليسوا كفرة.. بل الكافر من يخطف الناس ويقطع الرؤوس ويزهق الأرواح باسم الله تعالى، والله أبعد ما يكون عنه وعن جرائمه.
**
دلّل أيها الدلال الرهائن للبيع
   
   يكاد المتتبّع للأمور السياسيّة في العراق أن يصاب بالجنون، نظراً لوساخة الأحداث المتلاطمة كالرياح، والمتفجرة كالبراكين، وقد توافقونني الرأي إذا قلت: منذ بدء التكوين لم تشهد كرتنا الأرضية أحداثاً مقرفة للغاية، كالتي يتعرّض لها شعب مثقّف ومسالم، أوقعه سوء طالعه بين أنياب حفنة من الذئاب الجائعة للدم وللمال في آن واحد.
   لقد قاوم الفلسطينيون الإحتلال الإسرائيلي مقاومة شريفة، فكانوا يردّون على كل هجوم يقوم به بهجوم مماثل، ورغم التفجيرات البشرية، ورغم هدم المنازل وتشريد أصحابها، ورغم اغتيال القيادات الفلسطينية وملاحقتها، بقيت الحرب حرباً، والمقاومة مقاومة حسب المفهوم العام والصحيح، ولم تعرض السبايا للبيع، أو تقطع رؤوس العمال الأجانب والصحفيين، أو تبيح المحرمات، كما يحصل الآن على ضفاف دجلة والفرات.
   ولقد تحارب اللبنانيون على قطعة سمائهم أكثر من عشرين سنة، فهدموا كالثيران الهائجة كل ما بنوه بألفيْ عام، وقسّموا الوطن كانتونات طائفية ضيقة ومعتمة وبغيضة، وشردوا مواطنيهم في كافة أصقاع الأرض ولكنهم لم يتاجروا بالرهائن، ولم يعرضوا أجساد من جاؤوا لمساعدتهم في سوق النخاسة، وبعد انتهاء الحرب عادت المياه إلى مجاريها، وعاد الجار لمعانقة جاره وكأن شيئاً لم يكن.
   أما الشعب العراقي البريء فقد كان بلاؤه أبعد ما يكون عن التصوّر الحيواني، كي لا أقول الإنساني. وآخر صرعات (رجال مقاومته) هي بيع رهائنهم لبعضهم البعض كما تباع السجائر والمعلبات والشاطر والمشطور والكامخ بينهما. مجرمون يخطفون الأبرياء، ومجرمون يدفعون ثمنهم، والله يعلم أين تتم عملية استلام البضاعة البشرية، وبأي عملة يقبضون ثمنها، وكيف تتم عملية تصريفها في سوق الإرهاب الدولي؟.
   لقد باع هؤلاء المقاومون ضمائرهم، وخسروا آخرتهم، وكفروا بربّهم، وكرّهوا أمتهم العربية بهم، من أجل حفنة من الدولارات، قد لا تغني عن جوع. وها هم يعرضون للبيع الرهينتين الإيطاليتين، اللتين جاءتا لمساعدة أطفال العراق، دون أن يأبه أحد منهم بتظاهرات الصغار أو بصراخهم الدامع. ومن يدري فقد يبيعون معهما أيضاً صديقهما الدكتور العراقي رياض علي عبد العزيز الذي يعمل معهما في نفس المؤسسة الخيرية.
  (على أونا، على دوا، على تري)، دلّل أيها الدلال، كما كنت تفعل بالعبيد والمماليك والسبايا، أيام الهمجية السوداء، ولا يهمك حكم التاريخ، فتاريخنا العربي لا يدوّن، وإن دوّن فسيلحقه التزوير.
   وها هي إحدى الأمهات تخطف ابنتها ـ أجل ابنتها ـ بمساعدة أبنائها الآخرين، من أجل طلب الفدية من زوجها، دون أن يرف لها جفن، أو أن يتشفّع قلب أمومتها بطفلتها المسكينة. إنها موضة الخطف في العراق، وأرجو أن لا يقلّدها أحد على وجه الأرض، كي لا ينكر الله مخلوقاته، إذا كان هؤلاء حقاً منها.
   المقاومة، يا رجال أبي لهب، تجعل الشعوب تتباهى فخراً، والأكف تلتهب تصفيقاً، والقلوب تنبض حباً، والأعين تبكي فرحاً، والشعر يغني ملاحمها، والتاريخ ينحني أمام أبطالها ويقبّل الثرى. أما مقاومتكم أنتم، فكيف سنتغنّى بها، إنها كوكتيل من الجهل، والعهر، واللعنة، والنقمة، والحقد، والطائفية، والموت الحرام، والتجارة المشبوهة، والرقيق الأبيض.
   وليكن بمعلومكم أن (دولة طالبان) غير مسموح بها في العراق عالمياً وعربياً وإسلامياً ولو محوتم الناس قاطبة، وعودة (دولة صدّام) غير مسموح بها عالمياً وعربياً وعراقياً وإنسانياً وقانونياً ولو فتحتم كل أبواب الجحيم.. فخافوا الله، إذا كنتم قد سمعتم به، واتركوا هذا الشعب العظيم يبني دولته على أسس متينة من الرفاهية والتعايش والمحبة والديمقراطية، لأن هذا ما سيحصل رغم أنوفكم، كونكم غير قادرين على خطف وبيع وقتل 25 مليون عراقياً، أرادوا الحياة و(لا بد أن يستجيب القدر).  
**
إلى جهنّم وبئس المصير
   
   هل رأيتم جثث الملائكة الصغار، ملطخة بدماء البراءة، ومزروعة كالأزهار الربيعية في حي العامل الشعبي في غرب بغداد؟.. لقد جاؤوا ليشاهدوا بأعينهم الجميلة تدفق المياه العذبة بعد جفاف وعطش وقحط، فإذا بأحد رجال أبي لهب يحول بهجتهم مأتماً، وابتساماتهم عويلاً، ويفجّر بدل المياه دماءهم، بعد أن سرقهم واحداً واحداً من أحضان أمهاتهم، وزرعهم، من حيث لا يدري، 37 نجماً مشرقاً في سماء العراق، هو عدد الأطفال الذين حصدهم بكرهه ولؤمه وحقده وانطوائيته.
   هل قرأتم ما قاله الشيخ أحمد عبد الغفور السامرائي، أحد البارزين في هيئة علماء المسلمين السنية، من أن " من يقتل نفسه من أجل كرهه لشخص ما، فيقتل عشرات العراقيين مدعياً بأنه استشهادي، فهو منتحر وإلى جهنم وبئس المصير".
   هل رأيتم وجه تلك المرأة العراقية الملطخ بدماء أطفالها؟ إنه يخبرنا بتقاسيمه الحزينة عن ظلم ذوي القربى، الذين أعمت البغضاء أعينهم، فلم يعودوا يميزون بين قريب وغريب، أو بين صديق وعدو. هل رأيتموها كيف تشد شعر رأسها وتولول وتستثغيث برب الأرباب، ذلك العلي القدير الذي باسمه تصدر الفتاوى، وباسمه تزهق أرواح الأبرياء، وله تتعالى هتافات التكبير إثر كل عملية فوضوية مدمرة مجرمة بلهاء. 
   هل قرأتم أيضاً ما قاله ذلك السامرائي السني العظيم، بعد أن أركعته المصيبة، وأبكته دماء الأبرياء، وألهب قدسيته صراخ نساء أمته المولولات، فلقد قال، حماه الله: لماذا يلاحق الشرطي أو غيره؟ هل هذا هو الدين؟ هل هذه هي الفتوى؟ ومن المسؤول عن الفتوى لإعطائها للذين ينتحرون فيقتلون عراقيين بحجة أنه تحرير أهل البلد؟".
   هل رأيتم دماء المئات من العراقيين الأبرياء كيف خطت فوق تراب الوطن قصص الخوف والموت والإرهاب؟ وكيف صاحت بصوت واحد: واربّاه؟    
   وهل قرأتم أيضاً وأيضاً كلام ذلك الشيخ الشيخ عندما قال: من المسؤول عن السيّارات المفخخة التي بدل أن توجّه ضد المحتلّين، أصبحت توجّه ضد العراقيين أطفالاً ونساءً وشيوخاً؟".
   هذا كلام.. والله هذا كلام.. لا قبله ولا بعده.. لا فوقه ولا تحته.. حتى ولا بين جوانبه.. إنه كلام رجل دين عرف الحق فحرره، وعرف الله فنصره، وأحب بلاده فبكى قتلاها.
   لقد غنّيت المقاومة في قصائدي، ابتداء من الجزائرية، مروراً بالفلسطينية، وانتهاء بالمقاومة اللبنانية، عدا التشي غيفارية والفيتنامية وغيرهما، ولكنني، مثلي مثل العديد من الأدباء والشعراء، أصبت بالإحباط والإشمئزاز والقرف المميت من تصرفات المقاومة العراقية، لماذا؟ لأن المقاومة، مهما تدنت مستوياتها، لا تؤذي شعبها، إذ أنها وجدت أصلاً من أجل حمايته ونصرته وتأمين العيش الأفضل له، وتخليصه من الإحتلال، لا رميه في أحضانه بغية التخلص منها ومن إجرامها، كما يحصل الآن.
   لا يحق لأي مقاوم، مهما كانت الأسباب والظروف، قتل مواطن بريء في بلده، فكم بالحري إذا كان هذا المواطن طفلاً صغيراً جاء يحتفل بتدفق الماء الزلال إلى فمه المنمنم العطشان. 
   المقاومة المقاومة هي التي تحدد أهدافها بتأنٍ بالغ، إذ لا يحق لها أن تضرب ضربتها وهي تردد: أنا أعمى ما بشوف.. أنا ضرّاب السيّوف. كونها مسؤولة أمام شرفها الثوري عن البنيان والإنسان في بلد تعمل من أجل تحريره، لا من أجل تدميره.
   لقد كنت وما زلت ضد أي احتلال كان: أميركي.. إسرائيلي.. عربي إلى آخر المعزوفة المضجرة. كما أنني ضد قصف المدن الآهلة بالقنابل المدمرة القاتلة، التي تقضي على كل القيم الإنسانية في زمن الديمقراطية والعولمة والانفتاح.. ولكنني كنت وما زلت أيضاً ضد اصطياد وقتل أبناء الوطن الواحد في الجوامع والكنائس والشوارع والساحات بتهمة التعامل مع العدو.. فوالله والله، لو قال لي الله تعالى أن أولئك الملائكة الصغار الذين اغتيلوا في غرب بغداد من عملاء العدو ويحق قتلهم، لكفرت به، ولقلت له ولقاتليهم ما قاله لهم شيخنا السامرائي: إلى جهنم، وبئس المصير.
**
لا تسيئوا لأم الدنيا.. مصر
   
   منذ سنوات زرت مصر من أجل الإستجمام والإلتقاء بصديقي العزيز الدكتور رفعت السعيد رئيس حزب التجمع الوطني، فتركت تلك الزيارة أثراً مفرحاً في قلبي قد لا تتمكن السنون من محوه، أو التلاعب به.
   ولهذا، رحت أتتبّع أخبارها، فأفرح لفرحها وأحزن لحزنها، وأغضب إذا أساء إليها أحد، فلقد انغرست محبّتها ومحبّة شعبها الوفي الكريم المرح المضياف في قلبي، وأصبحت مصر غنوتي منذ وطأت ثراها، وتنشّقت هواءها، وداعبت مياه نيلها.
   ولا أخفي عنكم خوفي حين دخلت مكاتب جريدة الأهالي وحزب التجمع الوطني، بعد أن أخضعوني للتفتيش الدقيق قبل الدخول، فلقد شعرت بانقباض داخلي قاتل، ورحت أتصور شبح الموت الذي يلاحق السياسيين والصحفيين الأحرار في مصر. فلولا التهديد المتواصل الذي يتعرضون له، لما أمنت الدولة لهم حراسة مشددة. ممن؟ من الإرهابيين المتأسلمين، على حد تعبير صديقي الدكتور رفعت.
   وها أن حالة الإنقباض القاتل تعتريني من جديد، بعد أن قرأت خبر ملاحقة الكاتب أسامة أنور عكاشة من قبل الأزهر والمتأسلمين والنائب العام بسبب رأي أعطاه بالصحابي عمرو بن العاص، قد أعترض عليه، ولكن لا يحق لي، مهما كانت الأسباب، أن أنكّل بصاحبه، أو أن أطلّقه عن زوجته، أو أن أدخله السجن، أو أن أرحّله خارج مصر، أو أن أقتله لا سمح الله.
   من أنا، ومن أنت، ومن نحن، حتى نحاسب إنساناً آخر باسم الله تعالى؟.. فإذا كنّا نؤمن بيوم الدينونة والحساب، وجب علينا أن نترك حسابنا بيد خالقنا، وليس بيد عبيده المناحيس الظالمين، الذين لا ولن يحلّوا محل العلي القدير، ولو وقعت السماء على الأرض. هو الخالق وهو وحده الديان، ومن يسبق أحكامه بخلقه، يكون المجرم، والكافر، والسفّاح.
   حرية الرأي والتعبير لا يمكن أن تكون مجزوءة، فإما أن تكون كاملة كعين الشمس، وإما أن تكون قد تعرّضت للكسوف والخسوف والتعتيم والمصادرة. وصدقوني أن أشد أنواع الإرهاب هو الإرهاب الفكري الذي يتقنه الحاكم ورجل الدين في شرقنا العربي التعيس بدون أدنى رحمة.
   لقد ضحك علينا العالم أجمع، حين تعرّضت الدكتورة نوال السعداوي لألف مقلب ومقلب، دون أن تتزعزع مكانتها الأدبية أو العلمية، أو أن تغيّر حرفاً واحداً مما كتبت، وقد لا أذيع سراً إذا قلت: إن تلك المطارادات والملاحقات التي تعرّضت لها قد زادت من شهرتها العالمية، ووضعتها بمصاف مدام كوري وغيرها.
   كما ضحك علينا العالم أكثر حين فرّقت إحدى المحاكم المصرية التعيسة المتخلفة بين الدكتور نصر حامد أبو زيد وزوجته الدكتورة ابتهال يونس، ورمته هو وزوجته خارج الأرض التي أحب. لماذا؟ لأنه خرج عن الدين!. وما هو الدين الحق يا جماعة؟ أهو الذي يفرّق الزوج عن زوجته؟ أم الذي يوحّد العائلة ويجمعها تحت كنفه؟. ومتى كان الدين حماراً يركبه بعض الرجال الملاعين، فإذا توقّف أفتوا.. وإذا أسرع أفتوا.. وإذا كبا أفتوا أيضاً. ومن قال أن هؤلاء الرجال الأميين بمعظمهم، أوسع معرفة بدينهم من دكاترة كنوال السعداوي ونصر حامد أبو زيد ورفعت السعيد وغيرهم وغيرهم. لقد تعب مثقفونا وأدباؤنا ودكاترتنا، وسهروا الليالي من أجل بلوغ المعرفة، أما رجال الدين، بمختلف طوائفهم كي لا أتهم بالطائفية، فقد دخلوا سلكهم، إماً طمعاً بالمال، وإماً طمعاً بالحوريات العين، والويل لمن يقف بوجه أميّتهم ووصوليتهم وحقدهم وطائفيتهم ونرجسيتهم على كل ما هو خيّر وإنساني، فله الجحيم في هذه الدنيا التي يحكمون، وله النعيم ورضى الله تعالى في الحياة الثانية، نكاية بهم.
   لقد بدأت الوحوش تنهش بلحم الكاتب أسامة أنور عكاشة، لا لشيء، سوى لأنه فتح فمه وتكلم في بلد أعطى الدنيا أعظم حضارة فرعونية على الإطلاق، ما زال الكون، من مشرقه إلى مغربه، يقف مشدوهاً أمام عظمتها. فأرجوكم أن لا تشوّهوا تلك الحضارة، وأرجوكم أن لا تُضحكوا العالم علينا مرة أخرى، وأرجوكم أن لا تتلاعبوا بالإسلام، وتحولوه من رحمة إلى نقمة، وأرجوكم، وهذا رجائي الأهم، أن لا تسيئوا لأم الدنيا مصر.
**
ساعدوا ضحايا الإرهاب
    
   بعد استهداف فندق الهيلتون في منتجع طابا السياحي وعدة أماكن أخرى، ترفد الاقتصاد المصري بملايين الدولارات وتنعشه، تماماً كما كانت جزيرة (بالي) ترفد الاقتصاد الأندونيسي بدولارات السيّاح الأستراليين، قبل أن يحل فيها الموت والخوف والركود الاقتصادي والبطالة. 
   وبعد تفجير السفارة الأسترالية في جاكرتا، الذي أعاد جون هاورد إلى الحكم بأغلبية ساحقة، بعد أن شعر الشعب الأسترالي أن الإرهاب لا يقاومه إلاّ الرجال الرجال كأمثال هاورد وبلير وبوش، وأعتقد أن بلير وبوش سيعيدهما الشعبان الإنكليزي والأميركي إلى الحكم نكاية بالإرهاب ليس إلاّ، هنا يظهر غباء الإرهاب الشديد، وعدم تفهّمه لعقليات الشعوب، همّه أن يضرب، كيفما كان وأينما كان، دون استراتيجية ذكيّة أو حنكة سياسية.
   وبعد التفجيرات اليومية التي يتعرّض لها الشعب العراقي المسالم، والتي قضت على الآلاف منه، وبعد استهداف شعوب السعودية وتركيا وإسبانيا وروسيا وأميركا ولبنان وفلسطين والأردن وغيرها وغيرها، وبعد اختطاف الرهائن الأجانب والعرب وذبحهم كالخراف، وجب على كافة المؤسسات العربية أن تتحرّك، كي لا أقول الحكومات.
  عندنا في أستراليا، إذا ألقوا القبض على تاجر مخدرات، يصادرون أمواله وممتلكاته، ويوزّعونها على ضحاياه، وقد نجح هذا القانون نجاحاً مشجعاً، جعل مروّجي المخدرات يفكّرون طويلاً قبل الإقدام على ترويجها، حتى لا يقعوا في يد العدالة والقانون، ويخسروا كل ما جنوه من تجارتهم المربحة.
   ولا يقتصر هذا القانون على مصادرة أموالهم فحسب، بل يشمل كل الأموال والممتلكات المهربة بأرصدة وأسماء زوجاتهم وأبنائهم وأقاربهم، إذا اكتشفت الحكومة، من قريب أو بعيد، أنهم قاموا بتهريبها، كي يحموها من المصادرة، وكي تبقى لهم معيناً لدى خروجهم من السجن.
   هكذا يجب أن تفعل دولنا العربية التي أقلق الإرهاب راحة بنيها، وأودع منهم في القبور والمستشفيات ما لا عدّ لهم، فلقد قضى على أبرياء كثيرين، لا ذنب لهم إلاّ أنهم كانوا هناك ساعة حقده المميت.
   لقد قرأنا أخباراً كثيرة عن مصادرة أموال كانت بحوزة الإرهابيين، ولم نسمع خبراً واحداً عن توزيع هذه الأموال على ضحاياهم، وصدقوني أن لا شيء يغيظ الإرهابي أكثر من توزيع أمواله، مهما كانت، على أناس استهدفهم بغية سحقهم، فحصّلوا منه، وتطببوا بماله، وعادوا لممارسة حياتهم الطبيعيّة التي حاول أن يحرمهم منها.
   لقد صادرت أميركا وحدها ملايين الدولارات، فأين هي؟ ولماذا لا توزّعها على ضحايا الإرهاب في كل مكان، طالما أن الحرب عليه واحدة، وضحاياه، أينما كانوا، ضحايا العالم أجمع.
   عندما ضربنا الإرهاب في جزيرة بالي الأندونيسية، وقتل من قتل، وشوّه من شوّه، وأرعب من أرعب، تنادت المؤسسات الإعلامية والجمعيات الخيرية والفنية الأسترالية لجمع التبرعات للمصابين، فجمعت الملايين من الدولارات، وزعتها على العائلات الأسترالية المصابة بفقيد أو بمشوّه، ولم تكتفِ بذلك، بل عملت على مساعدة أبناء جزيرة بالي المتضررين مثلنا.
   وأذكر أن الجاليات العربية، وخاصة الإسلامية، قد تبرعّت بالكثير من أجل إعادة البسمات إلى ثغور أناس طيبين، أحبوا أن يقضوا إجازتهم في جزيرة آمنة، فإذا بالجزيرة تنقلب إلى جحيم يحرقهم ويقضي عليهم.
   وأذكر أيضاً أن الحكومة الأسترالية قد أدت قسطها الكامل من التبرعات، لمساعدة ضحايا جزيرة بالي، دون أن تتلكأ ولو للحظة واحدة، أو دون أن تدعي أن الإرهابيين سيفرحون عندما يعلمون أنها بدأت تخسر الملايين من جراء ضربتهم الحاقدة تلك.
   قد تكون حكوماتنا العربية عاجزة عن التعويض لضحايا الإرهاب، بسبب محاربتها المتواصلة له وملاحقته في كل مكان، ولكن المؤسسات الإعلامية والخيرية والفنية العربية، إذا وجدت.. ويجب أن توجد، قادرة على اجتراح المعجزات من خلال جمع التبرعات لهؤلاء المساكين.
   قد تكون أنت، أو أولادك، أو أصدقاؤك في مكان الحادث، عندئذ ستدرك مدى حاجتك لمد يد المساعدة إليك، لأن الإرهاب، وإن كنت من أشد مناصريه، لن يقول لك متى وأين سيضرب، وقد تذهب ضحية من تساعد وتنصر دون أن يرف له جفن، أو أن يترحم على مناصر مسكين تعيس هو أنت.
   ضحايا الإرهاب لهم علينا حق المساعدة، ومن يتحجّج منّا بألف سبب وسبب، فإنه يشبه النعامة التي تغطي رأسها بالرمل، وباقي جسمها ظاهر للعيان، أو أنه يتغنى بالمثل القائل: (حايد عن ظهري.. بسيطة).
   لا ظهري سيسلم ولا ظهرك، إذا لم نتأهب، ونساعد، ونعضد بعضنا البعض. فإذا تأهبنا، نكون قد أفشلنا ما يخططون لنا، وإذا ساعدنا، نكون قد خففنا من مصائب رمونا بها، وإذا تعاضدنا، نكون قد فوّتنا عليهم فرصة الضحك علينا ونحن نتقاتل من أجل أمور سياسية أو طائفية بغيضة، لم نكن لنفكر بها لولا مخططهم اللئيم.
   حرام أن تتألم عائلة، ونحن نأكل ونشرب.
   حرام أن يتأوه مصاب، وضحكاتنا تصم آذان الشرق والغرب.
   وأخيراً، حرام أن ندّعي الأخوّة العربية، ونحن نتهرّب منها إثر كل حادث جلل.
    فإذا كانت دولنا عاجزة عن التعويض، وجب علينا الإقتداء بالغرب، وإقامة حفلات فنية وثقافية واجتماعية كبرى بغية جمع الملايين، وتوزيعها على ضحايا الإرهاب، كي لا يبقى قتيل بدون فدية، ولا مشوّه بدون تعويض، ولا مصاب بدون رحمة. هذا ما يحصل في الدول الراقية، وهذا ما يجب أن يحصل معنا. 
**
مسلمون ومسيحيون في طائفة واحدة
   
   تقول الحكاية أن أحد المشايخ اعترض طريق وزير التربية والتعليم السعودي محمد بن أحمد الرشيد خلال حفلة غنائية للأطفال، وقال له:
ـ اتقِّ الله في هذه الدنيا، فهذا لا يرضي الله.
   فما كان من الوزير الشهم المرح الإنسان إلا أن قال:
ـ أنا مسلم مثلي مثلك، وأنت تريدني أن أقطب وجهي ولا أشعر بالفرح.
   لا قطّب الله وجهك يا ابن الرشيد لا في هذه الدنيا ولا في الآخرة، لأن ما قلته يرضي بلابل السعودية الصغار، ويرضي أهاليهم، ويرضي الإنسانية، ويرضي الله تعالى، شاء من شاء وأبى من أبى.
   لقد حاول شيخنا السعودي، من حيث لا يدري، أن يوهم الوزير بأنه على معرفة تامة بالنوايا الإلهية، وأن الله يطلعه على كل شاردة وواردة، على ما هو حلال، وعلى ما هو حرام، أي أنه، بالمختصر المفيد، يتكلّم مع الله دون وسيط، وبهذا يكون قد سبق جميع الأنبياء والمرسلين، الذين، وللأسف الشديد، كلمهم الله عبر ملائكته، وما على الوزير سوى الإنصياع لرغبته، التي هي، حسب كلام الشيخ، رغبة الله تعالى.
   وتقول الحكاية أيضاً أن خمسين شيخاً، غير الناطق باسمه تعالى، قد غادروا القاعة احتجاجاً على تقديم أوبريت غنائية مدتها عشر دقائق فقط، أراد ملائكة السعودية الصغار أن يجمّلوا بها ندوة (الطفولة المبكرة)، وقد حقق الله رغبتهم، وطرد مبغضيهم.
   ولا يعتقدن أحد منكم أن هؤلاء المشايخ هم وحدهم الذين يرفضون حضور الحفلات الغنائية، وينسحبون منها، ويحتجون عليها، بل أن بعض الطوائف المسيحيّة المتشددة أيضاً تمنع المنتسبين إليها من حضور حفلات الطرب، كما تمنعهم من التدخين ومن العزف على آلة موسيقية إلاّ ضمن الكنيسة، ومن معاشرة حبيبة قلب شاعرنا الخالد أبي النؤاس: الخمرة. وإذا أجرينا معادلة بسيطة بين ما يمنعه المتشددون من المسلمين والمسيحيين، لوجدنا أن لهم نفس العقلية، ونفس الأهداف، ونفس الممنوعات، ونفس الفتاوى، وكأنهم أبناء طائفة واحدة.
    قد يقول قائل: الحمد لله، لقد وحّد التزمت الديني المسلمين والمسيحيين في طائفة واحدة، بعد أن عجزت كتبهم المنزلة عن توحيدهم.. ولهذا يجب علينا أن نمنع العصافير من الزقزقة، والرياح من الصفير، والأمواج من الهدير، والنحل من الرنين، وأغصان الأشجار من التصفيق، وأن نلغي جميع الحفلات الموسيقية، ونكفّر باخ وموزارت وبيتهوفن وتشايكوفسكي أصحاب السمفونيات (الرديئة)، والأخوين رحباني ومحمد عبد الوهاب ومنير بشير وتوفيق الباشا ذوي الرؤوس (الفارغة). وأن نمنع الناس من سماع أغاني (المجرمات) أم كلثوم وفيروز والصبوحة ووردة الجزائرية واسمهان ونور الهدى، مروراً (بالكافرات) نانسي عجرم، أم (النص نص)، وأليسا، ولطيفة، وأصالة، وماجدة الرومي، وانتهاءً (بأعداء الدين) عبد الحليم حافظ، وفريد الأطرش، ووديع الصافي، وصباح فخري، وناظم الغزالي، وغيرهم وغيرهم.. مخافة أن تتدخل الكمنجات والنايات والسكسفونات والطبلات والدفوف وتدق إسفين التفرقة بين أبناء الطائفة المسيحية المسلمة المتشددة الواحدة. 
   لم نعد نعرف من يضحك على من.. أهو الله يضحك علينا، أم نحن نضحك على الله، جل جلاله؟ فنسخّره لمصالحنا، ونستنجد به على أعدائنا، ونفتي باسمه مليون فتوى بالدقيقة، ونقتل الكبار والصغار ذوداً عن حياض دينه المنزل، أياً كان هذا الدين، حتى أصبح بعض مشايخنا وكهنتنا أفهم من الله بشؤونه وشؤوننا، فراحوا يخيفوننا به، فإذا ضحكنا صاحوا، وإذا غنّينا ناحوا، وإذا توحّدنا استباحوا، فتصدروا هم الوجاهة، ورموا الله في عالم الغيب.. ومحظوظ من يجده منا في زحمة هذا العالم المجنون.      
**
أحذيتنا العربية أسلحة فتاكة
   
   منذ تكونت البشرية وانقسمت إلى شعوب وبلدان ولغات وحضارات وأديان وطوائف، وكل شعب منها يحاول ابتكار أسلحة جديدة يذيق بها أعداءه مرارة العذاب والموت.
   فالإنسان البدائي الأول لم تكن عنده خيارات كثيرة، فلجأ إلى ضرب الحجارة والعصي، وراح يتفنن بجمعها وشحذها وتسنينها، فكانت أسلحته بيئية، يرحب بها محبو البيئة والمدافعون عنها،  إذ لو رمى المحارب سلاحه لما انتبه إليه أحد، فالحجر يبقى حجراً، والعصا تصبح شجرة وارفة تظلل الإنسان والحيوان والطير.
   وما أن لاحت معالم المدنية في الأفق البشري، حتى اخترع الإنسان المقلاع، وكان أفضل من استعمله النبي داود الذي قضى على وحش الشاشة، كما يسمونه اليوم، المأسوف على قوته وشبابه، أخينا جولييت. 
   وبعد أن اكتشف الانسان النبال والحراب والمنجنيق المدمر، وبعد أن أبحرت المراكب الحربية، التي كان أجدادي الفنيقيون أبرع من صنعها، اخترع الرومان نارهم المحرقة التي عرفت باسم النار الرومانية، والتي تعجز خراطيم مياه الإطفائيات، وأمواج البحار، عن إطفائها.
   أما التتار فلقد اشتهروا بقرونهم وفؤوسهم (أي البلطات والفرّاعات)، وكانوا يركزون ضرباتهم على رؤوس أعدائهم، فتقصّها نصفين، كما يقص الحطاب جذع الشجرة.
   شعبنا الأسترالي الأصلي، أي الأبوردجنال، اخترع سلاحاً طائراً اسمه (البومارانغ ـ Boomarang)، يضرب به عدوه، فإذا لم يصبه، عاد السلاح إلى يده، وقد لا أكون مبالغاً إذا قلت انني رأيت رسماً مشابهاً لذلك السلاح في المتحف المصري في القاهرة، رسمه الفراعنة منذ آلاف السنين، أي أنهم اكتشفوه قبل (الأبوردجنال)،  ومن يدري، فقد يكون وصل إليهم عن طريق الفراعنة، وحضارتهم العظيمة في ذلك الوقت.
   الشعب الأميركي الأصلي، أي الهندي الأحمر، اشتهر بقوس نشابه، فزخرف جعبته، ولون سهامه، وبرع بتصويبه لدرجة الإتقان. ولكن الأمر لم يقتصر على القوس النشاب، بل انتقل إلى المبارزة بالمسدسات، وخاصة في مقاطعة تاكساس، ورحم الله من يصاب أولاً، ويعضّ على لسانه، فلا القانون سيطالب بدمه، ولا قاتله سيسجن، إنها مبارزة الند للند، المنتصر فيها يذهب حراً طليقاً، والخاسر إلى حيث البكاء وصريف الأسنان. أما الآن، فأميركا هي الشرطي العالمي الوحيد، تملك من الأسلحة المدمرة ما يرهب الأعداء والأصدقاء، بالإضافة إلى سكان العالم الفضائي أيضاً.  
   الشعب الإنكليزي اشتهر بقبضاته، أي بضرب (البوكس)، والويل لمن تلحس حنكه قبضة إنسان إنكليزي، إنها كلبطة البغل، ترميه أرضاً، وتفقده الوعي.
   الشعب الفرنسي علّق السيف على خصره، وراح يبارز به خصومه، إلى أن أوصله إلى الألعاب الألومبية، فأصبحت مبارزة السيوف من أهم الألعاب الرياضية في العالم.
   الصينيون اخترعوا (التاكواندو والكاراتيه والكونغ فو وغيرها) ومنعوا تسريب أسرارها، أو تدريب الشعوب الأخرى عليها، كي تبقى لهم ماركة مسجلة، يدافعون بها عن أنفسهم، بعد أن عجز سورهم العظيم من رد أطماع الأعداء بهم، رغم عرضه وطوله وعلوه، حتى أن أرمسترونغ، رائد الفضاء الأميركي الشهير، لم ير غيره على الأرض أثناء قفزه السريع على سطح القمر.
   أما نحن العرب، وبعد آلاف السنين من الإنتظار والتفكير المضني، ومن استيراد واستعمال الأسلحة الروسية والصينية والإمبريالية، كما يحلو للبعض أن يسمي الدول الغربية، وتراكم الفشل، وتكاثر الهزائم، اخترع أحد الموظفين اليمنيين الكبار سلاحاً لم يخطر على بال أحد من شعوب العالم كافة، فلقد خلع حذاءه المبارك الميمون، وراح يصفع به أعداءه الكثر، حتى جندلهم واحداً واحداً، وعاد الحذاء إلى قواعده سالماً، وسط تصفيق جامعة الدول العربية وابتهاجها بالإختراع العظيم المنتظر.
   فإذا جادلك أحد الأشخاص وأفحمك، إخلع حذاءك العربي واضربه على يافوخه حتى يطوش ويقع أرضاً. وإذا طالبك موظفوك بعلاوة مالية يسدون بها غلاء المعيشة، ويطعمون أطفالهم، اقذفهم بحذائك حالاً، حتى لا يتجرأوا مرّة أخرى، ويطالبوا بحقوقهم المشروعة. وأنصحك باختيار أحذيتك العربية بتأنٍ بالغ، إذ أن أكثرها فتكاً هي الجلدية والمسننة والمطعمة بنضوات حديدية توجع العدو، وتدمعه، وتوقعه أرضاً. والله ينصرك على أعدائك.
   أرجو أن لا تتسرّب أية معلومات عن سلاحنا العربي الجديد، وأن لا يُدرّب أحد من باقي الشعوب عليه، فنحن اخترعناه ونحن الأحق باستعماله بغية سحق أعدائنا ورميهم تحت (الصرامي). فلقد آن الأوان كي نملك أسلحة فتاكة، ذات رائحة كريهة، أين منها القنابل الجرثومية، ترفع معنوياتنا أمام الشعوب الأخرى، وتثبت أننا شعب حضاري، يحق له أن ينجب، وأن يربي، وأن يرضع. 
   أحذيتنا العربية أسلحة فتاكة.. أرجو أن لا تمنعنا الأمم المتحدة من استعمالها، فنصبح بعدها، كما كنا دائماً، بدون سلاح.
**
كلام السيستاني آية الكلام
   
   هذا الرجل الرجل الذي لفّ بعباءته المقدسة المتحاربين من أبنائه، يوم عاد من استشفائه في لندن لينقذ النجف الأشرف، ويطهر مرقد إمام الأئمة علي بن أبي طالب، الذي غنيته بعشرين مزموراً، ترجمت إلى الإنكليزية والفرنسية والإسبانية والاوردية والفارسية، آن الأوان كي نسمع ما يقول، ونعمل بما يرتئي.
   لقد طالب آية الله السيستاني العراقيين بالإدلاء بأصواتهم، بكثافة ما بعدها كثافة، في الانتخابات الحلم، بغية إنقاذ الشعب والوطن من متاهات الضياع، وبغية تدريبهم على اللعبة الديمقراطية التي لم يعتادوا عليها من قبل، ومن يدري فقد ينفرون منها، لا سمح الله، ويتقاعسون عن القيام بواجباتهم كمواطنين عاديين خوفاً من الإعتداء والتفجير.. والموت الحرام.
   صحيح أنني ضد ترهيب المواطن وإرساله إلى الجحيم إذا لم يقترع، ولكنني أفهم جيداً البعد الإنساني الجميل لهذا الترهيب الترغيبي من أجل حثه على التنعم بأعظم ما جادت به العقول البشرية على الإطلاق: الديمقراطية وحرية التعبير. وأفهم أيضاً أن سماحته يريد انتخابات حرة نزيهة، تأتي من الشعب، لخدمة الشعب، ولرفاهية هذا الشعب واستقلاله.. ليس إلاّ.
   ولم يكتفِ، أطال الله بعمره، بحث المسلمين على التصويت، بل طالب المسيحيين أيضاً بالتدفق إلى صناديق الإقتراع (من أجل أن تمثل الانتخابات مختلف شرائح الشعب العراقي التي ستتكفل بكتابة دستوره الدائم). واستنكر ما تقوم به (الزمر الإرهابية التكفيرية من استهداف للكنائس، واعتداء، وخطف، ومضايقة للمدنيين الأبرياء العزل من عراقيين، رجالاً ونساء، مسلمين ومسيحيين، وغيرهم من أتباع الديانات الأخرى).. وأكد على (الأخوة الوطنية بين العراقيين جميعاً، مسلمين ومسيحيين، وغيرهم من أتباع الديانات الأخرى، في عراق واحد يتمتع مواطنوه جميعاً بالأمن والسلام والاستقرار والحرية والاستقلال التام الناجز) بإذن الله، بإذن الله، بإذن الله.. أقولها مثلثة كي يسمع من لا يسمع، ويتعظ من لا يتعظ، ويخاف الله من لا يحسب لآخرته حساباً.. وصدق المثل العامي القائل: ( ألله بيبلي وبيعين)، فلقد ابتلى أمتنا العربية برجال دين جهلة يفتون من أجل القتل والدمار، وأنعم عليها برجال دين مباركين، يفتون من أجل خير الناس أجمع، ومن أجل إحلال السلام في كل بقاع الأرض، ومن أجل تعايش إنساني رائد.. (فطوبى لفاعلي السلام، فإنهم أبناء الله يدعون).
    فإذا كان المرجع الشيعي الأعلى يحث المسلمين والمسيحيين على تغيير مجرى الأحداث في الانتخابات القادمة، وإذا كان بابا روما قد طالب مسيحيي العراق بعدم ترك وطنهم المفدى، كي يعملوا على (تصفية القلوب بسخاء) ويواجهوا (بربرية الإرهاب العمياء)، وإذا كان البطريرك الكلداني قد أكد أن العراقيين (عائلة واحدة، فالدين لله والوطن للجميع)، فأبشروا أيها العراقيون، فالعراق سيعود إليكم، والحرية ستعود إليكم، والتعايش الأخوي المثالي سيعود إليكم، وما عليكم إلا أن تسمعوا كلام علي السيستاني ويوحنا بولس الثاني وعمانوئيل دلي، وتتمسكوا بعراقكم أكثر فأكثر، لأنه لكم، لكم وحدكم، ولبنيكم بعدكم.  
**
هل إبن لادن عميل أميركي؟
      
   قال لي أحد الأصدقاء: لو قرأ العربان ما كتبته في (إيلاف) حول نجاح جون هاورد الكاسح بالإنتخابات الفيدرالية الأسترالية، لما نشر ابن لادن رسالته الأخيرة، ولما وصلت الرئاسة الثانية إلى بوش.
   فلقد ذكرت في أحد مقالاتي أن تفجير السفارة الأسترالية في جاكرتا كان أحد أهم الأسباب التي أرجعت هاورد إلى الحكم، إذ رفض الشعب الأسترالي أن يذل رئيسه أمام الإرهاب العالمي، أو أن يعرّضه للسخرية، فأعاده إلى الحكم مكللاً بالغار، ومسيطراً سيطرة تامة على مجلسي النواب والشيوخ حتى لا يعترضه أحد، فالعار، بنظر الأستراليين، لن يلحق جون هاورد وحده إذا ضعف أمام الضغط الإرهابي، بل سيلحق كل إنسان حر شريف لا يؤمن بالإرهاب سبيلاً إلى الحوار.
   وهذا ما حصل تماماً مع الرئيس بوش، فلقد طلبها من السماء، فوصلته من أفغانستان، بصوت وصورة أسامة بن لادن، وهذا دليل قاطع على جهل الإرهابيين بالأمور السياسية، وعلى افتقارهم لمنظرين محنكين في السياسة الدولية، ولخبراء نفسيين مختصين بدراسة العقول البشرية وكيفية تفكيرها.
   لقد قلت سابقاً، إن الإرهاب سيعيد هاورد وبوش وبلير إلى الحكم، وها هو ينجح بإعادة الأولين، وما عليه، في حال اقتربت الانتخابات البريطانية، إلا أن يذيع رسالة يقرأها الظواهري هذه المرة، أو أن يقوم بعملية إرهابية ضد الإنكليز، لا سمح الله، كالتي ارتكبتها (الجماعة الإسلامية) في أندونيسيا ضد أستراليا، كي تصبح الرئاسة بجيب طوني بلير، عندئذ تركب الطنجرة على ثلاثة رؤوس عنيدة، أقل ما يقال فيها وعنها، أنها ستدمر الإرهاب، وستلاحقه أنى وجد.. ولو إلى سابع طبقات الأرض.
   أحد أصدقائي المسلمين المتدينين، ما أن سمع رسالة ابن لادن الأخيرة، حتى صاح بأعلى صوته: لقد فاز بوش.. إبن لادن أهداه ولاية ثانية، بمعرفة منه أو بدون معرفة!.. وأعتقد أن أسامة يعرف كل شيء، ويقرأ كل شيء، وأنه يعيش في مكان مزوّد بكل وسائل الاتصال كالهاتف والإنترنت، وبكل أنواع التسلية كالتلفاز والفيديو وغيرهما، وأجزم أنه شاهد فيلم فهرنهايت 9/11 للمخرج والمنتج الأميركي مايكل مور، الذي صعق لفوز بوش، فصاح وكأنه صُفع على خده: إعادة انتخاب بوش تثير الاشمئزاز.. واعتبر بوش (بطة عرجاء) سيعمل حزبه على إقالته من منصبه قبل أن ينهي ولايته الثانية، بسبب وقاحته وتهوره. 
   عن فيلم هذا الرجل نقل ابن لادن قصة العنزة التي أصغى إليها بوش بينما الأبراج تتدمر، وهذا يعني أنه يطلع على كل شيء، يشاهد، يقرأ، يكتب، ويتصور أيضاً، وقصة اختفائه عن الأنظار في أحد الكهوف الجبلية في أفغانستان أو باكستان قد تكون غير صحيحة، لأن الوسائل التي بين يديه، لا يمكن أن تكون بين أيدي سكان الكهوف الحجرية، بل بين أيدي سكان المدن العامرة المزودة بالكهرباء، وبشبكة للإرسال الإلكتروني والبث التلفزيوني.
   بعد رسالته الأخيرة إلى الشعب الأميركي، وتهديده ووعيده له، وبعد فوز جورج بوش بولاية ثانية بسبب تلك الرسالة، ما على المراقبين إلا إجراء استفتاء بين المسلمين كافة، ليسمعوا منهم جملة واحدة، باتت تتردد على ألسنة الكثيرين منهم: إبن لادن عميل أميركي. فبعد أن كانوا يعتقدون أن خلاص الإسلام سيجيء على يد الشيخ أسامة، أصبحوا يصرّحون جهراً أنه أساء إلى المسلمين، وحوّلهم من مواطنين صالحين في البلدان التي أعطتهم الأمان والمسكن، إلى مشكوك بأمرهم، ومتهمين وملاحقين إثر كل عملية إرهابية.. وحجتهم في ذلك: أن أميركا ألقت القبض على صدام حسين وعائلته ووزرائه وحراسه وحاشيته أو قتلتهم، لا فرق، في أقل من 8 أشهر، ورغم مرور ثلاث سنوات على اجتياح أفغانستان، ما زال ابن لادن حراً طليقاً، وما زالت قاعدته تهدد وتنفذ وترهب، وكأنها بعبع بيد السي آي آي، يخيف بها من يشاء، ويردع بها من يشاء.
   أنا شخصياً لا أعتقد أن ابن لادن عميل أميركي، أو لعبة بيد الاستخبارات الأميركية، ينفّذ ما تقوله له حرفياً: أنطق.. اصمت.. اظهر.. اختفِ، كما أقسم صديقي المسلم على ذلك. بل على العكس أرى أن الحرب طويلة بين الأميركيين وابن لادن، بسبب استثمار بعض السياسيين للإرهاب، وتجييره لمصالحهم الخاصة وتثبيت حكمهم، وعدم التعامل معه بجدية وصرامة، غير عابئين بما يجره على الإنسان البريء الذي لا حول له ولا قوة من موت ودمار، فهو وحده سيدفع ثمن هذه الحرب القذرة التي يعلم الله متى ستنتهي.
   أخيراً، أرى من واجبي أن أسجل عبارة قالها صديقي المسلم، الذي بسمل وكبّر وهلل ووزع الحلوى عندما غزت القاعدة أميركا وأناخت البرجين، وبشّرنا، يومئذ، بانتهاء القوة الأميركية العظمى على يد شهداء الجنة، وها هو يعتذر عن فرحه الطائش بغزو أميركا، ويقول بوعي وإدراك: لن ينجح الإرهاب في تحقيق أهدافه، ولو فجّر مليون برجاً، وما عليه إلا الاستجابة لرغبة ملايين المسلمين، والكف عن تخويف الأبرياء وقتلهم، والإساءة إلى كل من نطق بالشهادتين.
**
حلّوا عن ظهر المسيحيين
   
   آخر النكات المضحكة حد البكاء، أطلقها داعية من هيئة الدعوة والإفتاء السلفية في بغداد، فلقد حرّم على المسيحيين العراقيين الترشيح للانتخابات، كما أنه، في حال استلامه الحكم سيفرض الجزية عليهم، فاضحكوا يا ناس.. اضحكوا من إنسان لا يبشر إلا بالموت، ولا يدعو إلا إلى التفرقة، كما أنه لم يتعلّم من ماضيه، ولم يتعايش مع حاضره، وكل ما يجري حوله من تبديلات جذرية وتاريخية لا تعنيه. إنه كالضفدع ينق طوال النهار، وكأن لا عمل له إلا كره المسيحيين، وكأن لا عمل لنا إلا الاستماع لنقيقه، والرد عليه.
   إسرائيل، عدوة العرب الأولى، تسمح للعرب المقيمين فيها، مسلمين ومسيحيين بدخول برلمانها اليهودي، وبالمشاركة بالقرارات الصعبة، وبمناقشة أعمال حكومتها، وبالمطالبة بحجب الثقة عن رئيس وزرائها، وبحمل جوازات سفرها، وبالاقتراع لكل من يعتقدون أنه الأفضل. لماذا؟.. لأنها دولة ديمقراطية، قد تتخلى عن يهوديتها ولا تتخلى عن بند واحد من قانونها الديمقراطي.
   والهند الهندوسية، أعتق ديمقراطيات العالم، لم تمانع أبداً في أن يرأسها مسلم، كما يحصل الآن، رغم المناوشات الطائفية العديدة بين الهندوس والمسلمين، فالديمقراطية، متى وجدت، ساوت بين الجميع، وأخضعت الجميع لقوانينها، فهي الحل لكل مشاكلنا الطائفية في الوطن العربي، وبدونها سنظل نذبح بعضنا البعض على الهوية، ونكفّر الآخرين باسمه تعالى.
   الدول الغربية المسيحية (الكافرة) كما يتشدق البعض، تعطي جنسيتها ومسكنها وأمانها وخيراتها لكل من يحتمي بها، حتى أصبحت ملاذاً آمناً لملايين المسلمين، الذين تأقلموا وتعايشوا وتزوجوا من السكان الأصليين، وأصبح منهم اللوردات والنواب ورؤساء البلديات، دون أن يرشقهم أحد بوردة، وقد لا أذيع سراً إذا قلت إن العديد من إخواني المسلمين في أستراليا تبوأوا رئاسة بلديات مدن أسترالية، تفوق ميزانية أصغر بلدية منها، ميزانية دولتين عربيتين مجتمعتين، ومع ذلك لم يتأفف أحد من الأستراليين أو يشكك بدينهم أو يسألهم عنه، أو لا سمح الله، يجبرهم على تغييره، وخير دليل على صحة ما أقول قصة ابن بلدي المحامي شوكت مسلماني، شقيق الشاعر شوقي مسلماني، الذي ينشر قصائده في (إيلاف)، فقد انتخبه الشعب الأسترالي رئيس أشهر وأكبر بلدية في سيدني، رغم اسم عائلته الواضح (mouslemani) الذي يدل دلالة مباشرة على دينه الإسلامي الحنيف، ومع ذلك لم يهتم الناخب الأسترالي باسمه، ولا بدينه، بل ببرنامجه الإنتخابي الرائد، فأعطاه ثقة عمياء، أوصلته إلى رئاسة البلدية، وقد توصله، وهذا أكيد، إلى مجلس شيوخ ولاية نيو ساوث ويلز، ومنه إلى الوزارة.. فهل أجمل وأسمى من الديمقراطية؟ لا والله.
   لقد تبرعنا للجماعات الاسلامية السلفية كي تشتري كنيسة مهجورة تحولها فيما بعد إلى جامع، يؤمه المصلون للعبادة، دون أن نفكّر، ولو للحظة واحدة، أنهم سيلقون بنا في البحر، هم إخواننا، وأهلنا، هربنا معاً من جور الحكم في بلادنا العربية كي ننعم بالحرية الدينية والسياسية والاجتماعية التي توفّرها لنا ديمقراطية أستراليا، وهذا حق مقدس لكل مخلوق على وجه الأرض، من يحرمه منه كافر، ومن يسلبه إياه مجرم.  
    مسيحيو العراق ليسوا بحاجة إلى من يدافع عنهم، فتاريخهم الحافل بالأمجاد يتكلم عنهم، وحجارة بابل وأشور تنحني أمام إرثهم الحضاري، وما من أحد على الإطلاق يقدر أن يقتلعهم من جذورهم الضاربة في أعماق العراق، والمغذية لكل ما هو جميل وإنساني في الوطن العربي، فكيف يتجرأ فخري القيسي أو غيره على سلبهم حقوقهم المشروعة، التي خلقت لهم ومن أجلها يخلقون؟ ألم يسمع آيات أعظم رجل دين إسلامي اسمه علي السيستاني، عندما حثهم على التصويت والمشاركة بإعداد دستور البلاد؟ ألم يعلم أيضاً أن هذا السيّد الجليل، الذي ينضح عقله قداسة وإنسانية، لا يعارض أن يكون رأس الدولة مسيحياً؟ لأن سماحته يعلم علم اليقين أن المسيحي الذي يصل إلى رئاسة العراق، سيكون إنساناً مميزاً ورائداً، لم تنجب الأمهات مثيلاً له، ولو لم يكن أهلاً لها، لما اختارته الأغلبية المسلمة لتبوء هذا المركز الحساس.
   هكذا يجب أن يفكّر رجال الدين، وهكذا يجب أن يحصل في عالمنا العربي، علنا نخلّص أجيالنا القادمة، من حروب طائفية ذقنا أهوالها، ورمتنا خارج أوطاننا، وقضت على الملايين منا، بينما العالم المتحضر ينعم بالسلام الحقيقي، ويسرع، إثر كل فتنة طائفية يفتعلها لسان جاهل في بلداننا العربية، إلى تقديم المساعدات الإنسانية لنا، فكفى، بربكم، كفى.. وحلّوا عن ظهر المسيحيين.
**
الكنائس لا تخيف إطلاقاً
   
   تناقلت الأنباء خبر تبرع الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، أمير دولة قطر، بقطعة أرض لبناء أول كنيسة في بلاده، وأرجو أن لا تكون آخر كنيسة، وأن يحذو حذوه باقي الملوك والأمراء في دولنا الخليجية، من أجل إثبات القول بالفعل، ان الإسلام ما جاء إلا رحمة للعالمين، وأن (النبي محمد دعا إلى ضرورة السماح للمسيحيين واليهود بممارسة معتقداتهم علانية)، على حد قول أحد رجال الأعمال القطريين.
   صحيح أن ما فعلته قطر قد سبقتها إليه عدة دول خليجية، وقد زرت بدولة الإمارات العربية إحدى الكنائس، ورأيت المؤمنين يدخلون إليها، ويخرجون منها والفرح يغمرهم، والأمان يحيط بهم، تماماً كما يفعل إخواني المسلمون في أستراليا، فهم، إن ضاقت جوامعهم العديدة بأعدادهم الغفيرة، صلّوا في الطرقات الفرعية والرئيسية، دون أن يتأفف أحد من المسيحيين، لا بل نراهم يشاركونهم فرحة أعيادهم، فيسهلون لهم الأماكن العامة للتجمع والصلاة، ووسائل النقل للإنتقال السريع إلى مراكز احتفالاتهم الدينية، كي تكتمل فرحتهم، التي هي بالتالي فرحة أستراليا، الأم الحنون، التي تحضننا جميعاً.
   إذا كانت قطر، وفي بداية الألف الثالث، قد سمحت ببناء أول كنيسة مسيحية، فإن أستراليا التي تبعد عن مكة المكرمة آلاف الأميال، قد ساهمت ببناء عشرات المساجد والمدارس الإسلامية، كي لا أقول المئات، كما أنها فتحت أمام المصلين المسلمين أبواب غرف خاصة في مراكز بلدياتها، وأبنية جامعاتها، لدرجة أصبح معها المسلم لا يحتاج لقيادة سيارته مسافة طويلة من أجل الصلاة في جامع بعيد عن مكان سكنه، هو مواطن من الدرجة الأولى، وما يحق لغيره يحق له دون زيادة أو نقصان.
   يعيش في قطر أكثر من سبعين ألف مسيحي، يتطلعون الآن بأعين ملؤها الأمل والغبطة للصلاة ضمن جدران أول كنيسة وهبت لهم، هي لم تبنَ بعد، ولكنها بنيت في مخيلاتهم، زاروها في أحلامهم، ورسموها على دفاتر أطفالهم، أفلا يحق لهم بأكثر من كنيسة؟ أفلا يحق لكل ألف مسيحي كنيسة يؤمونها للصلاة؟ وهل بإمكان كنيسة يتيمة واحدة أن تستوعب أكثر من سبعين ألفاً من سكان قطر المسيحيين؟.
   لماذا لا يسمحون ببناء كنيسة في السعودية مثلاً، وقد سمح الفاتيكان ببناء جامع في روما، فهل يحق لمسلمي إيطاليا ما لا يحق لمسيحيي السعودية؟ وهل بابا روما يؤمن بحرية العبادة والصلاة لكل مخلوقات الله، أكثر من بعض مشايخ المسلمين، أحفاد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب الذي رفض الصلاة بكنيسة القيامة، كي لا يقال يوماً: هنا صلّى عمر، وتتحول إلى جامع؟ فلماذا ينعم الله على رأس كنيستنا الكاثوليكية، وعلى خليفتنا الثاني بكل هذا الإنفتاح الإنساني الغامر، ويحرم بعض المسلمين من هذه النعمة: حرية العبادة لكل إنسان؟ فهل يعقل أن يكون الفكر المنفتح على خطأ، والفكر المتزمت المنغلق المريض على صواب؟ والكون، من مشرقه إلى مغربه، تحول إلى قرية صغيرة نرتاد بلدانه المختلفة عشر مرات في اليوم الواحد، قبل أن تغيب الشمس، وتحجب نورها الوضاء عنا.
   كليف هاندفورد، أسقف الطائفة الإنجيلية في قبرص والخليج قال عن الكنيسة المزمع بنيانها: أن ذلك يدل على بعد نظر حاكم قطر، وعن اهتمامه بالتقاء الأديان، كما أنه يشجع على الحوار، خاصة بين المسلمين والمسيحيين. فلماذا لا يتمتع البعض بما تمتع به الشيخ حمد من بعد نظر وانفتاح وإنسانية؟.
   أعتقد أن هذا الأسقف على حق، تماماً كما كان بابا روما على حق حين سمح ببناء جامع بالقرب من فاتيكانه، أو كما فعل الفاروق حين امتنع عن الصلاة في كنيسة القيامة كي يحميها لمسيحييها من تزمت المتزمتين، أو كما فعل حمد بن خليفة آل ثاني، حين تبرع ببناء أول كنيسة في قطره الحبيب، فدخل بذلك التاريخ من بابه الواسع.
   لا يخاف من معتقدات الغير إلا من يجهل معتقداته، فبربكم آمنوا بالله، لتؤمنوا بخلائقه إلى أي دين انتسبوا.
**
عيب
   
   زمرة لئيمة من الرعاع، لا تنتمي إلى دين، ولا تؤمن باللـه تعالى، احترفت الإغارة الليلية على أماكن عبادتنا، بغية زرع الفتنة الطائفيّة في أوساط جاليتنا العربيّة الموحّدة في أستراليا.
   ساعة تحرق جامعاً، وساعة أخرى تحرق كنيسة، بأسلوب واحد، وبطريقة واحدة. فتصوّروا!
   إلى هؤلاء الأشرار أقول: لو أحرقتم جميع الجوامع والكنائس لن تتمكنّوا من حرق محبّتنا واحترامنا لبعضنا البعض، مسلمين ومسيحيين، فالكأس التي تحاولون أن تسكبوها، قسراً، في أفواهنا، تعوّدنا على مرارتها سنوات وسنوات في أوطاننا، دون أن تتمكنوا منّا.
   لقد هربنا منكم، من دسائسكم، من طائفيّتكم، من تعصّبكم ألأعمى، فلماذا لحقتم بنا إلى آخر الدنيا؟. أما آن لنا أن نعيش بأمان في غربة بعيدة؟ أما آن لكم أن تخافوا اللـه، وأن تنمّوا أخلاقكم، وأن تعيشوا كباقي البشر؟
   لقد حلمتم، حين سافرتـم، بالعيش الكريم، فجرّبوه. حرام أن تسيئوا إلى بلاد استضافتكم، أطعمتكم، داوتكم، وآوتكم.. حرام أن تبلبلوا أمن أستراليا.
**
شوكولا، إرهاب، وعنصرية
    
   مجنون من يعتقد أن الإرهاب يقتصر على التفجيرات والإغتيالات والخطف والتهديد وما شابه، ومجنون أكثر من يعتقد أن الإرهاب يقتصر أيضاً على العرب، كي لا أقول على المسلمين. فها هو الإرهاب المفرنج يرعب السفارة الأندونيسية في كانبرا مرة جديدة، بعد أن وصلها مظروف ظريف بَوْدر وريقاته بمسحوق أبيض لا خطر فيه على الإطلاق، على حد تعبير وزير خارجية أستراليا ألكسندر داونر. 
   وبهذا، تكون السفارة الأندونيسية في أستراليا قد تلقت أربعة مظاريف خالية، والحمد لله، من الأذى، عكس ما حصل مع الشركة العالمية التي تحلّي أفواهنا، وتملأ بطوننا بألذ أنواع الشوكولا، كألواح (السنيكز) و(مارز) وغيرها، فلقد تلقت تهديداً جديداً بتسميم منتوجاتها، وبتعريض المستهلكين للموت.
   أندي وستونوب، الرئيس الإقليمي لشركة (ماستر فود)، أطلع الشرطة على مضمون التهديد، الذي يعتبر الخامس من نوعه، كما أمر بسحب الملايين من ألواح (المارز) و(السنيكز) من على رفوف المحلات.
   وكانت جهة (إرهابية) مزعجة قد ادعت بإحدى رسائلها أنها سممت سبعة ألواح من منتوجات الشركة، وزعتها على المحلات التجارية في مدينة سيدني، بغية الإضرار بالشركة والمستهلكين في آن واحد.
   والجدير بالذكر أن شركة (ماستر فود) قد سحبت من الأسواق، قبل أسابيع، أكثر من ثلاثة ملايين لوح من الشوكولا، ومنيت بخسائر مادية ومعنوية جسيمة، كيف لا، وقد خلت رفوف 25 ألف محل تجاري من شوكولاتها الشهية.
   وبينما كانت الشرطة الأسترالية تلاحق صاحب المظروف المبودر، والشوكولا المسممة، طلع علينا أكاديمي أسترالي بفتوى مضحكة، كانت أستراليا قد رمتها في سلة مهملاتها منذ سنوات طويلة، يوم ألغت قانون (أستراليا البيضاء)، وفتحت أبوابها لكل مخلوقات الله، فإذا بأخينا الجامعي (المثقف) أندريو فرايزر يطالب بإحياء ذلك القانون الميت، ويدعي بأن هجرة الأفارقة السود تضاعف من نسبة الجريمة، كما طالب أستراليا بالإنسحاب من المعاهدات الدولية المختصة بهجرة اللاجئين، خوفاً من أن تتحوّل إلى دولة من دول العالم الثالث، كما اعتبر أن الأجناس البشرية مختلفة كلياً عن بعضها البعض، ولا يمكن أن تكون واحدة، لا بألوانها، ولا بعقلياتها، ولا بقابليتها للتعايش، ولذلك وجب على أستراليا أن تحمي حدودها.
   المشكلة بدأت عندما رأى الأكاديمي فرايزر صورة طفل سوداني منشورة في إحدى الصحف الأسترالية، فأرسل مقالاً إلى تلك الصحيفة، أخبرها فيه أن تعاظم عدد المهاجرين السود سيكون السبب في تعاظم الجريمة والعنف والمشاكل الإجتماعية في مجتمعنا، كما أن أستراليا تندفع إلى الإنتحار الذاتي بتشجيع من فئاتها الدينية والسياسية والإقتصادية.
   ولكي لا يكون الشعب الأسود مغبوناً من أخينا فرايزر، شمل معه الشعب الأصفر أيضاً، بعد أن أخبر أحد أعضاء بلدية (ولاهارا) برسالة إلكترونية، أن الهجرة الصينية تهدد مصالح الأستراليين التجارية، إذ أن الصيني لا يشتري بضائعه إلا من تاجز من أبناء جنسه، كونه لا يتقن الإنكليزية، ويظل متمسكاً بلغته وعاداته إلى أن يستدعيه خالقه.
   العالم يتخبط بأزماته المتلاحقة، ونحنا في أستراليا نتخبط بالبودرة والشوكالا واللونين الأسود والأصفر، ونسأل الله تعالى أن يبعد عن مخلوقاته الشرور الإرهابية والشوكالاتية والأكاديمية، حتى تتعايش وتتآخى.. وتأكل شوكالا غير مسممة. 
**
لا أتهم أحداً هاجموني فقط
   
   سامح الله صديقي الشاعر شوقي مسلماني، فلقد نشر خبر الهجوم على منزلي صباح يوم الجمعة الواقع في 16 أيلول 2005، وهو يعلم أنني ضد تسريب الخبر إلى الإعلام بناء على رغبة البوليس الأسترالي الذي يحقق بالموضوع، ولكن محبته لي، هي التي دفعته إلى نشر الخبر، فألف شكر له.
   لست أدري لماذا هاجموني، وإن جاء هجومهم على منزلي بعد يومين من نشر جريدة المستقبل الأسترالية لمقالي (حزب إسلامي في أستراليا) نقلاً عن إيلاف. 
   صحيح أن اللغط دار حول هذا الموضوع، ولكنني لا أتهم أحداً، كما أنني لا أعتقد أن من طالب بنشر العدالة الإسلامية، والسلم الإسلامي، وأن حقوقنا لن تنتقص تحت راية حزبه، سيرسل مجموعة من الشباب المتحمس كي تشتمني، وتمطر بيتي وسيارتي بدزينات من البيض النيء.
   القصة غير مفبركة، ويا ليتها كانت مفبركة، لتخلصت من رائحة البيض النتنة التي تغمر بيتي، وتسبب لي ألماً في رأسي، ناهيكم عن صعوبة غسلها عن الشبابيك والجدران والأبواب والقرميد ومدخل البيت.. والسيارة. فليسامحهم الله.
   طوال الليل والأرق يقض مضجعي، فمساء الجمعة، أي يوم الهجوم، ستعرض مسرحيتي الجديدة (الكنز المسحور)، التي يمثلها أكثر من 500 طالب وطالبة من معهد سيدة لبنان ـ هاريس بارك، والتي ستنقلها إلى العالم أجمع قناة بانوراما الفضائية، فكيف لي أن أنام، وأنا المخرج والمؤلف لتلك المسرحية، وعلي أن أظهر وأخفي جيشاً كاملاً من الأطفال بأقل من ساعة ونصف، دون أن يلحظ الف شخص من الحضور ذلك، ولأنني كنت أتقلب كثيراً، وأضيء الغرفة كل نصف ساعة، لم تتمكن زوجتي من النوم أيضاً، فرحنا نتسامر ونضحك، إلى أن قلت لها: ـ سأذهب إلى مكتبي، وأكتب مقالاً جديداً.
   فقالت لي، والله يشهد على ذلك: 
ـ مقالاتك ستجلب لنا المشاكل.. 
   وبعد نصف ساعة سمعت صراخاً وشتائم أخجل من ذكرها، وأن أحداً يحاول الدخول إلى منزلي المحمي جداً جداً، فقلت لزوجتي: 
ـ هناك من يحاول الدخول إلينا..
   فتمتمت وهي تغالب نعاسها: 
ـ نم.. أنهم الجيران.. مشاكلهم كثيرة لا تنتهي.. 
   فصدقتها، ودخلت الفراش ومع ذلك لم أرقد لحظة واحدة.
   عند الساعة السادسة صباحاً، وهو الوقت الذي نستيقظ به بغية الإلتحاق بأعمالنا، خرجت لأدير محرك سيارتي المركونة أمام مرآب المنزل (الكاراج)، فصعقت من منظر البيض النيء الذي يغمرها، ويغمر معظم أرجاء البيت الخارجية، عندئذ أدركت أن الشتائم موجهة لي، وان الهجوم استهدفني شخصياً، فأعلمت الشرطة بالأمر، فاهتمت به كثيراً، واطلعت على بعض مقالاتي الأخيرة، وهي تعرف كيف ستتصرف.
   هذا كل ما حدث، أرويه باختصار كي يعلم من هاجمني أن الكلمة لا تغلبها سوى كلمة أفضل منها، وأن الحوار أفضل بكثير من التخويف والإرهاب، وأن الله أوجدنا على هذه الأرض كي نتعايش، ونتفاهم، ونتأقلم مع محيطنا، وإلا أصبحنا نكرة.. و(فزيّعة) نخيف الناس بدلاً من أن نستميلهم إلينا بالمنطق الراقي والحجج الدامغة. 
   حماكم الله من زوار الفجر، ومن كل من يزرع في الأرض فتنة. 
**
وصل الإرهاب إلى بيتي
   
   الخوف من العمليات الإرهابية يجتاح أستراليا، ورئيسنا جون هاورد ساعة يطمئننا، وساعة يحذرنا من هجمات إرهابية في المنطقة (وأن علينا أن نتحمل هذا النوع من الإرهاب في منطقتنا لبعض الوقت) على حد تعبيره، واعترف بأن الإنتصار على الإرهاب لن يكون سهلاً، وفي نفس الوقت، بشّرنا بأن انفجارات بالي لن تجعل أستراليا عرضة لمثل هذه الهجمات، وبشّرنا أكثر بأنه (لا توجد في أستراليا شبكة إرهابية داخلية مماثلة لتلك التي في أندونيسيا)، ولكي لا نمني النفس بأحلام سعيدة، نبهنا من أن هناك مشكلة، ولهذا السبب (عمدنا إلى تشديد قوانين مكافحة الإرهاب)، وبعد لحظات قال: إن الحكومة الأسترالية لم تتلقَ أي معلومات تدعم رفع إنذار التحذير إلى أعلى من المستوى المتوسط.. فأين يعيش أخونا جون هاورد؟ وهل يعتقد أن الشعب الأسترالي أبله كي يتلاعب بعواطفه ساعة يشاء، ويمطره بتصريحات مضحكة، لا توصله إلى نتيجة؟.
   نصف سكان سيدني أعربوا عن مخاوفهم من استعمال وسائل النقل العام، خوفاً من أن يتعرّضوا لما تعرضت له قطارات وباصات لندن في السابع من تموز الماضي، وجون هاورد يصرّح ويلمّح.. دون أن يوضّح.
   الغرفة التجارية في ولاية نيو ساوث ويلز استفتت الناس في سوق سيدني التجاري، فتبين لها أن 32 بالمئة من سكان الولاية غير مرتاحين للتنقل بالقطارات والباصات والعبارات وما شابه، وأن 14 بالمئة منهم أعربوا عن خوفهم الشديد حيال ذلك، كما أن 80 بالمئة قالوا أنهم أكثر يقظة حيال أي نشاط مشبوه في الأماكن العامة.. وجون هاورد يطير من بلد لآخر، وفي كل بلد يحط به رحاله، تقع، وللأسف، عملية إرهابية جديدة. لقد انهار البرجان عندما كان في أميركا، وتفجرت القطارات والباصات عندما زار بريطانيا، وبعد كل تفجير يطلق تصريحاً عرمرمياً يبشّرنا به بسلامة أستراليا.. فاستبشروا.
   مارغي أوزموند، رئيس الغرفة التجارية التي أجرت الإستطلاع قال: لقد برهنت النتائج أن أمام السلطات الأسترالية طريقاً طويلاً وشاقاً لتبديد مخاوف المواطنين، وجعلهم يشعرون بالأمان التام أثناء تواجدهم في الأماكن العامة، وإلا فالإنعكاسات السلبية ستدمر اقتصادنا. فماذا فعلت السلطات كي تريحنا من هذا الخوف، وماذا فعلت كي لا يتدمر اقتصادنا.. ونتدمر معه؟
   لقد وصل الإرهاب إلى بيتي يا هاورد.. وبيتي يقع في وسط أكبر المدن الأسترالية، فماذا فعلتم؟ وما هي نتيجة التحقيق التي توصلتم إليها.. وهل رمي البيوت الآمنة بالشتائم والبيض النيء ليس إرهاباً بنظرك؟
   بيتي، رغم ضآلة حجمه ومساحته هو أستراليا بنظري، بجزرها وجبالها وسمائها وبحارها، وكل من يهدد أمنه فقد هدد أمن أستراليا ككل. فهل عرفتم من هدد أمنه؟ أم أنكم لا تهتمون إلا بالأوبرا هاوس، وبجسر سيدني، وبمعالم أستراليا السياحية، وبيوتنا معرضة للغزو كل لحظة، وتبقى تقارير الشرطة مجرد حبر على ورق، أو بالأحرى تنام في الأدراج، وكأن شيئاً لم يكن.
   أليس من العيب أن نحمي أنفسنا، وأن تتناوب العائلة على السهر بغية حماية أبنائها، وكأننا في تكساس أيام زمان، ودولتنا الأسترالية نائمة نومة أهل الكهف؟
   يا هاورد.. الإرهاب لا يتجزأ، فإرهاب المكالمات الهاتفية إرهاب من الدرجة الأولى، وإرهاب الرسائل الإلكترونية الملغومة بالجراثيم إرهاب من الدرجة الأولى، والهجوم على بيوت الناس الآمنين الطيبين إرهاب من الدرجة الأولى، فبالله عليك خفّف من تصريحاتك.. وابدأ بحمايتنا.
**
لبنان الواحد في عيد استقلاله
   
   أنا، بطبعي، لا أهوى السياسة، ولا أعاشر السياسيين، ولا أردد أو أحفظ كلامهم، ومع ذلك انطبعت في ذاكرتي جملة سياسية ولا أجمل، قالها المرحوم صائب سلام: لبنان واحد.. لا لبنانان. ورحت أترنم بها في خلوتي، وأمني النفس بمستقبل زاهر لوطني، طوال سني الحرب اللبنانية اللعينة، التي كثر فيها الكلام عن تقسيم لبنان.
   بربكم، ماذا كسبنا من الحواجز الطيارة، والحواجز الثابتة المدشمة، والقتل الطائفي، وحرق المدن والقرى، والتشرذم العشائري، وإرساء سلطة الشوارع المغلقة والمخيفة، وتدمير الإقتصاد؟
   ماذا ربحنا من فلتاننا الأمني، وإطلاق يد الميليشيات الطائفية في تسيير حياتنا، وتجييش أبنائنا، وتثويرهم ضد رفاقهم في المعاهد والجامعات، وحقنهم بسموم التشرذم والمخدرات والموت؟
   كان المرحوم صبري حمادة يقول عن المخدرات في منتصف القرن الماضي: نحن نزرعها ولكننا لا نشربها. أما الآن، فلقد أصبحنا نزرعها، ونشربها، ونستوردها أيضاً، ومرد ذلك جشع بعض المسؤولين الذين بدأوا يتساقطون، كما تساقط العديد من شبابنا وشاباتنا المدمنين أمام أعين أهلهم كأوراق الخريف الصفراء.
   لقد رمتنا الحرب على أبواب التسكع العالمي، فلم يبق وطن إلا ومد يد الإغاثة لنا، أو تدخل بشؤوننا، ولم تبق مؤسسة خيرية إلا وطرقنا بابها، بغية إبعاد شبح الموت عن أطفالنا، وتأمين مستقبل زاهر وآمن لهم.
   وها هو لبناننا الواحد يطل علينا في زمن كثرت به التفجيرات، وبدأنا نرتعب ونحن نتسوق، أو نعمل، أو نتعلم، أو نتنزه، أو نقبل أطفالنا الصغار أيضاً، وكأن أعداء السلام لا يبغون لهذا الوطن الجميل، الصغير بحجمه، الكبير بشعبه، أن يتنعم بأمنه، وأن يحضن أبناءه بعد غياب، أو أن يغفو ملء عينيه.
   لبناننا الواحد.. سيعمل على إرساء روح التضامن والتعايش والمحبة بين أبنائه، إكراماً لهم، إلى أي دين انتسبوا، وإلى أي سياسة مالوا، وفي أي بقعة وجدوا. هو لهم ومنهم، وما عليهم سوى الأخذ بيده كي ينطلق بعد عذاب واعتقال، وأن يصونوا الأرض التي عشقوا، وحلموا بإهدائها ما تبقى من سني أعمارهم، أو أن يستودعوها حفنة من تراب حملوها في ترحالهم الدائم، حتى أصبحت عبئاً ثقيلاً عليهم، وآن أوان إرجاعها إلى المنبت.
      أتمنى من جميع ممثلي شعبي اللبناني، خاصة أولئك الذين شاركوا بالحرب عليه، أن يتطهروا من جرائمهم من خلال الإعتراف بها، وأن يكونوا لهذا الشعب، بعد أن كانوا لأنفسهم، لأنانيتهم، ولتطلعاتهم الخبيثة، وأن يعملوا من أجل رفاهيته، وأن لا يفكروا إلا بمصالحه، عندئذ قد يغفر الله ذنوبهم الكثيرة السابقة، وسنبدأ معاً رحلة المليار ميل من أجل بناء وطن الحب والسلام.
   كل عيد استقلال وأنت مستقل يا وطني.. لبنان.
**
صلبوا المسيح مرتين والإسلام أحياه
     
   من المضحك المبكي أن العالـم المسيحي يحتفل بصلب المسيح وقيامته من الموت على فترتين أو أكثر، وكأن لا شغل للسيّد المسيح سوى الموت من أجل عيون رجال الدين الكاثوليكيين والأرثوذكسيين وغيرهم.. ولهذا افرنقع عنهم الأتباع وكثرت الطوائف والبدع.
   ورغم أن المسلمين بعيدون جداً عن خلافات موت السيّد المسيح وقيامته، نجد أن النبي محمد قد أجبر اتباعه على الإيمان بالمسيح إذا أرادوا دخول الجنة: (من شهد ان لا اله الا اللـه وحده لا شريك لـه وان محمداً عبده ورسوله وان عيسى عبد اللـه وابن امته وكلمته القاها الى مريم وروح منه وان الجنة حق وان النار حق ادخله اللـه من اي ابواب الجنة الثـمانية شاء)..  كما انه قال: (ان الأنبياء اخوة بني علاّت وأنا وعيسى اخوان لأنه بشّر بي وليس بيني وبينه نبي). ولكي يؤكد على قيمة السيّد المسيح في الاسلام، قال لعائشة التي طالبته بأن يأذن لها أن تدفن الى جنبه: (أنى لي بذلك الموضع ما فيه الا موضع قبري وقبر أبي بكر وقبر عمر وقبر عيسى بن مريم صلّى اللـه عليه وسلّم). كما أنه كان يشنّف أذني ابن عمه علي بن أبي طالب بهذا الكلام الرائع: (إن فيك لشبهاً من عيسى بن مريم). أما إذا أراد أن يردع أتباعه فكان يقسم أمامهم بأن المسيح سيجيء، في يوم من الأيام، مقسطاً بين الناس، (والذي نفس محمد بيده سيجيئنّ المسيح مقسطاً بين الناس). فتوقّفوا، وتمتعوا، وتمعّنوا بكلمتيْ (بين الناس)، لتدركوا عظمة نبينا العربي، وشمولية كلامه، فهو لم يقل بين أتباعي، أو بين اليهود والنصارى، بل قال (بين الناس)، كل الناس، السود منهم والبيض، الحمر أو الصفر، فالمسيح، الذي ننتظر قدومه، سيجيء، حسب قول النبوة، مقسطاً بيننا. فتأهّبوا يا ناس ليوم الدينونة، وخاصة أولئك الذين أسلموا لله، وآمنوا به وبأنبيائه.
   أما في القرآن، فالمسيح (كلمة اللـه وروح منه) وهو (عبداللـه) و(نبي اللـه) و(رسول اللـه) و(إذ قالت الملائكة يا مريم ان اللـه بشّرك بكلمة منه، اسمه المسيح عيسى ابن مريم، وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقربين) و(أيدناه بروح القدس).. وغيرها وغيرها من الآيات البيّنات.
   فبربكم، هل الخلاف بين المسيحيين والمسلمين أعمق من الخلاف بين المسلمين والمسلمين، أو بين المسيحيين والمسيحيين؟.. ونحن إذا تعمّقنا بدراسة وفهم هذين الدينين السماويين، نجد أن الفرق بينهما لا يذكر، عكس ما هو حاصل بين المذاهب والمشارب والبدع التي تحسب على المسيح أو محمد.
   فمن يؤمن بصلب المسيح وموته له الحق في ذلك، شرط أن يتم في وقت واحد، ومن لا يؤمن بصلبه وموته له الحق في ذلك أيضاً، طالما أنه يؤمن أولاً وأخيراُ باللـه تعالى، ومن الجور أن نحاكم عبدة الشيطان على كفرهم، ونحن نحن، بانشقاقاتنا وخلافاتنا وتكفير بعضنا البعض وتعصّبنا الأعمى، أوصلنا هؤلاء (الأبرياء) إلى الكفر.. ومن سينتقدني على نعتهم (بالأبرياء) فليعرِّ نفسه أمام الحق، وليعدّد ذنوبه التي اقترفها باسم الدين، ولنا في الآخرة حساب.
    أول مرة سمعت بعبدة الشيطان، كان يوم قرع بابي أحد أولياء تلاميذي، وراح يصيح: 
ـ إلحقني يا أستاذ، لقد ضاع إبني حنّا.. لقد سرقه الشيطان.
   وبعد أن هدّأته بعض الشيء، راح يخبرني قصّة التحاق ابنه الوحيد بعبدة الشيطان، وطلب مني التكلم معه، وأرشاده إلى جادة الحق والصواب. وعندما اجتمعت بابنه، وجدته مخدراً بأفكار لم تخطر ببال أحد على الإطلاق. أولها: أن جميع الناس يعبدون الشيطان من حيث لا يدرون، طالما أنهم يلهثون وراء المادة والجاه والعظمة. وثانيها: أن عبادة الله تفرّق، بينما عبادة الشيطان فتوحّد. وسألني بقرف شديد: 
ـ لماذا يتقاتل اليهود والنصارى والمسلمون إذا كانوا حقاً أبناء الله؟
   وبتعب شديد تمكنت من إقناع حنّا، بأن الأديان السماوية ما جاءت إلا لخير البشرية، وإذا كان البعض قد ارتكب باسمها الشرّ، فلسوف يحاسبهم الله على ذلك. وأخبرته أن الله محبّة، ولو لم يكن هكذا لما أنعم عليه بوالدين يحبّانه ويسهران على راحته،  يبكيان إذا بكى، ويفرحان إذا ابتسم. فتطلع بوالده، فوجد دمعه يبلل وجنتيه، فقام واحتضنه وراح يهمس في أذنيه: أنا آسف يا أبي كوني أغضبتك.
   سؤال واحد أوجعني به تلميذي لم أتمكن من الإجابة عليه: لماذا يتقاتل اليهود والنصارى والمسلمون، إذا كانوا حقاً أبناء الله؟ أجل.. لماذا؟.
**
هؤلاء هم الأبطال
   
   ليس جديداً أن تتعرّض أماكن عبادتنا للتدمير، وقتل المصلّين الآمنين، فالأحداث المتتالية تخبرنا الكثير الكثير عن ذلك، مروراً بلبنان وفلسطين والعراق وغيرها.. وغيرها.
   ولكن الجديد في الأمر، أن يبيض (من باض) الإرهابيّون منظمة جديدة كل ربع ساعة، تدّعي مسؤوليتها عن الدمار المخزي الذي ألحقته بالجوامع والكنائس على حدّ سواء.
   مرّة، أحرق أحد المهووسين جامعاً في مدينة أدليد الأسترالية، فألقي القبض عليه وأودع السجن، وسط ازدراء سكّان المنطقة المسيحيين لجريمته اللاأخلاقية واللاإنسانية، وتبرعاتهم السخيّة من أجل إعادة بناء الجامع.
   مرة ثانية، كنت أعرّف حفلة خيرية من أجل إعادة بناء كنيسة أحرقت خلال الحرب اللبنانية الوسخة، وقبل أن أعتلي المسرح لجمع التبرعات، اقترب مني تاجر مسلم، وهمس في أذني، والله يشهد على ذلك، وأعضاء جمعية تلك القرية، ما يلي:
ـ هذا شيك مفتوح، لا يوجد عليه سوى توقيعي، أرجوك، متى انتهيت من جمع التبرعات أن تضاعف المبلغ المحصّل بهذا الشيك، دون أن تذكر اسمي. وهكذا صار.. رحمك الله يا أبا أحمد، فلقد دخلت الجنة من أحد أبوابها الثمانية.
   مرّة ثالثة، تبرعّت امرأة مسيحيّة، منذ أسبوعين فقط، بخاتم زواجها من أجل شراء جامع في سيدني، لجماعة سلفية، ترفض استدانة المبلغ من المصارف، وكانت المرأة تخدم المجتمعين في إحدى القاعات الكبرى من أجل جمع التبرعات، وقد فاجأت الحضور بالتفاتتها تلك، فأعيد بيع خاتمها عشرات المرّات، أي أن كل من اشتراه، كان يعيد بيعه، فجمعوا من جرّاء ذلك آلاف الدولارات. وعندما سئلت (أم جورج) عن ذلك، قالت: هذا بيت الله، ومن حقي أن أشارك بشرائه، كي يحمي الله أطفالي.
   مرّة رابعة، طلبت امرأة أسترالية مسيحية من كاهن الكنيسة التي تصلّي بها، أن يزورها عند الساعة الخامسة صباحاً، دون أن أي اعتراض أو تأخير، وكم كان حزنه عظيماً عندما أوقفته على شبّاك جيرانها المسلمين المشردين من بلدانهم، ووجد أربعة أطفال ينامون على الأرض بدون فراش أو غطاء، فهرع إلى مكتبه، واتصل بمؤسسة القديس فنسنت الخيرية، فأرسلت شاحنة كبرى من المفروشات لتلك العائلة المنكوبة.
   وأتحدّى كل من يقول ان الكنائس الأسترالية، التي فتحت أبوابها لمشردي أفغانستان والعراق وغيرهما، وآوتهم، قد طلبت من أحد منهم أن يتنصرن. هم أحياء، وبإمكان أي مؤسسة إسلامية أن تجري بحثاً في ذلك. حتى أن الكنيسة ترفض إخضاع الفتاة المسلمة (أو أي فتاة من دين آخر) لسرّ المعموديّة. لأن الإخضاع، بعرف الكنيسة ضغط، أو بالأحرى (إرهاب)، قد تتعرّض له الفتاة بسبب غرامها بالشاب المسيحي، والكنيسة ترفض ممارسات كهذه، خاصة إذا كانت الفتاة مؤمنة بالأساس بالله الواحد الأحد.
   مرّة خامسة، أخبرني أحد أصدقائي المسيحيين، أن محسناً مسلماً كان أحد أكثر المتبرعين من أجل بناء كنيسة في قريتهم اللبنانية، وأن مسلماً آخر من أبناء طرابلس الفيحاء، تبرع بتعبيد الطريق إلى الكنيسة، وكم وجدته فرحاً ومتباهياً عندما اعترف أمامي: أن كنيسة قريته بناها المسلمون.
   مرة سادسة، إن أنسى لا أنسى يوم دعاني جدي، رئيس أخويّة العذراء مريم، منذ أربعين سنة تقريباً، إلى المجيء معه من أجل مرافقة وفد إسلامي جاء ليجمع التبرعات من أجل بناء جامع، كان يريدني أن أدوّن أرقام المبالغ المحصلة من أبناء قريتي. وكم كانت فرحتي عظيمة عندما قال لنا الوفد: أن المبلغ الذي جمعناه يضاهي جميع المبالغ التي جمعها من باقي القرى.
   قصص كثيرة حقيقية، كهذه، بإمكاني أن أخبركم عنها، مرات ومرات، ولكن القارىء يفضّل مقالات (التايك أواي) السريعة، ولهذا سأكتفي بما ذكرت. مع تحيّة سريعة لشعب العراق الآمن، والتمني عليه أن لا يستسلم للطائفية، فإذا هدموا جامعاً، فليبنه المسيحيون، وإذا هدموا كنيسة، فليبنها المسلمون. تماماً كما فعلت أم جورج يوم تبرعت بخاتم زواجها من أجل شراء الجامع، أو كما فعل أبو أحمد يوم تبرع بشيك مفتوح من أجل بناء الكنيسة.
   هؤلاء هم الأبطال الحقيقيون يا مفجّري الجوامع والكنائس، وهؤلاء هم الداخلون إلى الجنة من جميع أبوابها، لأنهم أبناء الله يدعون.
**
شجّعوا الفريق العراقي في أثينا
      
   تناقلت وكالات الإعلام العالمية خبر انتقال الفريق العراقي الألومبي بطائرة أسترالية من مطار بغداد إلى مدينة الألعاب الألومبية في أثينا. وكنت في مقال سابق قد طالبت بمقاطعة الألعاب نظراً لغياب نصفنا الأجمل عنها. أما الآن، فأقول، وبالفم الملآن: لا تقاطعوا الألعاب الألومبية، بل شجّعوا الفريق العراقي، الطالع كطائر الفينيق من الموت إلى الحياة.
   حياة العراقيين تهمنا، تأكل معنا وتشرب، تدخل إلى رئتينا إثر كل شهيق وزفير، وتقض مضاجعنا. إنهم، والحق أقول، أهلنا، فرحهم فرحنا، وحزنهم حزننا. وبما أن حياة الشعوب لا تكتمل إلا بالتواصل، والتلاقي، والتعاضد، والتحبّب والتعايش، فلقد ذهب الرياضيون العراقيون إلى أهم حدث رياضي في العالم، ليخبروا الكون أجمع أنهم أبناء الحياة، وأنهم جديرون بها. 
   فريق صغير يمثّل وطناً لم نعد ندري من يمثّله، يحمل علمه بين الأعلام، ويشمخ كما لم يشمخ من قبل. ومن يدري فقد يحصد النصر ليفقأ الحصرم بأعين حاسيده. وصدقوني إذا قلت: إن الميداليات الذهبية والفضيّة والبرونزية لا تهمنا في الوقت الحاضر، فهذه الأمور سنتكلّم عنها عندما يتقدم العراق بطلب لاستضافة الألعاب الألومبيّة في المستقبل القريب، ومن يعش يرَ، لأنه البلد الوحيد المؤهّل من بين كافة الدول العربيّة لذلك. ولأنه، وهذا الأهم، ملتقى حضارات كثيرة، ستعطينا العجب العجاب، وتقذف أمام أعيننا الأحلام، متى تطايرت حمائم السلام في فضائه، وارتدت ربوعه ربيعاً أخضر مشرقاً، أزهاره ضحكات بنيه، وثماره تعايشهم الأخوي الرائد.  
   لا أحب أن أخبركم، ما أخبرتنا إياه وسائل الإعلام المختلفة عن اضطهاد الرياضيين العراقيين، سابقاً، وتعذيبهم في حال فشلهم، لأنكم أعلم مني بذلك. ولكنني أحب أن ألفتكم إلى عظمة هؤلاء (المضطهدين)، وتمسكهم، رغم آثار التعذيب الظاهرة على أجسامهم، بروحهم الرياضية، وبمزاولتهم لتمارينهم الشاقة، ولهذا تعاطفت معهم الشعوب، وانحنت لهم الرقاب.
   أتركوا السياسة جانباً، وتعالوا نلتف حول رياضيينا، أياً كانوا، ومن أي بلد جاؤوا، كما تلتف الشعوب الناضجة حول أبطالها الحقيقيين المتوجين بالغار الألومبي، فالسياسة والرياضة لا تلتقيان، إنهما ضدان أبديان، الأولى تدمّر وتميت، والثانية تعمّر وتحيي، وصدق من قال: إن رياضياً واحداً يساوي بالحساب الدولي ألف سياسيّ. فكم بالحري، إذا كان هذا الرياضي يمثّل وطناً أحرقته السياسات، ودمرته نرجسية زعمائه.
   أيام فقط، تفصلنا عن إضاءة الشعلة الألومبية، فلنضء نحن أيضاً، أينما كنّا، وفي أي بلد حللنا، شمعة من أجل نصرة أبنائنا وبناتنا دون استثناء.. خاصة أعضاء الفريق العراقي البطل.
**
نقتل أطفالنا ونقول: هذه مشيئة اللـه
   
   بينما تعلن أميركا عن اكتشاف جسم فضائي يلمع بمعدل خمسة مليارات مرة أكثر من الشمس، تمت مراقبته بتلسكوبين مرفوعين في لاس بالماس في جزر الكناري، بعد ان اعتقد العلماء انهم يراقبون نجماً.. فإذا بهم أمام كازار يساوي لمعانه عشرة أضعاف الكازارات الباقية التي شوهدت من الأرض.
   والكازارات هي أجسام فضائية مشعة تشبه النجوم، ولكن طاقتها أقوى منها.. وحده تلسكوب هابل العملاق سيكشف لنا سر هذا الجسم الغريب!.
   وبينما يعلن أثريون يابانيون انهم وجدوا خاتـماً يحمل اسم زوجة توت عنج أمون الملك الفرعوني المشهور، في مقبرة مصرية قديمة تبعد عن القاهرة مسافة 30 كلم.
   وقال أعضاء فريق التنقيب القادم من جامعتي (واسيدا) و(وتوكاي) انهم اكتشفوا الخاتـم الأزرق اللون المصنوع من الطين في حفرة متصلة بغرف المقبرة، وبالقرب منه اسم سين عنج أمون، وبما أن الخاتـم نسائي، ألبسه العلماء لـ (سين) زوجة توت عنج أمون، ومن يود الإعتراض فليأتنا بإثبات آخر!!
   وبينما تعلن منظمة الصحة العالمية أن حياة الانسان ستطول وتطول بفضل الرعاية الصحية، وتنقية مياه الشرب، واللقاحات، وتطور الابحاث الطبية، وأن المعمرين سيتكاثرون في فرنسا وإنكلترا وأستراليا (آمين يا رب)، وغيرها من الدول الراقية، إلا أنهم سينقرضون في الدول الفقيرة، بسبب سوء التغذية والرعاية الصحية والتلوث البيئي وغيرها وغيرها من المصائب.
   وبينما نحن نطالع عن الفياغرا والاستنساخ البشري وغزو المريخ، تطالعنا الصحف المصرية، بين الحين والحين، بأخبار تقشعّر لها الأبدان، كوفاة تلك الفتاة المسكينة البالغة من العمر إثنتي عشرة سنة، بينما كان أحد الأطباء يجري لها عملية ختان في الضاحية الشمالية للقاهرة، ضاربين عرض الحائط بالقانون الصادر عن مجلس الدولة المصري بخصوص الختان، رغم وضوحه وصرامته: ( أصبح من المحظور على الجميع اجراء عملية الختان للأناث حتى لو ثبتت موافقة الأنثى أو أولياء أمورها على ذلك، إلا لضرورة طبيّة لإجراء هذه العملية بناء على قرار سابق من مدير قسم أمراض النساء في أحد المستشفيات، وإلا تعرّض كل المخالفين للعقوبات الجنائية والتأديبية والإدارية). ومن له أذنان سامعتان فليسمع!
   ورغم معارضة البعض لهذا القرار ولعدة قرارات سابقة، إلا أن عقوبة السجن ستطال الجميع دون استثناء.
   وتؤكد مصادر حكومية ان عمليات الختان يمارسها المسلمون والمسيحيون على حد سواء، وتشمل 97 بالمئة من المصريات والسودانيات، رغم الآثار النفسية والصحية والبدنية التي تتركها هذه العمليات على الخاضعات لها.
   والجدير بالذكر أن أحد المحامين أقام دعوى قضائية على شبكة سي ان ان الامريكية، لأنها عرضت فيلماً، منذ سنوات، عن عملية ختان إحدى الفتيات، وطالبها بمبلغ 250 مليون دولار، كتعويض لوالد الطفلة المختونة، ولكن الشركة التلفزيونية أظهرت أن التصوير تـم بموافقة والد الفتاة، عندئذ أمر القاضي أن يدفع المحامي والوالد نفقات القضية.
   هذا ما يحدث معنا في بداية القرن الحادي والعشرين، زمن الإختراعات المتقدمة التي أوصلتنا إلى المريخ، والإستنساخ، والفياغرا، والعمر الطويل، حسب ما بشّرتنا به منظمة الصحة العالمية.
   هذا ما يحدث معنا في بلاد يأتيها العلماء للتنقيب عن آثارها الفرعونية الغارقة في المدنية القديمة، التي تتشاوف بعزها وجبروتها وتقدّمها، يومذاك، على كافة إختراعات اليوم. هم ينقبّون عن الآثار، ونحن ننقّب عن العادات الفرعونيّة البالية التي طواها الزمان كما طوى جثمان السيّدة (سين) صاحبة الخاتـم التاريخي الثـمين!
   بصراحة، ما بعدها صراحة، إننا نقتل أطفالنا ونمشي في جنازتهم.. ولسان حالنا يردد: هذه مشيئة اللـه. 
**
البطريرك صفير عندما بكى
      
   التقيت البطريرك مار نصر الله بطرس صفير مرّتين: المرّة الأولى أبكيته بها، والمرّة الثانية أبكاني أنا.
   عام 1993 زار غبطته أستراليا، وكان من حسن حظي أن أعدّ برنامج استقباله في معهد سيدة لبنان، فدرّبت الطلاب على أجمل الأغنيات الترحيبية، وعندما جاء دور الكلام، ألقيت على مسمعه قصيدة جعلت الدموع تنهمر غزيرة من عينيه، وجعلتني أتوقّف عن الإلقاء، والدهشة تعلو وجهي، هل أكمل أم أتوقّف؟.. فما كان مني إلاّ أن التفت إليه وقلت: نحن هنا لنفرّحك يا سيّدنا وليس لنبكيك. فأشار إلي بأن أكمل الإلقاء، فأكملت باللهجة اللبنانية:
طلّتكْ.. كمشة فرح ودموع
غيّاب.. يا ما تأمّلوا فيها
إيدين.. تحصد زهر، تضوي شموع
وشفاف.. تتمرَّن عَ آويها
وسيدني الْـ صرلا شهر تمشي طلوع
تا تطال "قامِه" الرّب حاميها
نخّت عَ إيدك نخّة الموجوع
تزرع البوسِه.. وتسقيها
يا بطرك المشرق.. بصوت جموع
كلمة "يا أهلا" بحبّ غنّيها
نحنا ولادك.. ناطرين رْجوع
هاك الكنايس صعب ننسيها
قلب الطفل بِـ غربتُو مشلوع
سنينو، لأيّا أرض، يهديها؟!
لبنان حلمُو.. والحلم مفجوع
وسيدني بتعطِي.. وحقّ يعطيها
صلِّي تا نرجع.. مطلبك مسموع
رجوع الرّعيّه همّْ راعيها
بصدورنا.. حبّ الأرز مزروع
وبلادنا.. بالدّم نفدِيها
حامل صليبك.. مقتدي بيسوع
وعتماتنا بالطّهر تضويها
ومهما شبعنا لمخبَزك منجوع
يا سيد بكركي.. يا راعي الشَّرق
وزنات حبَّك.. عار نخفيها!
   وفي السفارة اللبنانية بكانبرا، حاول سفير لبنان السابق الدكتور لطيف أبو الحسن أن يقدّمني لغبطته بعد يومين من إلقاء القصيدة، فتطلع به البطريرك وقال:
ـ لقد بكيت مرّتين، الأولى عندما سار أطفال لبنان بمظاهرة من أجل لقمة الخبز والحرية، والثانية عندما استمعت إلى قصيدة شربل بعيني، وهذا ضعف مني، يجب أن لا يتكرّر.   
   وقد تناقلت الوسائل الإعلامية خبر بكاء البطريرك صفير في أستراليا، وأنه من النادر أن يبكي، فأحسست بذنب لم يفارقني إلاّ عندما زرته في لبنان.
   هناك في بكركي، دخلت على غبطته بعد 8 سنوات، وباعتقادي أنه نسيني تماماً، ولم يعد يتذكّر وجهي، وهو الذي يشاهد مئات الأوجه يومياً، وكم كانت دهشتي عظيمة حين قال لي وأنا أسلّم عليه: 
ـ إيّاك أن تلقي قصيدة كالتي ألقيتها في سيدني، فأنا لا أريد البكاء.
   فتطلعت به وقلت: 
ـ أما زلت تذكرني يا سيّدي؟ 
   وكنت يومذاك برفقة الدكتور عصام حداد، صاحب معهد الأبجدية في جبيل، فقال للبطريرك: 
ـ ما شاء الله يا سيّدنا، ما زالت ذاكرتك قويّة.
   ولأن العبارة التي قالها في السفارة اللبنانية أرقتني طويلاً، وآلمتني طويلاً، سألته ويداي تحضنان يديه:
ـ لماذا اعتبرت بكاءك ضعفاً يا سيّدي، فلقد سمعتك تقول هذا للسفير أبو الحسن، يوم شرّعت السفارة اللبنانية أبوابها لاستقبالك؟.. كنت أعتقد، قبل أن ألتقيك، أن رجال الدين بدون قلوب، ولهذا شتمتهم بمختلف طوائفهم في ديواني (ألله، ونقطة زيت)، إلى أن محت دمعتك الحنونة كل ما كتبت، فالمراكز العالية، يا سيّدي، تحجّر القلوب، أما قلبك فما زال يبكي علينا ومعنا.
   هنا، راح يخبرني عن دموع السيّدة العذراء، وكيف بكت تحت قدمي ابنها يسوع المسمّر على الصليب، وأخبرني قصصاً كثيرة أثلجت قلبي، وخففت عني الشعور بالذنب الذي رافقني لسنوات طويلة.
   وعندما سألته عن تردّي الأوضاع الأمنية والاقتصادية والبشرية في لبنان، وماذا سيخبّىء لنا القدر؟ تمتم قائلاً:
ـ لا حياة لمن تنادي، نحن نتكلم ولا أحد يسمع.. كل يغنّي على ليلاه.. 
   وراح يخبرني عن هجرة المسلمين والمسيحيين الجماعية من لبنان، وأن لبنان سيفرغ من سكّانه قريباً، وأن الشعب يرزح تحت ألف عبء وعبء، وأن الوطن على طريق الإفلاس.. وشعرت بغصّة كبيرة في صوته، فبدأت دموعي تدغدغ عينيّ، ولكني أخفيت ألمي عن غبطته، كي لا أزيد فوق همومه هم رجل مغترب، ولكي لا يطوي النسيان تلك الزيارة سجّلت معظم كلامه في مسرحية (يا مار شربل) التي مثّلها هذا العام أكثر من 400 طالب وطالبة من معهد سيّدة لبنان ـ سيدني.
   وبينما كنت أغادر الصرح البطريركي، التقيت على الباب بأناس كثيرين جاؤوا لطلب المساعدة، وقد اعترف لي العديد من الأصدقاء المسلمين أن البطريرك صفير يخدمهم كما يخدم أبناء طائفته، لدرجة أن أحدهم قال:
ـ إنه بطرك النصارى والمسلمين معاً، إنه بطرك لبنان.
   إما أن يكون رجل الدين، أيّاً كان مذهبه، كهذا البطريرك القديس وإما فليفتّش عن عمل آخر يرتزق منه، كي لا يدمّر الأرض والسماء معاً، ويحرمنا من التمتع بهما. 
**
وباء الكورونا

   سأشكر الله الف مرة كوني أعيش لوحدي في سيدني أستراليا في زمن وباء "كورونا" اللعين.
   فإذا كنت انا صاحب الفم الواحد، والبطن الواحد، والقفا الواحدة، ليس بإمكاني أن أحصل على كل ما يلزمني من المحلات التجارية، فكم بالحري رب العائلة الذي يعيل زوجة وعدة أطفال.
حرب "الكورونا" أطلقوا عليها حرب "تنظيف القفا" أو "ورق التواليت"، ولكنهم تناسوا أن "الملح" الذي نبّه السيد المسيح منه حين قال"إذا فسد الملح فبماذا يملّح"، لم يعد موجوداً كي يُفسد، فبعد زيارة عدة محلات تجارية في منطقتي لشراء كمية قليلة من الملح، لم أجد غير الاسم على الرفوف، وعبارة "آسف" تنطلق مسرعة من أفواه أصحاب المحلات التجارية، فصرخت بأعلى صوتي:
ـ اسمح لي يا يسوع أن أتلاعب بعبارتك وأقول "إذا فقد الملح فبماذا يملّح".
   فبعد أن وحّد وباء "الكورونا" البشرية بالموت والخوف والجشع، وجب على جميع الشعوب أن تقف بوجه حكامها الفاشلين المجرمين وتطالبهم بتحويل ميزانيات شراء الأسلحة الفتاكة الى بناء المختبرات والمستوصفات والمستشفيات وما شابه بغية محاربة ما قد يستجد من أوبئة قد يقفون عاجزين عن محاربتها كما يحصل الآن.
    إذا كان بإمكان القنبلة الذرية أن تخلصنا من هذا الوباء أنا أوافق على ضربها.
 إذا كانت الصواريخ الباليستية وغيرها قادرة على تدمير "الكورونا" أنا أرحب باطلاقها حالاً،
   جميع أسلحتكم المدمرة أيها الحكام الجهلاء وقفت عاجزة أمام وباء واحد.. رغم انها فتكت بملايين الرجال والنساء والاطفال حول العالم.. تماماً كالأوبئة وما زلتم تتباهون بها.
لعنكم الله.. ولعن كل شعب سيقف صامتاً من الآن فصاعداً أمام إجرامكم.
**