عندما يموت الشعراء

الغلاف للفنانة رندى بعيني
**
نشرت في مواقع إيلاف، دروب، قدموس والغربة
**

الشاعر.. بوصلة زمانه
ـ1ـ
   قديماً، كان الشعر ديوان العرب، لا يتقدمه فن من الفنون، ولا يجاريه أدب، وكانت القصائد تحفظ عن ظهر قلب، وتعلّق بالأماكن المقدسة، ليقرأها الحجاج ويتنعموا بها، كي لا أقول: يتباركون، وتقوم علي قيامة البعض، فسميت من جراء ذلك بالمعلقات. وكان الشاعر صوت قبيلته، وحامي شرفها من الضياع، فإذا ناح، كالخنساء، ناحت، وراحت تبكي قتلاها:
فلولا كثرة الباكين حولي
على إخوانهم لقتلتُ نفسي
  ولو قتلت سيدة الرثاء العربي نفسها، في ذلك الحين، للحقها إلى عالم الموت نصف دزينة من رجال ونساء قبيلتها المعجبين بها، والمحزونين عليها وعلى شاعريتها، التي تعتبر ملكاً حلالاً لكل واحد منهم، ويجب عدم التفريط بها.
ـ2ـ
 وإذا تفاخر، كعمرو بن كلثوم، تفاخرت قبيلته، وراحت تناطح السحاب تبجحاً، وتتغنى كما تغنى:
ألا لا يجهلن أحد علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا  
ـ3ـ
   وإذا حض على القتل، كما فعلت دختنوس إبنة لقيط بن زرارة سيد تميم، وقـد قتـله بنو عبس، حين توعدت قتلة أبيها بالموت:
لنجزيكم بالقتلِ قتلاً مضعَّفا
   أو إذا جعل الحيوانات الكاسرة تضحك، والطيور تشبع، كما فعل الشاعر الصعلوك تأبط شراً:
تضحك الضبع لقتلى هذيلاً
وترى الذّئب لها يستهلُّ
وعتاق الطّير تغدو بِطاناً
تتخطّاهم فما تستقلُّ 
   فاعلموا أن أنهاراً من الدماء ستجري بين القبائل المتناحرة، إلى أن يرزقها الله شاعراً إنسانياً واعياً، كزهير بن أبي سلمى، يكره الحرب، ويندد بها، ويهتف بأعلى صوته: 
وما الحرب إلاّ ما علمتم وذقتم
وما هو عنها بالحديث المرجّم
متى تبعثوها تبعثوها ذميمة
وتضر إذا ضريتموها فتضرم 
ـ4ـ
   أما إذا خانته قريحته الشعرية، وهذا أبغض الأشياء عند القبائل، خارت عزائمها، وراحت تتلطى وتتنقل من مكان لآخر، مخافة التشهير بها، وراح شاعرها المهزوم يلعق جرح خيبته، ويشيح بوجهه عن أعين الغاضبين من أبناء عشيرته، هذا إذا لم يهجر القبيلة ويهيم على وجهه. 
   من هنا بدأت رحلة البؤس عند الشاعر، ولم تتوقف إلى يومنا هذا، وكان أشهر ضحاياها شاعر الشعراء المتنبي، الذي مدح سيف الدولة، ليهجره بعد طمع وحب، ومدح كافور الأخشيدي ليشتمه ويهرب بعد خلاف، ولكنه ما أن كال المديح لنفسه، حتى وقّع، دون أن يدري، على صك وفاته:
الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم
   وبما أن حكايته مع هذا البيت القاتل مشهورة، اسمحوا لي أن أتخطاها.
ـ5ـ
   ومن منا لا يعرف قصة شاعرنا (الأصمعي) مع الأمير البخيل، الذي تململ الشعراء وتذمروا من كثرة الوقوف على بابه بغية الحصول على حفنة من المال تكفي لسد جوع أبنائهم دون جدوى، وكان سموه يعبد الدينار، ويأبى أن يهبه لأحد، إلى أن جالت في دماغه الفارغ فكرة استغلال الشعراء، والتنعم بمديحهم، دون أن يدفع لهم، فأعلن أنه سيمنح الشاعر الذي يمدحه ثقل قصيدته ذهباً، إذا لم يحفظ هو أو جاريته القصيدة، فهوى الشعراء كأوراق الشجر الخريفية، أمام ذكاء جاريته، وسرعة حفظها للشعر، ولم يبلوا ريقهم بنقطة ماء من غدير أميرهم المجفف، إلى أن جاء (الأصمعي)، أذكى شعراء عصره، فنظم قصيدة طويلة لا يحفظها إلا الجن، وحفر أبياتها على حجر ثقيل، ما زلت أذكر منها بيتاً واحداً، وكم أتمنى الحصول عليها في غربتي، بعد أن احترقت مكتبتي في لبنان، أثناء الحرب اللعينة:
فقلت وَصْوَص وصوصٌ
فجاء صوتٌ من علِ
فأخذ بثأر جميع الشعراء المهزومين، وراح يوزّع عليهم ما حصده من ثروة، أبى الأمير البخيل إلا أن تؤخذ منه قسراً. 
ـ6ـ
   ذكرت كل هذا لأثبت أن الشاعر، مهما اندحر الشعر وتقوقع، سيبقى بوصلة زمانه، أنّى اتجه تتجه الأعين، وكيفما مال تشرئب الأعناق. إنه إبن الوحي. شعره، لا يستمده من المدرسة، كباقي الفنون، بل من الموهبة التي تأتيه هبة من الله، لذلك تبقى كلمته مسموعة، وصوره الشعرية مشعة، ورحلته مع الأدب موفقة. فإذا هز الشاعر القديم أبدان أعداء قبيلته بأبياته الشعرية، نجد أن الشاعر الحديث ما زال يهز الأحداث بهدير انفعاله، وها هي ثورة الحجارة في فلسطين تحصد آلاف القصائد، وها هي نكسة حزيران 1967، تلهب مخيلات الشعراء، فينشدون رغم الهزيمة:
الغضب الساطع آتٍ.
   ويمنون النفس بحمل بندقية، وإن كانت مغشوشة، وتطلق رصاصها إلى الخلف:
أصبح عندي الآن بندقية
إلى فلسطين خذوني معكم
   كما أن ثورة الجزائر، حصدت الكثير من القصائد الحماسية، التي ساهمت بشكل من الأشكال بحصول الجزائر على استقلالها. وهناك أمثلة عالمية كثيرة، على فاعلية الشعراء أثناء الأحداث الجسام، لا مجال لذكرها الآن.
   صحيح أن الشعراء، كما قال الشاعر الألماني هولدرلين، مثل كهان ديونيزوس يهيمون على وجوههم من بلد إلى بلد في الليلة المقدسة، ولكن بصماتهم ستبقى مطبوعة على وجه كل بلد يحطون الرحال به، فيزينون ليلتهم تلك بقناديل إبداعهم، وبثمار عطاءاتهم، التي ستقطفها الأجيال لتتذوق طعمها، وتتنعم بها، ولو بعد غروب.
ـ7ـ
  قبيلة الشاعر، في يومنا هذا، ضيعة كونية صغيرة، كل ما يقلقها يقلقه، لذلك ازدادت أهميته، وكثر قراؤه، وتنامت شعبيته، وما عليه سوى التفتيش عن موقع إلكتروني يلجأ إليه لنشر ما وهبه الأرق من قصائد، قد تقرأ وتتناقل، وقد يقفز الفأر الإلكتروني فوقها ويتخطاها، لتنزوي بعد ذلك في أرشيف الموقع، أو في دفتر أشعاره، غير عابىء بمديح قومه، ولا بعطاء أمير فاسد بخيل، همه الوحيد أن ينزف على الورق ما يتأجج بداخله من أشعار، قد تهلكه كما أهلكت معلمه المتنبي، أو قد تغنيه كما أغنت زميله الأصمعي.
**
المركز الجديد للثقافة العربية 
هو الإنترنت
   تعرف (إيلاف) كيف ومتى تثير الشجون، وتنكأ الجراح، وتوقظنا من غفوة أهل الكهف التي ابتلينا بها أدبياً، بعد أن سقطت بيروت، وأطفئت منارتها الثقافية، وديست بأقدام همجية طائفية، قتلت فيها الإبداع، ورمت مثقفيها ومثقفي الأمة العربية، الذين التجأوا إليها، هرباً من اضطهاد أنظمتهم القمعية، بضياع مر، ما زلنا نشمئز من مرارته رغم اندثار السنين واندحارها.
   لقد كانت بيروت، ولسنوات طويلة، (ست الدنيا) بأعين الشعراء العرب، فيها يتغنون، ومنها ينطلقون إلى عالم الإبداع والشهرة، فلولاها لم يكن نزار قبّاني كما قدر له أن يكون، حتى ولا أدونيس. هي التي فرشت دربيهما بالمجد، ومدتهما بنسغ حريتها. فأصبح لصوتيهما رنين، ولطلتيهما هيبة. وما قلته عنهما أقوله عن العشرات من شعرائنا ومثقفينا الذين احتنضتهم، وأرضعتهم حليب مجدها دون منة أو مقابل.
   الفكر العربي من المحيط إلى الخليج كان ينظر إلى بيروت نظرة حب وإعجاب، ويتلهف لملاقاتها، عله يغيّر، بمساعدتها طبعاً، ما وجب تغييره في وطنه الأم، مما أوغر صدور الحكام العرب عليها، واعتبروها شراً يجب التخلص منه، قبل أن يطيح بهم، وكان لهم ما أرادوا.. فاجتاحتها حروب الآخرين على أرضها، وأطفأت نوراً أضاء الشرق كله، لدرجة أصبح معها هذا الشرق التعيس يفتّش عن عود ثقاب ليشعل شمعته فلا يجده في ظلام كريه مفتعل.
   فإذا كان صالون مي زيادة الأدبي قد أنار سماء القاهرة، وجعلها المكان ـ الموئل ردحاً من الزمن، وإذا كانت الرابطة القلمية قد حوّلت مدينة (بوسطن) الأميركية، مدينة ثقافية عربية بكل ما للكلمة من معنى، فإن مجلة (شعر) التي أطلقها يوسف الخال، قد جعلت من بيروت قبلة الحداثة العربية، منها يبدأ التغيير، وعلى صفحاتها يتراقص الإبداع، وتشرئب الأسماء المتمردة الهاربة من مدنها العربية المعتقلة، لتعلن العصيان على الرتابة والخمول.
   وإذا كان لكل جديد رهجة، كما يقول المثل الشعبي، فلقد ثوّر جديد مجلة (شعر) النقاد العرب، منهم من رفع راية الشعر الكلاسيكي، وأدمى شفتيه وأصابعه من أجل الدفاع عنه، ومنهم من اعتنق الحداثة مذهباً، وأبى أن يؤمن إلا بها. وهل أفضل من بيروت عاصمة لبنان، البلد العربي الديمقراطي الوحيد، لاحتضان مثل هذه الثورة الرائدة؟ بالطبع: لا. 
   رغم أنني اكتفيت بذكر بيروت، كوني عايشت تلك الفترة الذهبية التي مرّت بها ثقافتنا العربية عبر تلك المدينة المشتتة، التي ما زال المفكرون العرب يحلمون بملاقاتها، والتغني بها، ولكنني في نفس الوقت أؤمن أن سقوط بيروت لم يكن السبب في سقوط الثقافة العربية، أو الشعر العربي بالتحديد، إذ أن الشعر العالمي، وقبل نكبة بيروت، بدأ يعلن إفلاسه، وبدأت دور النشر العالمية تمتنع عن نشر دواوين الشعراء لعدم إقبال القراء عليها. وكيف يقبلون عليها وقد استنفد الشعر جميع مدارسه، ولم يبتكر الشعراء الجدد نمطاً جديداً يكون قادراً على تثوير النقاد، واجتذاب القراء، كما فعلت الحداثة الشعرية في القرن الماضي. كل شيء أصبح تقليدياً وتراثياً من (الخيل والليل والبيداء تعرفني) إلى (الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع).
   من هنا نقدر أن نستنتج أن المكان لم يسلط الضوء على الإبداع الفكري المتفجر في أرجائه، بل أن إبداع مفكرينا هو الذي سلط الضوء على المكان، ورسمه منارة جعلت المتلقي يحفظ اسماء المدن، لوحدويتها، وينسى أسماء مبدعيها لكثرتهم، فتغلب بذلك اسم المكان على أسماء مبدعيه.
   ولأوضح الصورة أكثر: هل انطفاء (بوسطن) في الذاكرة الثقافية العربية كان السبب في انطفاء الرابطة القلمية، أم أن تناحر أعضاء الرابطة وتشتت شملهم هو الذي أطفأ شعلة (بوسطن) في ذاكرتنا؟.
   المدن لا تتحرك، لا تتكلّم، ولا تبدع، بل أن هناك مبدعين يتألمون بها، فإذا ارتفع صوت ألمهم ارتفع صوتها، وإذا صمتوا صمتت، ولم يسمع أحد بها أو بساكنيها.
   وكي لا أغبن المثقفين العرب، أجد أن الثقافة العالمية تبحث أيضاً عن مكان لها، بعد أن تخلت عنها جميع الأمكنة، فلولا بعض الكتب السياسية التي تلاقي رواجاً بسبب ارتباط السياسة بالناس، لم نجد كتاباً ثقافياً واحداً سلطت الأضواء عليه، وأحدث ضجة إعلامية باستثناء روايات (هاري بوتر) الطفولية.
   اعطوني مدرسة أدبية جديدة، لأعطيكم اسم مكان جديد يتفاعل فيه روّاد هذه المدرسة، وينقل بريق إشعاعهم عبر أحرفه، فيحفظ المتلقون اسمه، وينسون اسم مبدعيه.
   قد يكون وجود هذا المكان ـ الموئل من سابع المستحيلات، بسبب الشتات الذي يعيشه معظم المثقفين العرب، منهم من يقبع في السجون العربية، ومنهم من يتأفف من ضباب لندن، ومنهم من يتألم في باريس، ومنهم من يعمل ليقتات في نيويورك أو سيدني أو غيرها من المدن، ولا شيء يجمعهم إلا خطوط لا مرئية إسمها الإنترنت، بها يلتقون ويتفاعلون، وعلى صفحاتها ينشرون، ومن ثقافتها ينهلون، هي كل شيء بالنسبة لهم، ولم تعد تهمهم بيروت، أو القاهرة، أو بغداد، أو الخليج، أو لندن أو غيرها، طالما أن بإمكانهم أن يصلوا إلى قراء تلك المدن ساعة يشاؤون، وبأقل كلفة ممكنة لهم وللقراء. أفلا يحق لي إذن أن أقول: ان المركز الجديد للثقافة العربية هو الإنترنت، ولكن يلزمه الإبداع.. وإلاّ سنبقى نراوح مكاننا، ونجتر أعمال أسلافنا، فنضجر من كتاباتنا.. ويتثاءب القارىء.. وبعد لحظات يشخّر.
**
عندما يموت الشعراء

   قديماً، كان الأهل يرفضون تزويج بناتهم من شعراء، ليس لأنهم يكرهون القصائد، أو لا يتلذذون بموسيقى القوافي، بل لأن الشاعر بنظرهم إنسان مفلس، فقير، قرشه يهرب منه، كما يقول المثل الشعبي، وقد عبّر أحد شعراء الزجل اللبنانيين عن هذه الحالة ببيت من الشعر، خاطب به ابنته المغرمة بشاعر مثله:
وين شفتي شاعر ولابس فري
كلنا بحاله مرتّه.. ما عدا؟
   أي، هل رأيت، يا ابنتي، شاعراً يرتدي الفرو الثمين، كي تغرمي به، إنه وبأفضل الأحوال سيكون فقيراً كأبيك الشاعر، ناهيك عن المصائب والأهوال التي قد تصيبك بسبب ما سوف يكتب أو يغني على المنبر؟   
   والظاهر أن فقر الشعراء، لم يعد حكراً على الأقدمين، الذين ابتلوا بقلة العمل، وباضطهاد الحكام لهم، وبتعليق مشانقهم من قبل المستعمر، كما حصل مع شهداء لبنان، بل بدأ يجتاح شعراء القرن الحادي والعشرين، عصر القرية الكونية الصغيرة، وها هو الشاعر الجزائري أبو بكر زمّال يعرض كليته للبيع، ليس من أجل شراء لقمة عيشه، بل من أجل دفع إيجار منزله، كي لا ترمى عائلته في الشارع.
   الدول المتقدمة، كأستراليا مثلاً، توزّع المساكن الشعبية الفخمة على أبنائها، بإيجارات بخسة، كي لا ينام طفل من أطفالها في العراء، كما أنها تدفع راتباً أسبوعياً للعاطلين عن العمل، كي لا يلجأوا إلى السرقة وممارسة الرذيلة من أجل لقمة العيش، ودولنا العربية، كالجزائر مثلاً، يعرض أحد شعرائها كليته للبيع كي لا تتشرد عائلته في الشارع. ومع ذلك ندعي أننا خير أمة أخرجت للناس، دون أن نشعر بأدنى احتقار لتبجحنا الكاذب.
   منذ عدة أشهر قرأت خبراً هزني في الصميم، فلقد مات أحد الشعراء العراقيين بعد تسكع في الشوارع دام عدة سنوات، والظاهر أن الموت كان أرحم على هذا الشاعر من بني جنسه، فلقد خلصه من عالم كل ما فيه فاسد، الهواء، المأكل، المشرب، الأدب، الشعر، الحكم، وأخيراً وليس آخراً الدين. فساد يتشاوف على فساد، دون أن نحرّك ساكتاً، لا بل ما زلنا نتبجح ونتبجح إلى أن سئم التبجح من تبجحنا.
   والشعراء، أنى وجدوا، مشهورون بسوء طالعهم، حتى وإن جمّل لهم الحب الزواج، وأوقعهم في حبائله، كما حصل للشاعرة الأفغانية ناديا أنجومن، التي أغرمت برجل، أو أرغموها على الزواج به، وما أن حملت اسمه، ودخلت بيته، حتى بدأ يظهر من الوحشية ما لم يظهره الوحش الكاسر، فقام بضربها حتى الموت، وعندما واروها الثرى في مدينة (هرات)، وجدوا على قبرها (زهرة قرمزية)، رمتها فتاة أفغانية، كانت قد قرأت ديوانها الشعري الأخير (زهرة قرمزية).
   حياة الشعراء، وإن لبسوا الفرو الثمين، تظل محفوفة بالمخاطر، ومشبعة بالألم، فكم بالحري إذا لم يجدوا عملاً في مسقط رأسهم، ولم يتمكنوا من الهرب إلى وطن آخر يأويهم، مع العلم أنهم يعيشون الغربة في وطنهم، فلسوف يلجأون إلى بيع كل ما يملكون، وهل يملك الفقير غير جسده، ليبيعه عضواً عضواً.. كي لا يبيع أطفاله.
أمة لم تفكر بعد برفاهية إنسانها، هي أتعس أمة أخرجت للناس.. وكفانا تبجحاً.
**
أدبنا عالمي.. شئنا أم أبينا

   لا أعتقد أن هناك فرقاً بين أدب عربي أو إنكليزي أو فرنسي أو روسي أو صيني إلا من ناحية جفرافيّة المكان وتفاعل البيئة وطواعية اللغة التي كتب بها هذا الأدب. فالأدب العربي ـ شئنا أم أبينا ـ أدب عالمي، لأنه جزء أساسي من تكامل العالـم الذي نعيش فيه. فالعالـم لا ينحصر، ولو أردنا حصره، في بقعة ما من بقاع الأرض، خاصة، وقد انتقلت عمليّة النقل من ظهر الجمل والحمار والحصان إلى ظهر الطائرة النفّاثة، وشبكات الإنترنيت، والمجلات الإلكترونية، ليصبح الكون من مشرقه إلى مغربه ألعوبة بيد إنسانه. أما لماذا لا يترجم أدبنا العربي كبقيّة الآداب المكتوبة بلغات أخرى؟ فالسّبب واضح وضوح الشّمس، إذ أن الآداب التي ترجمت إلى لغتنا كانت بمعظمها إنسانيّة التوجه، توعي الإنسان وتحرره من عبوديّة حكّامه واستغلاليّة طوائفه، بينما أدبنا العربي ـ باستثناء أقلام نادرة جداً ـ يحاول تدجين الإنسان العربي في قنّ الحاكم الذي يدفع أكثر. 
   بمختصر العبارة، إنه أدب النفعيّة والإرتزاق والتعصّب الديني الوسخ، لـم ولن يتمكّن من تغيير بند واحد من قانون التبعيّة في شرقنا العربي. فكيف نريده أن يترجم وأن يدرّس في جامعات تسكنها الحريّة وتبرمجها لخير الإنسانيّة جمعاء. 
   ثم، لا يحق لنا اتهام الغرب بالعنصريّة الأدبيّة، ونحن أدرى النّاس به، إذ أنّنا نتنقّل بين أحضانه، وننعم بحريّته، ونأكل من خيراته أكثر مما يأكل أبناؤه الأصليّون. الفشل فشلنا، والعنصريّة عنصريّتنا، والكذب كذبنا، والمحاربة محاربتنا، إلى آخره. ومجنون من يعتقد أنني أدافع عن الغرب، ولكن حالة اليأس التي يتخبّط بها بعض الأدباء الأحرار في الوطن العربي، وازدحام السجون بشرفاء الكلمة، واغتيال العديد من الأقلام الجريئة، وتغييب كلّ من يفتح فمه لينطق، وهدر دم من يعبّر عن رأيه بصراحة.. جعلني أتمسّك أكثر فأكثر بما أقول . 
   نجاح جبران في الغرب، يعود إلى عظمة أدب جبران، فمعظم رفاق جبران نشروا نتاجهم باللغة الإنكليزيّة، ولكنّهم ليسوا (جبران). ابداعنا وحده يحملنا إلى عالـم الآخرين. وقوفنا في وجه التيّار الشّاذ يروّض التيّار لمصلحتنا. قدر ما نعطي نأخذ، تماماً كالتجارة، وإن تقولبت بقوالب أدبيّة. 
   يجب أن نتخلّص من عقدة عالمية أدبنا العربي، وأن نترك للتاريخ حريّة الحكم على نتاجنا. وأنا واثق من أن الغرب سيلتهم الجيّد منه، لأن فيه غذاءه، بعدما قلّت مصادر الغذاء في معظم منتوجاته الأدبيّة الصادرة في أيّامنا هذه. 
   جميع الجهات الرّسميّة في دولنا المحتلة بنرجسيات حكامها وبطش مخابراتها، لا يهمّها سوى محاربتنا. بربكم هل وصلتكم رسالة شكر من مسؤول حكوميّ واحد على مقال إنساني مشرق خطه يراعكم؟ بالطبع لا.. لأنّه اعتاد مديحكم وتكريمكم له، فكيف تريدونه أن يتنازل عن مكتسباته العديدة لأديب لا يملك سوى قلم ودفتر وكلمة قد تجرف الأرض من تحته.
   كي يصبح أدبنا جيّداً علينا بمراجعة أنفسنا، وبمحاسبتها على كلّ عملٍ رديء نقوم به، قد يسيء من حيث لا ندري إلى شرف الكلمة التي نكتب، وإلا.. رحمنا اللـه.. وأسكننا فسيح جنّاته. 
**
ذكرى وفاة نزار قباني

   ها هي ذكرى وفاة شاعر الأمّة العربية نزار قبّاني تطلّ وكأنّ شيئاً لـم يكن..
   الحكومات العربية مشغولة بتلفيق التهم، حتى لا يبقى شريف واحد في أرضنا.. إما أن يذهبوا الى السجون وإما أن يحشروا في قبور كلسية رطبة، ويرتاحوا من هيئات حكامهم البشعة جداً جداً..
   وزارات الثقافة العربية تهتم بكل شيء ما عدا تكريم الشعراء.. فالشاعر بالنسبة لها عميل يتآمر عليها وعلى نهجها السياسي، إذا كان لها نهج سياسي.
   ليس أسهل على الشعب العربي من النسيان.. فبإمكانه أن ينسى أبطاله، شهداءه، مفكريه، شعراءه بطرفة عين، لا كرهاً بهم بل خوفاً من وجع الرأس.. وكأن أبا القاسم الشابي لـم يعنه حين قال:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة
فلا بدّ أن يستجيب القدر!
   أي قدر سيستجيب في هذا الزمن التعيس المنحل.. زمن نكران الجميل والجحود الأبشع.
فلا حرف كحرف نزار..
ولا شعر كشعر نزار..
ولا ثورة كثورة نزار..
ولا صدق كصدق نزار..
ومع ذلك تناسيناه في ذكرى وفاته.. وكأنه لـم يولد.. ولـم يترعرع.. ولـم يشِبّ.. ولـم يشِبْ.. ولـم يكتب!! ولولا العيب لقلت ان الامة العربية لـم تصدّق انها ارتاحت نهائياً من تأنيب نزار.. فكيف تحيي ذكراه على مستوى يليق به، وهو الذي كان ينتظر موتها بفارغ الصبر.. لأنه كان على معرفة تامة بجحودها وقلّة وفائها؟!
   شاعر مثل نزار قبّاني لن يموت.. فلقد استنسخ من حاله قبل الوفاة ملايين النسخ.. سكّنها في بيوته الشعرية الفخمة، وأمرها بتثوير الشعب العربي، حتى يصبح جاهزاً للحياة، وقادراً على الإمساك بالديمقراطية الصحيحة.. والاندماج الكلي بها.
   لقد اشتقت يا صديقي الكبير لنبرات صوتك.. لإرشاداتك.. ولرسائلك.. فكيف أعوّض خسارتي؟! 
**
أيكة عصام حدّاد: سنديانة وقلعة

   الأيكة، كلمة تعني الشجر الكثير الملتفّ. وعندما نقول: يأيك الشجر، فهذا يعني أنه كثر والتفّ.
   والدكتور عصام حدّاد عنده في عين كفاع، مسقط رأسه، أيكة ولا أجمل.. غنّاها في كتبه الكثيرة، وحوّلها إلى قاعة طبيعيّة للمحاضرات، حاضر بها كبار الأدباء اللبنانيين والعرب. والجدير بالذكر أن مقاعدها وطاولاتها كلها من الصخور المقطوفة من جبالنا، والمزروعة في أرجاء الأيكة.
   وعندما يبرد الطقس، وينتقل الحدادون الأربعة: عصام وسامي وسمير والوحيدة سلوى إلى مدينة جبيل، يحوّلون قلعتها الأثرية الشامخة أيكةً حجرية، يستقبلون بها زوّارهم.
     وكما اعتادت الأيكة الجبلية على أصوات الأدباء والشعراء العباقرة، التي تدعو للمحبة والتسامح، هكذا اعتادت القلعة ـ أيكة عصام الساحلية ـ على أصوات الخوارنة في الكنائس، والمؤذنين في الجوامع، التي تدعو أيضاً للمحبة والتسامح. وصدقوني إذا قلت ان المكان الوحيد الذي وجدت فيه الكنائس والجوامع متعانقة، أي الحائط على الحائط، كان في مدينة الأبجدية جبيل.
   الآن، تتعبني الذكريات، ويقض مضجعي الندم المتسائل في حيرة: 
ـ لماذا لـم أزرع صوتي في أيكة من أيكات عصام حداد الكثيرة؟!.. 
   هذه هي خسارتي الكبرى، وهذه هي الغصّة التي تعصر فؤادي كلما راجعت ذكرياتي، وتطلعت بصوري، وتصفّحت كتبي..
   ما هم.. طالما أن ابتسامة صديقي الحبيب عصام حداد ترافقني في غربتي.. إنها أوسع من الغربة.
**
آن فيربيرن تجمع خيوط الشمس
لتحوك لنا عباءة من المجد الأدبي

   الجسر الذي بنته الشاعرة آن فيربيرن بين الثقافتين الأسترالية والعربيّة، أصبح في كتابها الجديد (خيوط الشمس 2002) جسوراً عديدة بين ثقافات لا حصر لها، وكأن الكلمة أبعد من الحدود، وأوسع من البلدان، وأسمى من كل اللغات المتراقصة على شفاه الناس. فلقد شيّدت عمارة أول (أنطولوجيا للشعر الأسترالي) بحجارة شعراء بنّائين مغامرين جاؤوا من بلدان أحلامهم لينتسبوا إلى الوطن الحلم، دون أن يتنكّروا للغتهم الأم، أو لتراثهم الإجتماعي والأدبي.
   الكتاب من إنتاج (وزارة الهجرة والمغتربين وشؤون الأبوردجنال)، قدّمه الوزير فيليب رادوك بكلمة مختصرة، أختار منها:
   "عندما يكتب الشعراء يحملوننا إلى عالـم من الخبرة والإحساس. دهشة الإكتشاف، لوعة الفراق، الإنتماء إلى الأماكن والأشياء. هذه هي بعض الأحاسيس التي جمعتها (خيوط الشمس).
   مراجعة هذه الأشعار المتتالية تخبرنا أن لا فرق إذا كانت لغتنا الأم هي العربيّة أو الإسكتلنديّة أو الكوريّة، ناهيك عن الأديان والأعراق، طالما أننا كأستراليين نتكلّم لغة واحدة مفعمة بالتقدير والإحترام".
   كلمة جميلة للوزير رادوك، كانت ستصبح أشد جمالاً، لو أتى سعادته على ذكر الشاعرة فيربيرن، وتوجيه الشكر لها، باسمنا جميعاً، لأن ما قامت وتقوم به من أجل نشر آدابنا وتلقيحها ببعضها البعض، لأسمى من الشكر، وأكبر من الكلام.   
   إذا استثنينا السكّان الأصليين، أي الأبوردجنال، نصبح كلّنا في الهواء سواء، كما يقول مثلنا العامي، لا فرق بين إنكليزي أو إسكتلندي، أو صيني أو فيتنامي أو عربي أو إيطالي أو يوناني إلى آخره، فالكل انتسب إلى هذا الوطن الحلم أستراليا، والكل أعطاه الفكر والجهد وعرق الجبين وما منّ اللـه عليه من البنات والبنين، ليصبح الوطن الأجمل دون منازع. وهذا ما عملت آن فيربيرن على إظهاره لنا، في (خيوط الشمس) التي جمعتها من كل أصقاع الأرض، ليحضنها كتاب مؤلف من مئتي صفحة، تفرح العيون عندما تتصفّحه، وترتعش القلوب.. فأسماء الشعراء والبلدان التي تحدّروا منها كثيرة، ولكن حبّهم لأستراليا واحد، وكلمتهم في إعلاء شأنها واحدة، وإنسانيتهم في تعايشهم الأخوي واحدة. فهل أجمل من هذه الجسور التي تبنيها شاعرة عملاقة دون الإلتفات إلى الوراء، أو دون أن تجني مكسباً. إنها ابنة عائلة نبراسها الأدب والفن، ومن هذا النبراس جمعت شعاع عمرها، لتصبح، في كل عمل أدبي تقوم به، شمساً مشعّة تنير ظلمات غربتنا، وترمينا على طرقات المجد، بينما نحن ننام في أسرّتنا، أو نغرق في لجج أعمالنا. وصدّقوني أنني عاجز عن تصوير فرحتي عندما أخبرني المذيع المعروف غسّان نخول أن قصيدتي (تازمانيا) كانت من بين مئات القصائد المختارة، التي علّقتها آن فيربيرن على الصفحتين 145 و146 كنجمة باسيفيكيّة، أو كتفّاح تازمانيا المعطّر كأعناق صباياها.
   عام 1989، ترجمت آن فيربيرن، بمساعدة العديد من شرفاء الكلمة، أكثر من مئة قصيدة لشعراء عرب، أهدتها إلينا باللغتين العربية والإنكليزيّة في أنطولوجيا رائدة أسمتها (الريش والأفق)، وأعترف هنا، أنني كدت أن أكون واحداً من هؤلاء الشعراء العرب، الذين حضنتهم حروف آن فيربيرن المضيئة، لولا بعض الإشكالات التافهة والمضحكة في آن واحد. فلقد ترجمت لي مطلع قصيدة (كيف أينعت السنابل؟) الذي أقول فيه:
لا تسلني يا حبيبي 
كيف أينعت ألسنابل؟!
رغم رحيل الشمس عن أرضي،
وأنّات البلابل..
رغم الحرائق والتشرّد،
رغم صيحات الأرامل..
فبلادي، يا حبيبي، لـم تعد رفّ حمامٍ
ينقر الضوء تباعاً
كي يصير الضوء سائل..
يسقي الحقول والتلال الخضر
يجري في شرايين الجداول.."
   كما ترجمت لي الرباعيّة الزجليّة الشهيرة التي أعجبت الشاعر العراقي الكبير المرحوم عبد الوهّاب البيّاتي، التي أقول فيها:
سكران وحدي بغربتي سكران
ومسكّر بوابي بوجّ الناس
بحاكي كراسي البيت والحيطان
وبصير إتخانق أنا والكاس
   وبهذا أكون أوّل شاعر مهجري في أستراليا عملت آن جاهدة على نقل قصائده إلى الإنكليزيّة، وعلى قراءتها في المهرجانات الشعبيّة، كالمهرجان العربي في ويلي بارك، أو في المكتبات العامّة، كالمكتبة الوطنيّة في كانبرا. كما أنها شاركت باحتفال تكريمي بمناسبة صدور ديواني (مناجاة علي)، وكانت كلمتها سيّدة الكلام.
   عام 1991، أصدرت كتاب (ذكريات بحرينية) خلدت به امرأة بحرينية اسمها (عائشة يتيم). كما أهدت قصيدة (حديقتان في القاهرة) للعملاق المصري نجيب محفوظ، إثر فوزه بجائزة نوبل للآداب. أما (ربيع أحلام في وادي رم) فقد استوحته من الصحراء الأردنية وأهدته إلى الملك الأردني الراحل حسين في عيد ميلاده. ومن الشاعر فريد الدين العطّار صاحب قصيدة (مؤتمر العصافير)، استوحت قصيدتها الطويلة (مؤتمر أسترالي للعصافير). أما من أدبنا الإغترابي فلقد أخذت من الشاعر وديع سعادة (سماءه السريّة)، لتتوجّها عام 2000 بـ (حلم شعري في ظلال أرز الربّ)، نقله إلى العربيّة الأستاذ أنيس غانـم، وأهدته للرئيس اللبناني آميل لحود في القصر الجمهوري، يوم زارت لبنان، ويسرني أن أكون واحداً من أولئك الشعراء الذين أدخلتهم ملكوت حلمها الرائع.
   هذا ما أعطتنا إياه (صانعة الأحلام) كما لقبّها الأستاذ إبراهيم العبسي، فماذا أعطيناها نحن؟.. 
   يوم كنّا عرضة لاتهامات الإعلام الأسترالي، بأننا نأوي العصابات ونكوّنها، كانت آن فيربيرن تخط حلمها الشعري تحت ظلال أرزنا الخالد.. لتقول للجميع: هؤلاء هم اللبنانيون.. أدباء، شعراء، مبدعون، لا كما يصورّهم الإعلام المنحرف.
   ويوم كان أطفالنا الفلسطينيون الأبطال، يواجهون الدبابات الإسرائيليّة بصدورهم الطريّة، ويرمونها بالحجارة، كانت آن فيربيرن ترفع صوتها عالياً في الإعلام الغربي لنصرتهم.
   ويوم انهارت القيم الإنسانيّة بانهيار برجي التجارة العالمية في نيويورك، واتهم العرب، كل العرب، مسلمين ومسيحيين، بالإرهاب، كانت آن فيربيرن تمتشق سيف الحق والعدالة لتدافع عنّا، وتتغنّى بنّا وبقيمنا الحضاريّة.
   ومن منّا ينسى رحلتها التاريخيّة إلى العراق لإنقاذ مواطنينا الأستراليين من جحيم حرب الخليج القذرة، والعودة بهم سالمين إلى أحضان عائلاتهم.
   آن فيربيرن أدخلتنا التاريخ العالمي من بابه الواسع، وهمست في أذنه: 
ـ إذا لـم تدخل هؤلاء الأدباء العرب إلى جنّتك، فبئس التاريخ أنت. 
   أفلـم يحن الوقت لندخلها نحن إلى قلوبنا وبيوتنا، ونمنحها شرف المواطنيّة العربيّة، ونقول لها بصوت واحد، من الخليج إلى المحيط: 
ـ شكراً.. آن فيربيرن. 
   تماماً، كما قالت لها الحاكم العام في ولاية نيو ساوث ويلز السيدة ماري بشير، إبنة لبنان، في رسالة حميمة، أطلعتني عليها آن، لتخبرني أن الدنيا لا تخلو من الكبار الكبار.
**
بين المتنبي ونعيم خوري

   صَحيح أن الشاعر نعيم خوري، ما زال ينتظرُ الخُرافة في كتابه "وكيف يزعل القمر"، ولكنّه، في الوقت نفسه يمتشق سيف الحقيقة، يتظلَّلُ شمسَ الْجُلْجُلةِ، ويُمَصمصُ سرابَ الهجر، ليتغلَّب على كلّ الخرافات، ويحفرَ هذا الإهداء الوفيَّ "إلى من كانت أجمل ما في الحياة، وأحلى ما في الحبّ"  عَلَى وُرَيقةٍ شَمخت في ديوانه وتباهت.
   أَضيعُ، وأنا أَقرأُ شعر نعيم، فالجمال الفني عنده، يسحر الألباب، يفتن النَّظر، ويجبرني على التَّنقلِ بين رياضه المُزهرة، دون إدراكٍ، وكَأنَّني مسيَّر وَلَستُ مُخيَّراً.. وصدق الأستاذ كامل المر حين قال: إن أسلوب نعيم خوري يحاكي أسلوب المتنبي.. وَهَا أنا أشرَحُ ما رمى إليه كامل بحوارٍ أسطوريٍّ بسيط، مطعَّمٍ بِأكادِميَّة سَمْحةٍ، تعانقتْ فيه حكم المتنبي والخوري، ليدرك القارىء.. كيف ولماذا تحاكى الأسلوبان؟! 
ألحِكَم:
    إشتهر أَبو الطيِّب الْمُتَنَبِّي بحكَمِه الكثيرَة، الَّتي عاشت وتعيش على ألسنة الناس بعفويَّة نادرة، وَلَولا حِكم المتنبي، لكانَ واحداً ليس أَكثر، من أُولئكَ الشُّعراء المصطفّين على أبواب الرزق، المتناسلين كالأرانب، الجشعينَ كالذّئاب، الموجودين في كل عصر، الثرثارين حدَّ القرف.. ولَكانت لغتُه اجترت نفسها قبل أن يجترها قلم، وَلَما نُقِشَتْ على نار هوانا كما يقول الشاعر نعيم خوري:
كل اللغات على نار الهوى نقشت،
إلا اللغات التي يجترها قلمُ
   وَلَست أدري لماذا تخيَّلْتُ المتنبي حَياً يرزق، يتَجَلْبَبُ عباءته، يُسرجُ فرسـه، ويُيَمِّمُ وجهه ناحيــة "غرانفيل"، ليسأل الشاعر نعيم خوري عن الحبيبة الغائبة الحاضرة، التي أهداها في أقلِّ من سنتين أَربعةَ دواوين شعرية.. وكيفَ يعيش بدونها؟ .. فيجيبه الخوري: 
إن كنت أكتم في العينين ولولتي
فإنّما الحبّ، أحلاه، بِما كَتَما
  فتمتلىء عينا المتنبي بدموع حبسها لسنوات، ويجهد في استرجاع  قواه وذاكرته، ويهتفُ:
حَبيبٌ كأن الحسنَ كان يحبّه
فآثرهُ أو جار في الحسنِ قاسمُه
   ولكنّه يخجلُ من نظرات نعيم الواثقة المثقّفة، إذ أنه لـم يقل هذا البيت لحبيبته، بل لسيف الدولة الحمداني.. ويُدرك أن الخوري لن يرحمه في مديحه الوصوليّ هذا، فَيعود إلى محاورته بانكسار، ويسأله عن الحبِّ،  هلْ هو حقيقة، أم مجرّد أحلام؟ .. فيجيبه نعيم:    وأوّل الحبّ أحلامٌ، وآخره
صوتٌ يطنّ على الدنيا ويسرقها
  يتنهد المتنبي للحظات، يردِّدُ البيت عدَّةَ مرّات، ثم يخرج وريقة رثَّةً من زنّار جبّته وهو يتمتم: 
ـ هذه إحدى رسائل حبيبتي، عمَّة سيف الدَّولة، التي أبعدتني النَّميمة عنها.. لعن الـله الحسّاد، وعلى رأسهم أبو فراس الحمداني.. كم كان عفريتاً هذا الشّاعر، وكم سعى لدى ابن عمّه ليحرمني لقاءَ حبيبتي.. بربك، أليس هذا كفراً؟. 
   فيطيِّبُ نعيم خاطره بحكمة بريئة تفسِّر نفسها بنفسها: 
عُصْفُورَتانِ، على غصنين ما التهتا،
إلاّ وزقزق عفريتٌ على الشَّجرِ.
   فيهدأ المتنبي قليلاً ويقولُ: 
ـ أنا لستُ متضايقاً من ثرثراتهم، ولكنها هي سبب ضيقي، فلقد ماتت وأنا في منفاي.. أفٍ كم أنا حزين".. وَكَمْ يَحْلُو لِي القول:
إذا اعتاد الفتى خوض المنايا
فأهون ما يمرُّ به الوحولُ
فيحتضنه نعيم بمحبّة ويهمس في أذنه:
قّدْ قيل في الضيق، بعض الضيق مختبرٌ
للعنفوان.. وبعض الضيق للفرجِ
  ولكنك، يا نعيم، قال المتنبي، تعيش في عصر غير عصري، وتتعامل مع ناسٍ غير ناسي، وطموحك قناعة عكس طموحي.  نحن، يا صديقي الشاعر، كنا نعيش على الفخر، نتباهى به، نسترزق منه، نوظّفه لأغراضنا، أَلَمْ تَقرأْ ما قلت:
الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلمُ
  بَلَى قرأته، أجابه نعيم، وقرأت أنه سبَّب في قتلك أيضاً.. فينتفض المتنبي ويصيح: 
وما كل سيفٍ يقطع الهام حدّه
وتقطع لزْبات الزمان مكارمه
    ما بِك، يا سيِّد الشُّعراء، قال نعيم، إني أراك سريع الغضب، هوِّن الأمور تفرج. فيتزايدُ غضب المتنبي ويزمجر:
مَنْ يَهُنْ يسهل الهوان عليه
ما لجرحٍ بميِّتٍ إيلامُ
  عندئذ أدرك نعيم، أن عليه واجب الترفيه عن ضيفه، فقدّم له فنجان قهوة مرَّة وسيجارة، وأسمعه آخر ما كتب:
إني ألفك منديلا على لغتي،
لا يفهم الحب لوطيّ ومنحرفُ.
فقهقه المتنبي طويلاً وصاح:
كل شيء من الدماء حرام 
شربه ما خلا دمَ العنقودِ
وَمِنْ أَيْنَ أنت؟ سأله المتنبي وتابع: دعني أخمِّن.. من لهجتِك وعُنفوانك، يتبيّن لي أنك من الكورة..
    وَمن بطرام بالذّات، قاطعه نعيم.
   فاحمرت عينا أبي الطيِّب، وانتقل إلى عالـم آخر، كأنَّ غيبوبة لفَّته، أو وحياً نزل عليه فجأة.. وما هي إلا لحظات، حتى انتفض صائحاً: 
ـ لماذا لـم يؤمنوا بي وبنبُوَّتي... ولماذا حاول أهل "النخلة" جارة "بطرام" سفك دمي.. لقد حاولت شرح عقيدتي ولـم يأبهوا بي.. ألـم تقرأ ما قلت: 
ما مُقامي بأرض نخلة إلا
كمقام المسيح بين اليهودِ
   لا تصدِّق، يا نعيم، تفسير الدكتور عبد الوهَّاب عزّام، من أن "النخلة" هي "دار نحلة" الموجودة في الشام.... إنها واللـه "نخلتكم" وقد شيَّبني أهلها، ونكَّلوا بي بسبب نبوَّتي الكاذبة، على حـدِّ تعبيرهم.
    رسم نعيم ابتسامة هزءٍ على شفتيه وقال:
كم نبيٍّ قبلَ تاريخ السَّما
قد خلقناه بحرفٍ أبجدي
    حتّى أنت يا بروتس، صاح المتنبي، وَربِّ السَّماء، لأركبنَّ فرسي وأرحل، ولن ترى وجهي بعد اليوم:
أبداً أقطع البلاد ونجمي
في نحوس وهمّتي في سعودِ
   لا تغضب، يا سيِّدَ الشعراء، قال نعيم: ولكننا في مهجرنا هذا لا نراوغ، سلني ما شئت شرط أن تبقى في ضيافتي، فزيارتك تاريخيّة، ومسامرتك سعادة.. وصدِّقني إذا قلت: إنك حصدت من المجد والشهرة ما لـم يحصده نبي.
   فانفرجت أسارير المتنبي، وقال: 
ـ هات كتابك الأخير لأتصفّحه، ولأصطاد بعض حكمه.. 
... خبّأته في العيون الشهلِ ساهمة،
ما أجمل الحبّ سرّاً ليس ينفهمُ
رائع يا نعيم، وأروع منه هذه:
... سَلي جمالك، إني لا أجرّحه،
هل يجرح الضوء إلا حين يحتجبُ؟
وكم كنت أتمنى لو كنت القائل:
... فَأَجمل الصيف أن يرخي ضفائره
لتمسح الحَرّ، أو تجتاحه السحبُ.
عظيم يا ابن الكورة عظيم.. بربك لا تقاطعني، دعني أتلذَّذ:
... الحبّ مثل الريح، لا يرتاح منغلقا،
وأجملُ الحبِّ أن يسمو وينطلقا.
هذا الشعر يحاكي شعر أبي النواس، وإن تشامختَ حكمةً:
... لا ينتقي الإلماسُ إلا ما يشابهه
أو يعشق الدرّ إلا صنوها الدرر
وهذا يحاكي شعري أنا، وإن قلتَه بعد ألف سنة ونيّف:
... أحلى الشموع إذا ضوأتها نزفت،
ولا تضيء شموعٌ لا تذوب ولا..
أما هذا فأقرب ما يكون إلى شعر أبي العتاهية، ولكنه أقرب إلى النفس من ذاك:
... فإن تحوَّلَ رب الحبّ طاغية 
ينسى الإله، وتنسى شكله الكتبُ.
 بأبي أنتَ وأمي، لو لـم أكن أقرأ في كتابك، لقلت إن هذا البيت لضرير المعرّة:
... ما عدتُ أغبط في الدنيا سوى صنم 
طاغٍ على الأرض.. إلا أنه صنمُ.
      أمّا هذا، فلا يحاكي شعر أحد، إنه نسيج وحده، أقدر أن أتنشَّقَ منه رائحة الحرّية التي تتمتعون بها في مهجركم الأسترالي. ولو خُيِّرتُ بين البقاء ميتاً، والعودة الى الحياة، لاخترت العيش بينكم، فلا شيء يشدّ الشعر إليه كالحرية.. وصدّقني ان لا ممالك للشعر، لا من النيل الى الفرات، ولا من سيدني إلى بطرّام، فكل عين تقرأ هي مملكة الشاعر، وكل قلب ينبض هو جنة الشاعر، وكل عقل يستوعب هو حلم الشاعر.. وإذا كنت تكتب بالعربية، فهذا لا يعني انّ شعباً معيّناً تفرَّدَ بك، إنك للناس، بكل طبقاتهم، بكل لغاتهم، وإن لـم تكن هكذا لَما جئتُك اليوم. إلى اللقاء، يا عزيزي نعيم، فلقد حان وقت رجوعي.. إلى حيث البكاء وصريف الأسنان.
   والآن، عزيزي القارىء، ألا تقول قولي، بأنَّ الاستاذ كامل المر، رئيس رابطة إحياء التراث العربي كان على حق حين قال: إن أسلوب الشاعر نعيم خوري يحاكي أسلوب المتنبي... حِكْمةً.. بَلَى واللـه.
المصادر:
1- وكيف يزعل القمر ـ نعيم خوري ـ منشورات دار الثقافة ، سيدني 1994
2- ديوان أبي الطيِّب المتنبي ـ شرح الدكتور عبد الوهّاب عزّام ـ دار الزهراء 1978
3- المتنبي .. شاعر يجلو مقلتي نسر ـ محمد زهير الباشا ـ أميركا 1993
4 - شعرنا الحديث .. إلى أين ـ الدكتور غالي شكري ـ دار الآفاق الجديدة 1978
**
زَفَّةُ عروس أنطوني ولسن

    ما أَن قَرَأْتُ الصَّفْحَةَ السَّادِسَةَ مِنْ زَفَّةِ الْعَرُوس  لأَنْطوني وِلْسُن حَتّى صَرَخْتُ مِن شِدَّةِ الْغَضَبِ: ها أَنا أَمَامَ أُصُولِيٍّ مَسِيحِيٍّ مُتَزَمِّتٍ، لَنْ يَغْفِرَ لي الـلهُ إِنْ لَـمْ أُعَلِّمْهُ دَرْساً أَدَبِيّاً أَخْلاقِيّاً دِينيّاً إِنْسانِيّاً لَنْ يَنْسَاهُ طِوالَ سِنِي حَيَاتِه.
  وَلَكِنّي ما أن وَصَلَتُ إِلَى نِهايَةِ الزَّفَّةِ، حَتّى وَجَدْتُنِي أَبْكِي مِن شِدَّةِ الْفَرَحِ والتَّأَثُّرِ، وَأهتِفُ بِحياةِ العُمْدَةِ الْمُسْلِمِ، وَنَعِيمةِ المُسْلِمَةِ، وَشَهْدِي الْمَسِيحيِّ وَأَنْطوني وِلْسُن الكاتِبِ الْمَهجريِّ، مُحَقَّقِ رَغْبَةِ فيلسُوفِ الْمَهجرِ مِخائِيل نُعَيْمَة، الذي تَمَنّى في حديثٍ أجراه معه الأديبُ توفيق يوسف عوّاد: "أن يَنْزَعَ من اللغة كلّ ما فيها من زوائدَ ، وما أَكثرها، أَكثَرُ من الهمِّ عَلَى القلب! "كان" وأَخواتُها ، "إنّ" وأخواتُها، الممنوعُ من الصّرف، أحرفُ النّصبِ والجزمِ إلـخ . ومعها كلُّ تلك الألفاظِ المحنّطةِ في القواميسِ، هِي الزَّوائدُ، مِنَ الزَّائدةِ في أَحْشاءِ الإنسانِ، كانَتْ تَقْتُلُهُ وهو يحسُبُ أَنّها من تَمامِ خَلْقِهِ" (1).     
    وَقِصَّةُ زَفَّة العروس  تُخْبِرُنا كَيْفَ سَرَقَ إِبنُ العُمدَةِ فتح الـله مِحْفَظَةَ نقودِ أحدِ الفلاّحين، وكيفَ أَرْسَلَ الخَفِيرَ ـ الشُّرطِيَّ، وهو أحدُ أَزْلامِهِ، لِيقبِضَ عَلَى إنسانٍ بريءٍ كان يَمُرُّ صُدْفَةً من هناك.. "وبعد حوارٍ طالَ بين الثّلاثَةِ، إقتنع الخفيرُ ـ المُقتنِعُ تِلْقَائِياً ـ بالتُّهمةِ ، ورفعَ يدَهُ وصفعَ المُتَّهَمَ على وجهِهِ ـ هكذا، وبكُلّ وَقَاحَةٍ مِهَنِيَّةٍ مُبَاعَةٍ ـ فَسَقَطَ "المِقْطفُ" والفأسُ، بعدَ أن رفعَ الشّابُ يَدَهُ لحمايةِ نفسه من صفعاتِ الخفيِر"(2)
     وفجأةً، وبدونِ سابقِ إنذارٍ، بَدأَ مِبْضَعُ أنطوني ولسن يتلاعَبُ بجرحنا الطّائِفيِّ المميتِ في الشَّرْق:
ـ "نُصراني، صاح الخفير، بالطّبع.. مَنْ يسرق غيركم يا كفّار يا مَلاعين؟!
  لقد رأى الصّليبَ فجُنَّ جُنونُهُ، وأخذ يَضْرِبُ الفتى بوحشيّةٍ، مستهزئاً بدينِهِ".. حسبَ ما ورد في الصَّفحةِ السّادِسَةِ من زَفَّةِ العروس.
    وفي الصَّفحةِ الثَّامنة، كانت نَعيمةُ الرّاقصةُ التي رأت إبنَ العُمْدَةِ يسرقُ المِحفظةَ، كئيبَةً.. "إِنَّها تحلُمُ بالزَّوجِ والأولادِ والعملِ الشَّريفِ... ولكنَّها شريفةٌ لَـم يَمَسَّها إنسانٌ!!" 
    ما هذا التَّلاعبُ الرّائعُ بشخصيّاتِ القِصَّةِ: إبنُ العُمْدَةِ حرامي، والخفيرُ مُستزلِمٌ طائِفِيٌّ حقيرٌ ـ لَيْتَهُما كانا خفيرَيْن، واحدٌ مُسلمٌ والثّاني مَسيحيّ لِتكتملَ اللُّعبَةُ ـ  أمّا الرّاقصةُ فتُنَقِّطُ شَرَفاً، وتُمَنّي النَّفسَ بِأُسْرَةٍ سَعِيدَةٍ، وَشَهْدِي النُّصرانيُّ الْمَظْلُومُ يُحاوِلُ يائِساً الدّفاعَ عَنْ نفسِهِ ضِدَّ أذْنابِ السّلطةِ، ولا أملَ له سوى شجاعةِ نعيمة المسلمة، التي تمثّلُ خِصالَنا العربيّةَ الحميدةَ، ولسانُ حالها يردّد الآيةَ الثَّانيةَ والأربعين من سورة آلِ عُمران {وإذْ قالتِ الملائِكةُ يا مريم إنّ الـلهَ اصطفاكِ وطهَّرَكِ واصطفاكِ على نساءِ العالَمينَ}.
    وها هو قلمُ أنطوني ولسن قد اصطفى نعيمة الرّاقصةَ الطّاهرة لتتحمَّلَ المشقّاتِ، وتقتحمَ السّجنَ، وتُنقذَ البريءَ، غَيْرَ عابِئَةٍ بِدينِهِ، فالأُمومةُ العربيّةُ لا تفرِّقُ بينَ دينٍ وآخرَ، ولن تفرِّقَ ما دامت تتبعُ قولَهُ تعالى {وَلَتَجِدَنَّ أَقربَهم مودَّةً للذينَ آمنوا الّذينَ قالوا إنّا نصارى ذلك بأنّ منهم قِسّيسينَ ورُهباناً وإنَّهم لا يَستَكبرون}.
    ما أَشْرَفَها نعيمة عندما رفضت أن ترقصَ للرجال في بيتِها.. ما أعظمَها حين صاحت: "ألمظلوم في بيت الظالم، والبريءُ في بيت المجرم"(3).. وَما أَقواها حينَ تلقَّت ضرباتِ فتح اللـه القاتلةَ ببطولةٍ نادرة.. كانت تعلَمُ أنَّه يُريدُ قَتْلَ الشّاهدِ فِيها ليسَ إلاّ.
    الشّرُّ يحاولُ القضاءَ على الخيرِ.. أَو بكلامٍ أوضحَ: ألشرُّ البشريُّ يحاولُ القضاءَ على الخيرِ الإسلاميّ.. ولكن أنّى لَهُ ذلكَ، والإسلامُ ما جاءَ إلاّ رحمةً لِلعالَمينَ.. وقد تألَّقَتْ تلـكَ الرّحمةُ الإسلاميّـةُ فِـي "العُمْـــدَةِ"، الّـذي "يخافُ اللـهَ، ولـم يظلِمْ أحـداً، ولـم يأخذ مالاً حراماً أو رشوةً"(4). وهذا العُمدةُ القدّيسُ في نظري، هو والـدُ فتح اللـه "الفاسقِ، السارقِ"(5). فسبحانَهُ أَللهمَّ في خَلْقِهِ: والدٌ قديسٌ وإبنٌ تَلبيسٌ.
    عُمْدةُ أنطوني ولسُن، يجسّدُ الضّميرَ الإسلاميَّ الحرَّ المؤمنَ، فعندما حاولَ ابنُهُ وَصْمَ النّصارى بالكُفْرِ "وما يَعرِفوش ربّنا".. رفع يدَه وبكلّ قوّته نَزَلَ بها على وجهِ إبنِه فتـح اللـه وهـو يصرخُ قائـلاً: "مـَنْ أَنْتَ حتّى تقولَ (عنهم) هذا القول"(6).. ألَمْ يَقُل ربُّنا: {قُولوا آمنّا باللـهِ وما أُنزلَ إلينا، وما أُنزِلَ إلى إبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحقَ ويعقوبَ والأسباطِ، وما أُوتِيَ موسى وعيسى وما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ منْ ربِّهِم لا نفرِّقُ بينَ أحدٍ منهم ونَحْنُ لهُ مسلِمون} وفي نفسِ الوقتِ وجدتُه أيضاً يُمثِّلُ الضّميرَ المسيحيَّ الحيَّ. فعندما وصفَ ابنُه الرّاقِصَةَ نَعيمَة بالفاجرةِ، زجرَهُ أبوهُ قائلاً: إِخْرَسْ، لا فاجرَ إِلاّ أنت!! وكأنّه بذلِكَ يردِّدُ قولَ النّاصِريِّ: مَنْ مِنكُمْ بِلا خَطِيئَةٍ فَلْيَرْمِها بِحجر. 
   ذكّرني العُمدةُ هذا بحادثتين جَرَتا مع الخليفةِ عُمرِ بنِ الخطّاب: الأُولى، "عندما ذهبَ إلى القدسِ ووجدَ شيخاً هرِماً مِن أهلِ الذِّمَّةِ يتكَفَّفُ النّاسَ، طلبَ والي المدينةِ وقالَ لهُ: أهكذا أمرَكُم ربُّ العالمينَ.. تأخذونَ منه الجِزْيَةَ في شبابِهِ وتترُكونَهُ فِي هَرَمِهِ عالَةً يتكفَّفُ النّاسَ؟! فَأَمرَ له بمَعاشٍ من بيتِ مالِ المسلمينَ طِوالَ حَياتِهِ"(7).
    والثانيةُ، "عندما اشتكى إليهِ قبطيٌّ باعتداءِ عَمرُو بْنِ العاصِ، حاكمِ مِصْرَ، عليه. مبرّراً ذلك بأنَّهُ إبنُ الأَكرمينَ، فحكمَ عُمَرُ بنُ الخطّابِ بِأَنْ يضرِبَ القبطيُّ إبنَ الأكرمينَ هذا كما ضَرَبَهُ، وقالَ جملتَهُ المشهورةَ: "متى استعبدتُمُ النّاسَ وقد ولدتهم أمّهاتُهُم أَحراراً"(8). 
    أَلَمْ يقُل ربّنا تعالى: {يا أيّها الناسُ إنّا خلقناكُم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكُمْ شُعوباً وقبائلَ لِتَعارفوا، إنَّ أكرمَكم عندَ اللـه أَتقاكُم}.. وهذا ما أثبتَهُ أنطوني ولسن في نهايةِ قصّته، إذ نادى العُمدةُ المٌسْلِمُ شَهدي النصرانيَّ بِيا إبني. أي أنّه فضّله على ابنه الحقيقيِّ المجرمِ، وطلبَ منه أن يذهبَ إلى دار عمِّه المَأذونِ الشّيخِ عاطف أبو الدّهب، وَيأتِي به ليَكتُبَ كتابَ عارف على نعيمة. فَما كان من شَهدِي إلاّ القول: حاضر يا أبي العُمدة.. شرط أن أدفع كِلفةَ عرسِ منقذَتي نعيمة من حسابيَ الخاص. وبكلّ الأبُوَّةِ الإنسانيّةِ يُجيبُهُ العُمدةُ: بإذنِ اللـه يا شَهدي.. ما هِيَ أختُكَ بَرضُه"(9).
  أجل يا أنطوني.. كلّنا إخوان. وخيرُ دليلٍ على ذلك، هذه الوجوهُ النيِّرَةُ الّتي تمثّلُ جميعَ الطّوائفِ والأديانِ في زفّةِ عروسِكَ الليلةَ. وصدقَ الدكتور عصام حدّاد حين قال: كثَّرَ اللـهُ أمثالَ هذا المناضلِ الإنسانيّ، ومسحَ يراعتَهُ بالخَصْبِ والعافيَةِ والبهاءِ"(10). وشكراً.
المراجع:
1) فرسان الكلام ، توفيق يوسف عوّاد ، مكتبة لبنان 1980 ، ص ص 34-35 .
2) زفّة العروس ، أنطوني ولسن ، دار عصام حداد 1994 ، ص 6 .
3) زفّة العروس ص 11 .
4) زفة العروس ص 27
5) زفة العروس ص 27
6) زفة العروس ص 32
7) هل وقع القول ، أحمد قلاوون ، 9 ذي الحجّة 1410 للهجرة ، ص 16
8) إسلام ومحاورة أهل الكتاب ، د . زاهية قدورة ـ التلغراف  سيدني 4-1-1995 ، ص 9 .
9) زفة العروس ص 38
10) غلاف زفة العروس .  
**
مناجم وأهراء

  مناجم وأهراء.. كتاب أدبي جديد للدكتور عصام حدّاد، صدر عن داره، ويقع بمئة وأربع وأربعين صفحة من الحجم الوسط.. زيّنه برسومه الفنّان اللبناني المعروف رفيق الهاشم.
   وقبل أن تقرأ الكتاب، أنصحك بالإستنجاد بمحيط المحيط، لأن مفردات الدكتور حدّاد معلّقة بالأعالي كالنجوم، لا يقطفها إلاّ من اعتلى بساط الريح، أو امتطى صهوة جواد عربيّ أصيل،  فهي تتسامى كلغته الشعريّة، وتتعالى في أجواء كوثريّة خاصّة، لا يصلها إلاّ القلائل. وكأنه يريد أن يثبت للأدب أنه جدير بحمل اسم عمّه يوسف الحدّاد، معلّم جبران، ذاك الذي منّ علينا، قبل الرحيل، بثروة فكرية خالدة، وبتلميذ نجيب أوصلنا إلى الدنيا، وبنسيب تتفاخر به الأنساب.
  مناجم الكتاب كثيرة، فيها الحِكَم، الشعر، السجع،  الخيال، وفيها المفردات الشامخة..  وقد يتشاوف مقالي هذا على الكتاب بطوله، لو ذكرت كل شيء في (مناجم وأهراء)، فرحمة بكم وبي دعوني أنتقي منه ما قلّ ودلّ، حتى أطلعكم ولو بشكل سريع على بعض ما جادت به عبقريّة صديقي الوديع المتواضع القلب الدكتور عصام حدّاد.
حكم الكتاب:
   تمر الحكم في الكتاب مرور الحسناء أمام مجموعة من الرجال، فتوقفهم عن أعمالهم وتنسيهم تعبهم. هكذا أيضاً تستوقفنا حكم (الحدّاد)، بينما نحن ننهل من معين أدبه:
ـ المرء يهوى خلع جلده ليتمنطق بسواه، شغفاً بالتغيير وتنكراً عن الدهر. (ص 24).
ـ  المجاملة، همزة وصل بين قلب وروح. تغضي على الكثير وتمحو الكثير. (ص 26).
ـ الويل ثـم الويل لست البيت من التشهير. (ص 30).
ـ الليل حمّال الصبابات وبوق الهمسات. (ص 30).
ـ منجلك أثقل على ظهري من الحمل. (ص 70).
ـ حلو الموت بالضّيعة. (ص 90).
   وأعتقد أن الأخيرة، أحب الحكم على قلب عصام، لأنها  الأشد ارتباطاً بتراب الوطن.
شعر الكتاب:
   كلّ عبارة في الكتاب تحمل أكثر من صورة شعرية، وقد لا أغالي إذا قلت: أن معظم الدواوين الشعريّة الحديثة التي صدرت، لا يمكنها أن تجاريه، إن كان باللغة أو بالشعرً، وإليكم بعض الصور:
تسامت عن الأرض،
وتقاصرت عن السّماء.
فتلاقت ببنيها بين الأرض والسماء.
على ناتىءٍ اسطوانيّ أسطوريٍّ سنيٍّ.
   لنتوقف هنا ونتنعّم بالموسيقى (الحدّادية) الصاخبة التي فجّرها حرف (السّين)، وجعلنا نتساءل لماذا اختار هذا الحرف الحلزوني لافتتاح كتابه: تسامت، السماء، اسطواني، أسطوري، سنيّ.
   ومن الصخب إلى الرواء مع حرف (الراء) في هذه اللقطة الرائعة:
على خواصر وهاد ثلاث
دائمة الرهبة والرّواء والرّنين.
   حرف (الراء) هنا، يلغي موسيقى (السين) الصاخبة وينقلك مع بيتهوفن إلى (الرّهبة والرواء والرنين).
   وكما قلت سابقاً، سأكتفي بالقليل، كي لا أحرمكم من نعمة قراءة الكتاب، والإرتواء من سلسبيل صوره الشعرية الرائعة.. وما أكثرها.
سجع الكتاب:
   السجع في (مناجم وأهراء) مرشوش على صفحات الكتاب كرمل البحار الموشّى بالتبر، وإليكم الدليل:
ـ نشوة الإنشراح وحلاوة الإرتياح. (ص 5).
ـ زغردة غدير وتكبيرة عبير. (ص 14).
ـ وخز حسكة ونبوة شوكة. (ص 16).
ـ لحفيف السّنبلة بالسّنبلة نغمات مهدّلة. (ص 18).
خيال الكتاب:
   خيال الدكتور عصام حدّاد في الكتاب ناتىء كالقرنة السوداء، ومضيء كقلب صاحبه. فجميع مقالاته غارقة بالخيال حتى آذانها. فلنقرأ معاً هذه العبارات المضيئة:
ـ ذات ليلة موهنة، مولولة، موصولة الأرق، كأنما شدّت بها عيناي إلى النيّرات. (ص 21).
   ومن غير ابن القرية اللبنانية الجبلية بإمكانه أن يشدّ عينيه إلى النيّرات.
ـ العجين اللجينيّ، ينسفح بين الأصابع أقلام مرجان، فتحيله كيمياء أصابع الحسناوات إلى ذهب. (ص 51).
   وأنت أيضاً يا صديقي عصام، كأصابع الحسناء،  قد أحلت الكلمات إلى ذهب.. ورحت تتفنّن بسبكها.
مفردات الكتاب:
   اللغة العالية بحاجة لمفردات عالية، وإلاّ هبطت من أعاليها واستحالت حطاماً. ورغم أن النقّاد لا يرحّبون بالفردات الصّعبة، إلاّ أن الدكتور عصام حدّاد عرف كيف يدخلها في عباراته بتأنٍ بالغ، حتّى لا يجفل القارىء منها، وحتّى تتمكّن العبارة الحاضنة لها من إبراز معناها:
ـ بجاد النّساك. (ص 9) ومعناه: الثوب المخطّط، وجمعه:  بُجُدْ.
ـ العرانين. (ص 19). من كل شيء أولّه. ويقولون (عرانين السحاب) أي أوائل مطره. مفردها: عرنين.
ـ مفازة. (ص 26). الفسحة بين جبلين، حسب اعتقادي بعد قراءة النص، والصحراء الواسعة التي لا ماء فيها، حسب اعتقاد جبران مسعود. وما على الدكتور عصام إلاّ أن يفصل بيننا.
   بقي أن أذكر أن الدكتور حدّاد لـم يترك طيراً من طيورنا إلاّ وطيّره في كتابه. فمن البلابل والشّحارير  والحساسين إلى الشّكّب والوطاويط والحمام، مروراً بالبجعة الآيبة إلى فراخها، وبالبومة في لوزاتنا، وانتهاءً بأنثى الحجل وبدجاجاتنا الطّامعة بطرد الشياطين.
  اللهمّ نجّنا ونجِّ صديقنا عصام من شياطين الوطن. وألف تحيّة له.
**
أدونيس وإتّحاد الكتّاب العرب

     قبل أن أبدي رأيي بطرد أدونيس من إتحاد الكتاب العرب، ينبغي علينا مطالبته بتبرير نفسه، أو بالاحرى، رد الهجوم الذي شنّه عليه أحد الدكاترة العرب حول تحميل ذمة "مهيار الدمشقي" أكثر من اللازم، وتلقينه أغنيات نزفها قلم شاعر فرنسي مغمور، دون المجيء على ذكر اسمه، لا من بعيد ولا من قريب.  
    هذا ما أحببت أن أثيره ، قبل التجذيف في رمال إتحاداتنا وروابطنا الادبية المتحرّكة، التي لا يهم المسؤولين عنها سوى حبك الدسائس وتمريرها باسم الاخلاق والوطنية.. ولن أقول الادب ، لانها أبعد ما تكون عنه.
   ولن أكون متحاملاً عليها ، إذا طالبتكم بما طالبنا به الشاعر العربي الكبير عبد الوهّاب البياتي الذي قال ، وبعد خبرة طويلة : " ينبغي أن نتخلّص من الوصاية المزيّفة لاتحادات الكتّاب ". 
    مزيّفة ، يقول البيّاتي ، لذلك فصل نفسه بنفسه منها وعنها، تماماً، كما فعل أدونيس حين فصل نفسه من الاتحاد المذكور قبل عشر سنوات ونيّف. 
   وإرضاء لأذناب السّلطة والضّاغطين على رقاب الشّعب العربي المسكين، أخفى الاتحاد السيّء الذكر خبر استقالة أدونيس، وقام بفصل المفصول تلقائياً، " كي يسافر القائمون على إدارته ، ويأكلون بالمجان".  
**
أنطوان سعادة ونقدة عصفور

     قبل سفره بساعات اتصل بي الشاعر أنطوان سعادة وأخبرني أنه ترك عند صديقه "ملكون" ديوانه "نقدة عصفور"، دون أن يعلم أنه ارتكب خطأً فادحاً عندما أسمعني كلمة "إهداء" لا يكتبها سوى أديب كبير متمكن باللغة العربية وقواعدها وطريقة سبكها وحسن اختيار مفرداتها.. والإهداء يقول:
"أهدي كتابي الى الذي أعادني على جناح غربته الى بيتي وأهلي وعائلتي.
إلى الذي تعرّفت به وشعرت كأنني أعرفه منذ دهور، فمن يدري لعلّ أرواحنا كانت متعانقة؟!
إن الرياح الكونية تتقاذف الكلمة كي تضعها في دائرة النور حيث أنت يا أستاذ شربل.
دع كلمتي تتعرى وتستحمّ وتذوب في أبعادك النورانية كي تتطهّر.
دعني في غربتك يا شربل بعيني.. إنها وطني"
في 8/4/2013
أنطوان سعادة"
   والخطأ الفادح الذي ارتكبه يكمن في اللهفة الصارخة التي رماها كقنبلة صوتية في كياني بغية الحصول على "الاهداء" أولاً والديوان ثانياً.
   ولكي تزداد لهفتي، تأخّر أخونا "ملكون" في تسليمي الديوان عدة أيام، وكوني لا أعرف رقم هاتفه، رحت أتصل يومياً بصديقنا المشترك الشاعر عصام ملكي، وأطالبه بالتفتيش عن "ملكون" هذا بأية طريقة كانت كي لا يضيع أجمل إهداء سمعته في حياتي: "دعني في غربتك يا شربل بعيني.. إنها وطني".
   الكتاب يتأخّر.. ولهفتي تصرخ وتنفجر، وابن الملكي يعمل المستحيل من أجل طمأنتي على الكتاب.. 
وفي صباح يوم جميل من أيام نيسان المشرقة حمل لي بشرى مجيء "ملكون" الى بيتي بعد ساعات وبيده "نقدة عصفور" أنطوان سعادة الذي خلته طار مني.
الديوان مؤلف من 144 صفحة من الحجم الوسط، طبع في لبنان عام 1993، وكتب مقدّمته شاعر "مهرجان تحت الشمس" الاستاذ راجي عشقوتي، وفيها يقول: "شعر أنطوان سعادة غاص في شموخ إرادة وإباء، في جديّة تحليل وتعليل، فهو إما جبل ممعن في العلو، وإما وادٍ مسترسل في العمق".
   ومن جديّة التحليل والتعليل هذه سأخبركم عن شعر أنطوان سعادة، وسأحلّل قصيدة واحدة، لا غير، تختصر الديوان، لا بل الكون كله، منها الانطلاق واليها العودة، تحتضن الجميع ولا يمكن لأحد أن يحتضنها، انها قصيدة "ألله":
رسمت الدني بأفكار مجتمعه
وعطيتها من عزّتك سمعه
   انطوان سعادة من البيت الأول يصاحب الله، يكلّمه كصديق شاطره الخبز والملح، عرف أسرار حكمته، وطريقة عمله، وراح يشيد به كرسام رائع، وكمفكّر عملاق، وكعزيز نفس، لا يعطي لأحد سوى السمعة الحسنة.. 
   وبعد أن استعذب، سبحانه وتعالى، الشعر، بدأ أنطوان بتحذيره من بني آدم:
لكن بنزوتنا عكسنا السير
ضعنا وخنقنا النور بالشمعه
   أنت يا ألله، يبتهل أنطوان، أعطيتنا كوناً كاملاً متكاملاً، فبدأنا بنزواتنا الوقحة الكافرة ندمّره، ونغيّر مساره.
لقد ضعنا يا ألله، وبتنا نسير في الظلام بعد أن "خنقنا النور بالشمعة"، والشمعة، عند أنطوان، تختصر الشمس والقمر وباقي النجوم والكواكب.. إنها مصدر اللهيب الشعري الذي إذا انطفأ تنطفىء القصيدة.
وقبل البشر قبل النغم والطير
كانت الأرض بنظرتك دمعه
   فلسفة أنطوان سعادة في هذا البيت طاغية، مشرئبّة، تختصر مجلداً، فقبل أن يفكّر الله بتكوين الانسان، والطير، أي باقي المخلوقات، وقبل أن يزرع أنغام الفرح في حناجر البلابل والحساسين، بدأ ينظر الى "أرض" لم يخلقها بعد نظرة الأب الخائف، وبما أنه العارف بكل شيء، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، راح يبكي الأرض، التي تكوّنت، ليس من تراب كما نراها الآن، بل من دمعة إلهية.
   ولا أظنّ أن أحداً قد سبق أنطوان سعادة الى اختصار الأرض، بجهاتها الأربع، بقاراتها الخمس أو الستّ، لا فرق، ببحورها ومحيطاتها وأنهرها وجداولها، بجبالها ووديانها وسهولها "بدمعة" ساخنة، انحدرت من "نظرة" الرب، لتؤنبنا على ما اقترفت أيدينا. 
بجمعه انت كوّنتها بالخير
ونحنا بخبرة شرّنا المشبوه
عنّا ثقه منهدّها بجمعه
   أنطوان سعادة، لا يرحم بني جنسه، عندما يخاطب السيّد الأوحد، يعريهم أمامه، يفضح "شرّهم المشبوه"، ويصيح بصوت خنقته العبرات: الأرض التي أوجدتها بسبعة أيام نحن قادرون على هدمها بسبعة أيام أيضاً.. فارحمنا.
ولا أعتقد أن الله سيرحمنا يا اخي أنطوان، ما دام الشر يغمر الأرض كطوفان بغيض، يهدم بيوت الآمنين، يدمّر قراهم ومدنهم، يرميهم كاللقطاء على أبواب النزوح والتهجير، يجرف أرواح الملايين من الأبرياء، فكيف لا تتساقط الأرض "كدمعة" حمراء من عين الله.
أنطوان سعادة يعرف كيف يلتقط الكلمة الناصعة ليحوّلها الى قصيدة، تتحوّل فيما بعد إلى لوحة فنيّة تختصر الوجود بحكمة شعرية تحمينا من شرّ عالم فاسد.
**
كاهن طبّاخ

   أصحابَ السيادة، كهنتي الأجلاء، سيداتي.. سادتي
   عندما طلب مني أبونا يوسف الجزراوي إلقاءَ كلمةٍ في هذه المناسبةِ الأدبيةِ الغارقةِ بالإيمانِ والتقوى، والمفعمةِ بالعلمِ والمعرفة، وافقت دون تردّد، وكيف لا أوافق وكتابُ (المبدعونَ.. غرباءٌ عن هذا العالم)  لم يتركْ عالماً أو فيلسوفاً أو أديباً أو شاعراً عانى ما عاناه نبيُّنا أيّوب إلا وسلّط الأضواءَ عليه، كي تَكْشِفَ لنا تلك الأضواءُ سيّئاتِ حياتِنا اليومية. فلقد أرادنا أن نتخّذَ من قصصِ الكبارِ عِبراً تُخلّصُ أنفسَنا من شَوائبِها، وتُعِدُّنا للفرحِ الآتي.
   أجل، أيها السيداتُ والسادة، فلقد سارَ أبونا يوسف على خطى المعلّمِ الأكبر، ذاك الذي استعانَ في إنجيلِه المقدّس بالأمثالِ والقِصّصِ لتَصلَ كلماتُه إلى آذانِنا مفهُومةً، كما يصلُ الهواءُ المنعشُ إلى رئَتَيْنا دون استئذانٍ كي يمنَحَنا الحياة. 
   ذكرتُ معاناةَ نبيِّنا أيّوب، ولم أذكرْ معاناةَ (شهيدِ الحب) سيّدِنا ومخلّصِنا يَسوعَ المسيح، لأن معاناةَ النبي أيّوب كانت بشريّة، لم يطلُبْها بل فُرِضَت عليه، كما تُفْرَض علينا الأوجاعُ والمصائب. صحيح أن المسيحَ صُلِبَ ولكنّهُ إلهٌ اختارَ صلبَهُ ليُخَلِّصَنا، وإن طَلَبَ من أبيه السماوي أن يُبْعِدَ عنهُ هذه الكأس، فَهُوَ يعلَمُ أنه جاء دُنْيانا من أجلِ تلكَ الكأس.. ليسَ إلآّ. تماماً كما اختارَ أبونا يوسف كهنوتَه ليخلّص أنفسَ التائهين الضائعينَ في ملذاتٍ سَرابيةِ الوجود.. ما أن يتمسّكوا بها حتى يَخذلَهُم العمرُ.. ويواجِهوا الدينونة.. وصدقوني أن الأبانا يوسف يعلَم أن الكأسَ التي اختارَها، تفيضُ مرارةً، إذ ليس أصعبَ من أن يرَى الراعي الصالحُ قطيعَه تتناتَشُهُ الذئابُ وهو عاجزٌ عن إنقاذِه. 
   قِصَصُ الكتاب، كما قلت، زاخرةٌ بالعِبَر، فأبونا يوسف ينْبُشُ ما فَوْقَ الأرض وما تَحْتَها مِنْ أَجْلِ موعظةٍ يقدّمها لنا مُبَسَّطَةً كرغيف خبزٍ، ما أن يراهُ الجائعُ حتَّى يلتهمَهُ بصمتٍ وسعادة. فالجوعُ السماويُّ لا يشعرُ بهِ الإنسانُ إلاّ عَن طَريقِ كاهِنٍ طبّاخٍ، يعرفُ كيف يُعِدُّ وليمةً سماويةً تجذُبُ الجائعينَ إليها.. وَتُثَبِّتُ أَقدامَهم على طريق الخلاص.
   الملفتُ حقاً في الكتاب هو وفاءُ الكاهنِ يوسُف لِمَن ساعدَهُ من بعيدٍ أو قريبٍ، وهذا ما لم نَعُدْ نَجِدْهُ في هذا الزمنِ التعيسِ، زمنِ الوصوليّةِ والغدر، وهذا أيضاً ما يُرَجِّحُ كَفَّةَ موعِظَتِه، ويجعَلُ المُتَلَقِّي يَرْضَخُ لها دون إدراكٍ منه.
   أشكرك يا أبانا يوسف مرتين، مرّة حين ائتمنتَني على مراجعة كتابِك لُغوياً، وأعتذر إذا فاتتني بعضُ الأخطاء، لأن جُلَّ مَنْ لا يخطِىء، ومرّة ثانية لأنّك طلبت منّي أن ألقِيَ هذه الكلمةَ، شرطَ أن لا تزيد عن خمْسِ دقائِق، ويا لًيْتَنِي لم أتقيّد بالوقتِ، لأن كتابَك ما زال يشدُّني إلى كلامٍ كثير.. وألف شكر لإصغائكم.
11/11/2011
**
ماهر الخير يصنع تاريخاً في الأوبرا هاوس

   ماهر الخير، الدبلوماسي الشاعر، أوقف عجلة الزمن في العاشر من حزيران، ليهمس في أذن الأوبرا هاوس: أنا هنا.. 
   والأوبرا هاوس، لمن لا يعرفها، أشهر موقع سياحي، ليس في أستراليا فحسب بل في العالم أجمع، تمكن ابن بلدة المنية الشمالية، من أن يروّضها شعرياً، وأن يثلج قلوب ابناء جاليته، كونه أول شاعر عربي يقف على خشبة ما انحنت يوماً إلا لكبار الموسيقيين العالميين.
وقد لا أغالي إذا قلت: انه المختار من بيننا، نحن الشعراء، ليدوّن على جبين التاريخ، دون أن يرف له جفن: ماهر الخير مرّ من هنا.
   أجل، لقد صنع ماهر الخير تاريخاً ذا حدود جغرافية تمتد من مسقط رأسه، وتمر في مصر وفرنسا والهند وأستراليا، وتنتهي في دهشة الناس وتصفيقهم له أينما حلّ وأبدع.
   بعد انتهاء الأمسية، ركبت القطار لأعود الى سكني، فجلست بالقرب من مجموعة من مغتربي الهند، ورحت أخبرهم عما شاهدت في الأوبرا هاوس، وكيف تمكن شعر ماهر الخير من أن يقطف من الفن الهندي أجمل نوتاته، وأن يجعل حبيبته تتمايل على وقع موسيقاهم، ليثبت للعالم اجمع أن لا حدود للشعر، وانه ما كتب إلا ليصل.. وقد وصل إلى حلم لم يحلمه سواه، ولم يحققه إلا ماهر.    
   منذ أكثر من أربعين سنة، أي من لحظة وصولي الى أستراليا، وأنا أمني النفس، كشاعر، بالوقوف على خشبة الاوبرا هاوس، وكنت أعلم أن حلمي لن يتحقّق إلا بمعجزة ما، وها هو ماهر الخير يصنع المعجزة.. فأقف أنا ومئات المعجبين أمام الخشبة الحلم، ولسان حالنا يردد: شكراً يا ماهر.
**
محمد زهير الباشا يعيدنا الى بلاط سيف الدولة

   تحس وأنت تقرأ دراسة الأديب الناقد محمد زهير الباشا "المتنبي يجلو مقلتيْ نسر" انك في بلاط "سيف الدولة"، وان جميع الشعراء والنقّاد، بمن فيهم "ابو فراس الحمداني"، قد بايعوا "أحمد بن الحسين بن عبد الصمد الجعفي" أميراً عليهم دون منازع، ولرأيت بأم عينك النحوي "عبدالله بن خالويه" ينحني أمام المتنبي مقبلاً يديه، وهو يتمتم بأسف بالغ: أغفر لي أيها الكوفي العظيم حسدي ونميمتي، فالمفتاح الذي ضربتك به حتى سال دمك، أصاب مني مقتلاً، خاصة عندما سمعتك تقول: ويحك أيها ألأعجمي، لم يبقَ إلا أنت تخوض في العربية؟.
   لقد عرّى "الباشا"، في دراسته هذه، حقبة تاريخية مهمة من كل أوراق التين التي سترت بها عورتها، رافضاً الكثير من ثرثرات باحثيها، ومنقحاً العديد من آراء نقادها، وها هو يقرّ: "أفضل لدي أن أقول: ان ميتة المتنبي كانت بكمين نصبه له الأعاجم، من أن أؤمن برواية فاتك وأمه الطرطبّة".
   ولكي يزيدنا دهشة فوق دهشة يدعي "انهم انتحلوا قصيدة الهجاء المقذعة، وتداولها أهل ألدب، وكأنها من بداهة الأحداث". إذن، فمحمد زهير الباشا ينكر علينا معظم، ان لم أقل كل ما تعلمناه في مدارسنا عن المتنبي، ويدعونا الى التبصّر وتحليل جزئيات التاريخ لنصل الى الحقيقة، اذ أن المتنبي بنظره "لا يلتفت الى أمثال هؤلاء، ولا تتدنى كلماته الى حضيض من لؤم وسفاهة، فقد عاش فارساً ومات فارساً".
محتوى الكتاب قسّمه الباشا الى أبواب عديدة سرابية الصفحات، تبعد الملل وتشد الانتباه، منها:
ـ اهداء ودعاء:
وفيهما يتذكر تلك "النعمة" التي "ذاقت مرارة الطغيان، وما استسلمت لقدر الزبانية" فيقف على قبرها مردداً ما خطّته يدها قبل الرحيل:
اللهم اجعل ثأرنا على من ظلمنا
ولا تسلّط علينا من لا يرحمنا
ـ المتنبي أحمد بن الحسين
وعنه يقول:
"كان سابحاً في كل بحر
غرائبه جزر للهواة
متفوّقاً في قوله
السحر في نباهته
متقدماً في وقفته
لا يخشى الحسد
وتقتله السذاجة المفرطة
.. الى آخر لحظة رفع سيفه وشهامته
وما أظلمت الدنيا مرة
إلا وكان بريق شعره منارة".
   لله درّك يا "باشا" على هذه الدرر الكلامية المثقلة بالبلاغة والإيجاز، والتي تحاكي بنبضاتها البيانية نبضات المتنبي.
ـ غزله: فراشة لونتها الطبيعة
   وأعتقد أن هذا الباب هو الأهم في دراسة "الباشا" لأن المأخذ الوحيد على المتنبي هو قاّة غزله وبلقعيته، فإذا بنا نقرأ أن المتنبي "كان يفضّل البدوية على بنات الحضر، لحسنها وريح مسكها:
أين المعيز من الارام ناظرة
وغير ناظرة في الحسن والطيب
   فنساء الحضر، يفسّر "الباشا"، كالمعيز، أما بنات البادية فكالارام ببياضهن، وحسنهن. والمتنبي في غزله البدوي يرغب بها بعيدة عن ألوان التصنّع:
افدي ظباء فلاة ما عرفن بها
مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب
   فوالله، والله، لو جاء المتنبي في عصرنا الحاضر، وهذا رأيه "بالحضرية، ومضغ الكلام، وصبغ الحواجيب" لبقي عازباً الى أبد الآبدين.. آمين.
ما لنا وله.. لنعد الى غزله الرائع الذي بزّ عمر بن أبي ربيعة بأشواط:
شآمية طالما خلوت بها
تبصر في ناظري محيّاها
كل جريح ترجى سلامته
إلا فؤاداً رمته عيناها
تبل خدي كلما ابتسمت
من مطر برقة ثناياها
حيث التقى خدّها وتفاح
لبنان.. وثغري على حمياها
ألا تقول يا عزيزي محمد زهير الباشا ان ابيات المتنبي هذه أقرب الى العامية منها الى الفصحى، ولهذا حفظت أشعاره، وتناقلتها العامة جيلاً بعد جيل، وان وزارة الزراعة اللبنانية لو عرفت كيف تستغل دعاية شاعر الشعراء المجانية لتفاح لبنان، لما كسد موسم زراعي واحد.
أجمل ما في غزل المتنبي تلك الاباحية الجريئة في أيامه، الخجولة في أيامنا:
أزورهم وسواد الليا يشفع لي
وأنثني وبياض الصبح يغري بي
وأيضاً:
قبّلتها ودموعي مزج أدمعها
وقبّلتني على خوف فماً لفم
قد ذقت ماء في مقبّلها
لو صاب ترباً أحيا سالف الأمم
أجل، لقد أحيا شعر المتنبي، لا ماء مقبّلها، سالف الأمم، وسيحيي أمماً تترى، ما بقي للشعر "أنبياؤه" وللنقد "باشاواته" وللاثنين قراء ومعجبون.
**
إباحية يحيى السماوي الشعرية ذروة القداسة

   قبيل دخوله لاستلام جائزة جبران العالمية، أهداني الشاعر العراقي يحيى السماوي ديوانه الأخير "أنقذتِني مني"،  دار تموز للطباعة والنشر والتوزيع 2014 ، ورغم تعجبي من عنوانه، رحت أتصفحه، لأعرف لماذا اختاره، وكنت كمن يمشي على رمال متحركة، كلما قرأت كلما غرقت أكثر فأكثر في بحوره الشعرية، وصوره الخلابة.
   من القصيدة الأولى، يعلن السماوي غرامه الاباحي، الذي استنجد من أجله بآيات وقصص دينية مستقاة من الكتب الإسلامية والمسيحية واليهودية، ليثبت أن اباحيته الشعرية ذروة القداسة، وها أنا أبدأ رحلتي معه:
خلعتْ فستانها الوردَ..
فأعشى نورُ نهديها
مرايا مقلي
صرخت بي: "هَيْتَ لكْ"
فاخلع قميصاً
انك الآن بخدري
فالتحفني إن تكن بردانَ..
مصّ التوتَ لو تعطشُ
واطحنْ سنبلي.
   في هذا المقطع نراه يستعين بقوله تعالى في سورة يوسف: "وغلّقت الأبواب وقالت هيتَ لك".
   وفي مقطع آخر من القصيدة نراه يستعين بعصاة موسى ليشق البحر، لا ليخلص شعبه، كما فعل موسى، بل لتظهر حوريته الحبيبة، ويعطينا هذه الصورة الرائعة:
ما أذكره أن حريقاً بارد النيران 
شقّ البحر
صار الموج عشباً
طلعت من بينه حورية
تلبس فستاناً من الورد
عليها هالة ضوئية..
أو ربّما شبّه لي.
   وهنا أيضاً يستعين بقوله تعالى في سورة آل عمران: "وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم".
   ورغم تلك الاستعانات الدينية المتكررة، نراه يعلن فجوره الايماني، لا بل كفره المطلق، من أجل مضاجعة الحبيبة:
ناسكاً بتّ..
عفيف الإثم..
لكن
فاجرُ الايمان!
فالحوريّة المعصومة اللذات "لاتي" 
وسريري "هبلي".
   ولكي يثبت أنه "الكل"، رغم انتسابه لطائفة معينة" نراه يستعير من الانجيل معجزة السيد المسيح، حين سار على الماء، مرتين ص 23 و56، علّه يتمكن من جمع قطبين معاً، الجنوب والشمال:
ليس لي معجزة المشي على الأمواج
كي أجمع ما بين جنوب وشمالْ!
   لا بل أراد أن يعقد قران الصبح والليل من أجل أن تمطر "شمسه" لذتها في حضن "هلال":
ليس ما ينبىء عن أن جنوني
سوف يفضي بي الى
عقد قرانِ الصبح والليل
فنغفو في سرير العشق شمساً
تمطر اللذة في حضن هلالْ!
   أعرفتم الآن كيف يتلاعب "السماوي" بمفرداته الأدبية، دون خوف من رقيب، فيحوّل الشمس حبيبة، ليصبح هو الهلال، أما اللذة فلسوف تجدونها في كل قصائد الكتاب. خذوا هذه مثلا:
قديسةَ الشفتين جفّ دمي
لو مسّدت شفتايَ غيرهما!
   كيف لا وهو شاعر عاشق، ويجوز للشاعر ما لا يجوز لغيره:
ما دمتِ في قلبي
فسوف يجوز لي
ما لا يجوزُ.
   فالحب عند "السماوي" محللٌ من فوق، وما حلل من فوق لن يعرف الحرام:
شاخ الزمان
ولم نزل طفلين لهوهما حلالٌ
ليس يقربه الحرام.
   وفي رسالة مدروسة وجهها للارهاب الكافر، الذي يذبح ويحرق ويشنق ويعدم الابرياء باسم الله، طالبه فيها بطريقة شعرية رائعة بالابتعاد عن الاجرام والتمسك بالحب، كما يتمسّك هو تماماً:
فخّخت بالقبلات ثغري..
وارتديت حزام شوقي..
يا التي
أضحت لبستاني الربيعَ السومريّ
وجدولَهْ
وصنعتُ من عطشي لمائك
قنبله!
   أرايتم ما أجمل حزامه الناسف، وما أروع قنبلته. فالشعر يجمّل القبائح، مهما كانت مخيفة. وصدقوني أن ارهاباً كهذا سينزل صاحبه:
في جنّة أنهارها القبلاتُ
والحورُ الملائك أنتِ
والغلمان أزهار السفرجل
والخزام!
   فالقداسة عند "السماوي" لا تتم بدون حب، ويرفض أن تكون أمنا حواء قد ارتكبت معصية حين أطعمت أبانا آدم "تفاحتها"، وكلكم تعلمون ماذا تعني "التفاحة":
اشك ان اكون قديساً
اذا لم ارتكب
معصية اقتطاف تفاحة فردوسك
وارتشاف خمر تين بستانك والزيتون
...
أشكّ أن أفهم ـ لولا خبز تنورك ـ معنى
سورة "الماعون".
   فحبيته ليست كباقي النساء، انها مؤمنة، فريدة عصرها، أول امرأة بالتارخ، إنها مؤذّنة.. إنها بلاده. أجل انها العراق.
الحب سيماء القلوبِ
المؤمنةْ
يا اول امرأة بتاريخ المآذن والقباب
مؤذنةْ
   يحيى السماوي في ديوانه " أنقذتني مني" عرف كيف يسخّر تعاليمه الدينية كلها من أجل الحب، وكأنه يريد أن يقول: بدون الحب، لن ينتهي تشرّدي، ولن أعانق العراق.
**
أديلايد أم القصائد في ديوان يحيى السماوي الأخير

   ثوب من الماء لجسد من الجمر، مجموعة شعرية جديدة للشاعر العراقي الكبير يحيى السماوي، صدرت عن دار تموز للطباعة والنشر والتوزيع، مع كلمة على الغلاف للشاعر المصري الصديق محمد جاهين بدوي، ختمها بتعريف جميل عن السماوي، إذ قال: انه السماوي، عزاف اللظى، وحكّاء الماء، وكليم المحبة المبين.
   ومن المجموعة اخترت قصيدة "أديلايد" عاصمة الجنوب الأسترالي، لما فيها من ألم، جعلني أصرخ: ليت الكتاب كان كله عن أستراليا، التي يحق لها أن يكتب فيها وعنها قلم يحيى السماوي.
   يبدأ السماوي قصيدته مخاطباً مدينته "أديلايد" بحسرة دامعة لم يتمكن رغم براعته اللغوية من إخفائها:
لا الريح والموج الغضوب
ولا دليل البحر قاد سفينتي
في غفلة الليل المؤبد
من صباح صلاة عيد
   من أول الكلام رمى السماوي نفسه في الغفلة، وأعلن أن حياته "ليل مؤبد"، يزنره ظلام طمس بحلكته صباح العيد.. لدرجة تجعلنا نتساءل: من قاد سفينته إذن في "غفلة الليل المؤبد"؟
ويأتي صوته من البعيد:
ما قادني أحد إليكِ
أتيت من تلقاء قلبي
حاملاً حزن الفرات وذلّ دجلة
هارباً من جنة الوطن الشهيد الحيّ
والحيّ الشهيد.
   فلنتوقف قليلاً عند عبارته الزئبقية "الشهيد الحي والحي الشهيد" التي ضمت أربع كلمات: الشهيد الحي، والحي الشهيد، ولكن اذا أردت تفسيرها، لما فيها من إيحاء مؤلم عن "العراق" المعذب، المشرد، المقتول، لبقيت أكتب وأكتب الى أن يلفظ  قلم الحبر أنفاسه.
   وبسبب هذا الموت المجاني الذي يبتلع شعبه، أختار "السماوي مدينة أديلايد" موطناً له، لا حباً بالهجرة بل:
آملاً بموتٍ
ليس يشبه موت أهلي في السماوة
أو بميلاد مجيد.
   أف.. ما أشد عذابك يا شعبي، فكم من "يحيى" يصيح:
صادر الغرباء بستاني ونهري
فانتهيت مهاجراً من دون أنصارٍ
   وكم من "يحيى" يصرخ بأعلى صوته، لدى وصوله الى مدينته الفاضلة:
لا تسأليني ما لديّ
أنا امرؤ حافي الحقيبة
   أي أنه لا يملك شيئاً، سوى قلب ينبض بالايمان والمحبة، ويد تمتد لكل مصافح.
   ومن منا لم يأت الى هذه الديار المضيافة "حافي الحقيبة"، ومن منا لم تملأ أستراليا حقيبته بالمال والسعادة.. والموت بسلام، كما تمنى "السماوي" تماما، حفظه الله وأمد بعمره.
   قصائد المجموعة تنبض بالروعة، ولكن قصيدة "أديلايد" كانت، بنظري، أم القصائد.
   ألف مبروك يا اخي يحيى، وإلى ابداع آخر باذن الله.
**
أسعد المكاري يحلق في ومضاته الشعرية السريعة

   عندما التقيت الشاعر أسعد المكاري في حفل تكريم، كي لا أقول تأبين، العملاقين اللبنانيين سعيد عقل وصباح، صحت بأعلى صوتي:
ـ أنت في سيدني يا أسعد، ولم تزرني بعد؟
فأجابني بهدوئه المشهور به:
ـ الاستاذ سركيس كرم هو المسؤول عن زياراتي، وستتم زيارة "الغربة" بأقرب وقت ممكن.
   وبعد أيام زارني وهو يحمل كتابه الجديد "في عينيك يتمشى الليل"، فأعجبت بالعنوان وسألته:
ـ من اختار لك عنوان الكتاب هذه المرة يا أسعد؟
ـ في المرات السابقة هناك من ساعدني باختيار عناوين كتبي، أما الآن فالعنوان من اختياري أنا.
ـ عنوان جميل جداً.
   وما أن بدأت بتصفح الكتاب، حتى قرأت:
ليلُ عينيك 
يحمل مسائي..
وقمر اللهفة
يطلع
من ردائك
عارياً..
فأرتمي 
في اللحظات 
عاشقاً..
   ورحت أفكر في "قمر اللهفة" الذي يطلع من الرداء عارياً، كي يسامر الشاعر، علّه يرتمي في اللحظات عاشقاً. تصوير رائع لحالة عشق، ما من أحد من مخلوقات الله إلا ومر بها، أو عانى منها.
   ومن الأشياء التي لفتتني في الكتاب، تلك الومضات السريعة التي حلّق بها أسعد، أكثر مما حلّق في القصائد الطويلة، فهو يرميك في "غيبوبة الصمت" بعبارة واحدة فقط:
وأنا خارج من الصمت 
دخل صوتي في غيبوبة!
   وأيضاً هذه الومضة الخلابة، التي تجعل من حبيبته قمراً، يخشى أن يتطلع به، ويعجز عن حجبه بستارة:
تتعرين أمامي!
فكيف أضع ستارة على القمر؟
   أما عن الشرنقة، التي سيخرج منها جسد حبيبته، بعد أن استحمت بعطر الياسمين، لتلبس نشوتها منه وتمضي، فيقول:
تستحمين بعطر الياسمين
ليخرج جسدك من شرنقته
ويلبس النشوة 
ويمضي..
   هذا كلام رائع يا أسعد، من أين جئت به؟، ليتك فرشته على كامل صفحات الكتاب. ليتك عرّيت الكتاب من قصائده الطويلة، وتركتنا نذوب بومضات كهذه:
عارية إلا من طوق الياسمين!
أو بعزف ناري كهذا:
اعزفي على ناري قليلاً
أستلذ أنفاسك بين ألسنة اللهب
وأعشق أوتار حروفك العابثة في أبجديتي!.
   أما طيوره، فلا تعرف الأقفاص الحديدية أو الخشبية، فلقد حبسها تحت قميص حبيبته، وأوصاها بأن تزرّر القميص جيداً، فالغيرة ستدمره إن رأى طيورها أحد غيره:
زرّري قميصك جيداً
حتى لا تغادر الطيور
لغير أمكنتها..
كما أنه يسخّر الدين من أجل عينيها:
دحرجت قلبي كحجر قبر المسيح
فقامت أحاسيسي من موتها
ليعيش عشقي قيامته!
   مرة واحدة رأيته يكذب كشاعر، عندما أعلن أنه تعب من النساء:
تعبت من النساء
اللواتي يأكلنَ من حروفي نشوتهنَّ
ولا يخدشنَ لهاثي..
   أسعد المكاري، الشاعر السياسي، عرف كيف يغازل الصبايا، دون أن "يخدش لهاثهن"، لا بل جعلهن يتبعنه في جميع أمسياته، فاستحق عن جدارة لقب "شاعر الحلوين".
**
الأب يوسف سعيد

      قد يكون الأب يوسف سعيد أحد الشعراء القلائل الذين أعجبت بقصائدهم المربدية، وبإلقائهم المفعم بالحنان. قد تقولون: وما دخل الحنان في الإلقاء.
   الحنان في الإلقاء هو أول ما يصبو إليه المستمع، ومن خلال قدرة الشاعر على إبرازه، يحكم إما له وإما عليه.
   والأب يوسف سعيد لم يتلقَ الأحكام بل أصدرها، لأن كلمته صادقة، حنونة، وذات رؤية صائبة:
لماذا لا تطلع من تجاويف الغضب ابتسامة؟
ولماذا لا يأتي الهدوء التام
ولا يكون لكل معنى انخفاض،
وللمعاني الاخرى صعود..
   حنانه، لا يقدر أن يخفيه، فهو يلازمه كظله، إذا كتب بكى، وإذا راسل أبكى:
   "كنت في بيروت، بعد غياب 17 سنة كنبي كسيح ومضطهد وغريب.. كنت وحيداً لا يفهمني أحد سوى هذا القمر وكواكبه، وهذه الشمس. كان كل شيء مغضاً، الطبيعة في لبنان بدأت تشيخ، والخضرة في السنديان بدأت مرغمة تأخذ لون الرماد".
   فمن هو الأب يوسف سعيد؟
   شاعر عراقي بارز، حضر مهرجانات الكلمة الحرة في مربد بغداد، وألقى قصائده التي نالت إعجاب الجميع دون استثناء.
مؤلفاته لا تحصى، أذكر منها:
ـ الموت واللغة، 1968 بيروت
ـ ويأتي صاحب الزمان، 1986 أسوج
ـ طبعة ثانية للتاريخ، بيروت 1987
   أما ديوانه الأخير (الشموع ذات الاشتعال المتأخر) فقد صدر منذ عدة أسابيع عن منشورات الشباب في بيروت ـ 1988
   في هذا الديوان نجد أن الأب الدكتور متألم كشاعر بعد أن بح صوته من كثرة مناداته لباقي الشعراء كي ينتبهوا ويحذروا نتانة هذا العالم الذي يبغضهم:
الحق الحق أقول لكم، إن العالم يبغضكم، ويكرهكم..
ويقول عليكم كل كلمة شريرة..
أيها الشعراء..
إن العالم صنع لكم صليباً، وإكليلاً، وأعد مطرقة،
وحفنة من مسامير غليظة،
وفتح لكم جلجلة، وخندقاً يستوعب فيها أجسادكم.
عن هذا الأب الشاعر كتب وديع سعادة يقول:
يكتب كمن يصلي لله..
وصباح خراط زوين:
يستقر على الرابية، لا يهتم لالتصاقه بالقمة أو بالله كما في الحالات السلبية الشعرية القصوى..
أما جو الحاج فقال عنه:
الأب يوسف سعيد يتلو عظته شعراً، ويحكي مع رعيته شعراً، ويناجي ربه شعراً..
   وبالطبع فهو يعمل كل هذا لأنه "يتمتع بطوباوية حارة" كما قال عنه يوسف بزي.
   الأب يوسف سعيد عرف كيف يجمع بين القداسة والشعر، لأن الكلمة التي يكتبها معجونة بالايمان ومفعمة بالقداسة، وتنقل قارئها إلى عالم لا يدخله إلا من قرأ يوسف سعيد، واستوعب انبلاجه الصباحي.
وعندما توفاه الله بكيته بهذه الكلمات:
   عام 1987 تلقيتُ دعوةً للمشاركةِ بالمربد الشعريِّ الثامن في العراق، فكانت المرة الأولى التي أعودُ بها الى وطني العربي الأكبر بعدَ غيابٍ طويل. 
   كنت خائفاً كطفلٍ صغيرٍ يَمَّمَ وجهَهُ جِهَةَ الشرق ليبحثَ عن أبٍ أضاعَه يومَ رحل، وما كنت أعلمُ أنني سأجدُه في بغداد، كاهناً قديساً، وشاعراً محلقاً، وناقداً متواضعاً، وصديقاً قلَّ مثيلُه.
   لقد وجدتُك يا أبتي، يا شاعري، ويا صديقي الأب الدكتور يوسف سعيد. عندها تلاشَتْ غربتي، واضمحلَّ خوفي، وأحسستُ أنّي وجدتُ الوطن.
يا وطنَ القداسة، لن تنطفىءَ شموعُك.
يا وطنَ الشعر، ما أجملَ بيوتِك.
يا وطنَ الصداقة، ما أوسعَ حدودِك.
يا كاهنَ الرب، ظلِّلْني بأبُوّتِك، باركني بِيَراعِك وسدِّد خُطايَ بقداستِك. لقد كنتَ الكلَّ في شخصٍ واحد، فأحبَّك الكلُّ وتباهوا بطَلَّتِك.
رحيلُك عنّا خسارةٌ لن تعوّضَ، ولكن مهما أحببناك لن نحبَّك قدرَ الداخلِ الى ملكوتِه السماوي، فاهنأ برفقة سيِّدِ المجد.. لأنَّك كنتَ المجد. 
وداعاً يا أبتي وإلى اللقاء.
إبنُك الشعري شربل بعيني
**
التمدد الشعري عند سوزان عون

   مساءَ الخير
   عندما طلبتْ مني الأختُ الشاعرة سوزان عون أن أتكلّمَ في ندوة توقيع ديوانها الجديد "ليلى حتى الرمَقِ الأخير"، وافقتُ دونَ تردّدٍ، كيفَ لا، ونحنُ بأشدّ الحاجةِ الى أدبٍ أُنثَويٍ في غربتِنا هذه. لذلك اسمحوا لي أن أسلّطَ الضوءَ، بشكل سريع، على التمدّد الشعري عند سوزان عون.
   والتمدّدُ الشعري هو أن لا تبقى في مكانِكَ كشاعر القبيلةِ، أو أن تتقوقعَ في حزبيةٍ ضيقةِ، أو طائفيةٍ بغيضة.
   هو أن تضمَّ الجميع تحت جناحيكَ، وتشعرَهم بدفء إنسانيتكَ، لتبلُغَ العالميةَ، ومجنونٌ من يعتقدُ أن العالميةَ هي الكتابةُ بلغةٍ أجنبية. لا وألف لا، العالميةُ هي أن تبدعَ بلغتك أنت، لأن الكونَ كلَّه، تحوّلَ الى قريةٍ صغيرة، بوجود الانترنت.
   سوزان عون كما ترون، شاعرةٌ مؤمنةٌ مسلمةٌ محجبةٌ، ومع ذلك تمدّدت في أشعارها، وسطعتْ بإنسانيتها كشمس قريتها الكفور في قضاء النبطية، ورفضتْ أن تكونَ شاعرةَ القبيلة.
   وها هي تفكّ أغلالَ المرأة العربية المهمّشة وتتمددُ نحو الحب بجرأة بالغة:
"إسمعْ أيّها الآدميّ..
أنا شوكةٌ داميةٌ في خاصرةِ الحَصادِ، 
أبرعُ كما نسائمُ الساكنينَ على رِمشكَ..
متوردةٌ أنا، في حُشاشةِ الصّبا،
يقتبسُ منّي كلّ المجادلينَ في أزليةِ الحبّ
فيُخْفِقُونَ، وأنتصر أنا..
أنتصرُ أنا".
   ولم تكتفِ بذلك بل راحتْ تهدّدُه بإغرائها الأنثويِّ العاري من الأوراق:
سأغرزُ إغرائي فيكَ
بكلّ ما أوتيتُ من أنوثةٍ
وأتقلّبُ بينَ ناظريكَ 
كهاربةٍ مجرّدةِ من أوراقي".
   إلى أن تبلغَ ذُروةَ التحدي في هذا المقطعِ المثيرِ الرائع:
"حبّاتُ الكرزِ تلك، ما أينعَ مجدُها بعد، 
ولن تعصُرَ لكَ نبيذاً، سلني أنا. أنا ليلى حتى الرمَقِ الأخير".
واللهِ، والله.. هذا هو الأدبُ الأنثويُ الجميلُ.
   سوزان عون التي تنقلّت بين البلدان الى أن حطّت الرحالَ بيننا، تأبى إلا أن تغرفَ من التراث الفرعوني المصري هذه الصورةَ الجميلة: 
"يحنّطُ الذكرى كمومياء لئلاّ تموتَ
ويحفظُها في هرمِ القلبِ زخرفاتٍ أبديّة"
   كما أنها أهدت العراق "قرابينَ عشقها"، وتكحّلت بترابه:
أنا من تُربَةٍ سقاها حُلُمُ الصبا،
خطّ على جبينها اسمي،
فتكحلتُ كعروس الفرات الخصيب"
   أما التمددُ الأجمل فكان مسيحياً صرفاً، وهذا ليسَ بغريبٍ على شرفاءِ الكلمةِ، فلنسمعْها تصرخُ:
أحلمُ بأجراسِ مدينتي 
تَقرعُ في ليالي اللقاء،
تَرفعُ الغربةَ عن صدرٍ متعطّشٍ لحضنِ الوطن".
   وصدقوني إن لم نحلمْ حُلمَ سوزان عون في هذا الزمن التعيس، القاتل، ونبتهجْ لسماعِ الأجراسِ والآذانِ معاً، سيضرِبُنا الله بصمم قد لا تحسدُنا عليه الصخور.
   ولكي تُثبتَ القولَ بالفعلِ بدأتْ باتبّاع آثارِ القديسينَ:
"كسَرَتِ الرسلُ كلَّ أصنامِ الجمودِ
وتبِعْتُ أنا آثارَ القدّيسين"
   وفي نفس الوقت راح "هديرٌ سماوي لقداس في معبد" يحوّلها الى "أيقونة من زمن أمي حواء".
الآن بدأت أفهمُ لماذا عجائبُ القديس شربل تشفي المسلمين أكثر من المسيحيين.
   تصفُ سوزان عون نفسَها بـ"الغيمةِ الغافيةِ على بساطٍ من وجع"، وأنا أصفُها بالغيمة المباركةِ التي أمطرتْ من وجعِها فرحاً، بدأنا نتنعّمُ به في غربتنا هذه. وشكراً.
**
الفكاهة عند جورج هاشم

   جورج هاشم الصارم رأياً ونقداً ولغةً وتعليماً، يتحوّل في بعض مقالات كتابه "خارج السرب" الى "برنارد شو" بنكاته، وقصصه، ومواضيعه، وعناوينه. ولأن الكتاب مؤلف من 244 صفحة من الحجم الوسط، ويحتوي على أكثر من ثمانين مقالاً، وجدت أن من الأفضل أن أركّز على مقال أو مقالين فقط لأتكلّم عن "الفكاهة عند جورج هاشم".
   يقول المثل اللبناني الشعبي: "المكتوب يُقرأ من عنوانه"، لذلك سأبدأ بحفنة من عناوين "خارج السرب" الساخرة:
ـ مار روكز وكلبه ص: 74.
ـ عزيزي الشيطان سامحنا ص: 84.
ـ الحمار الذكي ص: 107.
وكثيراً ما نراه يستعين بعبارات خالدة لجبران خليل جبران كي يوصل صرخته بسرعة الضوء:
ـ لكم لبنانكم ولي أستراليا ص: 78.
ـ أولادكم ليسوا لكم أولادكم أبناء الكومبيوتر ص: 94.
   وصدقّوني أن من يقرأ عناوين مقالات جورج ليس بحاجة الى متابعة القراءة، فالعنوان فقط بإمكانه أن يكشف خبايا المقال، ويعريه أمام أعيننا، وهذا ما أسميه "بالحنكة الأدبية"، التي لا نجدها إلا عند كبار الأدباء والنقّاد.
   بعبارات تهكمية موجعة يبدأ جورج مقالاً بعنوان "يا عيون ماما" ص 202 فيقول: "يأتي الى المدرسة كل صباح، وكأنه آتٍ الى ساحة المعركة، يرمي محفظته جانباً، وتبدأ المشاكل".
   وجورج كما تعلمون مارس مهنة التعليم لسنوات طويلة، أي أنه عانى، كما عانيت أنا تماماً، من وجود طلاب من هذا النوع الذي أسميه: غنّوج أمه.
   والويل لك اذا طلبت الوالدين للحضور الى المدرسة بغية حلّ مشكلة ابنهما التي لا حلّ لها، فيبدأ الأب بالصراخ على ابنه، وتبدأ الأم بتأنيب الأب، لا الابن، قائلة: "حرام عليك، لا تبهدله أمام رفاقه.. لا تزعل يا عيون ماما". وبدلاً من أن يحلا مشكلة ابنهما مع المدرسة، تبدأ مشكلتهما مع بعضهما البعض، والويل لمن يتدخّل.
   مقال قصصي لا يوجد فيه أي ضرب من الخيال، كونه واقعياً وحقيقياً، وبإمكان أي مدرّس أن يكتب مثله تماماً، لو كانت عنده ملكة الكتابة، كجورج هاشم.
   وهناك مقال بعنوان "المؤنث والمذكر" ص 113، قرأته عدة مرات لطرافته، يقول جورج:
"تزوج مدرس لغة عربية من زميلة له مدرسة ايضاً للمادة نفسها. في أول صبيحة من أيام شهر العسل، جلسا على الشرفة المطلة على الافق الذي يغسل قدميه بعيداً في المحيط ودار هذا الحوار:
ـ هل لاحظت حبيبي أن الشرفة مؤنثة؟
ـ هل لاحظت حبيبتي أن الباب المؤدي الى الشرفة مذكر؟
ـ أنا في سعادة لا توصف، الابتسامة لا تفارقني، هل لاحظت انها مؤنث؟
ـ وهل لاحظت أن السرير الذي نمنا عليه هو مذكر، وهو سر ابتسامتك وسعادتك اليوم؟
وهكذا دواليك الى أن تقول:
ـ هل هكذا تتكلّم مع عروسك في أول يوم من شهر العسل؟
ـ أي شهر عسل وأي بلوط؟ أنا ذاهب الى المدينة.
ـ أذهب معك.
ـ لا المدينة مؤنث. ومؤنث (واحدة) تكفيني.
ـ (بغضب) الظاهر انك نكد، والنكد بالمناسبة مذكر. (لم يجب. خرج وأغلق الباب بعنف وراءه).
   ولكي يثبت جورج أن المرأة هي التي تدير المنزل، إما أن تدمّره وإما أن تحييه، مهما تفاقمت المشاكل فبيدها الحل، لأنها الأرحم والأجمل، يخبرنا أن العريس ما أن عاد من المدينة حتى ارتمت عروسه بين يديه وراحا في عناق "ضاع فيه المذكر بالمؤنث، مرة تجد المؤنث منتصراً، واخرى المذكر، وبعد جولات من الكر والفر، اعلنا التعادل على فنجان قهوة على الشرفة".
   هذا هو المربي الاديب جورج هاشم، الذي يضحكك كي يتلمذك، ويسدد خطاك على دروب الحياة، فمهما كثرت المصائب، وتشعّبت الأحداث، يبقى التعادل سيد الأحكام، ويبقى قلم أستاذنا الهاشمي مضيئاً كشمس تنورين، وغزيراً كينابيعها الرقراقة.. ونبقى نحنا متلهفين الى إبداع آخر.
**
الكتاب الضجّة: البيت في ساحة عرنوس

     قبل كل شيء، أودّ أن أعترف أنني كنت الناشر الأول لقصة البيت في ساحة عرنوس للدكتورة سمر العطّار.. لأنني وجدت فيها مادة إنسانية حيّة يجب أن لا تدفن في قعر الأدراج.. ولا أن تستغيث من أجل أن ترى النور.
   ولكنني، في نفس الوقت، قلّبت الناس، من حيث لا أدري، على الدكتورة الصديقة، ودفعت ببعض الزملاء لبري أقلامهم من أجل مهاجمتها.. وما افتتاحية جريدة (الوطن) المقفلة التي كتبها الزميل موريس عبيد في ذلك الوقت إلا دليل على صحة ما أقول.
   وإليكم العبارة التي أقامت الدنيا ولـم تقعدها  بعد:
"وكانت أختي ريما قد اشترت سيارة صغيرة عقب تخرجها من الجامعة. ولـم يكن آنذاك إلا قلّة قليلة من النساء اللواتي يقدن سيارة في المدينة، ولذلك فإنها كانت تتعرّض دائماً لأبشع التعليقات كلّما توقّفت أمام إشارة ضوئيّة:
ـ شوفير بلا إير
   كان بعض الرجال يقولون لها بصوت عالٍ واضعين أيديهم المفلطحة على زجاج السيّارة. وكانت ريما تكزّ على أسنانها، وتقول في سرّها:
ـ يلعن أبو هالبلد".
   ولا أغالي إذا قلت أن جرأة سمر في هذا الكتاب هي التي دفعتني إلى نشره، والفرحة تغمر قلبي.. وأعتقد أن الصديق جوزاف بو ملحم، صاحب راليا برس الشهيرة، قد أعاد طباعته مرة ثانية، بسبب الجرأة التي تتمتع بها هذه المرأة العربية القدوة.. ومن يدري فقد يسبب لها (هجمة شرسة) تنسيها الأولى. 
   ولكي تتعرفوا أكثر على هذه المرأة التي لا تقود (السيارة) كي لا تسمع ما سمعته أختها ريما.. نخبركم انها ولدت في مدينة دمشق في أربعينات هذا القرن، ودرست في جامعتها.. بعدها انتقلت إلى كندا والولايات المتحدة لتحصل عام 1973 على دكتورة في ألأدب المقارن.
   مؤلفاتها عديدة، أشهرها (لينا، لوحة فتاة دمشقية) التي ترجمت إلى الانكليزية ونشرت في الولايات المتحدة.
   متزوجة من البروفسور جيرهارد فيشر، مؤرخ وناقد أدبي ألماني، ولهما بنت واحدة اسمها لينا، وهي في السابعة عشرة من عمرها.
   أخيراً، يجب التنويه ان الطبعة الثانية من الكتاب جاءت أنيقة، وتتشاوف على معظم الكتب الصادرة في العالـم العربي.. فاحصلوا عليها من (راليا ـ برس)، وتنعّموا بجرأة الدكتورة سمر العطار النادرة.
**
النكتة عند بطرس عنداري

   سيداتي، آنساتي، سادتي
   طُلبَ مني أن أتكلّمَ الليلةَ عن معرفتي بالغائب الحاضر، حبيبِ قلوبنا جميعاً، الاعلامي النادر بطرس عنداري، شرط أن لا تزيدَ كلمتي عن خمسِ دقائقَ فقط. فشكرتُ اللهَ تعالى على نعمةِ الاختصارِ التي كان ينادي بها فقيدُنا الغالي، الذي طالما همس في آذاننا عندما يطيلُ أحدُهم الكلام: أف.. شو بيحكي.. طَوَشْنا. 
   بطرس عنداري، سيدُ النكتة المرتجلة بلا منازع، فما أن يراك حتى يسلخَك واحدةً تضحكُك لمدة أسبوع، ولهذا سأتناول هذه الناحية المفرحة من حياته، لأن الابتسامة لم تفارقْ شفتيه أبداً. وها أنا أخبركم ماذا فعل بي عندما التقيته في إحدى الحفلات، وكان برفقته الصديق أكرم المغوّش، فلقد قال لي بصوتٍ عالٍ كي يسمعَه أكرم: 
ـ انتبه من أكرم.. 
فسألته باهتمام بالغ: 
ـ ولماذا يجب ان أنتبه منه؟
فقال بجديةٍ بالغة: 
ـ بإمكانه أن يجعلَك درزياً بأقل من خمس دقائق.
   ومرّة، كنّا نستمع الى الشاعر الصديق فؤاد نعمان الخوري وهو يغنّي بصوته العذب إحدى قصائده الجميلة، فاقترب مني بطرس وقال: 
ـ فؤاد يخوّف.. مركزُك الشعري مهدّد. 
فقلت له: 
ـ فؤاد آدمي لا يخوّف. 
فقال: 
ـ يا غشيم.. فؤاد شعره جميل وصوته جميل، أما أنت فشعرك جميل، وصوتك مثل الدبّور بالجرّة.
   ذات يوم سألته: 
ـ لماذا لا تنشر صورتك مع المقال يا استاذ بطرس؟
فشذرني بغضبٍ وقال: 
ـ تطلّع بي جيّداً.. هل أُشبه صوفيا لورين أو مارلين مونرو أو فاتن حمامة؟
فأجبته: 
ـ بالطبع لا..
فقال: 
ـ إذن.. سأترك مرض نشر الصور لغيري. 
   وكم كانت فرحته عظيمة عندما اعترفتُ له قائلاً: 
ـ أنا معجب جداً بزاويتك "كي لا ننسى".
فضربني على كتفي وقال: 
ـ وأنا معجب بشعرك.. والجريدة جريدتك.. أنشر معي، وسأطعمك كل شهر "همبرغر بيغ ماك" من ماكدونالد.. اتفقنا؟.
   وعندما بدأت أنشر معه، اختار لزاويتي اسماً لن يخطرَ على بال أحد: "قذائف ورد"، وبعد "القذيفة" الأولى دعاني الى العشاء في منزله، حتى أتذوقَ طعامَ "أم زياد" اللذيذ، فأعجبتني صورة له وضعت في إحدى زوايا البيت، فطلبتها منه، فضحك وقال: 
ـ رُحْ علّق صورة مار شربل.. واترك صورة مار بطرس هنا. 
   فلم ألتفت له، بل حمَلت صورته ووضعتها في مدخل بيتي، وكان كلما زارني يتطلع بالصورة ويرمي السلام على نفسه: "السلام عليكم". 
   وذات يوم انتقدني أحد الزملاء، فقررت أن أردّ عليه، ولكن بطرس، رحمه الله، رفض أن ينشرَ ردّي، فغضبت منه وقررت أن أضع صورتَه بالمقلوب، رأسه من تحت وقدماه من فوق، ولحسن حظّي وسوء حظّه، أتى لزيارتي في اليوم ذاته بغية مراضاتي، فما أن ولج عتبة الدار كي يرمي السلام على صورته، حتى وجدها مقلوبةً رأساً على عقب. فصاح بأعلى صوته: 
ـ العمى بقلبك.. أرجعها كما كانت، معي ضغط دم.
   ومرة كتبت مقالاً أسخرُ به من جمعية نسائية قررت، أيامَ الحرب اللعينة، أن تهاجمَ المتاريس في لبنان بغية إزالتِها، وطلبتُ من النساء المرفهات إرسالَ خادماتِهن بدلاً عنهنّ، فقصّ بطرس المقال، وأرسلَه الى رئيسة الجمعية، التي حشدت، نكايةً بي، آلاف النساء وهاجمنَ المتاريس الموجودة عند المتحف اللبناني في بيروت، ليهاجمَني بطرس بمقالٍ عنونه هكذا: فقأنَ حصرمة بعين شربل بعيني.
   وأذكر عندما دعيت للمشاركة بمهرجان المربد الشعري في العراق عام 1987، كيف همس في أذني بجدية بالغة: 
ـ أين ستخبىء مصرياتك اثناء السفر؟ 
فقلت له: 
ـ في جيبي. 
فشد على يدي وهو يقول: 
ـ أنت مسطول حقاً، ضعها في الكلسات التي تلبسُها، فتريحك وأنت تمشي، ولا أحد ينشلك كما نشلوني أنا. 
   وعندما سافرت كنت أسيرُ طوال الوقت على الدولارات التي خبأتها في جواربي، وكنت الثاني، بعد بطرس، الذي يدوس على رقبة الدولار، ويمشي بأمان وفرح.
   وكما تعلمون، لم يكتب بطرس عنداري عن شاعر أكثر مما كتب عني، فقررت أن أردّ جميلَه، وأنشرَ أولَ كتابٍ له "كي لا ننسى"، وما أن حملَ نسخةً من الكتابِ بين يديه، وقرأ على غلافه أبياتي الزجلية هذه:
بطرس عنداري خْساره
يخلق منّو واحد بسّ
كاتب في عندو شْطاره
ما توقّف عَ حدود الأمس
جايي لهالدنيي زْياره
خلاّها تتحوّل عرس
وصفّى للحرف مْناره
زاغت منها عيون الشمس
   حتى غمرني وقال: 
ـ عندي "بورة" أرض صغيرة في لبنان، حابب أن أكتبها باسمك، شرط أن تنقلَ أوراقَ نفوسِكَ من "مجدليا" الى "متريت". 
   والمضحك المبكي أنني عندما سألت فقيدَنا الغالي، قبل وفاته بأسابيع، ذلك السؤالَ الذي فاجأه: 
ـ أين تريد أن تدفن، في "متريت" أم في "سيدني"؟ 
فما كان منه إلا أن ضحك وقال: 
ـ بطرس عنداري لا يموت.
    لقد صدقت والله يا ابا زياد، فمثلك لا يموت، وها هم أحبابُك، يلتفون حولك للمرة الثانية، ولسانُ حالهم يردد: كاسك يا بطرس.
وشكراً..
**
أنا لست عميداً للأدب المهجري

   منذ عدة أيام اتصل بي أخي وصديقي ورفيق غربتي الاستاذ جوزاف بو ملحم، ليطمئن على صحتي، وهل تغلبت على "الانفلونزا" أم لا؟ وكم كانت دهشتي عظيمة عندما غيّر مجرى الحديث وقال:
ـ أتعرف يا شربل.. لقد آن الأوان كي نعلنك عميداً للأدب المهجري.
فأجبته وأنا أضحك:
ـ وهل أنا طه حسين؟
فقال:
ـ ولكنك أكثر من ضحوا في سبيل أدبنا المهجري، وتشجيع أقلامه.
   وجوزاف بو ملحم، لمن لا يعرفه، هو خريج الجامعة اللبنانية ـ كلية الاعلام، ومجاز بالصحافة ومراسلة الوكالات الاجنبية. والناشر لجريدة "صدى لبنان" التي حضنت الأدب المهجري وأعطته سنوات ذهبية، كما أنه صاحب كتاب "الثورة في شعر شربل بعيني"، وحائز على جائزة جبران العالمية.
   أحببت أن أسجل هذه الحادثة، بعد أن تفضّل علي الأستاذ موسى مرعي بمقال رائع، جاء رداً على ما كتبه الاستاذ سركيس كرم حول "خواطري"، ومن غريب الصدف أنه كتب في نهايته: "لقد تجرأت ووهبته من نفسي لقب "عميدنا" دون ان استأذن احدا".
هنا لعب الفأر في عبّي، وقلت في سرّي:
ـ لا بدّ من أن يكون قد حصل اتصال بين جوزاف بو ملحم وموسى مرعي، وإلا كيف أعلنني موسى عميداً للأدب المهجري بعد يومين من مداعبة جوزاف لي.
   لم أنم تلك الليلة، ورحت أترقب الصباح بعيون جامدة، كي اتصل بجوزاف وأسأله إن كان يعرف شخصاً اسمه موسى مرعي، ولكم كانت دهشتي عظيمة حين أنكر معرفته به، فصحت بأعلى صوتي:
ـ ولكنه أعلنني عميداً للأدب المهجري بعد يومين من إعلانك أنت، فكيف حصل هذا؟
   ضحك وقال:
ـ إنها صدفة غريبة حقاً.. والآن بإمكانك أن تقول أنني السبّاق شفهياً، وموسى مرعي السبّاق كتابياً بإعلانك عميداً للأدب المهجري.
   والأغرب من ذلك أن شخصاً ثالثاً دخل على خط "العمدة" هو الاستاذ سركيس كرم، فلقد كتب تعليقاً على مقال موسى يقول فيه: "شكرا استاذ موسى مرعي على كلمتك عن الاديب شربل بعيني، وأضم صوتي الى صوتك وصوت كل من يثمّن الأدب الراقي. اما بالنسبة الى اطلاقك لقب "عميدنا" على الاستاذ شربل فهي مبادرة في محلها.  هنيئا لنا بوجود حاملي راية الفكر في عالم الأنتشار والعاملين على إبراز صورتنا الحضارية وفي مقدمتهم شربل بعيني.. وهنيئاً لنا ب"غربة" حولها الى واحة من العطاء الثقافي المتجدد ومحطة لقاء لذوي الحيوية الانسانية البناءة والساعية دوماً الى الأفضل"..
   وبدلاً من أن يرحم ضعفي، ويشد أزري، انضم الكاتب المصري أنطوني ولسن الى الشلة الثلاثية، فكتب يقول: "إلى عميد الأدب العربي في أستراليا الأستاذ شربل بعيني نقول : انه لشرف عظيم أن يختارك أدباء ومفكرون وأصحاب قلم وفكر متطور لتكون عميدا للأدب العربي في المهجر أستراليا. من رشحوك بالكلمة الشفهية أو بالكلمة المكتوبة، ما هم إلا عقلاء الأدب والفكر ولهم بصيرة أعمق من غيرهم، ورؤية أبعد منا جميعا. فقد رأوا ببصيرتهم ورؤيتهم أنه قد حان الوقت ليكون للأدب والأدباء عميد يثبت للعالم أن الأدب في المهجر أستراليا يفوق الأدب في بلادنا الأم . لأنه لم يتدنس بالمحسوبية أو بالتملق لرئيس أو حاكم. إنما نبع من فكر أدباء ومفكرين لهم قاماتهم ويعرفون حق المعرفة معنى أن يلقب أحدهم "شربل" بعميد الأدب. هنيئا لنا ولكل أديب أو مفكر بوجود من يمكننا أن نقول عنه عميد الأدب العربي".
   ولكي يصبح عدد الأصدقاء مطابقاً لعدد أصابع اليد الواحدة، وصلتني من الشاعر العراقي الكبير يحيى السماوي هذه الكلمات الرائعة: "لو لم يجداك جديرا بذلك لما توافق رأياهما على اصطفائك عميدا ـ وها أنا أضم صوتي الى صوتيهما يا صديقي ليس لأنك شاعر كبير وذائد كبير عن الكرامة المتأصّلة في الإنسان فحسب، إنما ولأنك كنت أسبق منا جميعا في رفع راية المحبة العربية والأدب العربي في القارة الأسترالية ".
   والظاهر أن أصابع اليد الواحدة لم تعد تكفي لإحصاء المحبين، فلقد وصلني من الشاعر والاعلامي الاستاذ سايد مخايل هذا التعليق المشجع:
"العزيز شربل
مهما عظمت الألقاب على أهميتها لا ترتقي الى روعة قصيدة واحدة من جرح قلبك أو الى مقالة واحدة من صدق قلمك.
ومهما عظمت القصيدة والمقالة لا قيمة لها من دون قلبك الأبيض الذي لا يضمر إلا المحبة للآخر .
لذلك انت العميد للأدب العربي المهجري والقصيدة الرائعة والمقالة الصادقة والاهم عميد للقلوب الصافية الناصعة البياض".
   كلمات أصدقائي الستة جوزاف وموسى وسركيس وانطوني ويحيى وسايد المفعمة بالمحبة، بدلاً من أن تفرحني، بدأت تخيفني حقاً، فكيف لي أنا المصلوب في غربتي، الغارق في وحدتي، أن أكون عميداً للأدب المهجري، وهناك من سبقني الى خدمة هذا الأدب، فحين وصلت الى أستراليا عام 1971، حاملاً خيبتي من وطني، وجدت طريق الأدب المهجري معبداً، فمشيت عليه دون خوف، وكيف أخاف، وقد التقيت به بأجمل الوجوه الأدبية، التي غمرتني بحبها وتشجيعها، وسخرت أقلامها للكتابة عني. لذلك اسمحوا لي أن أعلن، وبكل شفافية: أنا لست عميداً للأدب المهجري، بل جندياً للدفاع عنه وحاملاً لرايته، إلى أن يحين يوم رحيلي.
**
جائزة غونكور .. كيف وجدت؟

     كثيرون هم الذين سمعوا بفوز قصة الأديب اللبناني أمين معلوف (صخرة طانيوس) بجائزة (غونكور) الفرنسية.. وقليلون هم الذين يعرفون ماهي؟ وكيف وجدت؟ وها أنا أسلط الضوء عليها وأبرز خلفياتها وفق ما قرأت في بعض المصادر، ليعرف القارىء كم من المصاعب والمشقات ترافق إيجاد جائزة تقديرية، تحرّك المواهب وتصقلها، وكيف أن الجوائز العالمية الكبيرة ما كانت لتكون لولا طموح أشخاص عاديين أرادوا خلق عامل تشجيعي راق في مجتمعاتهم، تماماً كما فعل الأخوان ادمون وجول غونكور الفرنسيان، إذ أن الأول ولد في مدينة (نانسي) الفرنسية عام 1822، والثاني في العاصمة (باريس) عام 1830.   
   إدمون غونكور المحامي، الذي لـم يمارس مهنة المحاماة سوى ساعات قليلة في مكتب أحد المحامين، لأن الله شاءه أن يسخّر قواه مع أخيه (جول) لخدمة الفكر والأدب، فأوجدا فناً أدبياً جديداً جعل شهرتهما تطير في الآفاق، وجعلهما يخططان لعالم أدبي رحب، لا تقيّده حدود، ولا تحدّه لغات، ولكن القدر كان لهما بالمرصاد، فتوفّى اللـه الأخ الأصغر (جول) وهو في الأربعين من عمره، أي في ريعان شبابه وقمّة عطائه، فأقسم (ادمون) أن يحمل الرسالة وحده وطيف أخيه لا يفارق مخيّلته.  
    وكان للأخوين (غونكور) مدخول جيد من المال ساعدهما على مزاولة الكتابة، دون اللجوء إلى العمل.. وحتى يظهرا شكرهما للـه تعالى على نعمه، قرّرا، بعد وفاتهما، تأسيس مجمع أدبي يضمّ عشرة أدباء، يمنحون إيراداً سنوياً يوفّر عليهم عناء البحث عن عمل، ليخصصوا كل وقتهم للعمل المبدع، شرط أن لا يضمّ هذا المجمع سياسيين أو أعضاء من المجمع العلمي الفرنسي، على أن يخصص قسم من ثروتهما لمنح مكافآت في كافة مجالات التأليف والإبداع.  وأعتقد أنهما أدركا مسبقاً أن دخول السياسيين مجمعهما الإبداعي سيحوله من نعمة إلى نقمة، ومن حلم إلى كابوس، ومن الشفافية إلى الكذب والتدليس والإحتيال والمراوغة، وهذا ما سينطبق على أعضاء المجمع العلمي الفرنسي أيضاً، الذين لن يروا سوى أنفسهم، ولن يشجعوا سوى أنفسهم، ولن يكافئوا سوى أنفسهم. تماماً كما يحدث في معظم أنديتنا الفكرية والعلمية في الوطن العربي.  
   ومما جاء في يوميّات (ادمون غونكور) التي كتبها في نيسان 1884: (بودي إيجاد مجمع يكفل العيش الكريم لعشرة أدباء، أجبرهم فقرهم على إضاعة مواهبهم الأدبية والعمل في مكاتب الوزارات والمهــن الصحفية التافهة..)  فلقد كان يعتقد أن العمل في مكاتب الوزارات، وفي المهن الصحفية المختلفة تافه للغاية، كونه يلجم الكاتب ويحد من إبداعه، ويخضعه للمناقشة الدائمة، وللمسايرة والدجل بغية كسب لقمة عيشه. ولكنه سرعان ما تخلّى عن هذه الوصيّة، ليكتب وصيّة أخرى يهب بها جميع أمواله وعقاراته ومقتنياته (لألفونس دوده و ليون هانيك) شرط أن يؤسسا مجمعاً أدبياً اسمه (مؤسسة غونكور)، وأن ينفّذا الخطة التي رسمها لهما في وصيته الثانية.  وبعد وفاته اجتمع أقرباؤه المشتتون في فرنسا وأفريقيا وباقي الدول، وما أقلهم قبل الوفاة وأكثرهم بعدها، خاصة ساعة توزيع الإرث، وقرروا نقض الوصية أمام المحاكـم، فأوكلوا المحامي القدير (شينو) للدفاع عنهــم، كما أوكل (دوده وهانيك) المحامي (بوانكاريه). 
   (شينو) محامي الورثة قال انه لا يجوز التوصية بمال وبمقتنيات لمجمع أدبي لـم يظهر بعد، لأنه لا يجوز أن تمر فترة من الوقت، لا أحد يدري مدتها، وأملاك المتوفي بدون وريث شرعي، خاصة وأن القانون الفرنسي يدعو إلى أن يكون لكل ملك مالك، واتهم محامي الورثـة المتوفي (ادمون غونكور) بالغرور والكبرياء لتخليد اسمه وحرمان ورثته بالدم.. هكذا والله!  
   أما (بوانكاريه) فقد هزأ من ادعاءات زميله، مثبتاً أن ثروة الأخوين (غونكور) لـم تصل إليهما عن طريق الوراثة، ليكون للأقرباء الحق بها، مظهراً بالوثائق الرسمية أن ثروتهما بلغت مليون وثلاثـمئة وخمسين ألف فرنك فرنسي، جمعها الأخوان بكدهما ونشاطهما، ومن العار أن تحرم البشرية، وخاصة الأدباء، من التنعم بها.  ولـم تشأ العدالة الفرنسيّة أن تحرم الكون من الإستفادة من وصيّة (غونكور)، فاعطت حكمها لصالح تنفيذها، وأنشأت الحكومة الفرنسية أكاديمية تحمل اسمه.  صحيح أن المحامي (شينو) قد اتهم (ادمون غونكور) بالأنانية لتخليد اسمه، ولكن هذه الأنانية كانت أقرب الى القداسة منها إلى العمل البشري، ولهذا بقيت مؤسسته خالدة إلى يومنا هذا، تزرع النور في كل بقعة من بقاع الأرض، وقد زرعته منذ سنوات في (عين القبو ـ المتن الشمالي ـ لبنان) قرية المؤلف اللبناني (الغونكوري) أمين معلوف.
**
سايد مخايل في "صيّاد البال" يرافق الجميع ويبقى وحيداً

   لم يصطدني من الشعر في ديوان "صيّاد البال" للشاعر سايد مخايل سوى ثلاث قصائد هي:
ـ مشلوح.
ـ كلن حكو
ـ بيت الزمان الراح.
   وهذا لا يعني أن القصائد الباقية ليست ذات قيمة أدبية، معاذ الله، فكل كلمة يخطّها قلم أديب، أو شاعر، هي عندي بمثابة البؤبؤ للعين، ولكن القصائد التي ذكرت تركت في نفسي أثراً عميقاً، فاستوقفتني بصورها الرائعة، وسحرتني برنين جرسها الموسيقي المميّز، فسايد مخايل عندما قال:
مشلوح وحدي بهالطريق
وحدي.. وما في عندي رفيق
مشلوح ع شقفة حجر
بالليل والضو انكسر
والكون شقفي بحر والتاني بشر
وتنينهن موج وغريق.
   أعادتني من حيث لا أدري إلى بداية سني غربتي الطويلة في أستراليا، عندما كنت:
مشلوح ناطر شي أمل
يلمع بهالليل الطويل
والصمت أتقل من جبل
وعيون تغرق بالرحيل
   أتلمّس طريق مستقبلي من خلال الدموع والأحلام الكاذبة التي كان يصوّرها طموحي، هذا الطموح الذي دفع بشعب كامل الى مغادرة قراه ومدنه بحثاً عن وضع اجتماعي أفضل، وما أن يصله حتى يدرك أنه يعايش السراب والخيبة، فلا الأصدقاء أصدقاء، ولا الأهل، كما في الوطن، يعطفون ويشفقون:
.. ورجاع فتّش ع الطريق
بهالدني مالك رفيق
ت الدني تشتّي بشر.. غير البشر
ت السما تضوّي قمر.. غير القمر
بتبقا حياتك غيم وعيونك مطر
بتبقا طريقك وهم ووجودك سفر
وبتضل وحدك ع الطريق
وحدك ما في عندك رفيق
   كلام رائع.. توّج بجائزة برنامج ليالي لبنان، لمنطقة الشمال عام 1984.
   وتشاء الصدف أن أختار أيضاً قصيدة "كلن حكو" التي نال عليها شاعرنا "جائزة الجيش اللبناني 1983"، فضحكت في سري وقلت:
ـ كان من الأفضل أن يكون سايد حكماً لا متبارياً.
لأن ما من شاعر خاطب جيش لبنان المغلوب على أمره بلغة كهذه:
يا جيش خلّي الحق سيف وينكتب
متنا ع جمر الانتظار
ولبنان كلّو اصفرار
وتا ترد لون الاخضرار
بالدم.. لون الدم أحلى من الدهب.
   وأعتقد أن هذا يكفي للدلالة على قوة معاناة ابن بحويتا القرية الشمالية الحالمة، ورفضه للوضع الأمني، وللمتاجرة بأرواح الأبرياء.
   أما سبب اختياري لقصيدته "بيت الزمان الراح" فلأنه يصوّر فيها بيتي، أجل بيتي أنا، الذي كنت كلما دلف علينا سطحه أصرخ بهزج الأطفال:
ـ بيي، بيي عن تدلف.
فيسرع، رحمه الله، الى ارتداء معطفه الجلدي، وإنارة قنديل الكاز، والصعود الى سطح البيت كي "يحدله":
بترسم صور من هز المصابيح
وبتزيّح حبوب الدلف تزييح
وبتصير فيها تخربش وتكتب
   ولو لم يعش شاعرنا في بيت "كبيتي" لما تمكن من رسم هذه الصورة:
جسرك عتيق وخشبك شوي اهترا
وبعدك بقلبي متل أغلى جوهرا
ما زال عنّا شعر: قلم ومحبرا
تا نخرطش بيوت الشعر ع حيطنا
سؤال أخير أحب أن أوجهه لسايد مخايل:
ـ بالله من أخبرك أنني كنت أكتب الشعر على حيطان بيتي في مجدليا؟ هل زرته يا سايد؟ أم أن الشعراء كلهم ذوو عقلية واحدة، متى داعب الشعر مخيلتهم، تراهم يكتبونه حتى على الحيطان؟
سايد مخايل شاعر خلاّق، فما عليك أنت، أيها القارىء العزيز، سوى استغلال موهبته الشعرية هذه، وتجييرها لمصلحتك الخاصة، وللتنفيس عن معاناتك الشخصية.
**
سركيس كرم الزغرتاوي الثائر

   عرفت سركيس كرم منذ سنتين فقط، دخل الى مكتبي حاملاً بعض كتبه بالعربية والانكليزية، فاجأته بانتقادي له، كونه ذكر في كتابه "تجربتي مع التيار ـ لبنانية لبنان 2010"، أسماء معظم الشعراء اللبنانيين في المهجر الأسترالي ولم يذكرني، وفاجأني بجوابه المقنع:
ـ لقد ذكرت أسماء من تعاملت معهم، وأنت، وللأسف، لم أتعامل معك أبداً.
   ولكي تكتشف معدن أي انسان انتقده بإخلاص وصدق، أي دون أن تتجنى عليه، وانتظر ردة فعله، وهكذا فعلت، فلقد انتقدت طريقة كتابته للشعر العامي اللبناني، وأنه بحاجة الى الموسيقى والوزن، فوافقني الرأي دون تردد، وأذهلني بجوابه:
ـ أنا لست شاعراً، وما أكتبه هو للتعبير عن فكرة ما خطرت برأسي.
ومن خواطره الشعرية أختار:
اهدن جنة وللمجد ينبوع
فيكي النسر بيطال ابواب السما
وكرمال العز يعلي بها الطلوع
بدو الهوا الطالع من باب الهوا
   وكما ترون، فسركيس لم يهتم بالوزن، ولا بالقافية، اذ أن البعد بين "السما والهوا" بعد "الميم" عن "الواو". كل همه أن تصل صورته الجميلة هذه الى القراء، وقد وصلت.
   هنا، بدأت أعجب بتواضع سركيس بك كرم، كما يحلو لي أن أناديه، رغم رفضه للقب، وإصراري عليه. فقليلون جداً هم الذين يتقبلون النقد، ويعتبرون أنفسهم أنصاف آلهة، وهنا تقع المصيبة الكبرى، فإما أن تقول الصدق وإما أن تكذب عليهم. وقد شجعني سركيس على قول الصدق لأنه صادق.. ويرفض أن يكون نصف اله.
   قابلته تلفزيونياً عدة مرات، ولم يتلعثم أمامي، لدرجة شعرت معها أنه المحاور والمجيب في آن واحد، وأن دوري في المقابلة لم يكن سوى الوقوف خلف الكاميرا.
   هاجم الزعماء، واعتبر أن لا خلاص للوطن إلا بتحجيمهم، وأن الشعب اللبناني مرغم على الانصياع لهم لأنهم يسيطرون على كل شيء:
ـ قال البطل "فلأضح أنا وليعش لبنان"، وما كان كلامو مجرد كلام. أما الشعار الفعلي ل كتار من "أبطال" اليوم فهو للأسف الشديد "فليضحى لبنان لأعش أنا".
وأيضاً:
ـ يا حرام ع لبنان.. كل سياسي فيه فاتح ع حسابو.. ولا حسيب ولا رقيب طالما الجمهور بينسا وبيسامح بسرعة البرق كرمال المصلحة "الوطنية العليا"!!.
   هذه ثورة شاب زغرتاوي، هجرته عن "مرقد عنزته" سياسات تافهة، وزعامات شرسة، وطائفية بغيضة، فصرخ بأعلى صوته:
ـ "عم نحلمك يا حلم يا لبنان" من دون طائفيي ومذهبيي وآذاريي وزعامات وتصاريح سياسيي.
   وكمغترب، لم أجد أصدق من كلامه هذا في حب لبنان:
ـ فينا نهاجر من لبنان بس ما فينا نخليه يهاجر من قلوبنا.
   سركيس كرم ديموقراطي حتى العظم، ولكي يثبت القول بالفعل كان الرئيس الوحيد في هذه الجالية الذي تخلّى عن رئاسته كي يفسح المجال لغيره، رغم نجاحه المنقطع النظير بإدارته لجمعية بطل لبنان يوسف بك كرم الزغرتاوية، وهو القائل:
ـ كم أتشرف وأكبر واعتز بأن أكون من أصغر العناصر بين رجالك يا يوسف بك.. أحارب بقلمك، وأتعلم من قيمك، وأحيا بسيرتك.
   وأنا أيضاً، يا صديقي سركيس، أتشرف وأكبر وأعتز بصداقتك، بقلمك، بقيمك، وبسيرتك.
المرجع:
ـ خواطر وأحلام.. من غربة لا تنتهي ـ سركيس كرم، مطبعة القارح ـ زغرتا، 2014
**
نثر الدكتور مروان كسّاب الشعري

   أعجبت به كشاعر دكتور، وأحببته كمنبري من الطراز الأول، وسمعت الكثير عن جولاته وصولاته في عالم المرافعات القانونية، ولكن لم يتكلّم عنه أحد كأديب يتشاوف نثره على شعره في أماكن كثيرة، ولكي تعرفوا ماذا أقصد إليكم ما أبدع.
   في مقاله النثري "دموع الخريف" الذي منه انبثق عنوان ديوانه الأخير، نراه يحوّل وادي بلدته "تنورين"، الى ملكة "متشحة بملابس السكينة والوقار".. "متربعة على عرش الأبد"، تاجها "جبال مشرئبة نحو السماء، وفي عينيها المقدودتين من الصخور السمراء صولجان الزمان".
   هذا هو نثر الدكتور مروان كسّاب، يحول الجماد الى بشر، ليسكرهم "بخمرة الحنين والخيال"، ولو لم يفعل ذلك لما تمكن من تحويل واديه الى "وادي الشعر والخيال" حيث "تتألّق آيات السحر والجمال". 
   هناك قرب ذلك الوادي تعلّم كيف يتلو "صلاة الشعر على موسيقى زقزقة العصافير، وخرير المياه المنسابة على وجنات ذلك النهر الهادر".
   سأتوقف قليلاً عند عبارة "وجنات ذلك النهر" أي "خدوده"، وأسألكم: هل هذه أنسنة للأشياء أم لا؟ وهل سمعتم بوجنات نهر إلا في نثر الدكتور مروان كسّاب؟
ولكي يرضي الجماد بعد أنسنته، حوّل أباه الى "شجرة حزينة.. نمت وتعالت نحو السماء"، ولكن القدر لم يرحمه، فرحل، "تاركاً وراءه.. غيوماً من الأحزان".
   أما عن شاعرية أخيه وليم، فحدّث ولا حرج، فلقد وصفها بشكل تعجز عنه كاميرا التصوير: "شعر دفّاق كالجدول الرقراق، ونغم عندليبي تسكر على رنّاته ربّات الجمال وأوتار الخيال". وليس هذا فحسب، بل انه طويل القامة، بهي الطلعة، "تواكبه التفاتات الحسناوات، والقامات الفارعة طمعاً برؤياه، واستماع كلماته المتساقطة من غيوم أفكاره وعواطفه، مثل الرذاذ المترنح على وريقات الحبق".
   من غير ابن القرى الجبلية اللبنانية، يقدر على مشاهدة رذاذ الندى على وريقات الحبق كحبّات ماسيّة شمسية الاشراق واللمعان، ليصوره بهذه الدقة، وينقل الصورة بعبارة واحدة؟ 
   ولكي يثبت أن الموهبة لم تأته هو فقط في عائلته، يخبرنا أن أخاه فايز مثل وليم كان "بيدر عطاء، ونبع معرفة لا ينضب". وإذا كانت الصبايا تتهافت لرؤية أخيه وليم، فإن الرجال يتهافتون لسماع أخيه فايز "من على كل منبر وفي كل مجلس يتهافت إليه رجال الفكر والشعر والادب والخطابة".
   وبما أن فقدانه لأحب الناس الى قلبه، كان أقوى منه، وقف بين الحياة والموت، وهو يتأوّه: "نعم، ما أصعبها وقفة، لا بل ما أرهبها ساعة"، وراح يفلسف الحياة بطريقة جديدة اذ حولها الى "طالبة في معهد التجارب والآراء والأحكام"، وراح يتساءل على مدار الدقائق والساعة عن مفهوم الموت في هذه الحياة "المرصعة بالاحلام الزائفة"، التي "يشد بها السراب" نحو "محاولات يائسة، تزيد المحتاج حاجة، والعطشان عطشاً". وها هو يستنجد ببيت شعري فلسفي لأخيه المرحوم وليم كي يثبت نظريته عن الموت والحياة:
إن التأمل في الحياة
يزيد آلام الحياة
   هذا الـ "وليم الشاعر" الذي رثاه أخوه مروان بأجمل بيت شعري قرأته في حياتي:
وتنام ملء العين أنت ولا ترى
ما يفعلُ العدمُ اللئيم بحالي
ماذا بإمكاني أن أقول بعد هذا؟ 
   ألا يلزمني كتاب كامل كي أشرح هذا البيت من الشعر الذي يختصر آلامنا البشرية بعشر كلمات؟. 
بلى والله.
   فيا أخي مروان كسّاب، يا دكتوري المتواضع، يا شاعري الحبيب، ويا أستاذي الكبير.. لقد أحببتك شاعراً زجلياً، وانحنيت أمام شعرك العمودي الفصيح، ولكني، والحق أقول، ما زلت أطير على أجنحة نثرك الرائع، الذي يبزّ الشعر، ليبقى سيد نفسه.
   وفقك الله والى ابداع آخر باذن الله.
**
عبد الوهاب البياتي

   كنت أجلس وحيداً أمام فندق الشيراتون، أنتظر إقلاع الباص للذهاب إلى قاعة الرشيد الكبرى، لألقي قصيدتي (أرض العراق.. أتيتك)، وفجأة صعد إلى الباص رجل خمسيني يكلل الشيب مفرقيه، وجلس بجانبي، وهو يبتسم لي، فقلت له بعد أن أذهلني وقاره:
ـ ألله بالخير.. شربل بعيني من أستراليا.
ـ يا مرحبا.. عبد الوهاب البياتي من العراق.
ـ أأنت عبد الوهاب البياتي؟!.. ألله كم أنا مشتاق لرؤيتك، والتحدث إليك، وها أنت تجلس بقربي على أهون سبيل.
ـ أشكرك.. شعراء المهجر دائماً يفكرون بنا.. أهلا بكم.
ـ والله يا أستاذ أحب أن أقول شيئاً..
ـ تفضل..
ـ على الأمة العربية واجب تكريمك، فلماذا كل هذا التأخير؟
ـ (...)
ـ سأرسل لك ما سأكتبه عنك في النهار الأسترالي..
ـ ولمن هذه الصحيفة؟
ـ للأستاذ بطرس عنداري..
ـ إذن، توجد نشاطات أدبية في أستراليا. 
ـ هناك رابطة إحياء التراث العربي التي توزّع (جائزة جبران العالمية) كل عام، كما أنها تقيم الندوات الشهرية لدراسة الأدب المقيم، ولتشجيع الأدب المهجري أيضاً.
ـ عظيم.. ها قد وصلنا..
فمن هو هذا الشاعر العربي الكبير؟
ولد عبد الوهاب البياتي في مدينة بغداد عام 1926، وتخرج من دار المعلمين عام 1950 ليعمل مدرساً ثانوياً.
صدر ديوانه الأول (ملائكة وشياطين) عام 1950، ثم توالت أعماله بعد ذلك.
فصل من عمله في مجلة الثقافة الجديدة، واعتقل عام 1954، ثم ترك العراق إلى سوريا فلبنان.. فمصر.
عاد إلى وطنه عام 1958 ليعمل مديراً للتأليف والترجمة والنشر بوزارة المعارف العراقية، أما الآن فهو المستشار الثقافي لبلاده في مدريد.
مثّل العراق في أكثر من مهرجان دولي.
**
صدى صفحات عباس علي مراد لن يطويه الزمن

   وصلني عبر البريد كتاب "صدى على صفحات الزمن" للصديق العزيز عباس علي مراد، الذي يعتبر أحد كتّاب موقع "الغربة" المعروفين، فرحت أتصفحه ورقة ورقة، وعيناي تراقبان عناوين قصائده، فاستوقفتني عدة عناوين منها "أبجدية جديدة":
ع
و
ل
م
ة
بدون علامات استفهام
بدون علامات تعجّب!
   ورحت أسائل نفسي: ماذا يريد أن يقول عباس؟ هل هو ضد العولمة؟ هل هو معها؟ ولماذا جزّأ كلمة عولمة الى أحرف؟ فأدركت بعد طول تفكير أن عباس علي مراد، يريدنا، ونحن نقرأ أشعاره، أن نفكّر، لا أن نكون هو بالمطلق، بل نحن كما نحن.
أما في "زوال" فنقرأ:
يسير خلف جسد متهالك
يسكب دمه في فكرة مغلوطة
نسي ذاته
نسي الاخر
سار خلف عصبية
لا تاخذه الا في دروب الزوال
   لتعرفوا ماذا يقصد شاعرنا ما عليكم الا أن تتوقفوا عند عبارة "يسكب دمه في فكرة مغلوطة"، وكم من الافكار المغلوطة التي أودت بحياة ملايين المخدوعين في هذا العالم التعيس، ورمتهم في "دروب الزوال".
وفي "كلمات" نقرأ:
تنوء الكلمات 
بأثقال معانيها
يسكنها في بيت من الشعر
يخشى عليها رمال
الرياح المشتتة مع الجهل
   عباس في هذه الابيات القليلة يصور معاناته مع الكتابة، فرغم أنه أسكن الكلمات في بيت من الشعر، إلا أنه يخاف عليها من رمال الجهل التي تقضي على الفكر النيّر.
   وبخمس كلمات فقط في "عراء" نراه يصور النفس البشرية بأبهى معانيها من خلال عصافير شعره:
الاغصان العارية
لا تسكنها العصافير
   وكل نفس عارية من الاخلاق والقيم الذاتية لن يقترب منها الجمال، ولا تشنّف أذنيها زقزقات عصافير الفرح، فلسوف تكتسحها الرياح الشمالية، ويقض مضجعها برد الوحدة.
ومن حكمه الشعرية استوقفتني هذه:
الحق
سلاح
لا يستعمله الجبناء!
   صدقت والله يا أخي عباس فما من جبان إلا وتلطى خلف قمامة كذبه، وما من صادق إلا وأشرقت شمسه رغم الضغائن والحروب. وما أنت إلا صادق بما تقول وتكتب، وصدى صفحاتك لن يطويه الزمن.
**
قصائد غسان محمد منجّد مغسولة بالضوء والضباب

   كنت أعتقد أنني أعرف كل شعراء المهجر، وأنني قرأت لهم، بعد أن أهدوني مؤلفاتهم، ولكنني وجدت نفسي مخطئاً عندما اقترب مني شخص لم أره من قبل، ودون أن ينبث ببنت شفة، قدّم لي أربع مجموعات شعرية هي:
1ـ عيون من جليد
2ـ حين بكت السماء
3ـ ايقاع العطر
4ـ قصائد مغسولة بالضوء والضباب، التي أتخذتها عنواناً لمقالي هذا.
   وبينما هو يخبرني عن معرفته بأحد أقربائي في مجدليا، كنت أنا أفتش عن اسمه المنشور بحرف صغير ورفيع على أغلفة الكتب: غسان محمد منجّد.
   أجل، انه ابن أحب مدينة الى قلبي: طرابلس، وليس هذا فحسب فمن طبع وكتب مقدمات الكتب هو أستاذي وصديقي الياس عشّي، الذي كان أول من أمسك بيدي على طريق النشر، يوم كنت "أدبدب" بغية الوصول الى عالم الكلمة.
   والظاهر أن غسان منجّد أراد أن يبهرني بعدد مؤلفاته، وأن يجعلني عاجزاً عن التفضيل بينها، فالطباعة التي نفذتها مطبعةCap  في طرابلس، كانت أكثر من رائعة، وكيف لا تكون رائعة ومن يشرف عليها هو الاديب الكبير الياس عشّي، الذي لا يهمه، منذ التقيته في مدرسة الآباء البيض في القبة عام 1967، إن لم تخنّي الذاكرة، إلا نشر الكلمة، ودعم أصحابها.
   والملفت حقاً، أن غسان منجّد، ولد في العام والشهر اللذين ولدت فيهما أنا، شباط 1951، والملفت أكثر أنه سبقني بيوم واحد الى هذه الحياة إذ انه ولد في التاسع من شباط، بينما تأخرت أنا الى العاشر منه.
   وها هو قلم الياس عشّي المبدع، يعرّفنا بغسان بكلمات سريعة وشاملة:
ـ على مدارجها، أي طرابلس، لعب غسان، ونما، وتعلّم، ولبس عباءة الشعر، وبعد حصوله على الشهادة الثانوية من مدرسة الآباء البندكتان في القبة، وبعد انتسابه لكلية الآداب في الجامعة اللبنانية في بيروت، ولعامين فقط، اضطر غسان بعدها لقطع دراسته الجامعية، ومغادرة لبنان هرباً من جحيم الحرب الأهلية التي لم ترحم أحداً، قاصداً أوستراليا التي تحولت، مع سنوات الغربة الطويلة، الى وطن آخر لغسّان.
   بربكم، اليست هذه قصّة كل واحد منا، بلى والله؟
   ومن ديوانه الاخير "حين بكت السماء" اختار هذه القصيدة بعنوان "خيمة الغرباء":
أنا الدورة السريعة
في دائرة الفناء.
أنا العزلة الأخيرة
في خيمة الغرباء
أسرج خيل سمائي بريش هدهدة
وأقطف منها رعشة نهد.
..
استحق حلماً انتشر من ثدي غزالة
أستحق رقصة من صحوة صنوبرة
مَن أنا من هذه الومضة
التي تنادي بصيرة؟
وتفرش بقطن الكون نشيد القداسة؟
..
تناديني الصحوة فتأتي الرؤيا
وتمس بصيرتي
بقمح النور.
   قصيدة قصيرة سريعة ولكنها معبّرة، يكتنفها الألم والخوف، وتجرّحها الغربة بأظافرها السامة، وتجبر القارىء على التأمل، والتعمّق، ليصل الى أعماق الشاعر، الى رهبته، ويأسه، وقنوطه في غربة أعطته الامان ولكنها لم تعطه مسقط الرأس، ورائحة الأهل والجيران والرفاق، فصاح بأعلى صوته:
أنا العزلة الأخيرة
في خيمة الغرباء.
وراح يستنجد بالشعر كي يحصل على حلم او رقصة:
أستحق حلماً... أستحق رقصة.
هذا ما يريد في صحوته، كي "تأتيه الرؤيا، وتمس بصيرته بقمح النور".
غسان محمد منجّد شاعر طرابلسي لبناني، عرف كيف يتغلّب على غربته بالشعر، وعرف كيف يفرّحنا نحن أيضاً بالشعر. فله ولأستاذنا الكبير الياس عشّي كل الحب والتقدير.
**
ألبيرحرب في (بيت من ورق)
يحرق أصابعه ليضيء ظلمات الآخرين

   يقول الشاعر الفرنسي الكبير (بول فاليري1): "للشعر في الافهام معنيان، اولهما مجموعة العواطف والانفعالات التي تهيجها في نفوسنا احداث الزمن، ومجالي الطبيعة، ومعاني الوجود، والوان الحياة. فنقول: منظر شعري، وظرف شعري. وثانيهما انه فن قائم، وصناعة عجيبة، يتناول الاهواء المشبوبة بالتنسيق والتأليف والجلاء، ثم يبرزها في لغة جميلة تطرب لها الأذن، ويهتز منها القلب".
   من هذا التحديد الواضح لمفهوم الشعر انطلق في دراستي هذه حول ديوان "بيت من ورق" للشاعر اللبناني ألبير حرب.
   لقائي الاول مع البير حرب كان على (شريط فيديو2) عندما سمعته للمرة الاولى يرتّل، اذا صح التعبير، هذه الابيات الشعرية:
.. وقت اللي كوّن هالوطن ألله
كمش طينه، وصار يتسلّا
من حلم ايدو صوّر بلادي
تزحط صبيعو يخلق الوادي
يفتح صبيعو جبال تتعلاّ
   فصرخت وقتئذ: رائع، رائع.. واخذت اصفّق له غير عابىء بما سيقوله عني الحاضرون. واذكر ايضاً كيف ان البير لم يترك لي مجالا للاعتذار، فصاح مجدداً:
بدّك تعمّر بيت وملبّك
صوّر ع ايدك لون من قلبك
وشقاع جرحك أبعد من اللمس
تا تصير شقفه من السما دربك
وعمّر الكلمه بيت حد الشمس
بتزغر تحت صابيعك بعلبك
   وللمرة الثانية يطير صوابي واصرخ بصوت عال: يا كبير يا ألبير. 
   وبعد هذا اللقاء التلفزيوني العابر، علق هذا الاسم في نخيلتي، لدرجة اصبحت معها بأشد الشوق للحصول على الديوان الذي يحتضن بين صفحاته تلك الابيات الخالدة.
   وفجأة.. تحقق الحلم، فالتقيته صدفة في "بيت من ورق"، ويا له من بيت: الدفء يغمره، والزهر يزيّنه، والعصافير تحلّق في سمائه الصافية، مسيحة الله تعالى بتراتيل شعرية تتخطى حدود اللون والصورة:
سكوت الصخر لا تقول عنو موت
كل الدني تراتيل منسوره
يتحكي بتم اللون والصوره
وبتصير ألله لو بتزرع صوت
ومجرم اذا بتنبح عصفوره
   بهذا التصوير الانساني الرائع وضعنا البير امام خيارين لا ثالث لهما، اما ان نرتفع الى درجة الالوهية، واما ان نجر اذيال خيبتنا ونمشي، واعتقد جازماً ان هذه الابيات الشعرية لو وقعت بين المسؤولين عن حماية البيئة لترجموها الى عدة لغات، وعلقوها على مداخل الغابات والحدائق العامة، لانها تحمل بين طياتها صرخة شاعر فنان ملؤها الالم، لما حل بالطبيعة من تشويه باسم المدنية والعمران.
   ولكي يوضح لنا مدى اهمية الطير والزهر في حياتنا اليومية، نراه يربط مصيرهما بمصير الناس:
من نغمة الطير ال بيرف طلوع
بيعلق بادنك صوت وبتسمع
ومن زهرة ال فيها الحلا مشقوع
بتكمش بعينك لون وبتقشع
لكن ببيت العم يهزو الجوع
بتعطي الخبز للناس وبتشبع
   وكما نلاحظ، فإن الصورة عن البير حرب فريدة من نوعها، فما من شاعر سبقه الى استعمال (بتكمش) على هذا النحو، فهو قد اتى به من اللاشيء، وحمّله عظمة الرؤية التي لولاها لعاش الانسان في غيهب ابدي.
   اذا اردنا ان ندرك سر اهتمام شاعرنا بالطير، رمز السلام، والزهر، رمز المحبة والاخاء، وجب علينا التوغل أكثر فأكثر في عالمه الشعري الرحب، كي نكتشف مكنونات قلبه، عندئذ تتراءى لنا صورة الوطن الآمن الذي يحضن أبناءه، ويصهرهم في بوتقة واحدة، ليبني بذلك مجتمعه النموذجي الفريد:
أعلام شعبك عم تزوزقها
يا مجمّع الالوان خزّقها
بدك علم بيوحد الاحساس
بالوان ما في مجد يلحقها
رفاع الايادي البيض بين الناس
ورد النوايا السود وحرقها
   وليس هذا فحسب، بل اهتمام الشاعر بالزهر ينبع ايضاً من شوقه العميق لشفتي حبيبته الورديتين اللتين اذا قبلهما، فلسوف تتطاير احدى وريقاتهما نحو السماء لتبشر بولادة حب جديد:
عطيني شي بوسه للهوى تذكار
من تم وردو زغير بعدو زرار
تا يصير كل الحب عمرو زر
وراقو الحمر بشفتين زغار
وكلما التقيو شفافنا بيهر
وبتطير ورقه ع السما مشوار
   فاذا امتنعت عن اعطائه "بوسه للهوى تذكار" نراه يخاطبها، بغية اقناعها طبعاً، بكلام هو أقرب الى العتاب منه الى التهديد، شارحاً لها كيف أن النحلة ما وجدت أساساً إلا لامتصاص رحيق الزهرة:
عم تسأليني مين يسمحلي
عطر البعبّك ضل استحلي
عمري منو صبح او سهره
جناحي الشوق وهالعمر رحلي
وما دام انتي بها المرج زهره
لا تسألي شو بدها النحلي
   يتميز البير حرب عن غيره من الشعراء بالقدرة على اختراق الوحي، اي انه يستوحي الفكرة، ويرسم الصورة ساعة يشاء. وما تسميته لديوان "بيت من ورق" الا دلالة واضحة على سكنه القصيدة، وعلى تمكنه من الرسم بالكلمة:
حامل الريشه وعم تفيّق كون
وقف الزمان بعمرك الماشي
طيّر الكلمه المارقه من هون
ومرق صابيعك حط فيها لون
بيصير شعرك للدني فراشه
   وعلى انه الشاعر الوحيد الذي حث الشعراء الآخرين على امتطاء صهوة المجد والتحليق في الماورائيات، واستنطاق الجماد، وسكب الضوء فوق الحروف، لأن الشاعر بنظره لا يقل عن الخالق ابداعاً:
شاعر انت.. ع غير كون رحال
خلف الشمس هز الدني بوقفي
كنّك بشر ما فيك كلمه تطال
الله كتب نص القصيده وقال
كنك الاه بتكمل الشقفي
   خاصة اذا كان هذا الشاعر كما وصفه ابن بشري البار جبران خليل جبران3، "طائراً غريباً يفلت من الحقول العلوية، ولكنه لا يبلغ الارض حتى يحن الى وطنه فيغرد حتى في سكوته، ويسبح في فضاء لا حد له، ولا مدى مع انه في قفص".
   وبما انني أتيت على ذكر أحد أشهر أدباء المهاجر خاصة والعالم عامة جبران، أحب أن أنقلكم الى البرازيل، لنستمع الى الاديبة المعروفة أنجال عون4 وهي تتساءل: لماذا جئنا من التراب، ولماذا الى التراب نعود "تلقينا يد خفية في غمرات الوجود، فلا نجري فيها شوطاً قصيراً أو طويلاً، حتى تقبض علينا ثانية وترمي بنا الى ما وراء القبر".
   وأعتقد ان الشاعر ألبير حرب الذي لقب بشاعر الجالية في فنزويلا، قد أجابها على سؤالها الفلسفس هذا، بعد ثلاثين سنة تقريباً، بكلمات شعرية تحلق في عالم الخيال، لتخلق من الخيال وقعاً:
هالارض صوره مغبشي بانت
كمشة تراب لعمرنا عبرا
ومهما عيونك زغرت بكبرا
بكرا بترجع متل ما كانت
صابيع اله ونتفة الغبرا
   وبعد هذا كله اقول: ان القصيدة التي تنمو على يدي ألبير حرب تأخذ شكل الدائرة، التي لا بداية لها ولا نهاية، لأنها تجتاز مسافات الزمن، وتدفعك للرجوع اليها كلما اشتقت لذاتك.
الهوامش:
1ـ كتاب "من النقد الفرنسي" لللاستاذ محمد روحي فيصل، في سلسلة "اليقظة" التي كانت تصدرها دار اليقظة العربية، العدد 2 ص 9 طيعة 1043.
2ـ احدى حلقات ليالي لبنان.
3ـ من المقدمة التي كتبها جبران خليل جبران لديوان ايليا ابو ماضي "تذكار الماضي".
4ـ من كتاب "انجال عون اديبة وشاعرة" للاستاذ نعمان حرب، دار مجلة الثقافة، دمشق، ص 33.
**
حطاب الحيرة

   أحببت ديوان "حطّاب الحيرة" لزاهي وهبي لسببين رئيسيين. أولهما: صدق الشاعر مع نفسه. وثانيهما: كلمة الاهداء التي زيّنت صفحته الأولى "وكأن هذا الكون فقّاعة صابون، يمتد في صوتك، ويتلاشى في فضاء كلمتك".. وكأن التي أهدتني الديوان أرادت أن تتشاوف عليّ وعلى زاهي وهبي بقوة شاعريتها، وصدق تعبيرها، فوفقت كثيراً لدرجة يعجز معها لساني عن اطراء موهبتها الشعرية.
   من مراجعتي السريعة للديوان، وجدت أن الشاعر يبحث عن "دين ودنيا". دين يوصله الى ربه، ودنيا تزخر بالجنس، لأن الجنس مبارك من الآلهة:
كأن امرأة ضاجعت
جميع القديسين فباركتها الآلهة.
...
أو كأن جميع القديسين ضاجعوا امرأة
ف ب ا ر ك ت ها ا لا ل... (ص13).
   لا يهم من ضاجع من!!.. فالآلهة ستبارك العمل، ومن يدري فقد يتحول فخذ المرأة المومس الى عتبة هيكل في معبد، من شدة البركة:
فخذها الموحل
عتبة هيكل في معبدنا
ثمة كاهن هرم
يضيء شمعدان منتصف الليل
ومغنية تتعرى عند المحراب. (ص 15).
   الرفض الديني لا يتوقف عند شاعرنا، والهزء بالطقوس يتصاعد تدريجياً حتى يصل الى القمة في قصيدة "سورة النساء" حيث:
.. ربّت الاله على "قفا الانبياء"
كي ينزل سورة النساء. (ص22).
   زاهي وهبي في "حطّاب حيرته" لا يؤمن إلا بالمرأة، يناجيها، يراودها عن نفسها، ويعدها بالحب:
حين أحبك أكثر
سيجثو إله على ركبتيه
مثل قديس خاطىء
سوف يشتهيك الانبياء
وتغمر الكون سحابة الفرح.
سيولد ألف كسيح
وتحبل كل النساء وأحبك أكثر. (ص 45).
ملحوظة: أريد أن أعرف هنا "هل ستحبل النساء بدنس او بلا دنس؟".
   والى أن يأتيني الجواب، سأعود الى "حطاب الحيرة" لأفتّش عن اللحظات التي تدوم، ولماذا تدوم:
اللحظات التي تدوم
متى تضحكين،
مثل اله يسوق قطيعاً من الملائكة. (ص 19).
   مساكين هؤلاء الملائكة، فبعد حياة الزهد التي عاشوها على هذه الارض، يتحوّلون في الحياة الآخرة الى قطيع يساق بالعصا. كما يتعرّضون الى مراقبة شديدة اين منها مراقبة الجواسيس لبعضهم البعض، لان الزلازل تقع في حالتين:
حين يمارس ملاك
عادته السرية
او حين يرتجف ردفك
مثل أرنب مذعور
تطارده ذئاب جائعة (ص 49)
   علينا أن ننتبه جيداً الى تركيب العبارات المجبول بالسخرية الدائمة، وكما قلت فالمرأة عند زاهي وهبي أهم من جميع الانبياء والملائكة والقديسين، وطوبى للمرأة التي سيقع اختياره عليها لأن:
من رآها أو شبّه له
وإن مات فسوف يحيا. (ص 14)
   ولكي يقربها بنا، ويعرفنا عليها، نجده يصفها بايجاز:
تفوح من نبرتك المشتهاة
رائحة الشتوة الاولى
بخور الكنائس العتيقة
كأن رعشة لذيذة
تسري من الخشب المقدس
الى عظام القديسين. (ص 38)
   السخرية في الديوان أقوى من الصور الشعرية ذاتها، وهذا ما جعله يتميّز عن غيره من الدواوين التي صدرت في آونة ما بعد الحرب اللبنانية، فالشاعر الذي "يغافل حزن الاصدقاء، ويمضي كمن يمشي على الماء"، جدير بأن تتحوّل سخريته اللاذعة الى اطراء، لأنه وفّق بها وأجاد.
النهار، العدد 692، 14/3/1991
**
الجواهري.. وجواد هاشم

    عام 1993 رن جرس هاتفي البيتي، وما أن رفعت السماعة حتى انساب إلى مسمعي صوت أنثوي بشّرني بسماع صوت شاعر العروبة الخالد محمد مهدي الجواهري:
ـ هل بإمكاني أن أتكلم مع شربل بعيني؟
ـ شربل بعيني يكلّمك.. من معي؟
ـ معك الجواهري من سوريا.
   أهي مزحة أم حقيقة؟ لم أعد أعرف ماذا أفعل، وكيف سأنتقي كلماتي، وبأية طبقة صوتية سأكلّم القائل عام 1950، يوم تأبين الزعيم اللبناني الراحل عبد الحميد كرامي، أي قبل أن أولد بعام واحد: 
تنهى وتأمر ما تشاء عصابة
ينهى ويأمر فوقها استعمارُ
خويت خزائنها لما عصفت بها
الشهوات والأسباط والأصهارُ
واستنجدت، ودم الشعوب ضمانها
ورفاهها، فأمدّها الدولارُ 
   وفجأة أطل علي صوت الجواهري كغمامة مثقلة بالمطر لترطب صحراء غربتي وتنعشها:
ـ الأخ شربل بعيني
ـ أيوه.. أيوه.. شاعرنا العظيم
ـ أحب أن أشكركم على منحي جائزة جبران العالمية.. 
ـ هذا أقل من واجب.. نريد أن نقول لك: شكراً، فأرجو أن تقبله منا.
 ـ بارك الله فيكم.. لقد أرسلت قصيدة بالبريد إلى عنوانك، أرجو أن تصلكم في الوقت المناسب، لتلقى نيابة عني في احتفال تسليم الجائزة.
ـ ستكمل فرحتنا أكثر لو ألقيتها أنت بنفسك.. وسنقوم نحن باستضافتك وبالتكفّل بكل مصاريف الرحلة.. 
ـ صحتي لا تسمح لي بالسفر يا أخ شربل..
ـ انتبه لصحتك أرجوك.. أطال الله في عمرك. 
ـ سلامي إلى جميع الأخوة في رابطة إحياء التراث العربي.. وألف شكر مجدداً على الجائزة. 
   تذكرت هذه المكالمة التاريخية وأنا أقرأ قصيدة أهداها الجواهري للوزير العراقي السابق جواد هاشم، نشرها على غلاف كتابه (مذكرات وزير عراقي مع البكر وصدام) ليكحل بها عيني القارىء قبل الولوج إلى أحداث الكتاب المسرودة بأسلوب شيّق وجذاب، لتغطي حقبة طويلة من السياسة العراقية امتدت من عام النكبة 1967 إلى العام 2000. 
   يبدأ الجواهري قصيدته الحائية بمخاطبة (أبي جعفر) كما يخاطب الأخ أخاه:
يا أبا جعفر عدتك اللواحي
من أخي نخوة وضو سماح
ورضي الطباع يهتز لطفاً
للندى في غدوه والرواح 
   فمن غير رضي الطباع يهتز لطفاً للندى؟ ومن غير الجواهري بإمكانه أن يأتي بصورة كهذه، تحبب القارىء بممدوحه دون أن يراه أو أن يتعرّف عليه؟ خاصة وأنهما طبعا معاً على جبين الصباح قبلة الفجر: 
سعدت ليلة طبعنا عليها
قبلة الفجر في جبين الصباح
من صميم الدجى أطل علينا
سحر ساجر بَليل الجناح 
   فتصوروا معي كيف أطل هذا الساجر المبلول الجناح على أناس أسكرتهم سجعة الشعر قبل أن تعزف رنتها الأقداح، وقبل أن ينتشي البحر من الوجوه الجميلة.
تتهادى فيها الأحاديث تقفو
سجعة الشعر رنة الأقداح
نشوة الكأس تستدير عليها
نشوة البحر في الوجوه الملاح 
   وما أصدق الجواهري عندما يقسم بالحب، خاصة إذا كان طاهراً، فما من قدرة على الأرض ستمنعه من تحقيق قسمه، خاصة إذا كان خله الوفي مسامحاً وكريماً وصريحاً وصادقاً كجواد هاشم: 
يا أبا جعفر وأقسم بالحب
طهوراً يرف رف الأقاح
لَلصديق الصدوق عندي أغلى
من أعز المنى، وأعلى الطماحِ
ولذكرى، منه تعن، شفاء
من عنائي، وبلسم لجراحي
ولإلمامة تعاود منه
هي أحلى طيف يحل بساحي
ولأنت الخل الذي سوف تبقى
صور الحسن منه في ألواحي
   أجل يا شاعر العروبة، ستبقى صور الحسن التي رسمتها بأناملك الذهبية في ألواح الخلود، وسيبقى ذكرك خالداً ما بقيت حياة، وابتل ساجر، وانتشى بحر، ورنت أقداح، وتناثرت قبل.. وأعتقد جازماً أن جواد هاشم سيتخلى عن جميع الألقاب والمناصب التي تبوأها في رحلته الطويلة في خدمة عراقه والعالم، ولن يتخلى عن حرف واحد من قصيدة مدحته بها، لا لتسعده هو شخصياً،  بل لتسعدنا نحن بما جادت قريحتك. وها أنا قد سعدت حقاً.. فألف شكر لأبي جعفر على كتابه الهدية، وألف شكر لروحك الخالدة لأنك بلسمت جراح غربتي الطويلة بقصيدة أقل ما يقال فيها إنها.. جواهرية.

**
الشعر هو الوفاء يا روميو عويس

   أحب أحد الأصدقاء أن يسمعني عبر "الواتس أب" شيئاً من كلمات حفل توقيع كتاب "وين الخطيّه؟" للشاعر روميو عويس في لبنان.. فأصبت بصدمة قوية عندما سمعت أحدهم "نسيت اسمه" يهاجم الكتاب في حفل توقيعه، أي في ليلة بيعه للجمهور، أو بالاحرى الترويج له عبر كلمات المشاركين.. فأحب هذا المتكلم أن يكسر مزراب العين بغية الشهرة ليس إلا، ضارباً عبر الحائط بأصول المشاركة، التي تفرض عليه تسليط الضوء على العبارات الجميلة ليس إلا، والابتعاد عن التجريح كي لا يبتعد الجمهور عن تشجيع الشاعر واقتناء كتابه.
   من أتى به الى الندوة؟ من سمح له بالكلام؟ لست أدري.. كل ما أدريه أنني حفظت شيئاً مما قال، ويا ليته لم يقله: في الكتاب الكثير من الوفاء والقليل من الشعر.
   أف.. أف.. أف.. كيف تدنى المستوى الأدبي عند البعض الى درجة الخطر، فالعديد من المتفلسفين إن وجدوا في الكتاب قصائد مناسبات يبدأون بالنقد والتهجم على الشاعر، ويتناسون أن أعظم الشعراء العرب "أبي الطيب المتنبي" خلدته قصائد مناسباته، وخاصة عندما يقول:
إذا أتتك مذمتي من ناقص 
فهي الشهادة لي بأني كامل
   صحيح أن في كتاب روميو الجديد الكثير من قصائد المناسبات، أو قصائد الوفاء، كما أسماها ناقدنا، ولكنها ملآنة بالصور الشعرية التي لا يأتي بمثلها إلا الشاعر الشاعر.
   لنأخد مثلاً هذا البيت من قصيدة أهداها للشهيد البطل أبو واكيم:
وبعدو اللي صابك برصاص الغدر
بترجفّو عينيك بالصوره
   لنعلم كيف يأخذ روميو بالثأر من قاتل "أبو واكيم" عن طريق عينيّ "أبو واكيم" ذاته. أي أنه لم يلجأ الى البندقية لأخذ الثأر بل إلى الصورة الشعرية الناطقة بصدق. 
   أما في حفل "يوبيلي الذهبي" فقد أبدع روميو في قصيدته، التي قال فيها:
يا شربل.. بنات الشعر جننت
تلال القصايد ملعب حجالك
وأنت؟ ما بتقول مينك انت
ولا بتسجد مقابيل تمثالك
   فمن غير "الشاعر الوفي" بإمكانه أن يحوّل القصائد الى تلال، ويحول التلال الى ملعب للحجال.
   وعندما علم بوفاة صديقه الشاعر "ألبير حرب" أنظروا كيف رثاه، واخبروني إذا نطق "روميو" شعراً أم لا:
مش انت قلت: لدعستو من حبر
عا العمر ما بيموت
ولو سكّرو التابوت
وسدّو بواب القبر؟
انت باقي عمار بعد العمر
ودعستك بالحبر تخلق شعر
شعرك.. عا لوحات الدهب منحوت
يا الكنت انت الفخر
وبيرق شموخ ونصر
ع القبر ما بتفوت
   وكي أبهركم أكثر بشعر الوفاء، انظروا كيف رثى سعيد عقل:
باقي عقل.. بقصايدو مخلّد
قصايدو أكبر من مجلّد
مليون شاعر بالدني يولد
لا بيقدر يجيه الوحي ذاتو
ولا الفلسفه تخلق بكلماتو
ولا يعيّش الكلمه بنبراتو
ولا تنوّر الدهشه.. بلمعاتو
   فإذا كان المتنبي قد هاجم من هاجمه في البيت الشعري المنشور أعلاه، تعالوا نقرأ كيف هاجم روميو من تهجم عليه:
ستي قالتلي: ان نبّحت الكلاب
رميلا عضم يابس.. بتتسلى
   هناك الكثير الكثير من الشعر المدهش النادر في مناسبات روميو عويس، ولكنني سأكتفي بهذا القدر كي أترك لكم جمال البحث عن اللآلىء عندما يوقع كتابه "وين الخطيه؟" في سيدني بإذن الله.
   أخيراً، أقول، وبالفم الملآن، الشاعر إن لم يكن وفياً لأصدقائه، ستنقصه نعمة الابداع، لأن الشعر هو الوفاء بحد ذاته.
**
الحكمة في شعر سايد مخايل

   بينما كنت أتصفح ديوان " وعد العمر والشعر" للشاعر سايد مخايل استوقفتني حكمة تقول:
ما في حدا يوقّف قدر محتوم
ن نشّف الزيت وخلّص المشوار "ص 21"
   فقررت أن أقرأ بتمعن زائد، علني أحظى بحكم "مخايلية" قد تعبّد لي الطريق لكتابة مقال عن "الحكمة في شعر سايد مخايل"، ولم يخب ظني، بل وجدت حكمة ثانية برّدت لي قلبي كشاعر، وأعطتني الحياة الخالدة:
الشاعر إذا بيموت ما بيغيب "ص 49".
   وفي نفس القصيدة، يؤكد حكمته المنشورة سابقاً "ص 21" إذ يصرخ:
بعرف أنا إنو العمر مرقه
وما في حدا فوق الارض باقي "ص51".
   وكما ترون، فسايد مخايل يفلسف الموت بطريقة شعرية سهلة، كي لا يخيفنا منه، بل ليقربنا إليه، أغنياء كنا أم فقراء:
وفي ناس عـ كسرة خبز ماتو
وفي ناس من كتر الأكل بتموت "ص 55"
   وضمن رحلة الموت التي ما زلنا نعيشها في حكمه، نجده يكرّم المرأة، ويعترف أننا سنطير من هذه الدنيا، أي سنندثر، لولا الأمومة:
كليتنا من هون رح منطير
وأعمارنا أرقام عَـ الجدول
وتصورو بهالكون شو بيصير
لو ما المرأة الأم فيها تعيد
ب سر الولادة الكون للأول "ص 63".
   ولولا معرفتي الشخصية بسايد، لقلت أن سحابة من اليأس تمطر فوق صفحات ديوانه، وأن الحزن يجره على دروب الشعر:
وبالآخر منرجع عـ نفس الباخره
يللي في إلها فرد مهرب للحياة
ودرب أللـه بالسعاده زاخره
لفاعلين الخير عالأربع جهات "ص 95".
   الباخرة هي الموت، الذي لا مهرب منه إلا عن طريق فعل الخير، ففاعلو الخير هم الوحيدون الذين سيركبون مركب النجاة عند غرق الباخرة، وهم الوحيدون الذين سينعمون بالسعادة الأبدية.
   ومن فلسفة الموت ينقلنا سايد الى فلسفة لاهوتية عرفت عند المسيحيين بكرسي الاعتراف، فمن يدخلها عليه أن يقول الحقيقة، وإلا ستحجب عنه الحلة ولو منحها له الكاهن:
ومهما الحقيقه تحمل خطايا
لما نقولا بتاخد الحله "ص 128".
   وعن الأصالة الأدبية يعطينا حكمة ولا أروع، خاصة وقد كثرت التبجحات، وتتطايرت "الأنا" كسهام الحروب القديمة، فنراه يرفع صوته قائلاً:
ل منّو أصيل.. بيوقع بنص الطريق
ولفوق ما بيوصال غير العبقري "ص 162"
وفي مقطع شعري خصني به مشكوراً، يقول في مطلعه:
شربل وهج بالجاليه وشيخ الشباب
شربل بيكمش حرف بيصفّي دهب "ص163"
   ومن المديح ينتقل بسرعة البرق الى الثورة على جميع الشويعريين الذين يسرقون من هنا وهناك كي ينالوا شهرة كاذبة سرعان ما تتلاشى:
ومش كل واحد كل ما كلمه كتب
صفّى كبير وصار نعملو حساب
ومش كل شاعر شعر من غيرو نهب
صفّى لدنيا الشعر عندو انتساب ص 163"
إلى أن يقول في آخر القصيدة:
كل البشر كتّاب صارو بهالدني
وضربو الكتاب.. وشوّهو دور القلم "ص 164".
   هذا هو سايد مخايل الشاعر الحكيم الذي عجنته الأيام وخبزته، يهدينا خبرته الحياتية على طبق من ذهب، فإما أن نتعظ وإما أن نبقى غارقين بأوهام الادعاءات الفارغة، التي بدأت تثقل كاهل أدبنا ليس في الاغتراب فحسب بل في كافة الدول.
**
إعتذاري العلني للنحات توفيق مراد

   أنا الموقع أدناه شربل بعيني أعتذر أمامكم للنحات اللبناني المغترب توفيق مراد، كوني لم أزر معرضه الرائع القائم في منطقة "كنتربري"، رغم وجوده هناك لأكثر من أربعين سنة، وكأن الغشاوة الاعلامية والشعرية قد ضربت عينيّ ومخيلتي.
   فجأة التقيته في معرض الأب الفنان جون جبّور الذي أقامته له رئيسة جمعية إنماء الشعر الدكتورة بهية ابو حمد، فدعاني الى زيارة معرضه المتحف، وطلب مني وعداً قاطعاً للزيارة، فوعدته، وأنا أتمتم في سري: من سيأخذني إلى هناك؟
   ومن غير الصديقين الكبيرين الاعلامي جوزاف بو ملحم والشاعر روميو عويس أهلاً لذلك. فدخلنا متحفه يوم الأربعاء قرابة الساعة الثانية والنصف بعد الظهر.. ودخلت الى قلوبنا رهبة قدسية لم نقدر على حجبها نحن الثلاثة أمام عينيّ النحات المبدع توفيق مراد.
   رؤوسنا تدور، وأعيننا تدور، والمتحف يدور بنا، وكأن التماثيل تتحرك من تلقاء ذاتها، لا بل سمعناها تتكلم وتخبرنا قصة مجيئها الى هذه الدنيا.
   التماثيل حيّة.. هكذا وجدناها، وهكذا تعاملنا معها، وهكذا أحببناها، لا بل دهشنا بها.
   أول عبارة نطقت بها حين دخلت جنة النحت هذه كانت: أنا آسف يا أخي توفيق مراد. وأعتقد أن جوزاف وروميو قد تأسفّا أكثر مني، لعدم زيارتهما لعالم فني مدهش قلّ أن تراه عين.
   وبعد أن التقطت أنفاسي من الدهشة المفرحة ارتجلت هذه الردة الزجلية:
توفيق مراد النحات
إزميلو بيخلق آيات
فنان كبير ومشهور
مع فنّو ع قلبي فات
   هنا صاح توفيق بأعلى صوته: "لما".. طنجرة قهوة من فضلك. لم يقل ركوة، بل طنجرة، لشدة فرحه بوجودنا، أي يريدنا أن نشرب ونشرب ونشرب كي تطول زيارتنا أكثر فأكثر.
   وجاءت السيدة "لمى" مرسملة بثقافة عالية، وبحديث شيّق، وكأنها أرادت أن تثبت لنا صحة المثل القائل: وراء كل عظيم إمرأة.
   ذهبنا إلى متحف توفيق مراد فارغي الأيدي، فأهدى لكل واحد منا كرسياً محفوراً بشكل لا يمكنني وصفه، لأن جميع أعماله أكبر من الوصف، فحمل كل واحد منا كرسيه، ونسي أن يجلب قلبه معه، ولم ننتبه لذلك إلا عندما ركبنا السيارة وعدنا الى منازلنا، فأحسسنا أن النبض قد توقف في صدورنا، وأن القلوب لم تعد هناك.. لقد بقيت في متحف توفيق مراد.. ومن يدري فقد تتحول الى تماثيل خالدة أبد الدهر.
**
الدكتور رامز رزق 
نفذ بنجاح عملية أدبية في القطاع الرابع

   للمرة الثانية ألتقي الدكتور رامز رزق، الاولى في حفل يوبيلي الذهبي عام 2018، والثانية في معرض الكتاب المهجري عام 2019.
   في المرة الأولى ربحت منه مشاركة في اليوبيل ولا أروع، وفي المرة الثانية ربحت منه عدة كتب، أقرب ما تكون الى المجلدات.
   ومن عادتي عندما أستلم أي كتاب أن أتصفحه بسرعة، ولكن سرعة التصفح تلاشت تماماً عندما بدأت بقراء رواية "عملية في القطاع الرابع"، فلقد شدتني أحداثها الأقرب الى الحقيقة منها الى الخيال، رغم ادعائه بأنها "خيالية"، لا بل أحسست أن أحد أبطالها هو الدكتور رامز رزق بالذات.
   بنت جبيل البلدة الشامخة في جنوب لبنان هي المحور، منها البداية وبها ستكون النهاية، معظم أبطال الرواية من أبنائها الشرفاء، والمعارك تدور في أرجائها وضواحيها.
   من حي النبعة في الضاحية الغربية من بيروت تبدأ الرواية، وتنتهي بتحرير بطلها "عبدالله الشايب" من سجن الخيام.
   أحداث مثيرة تترى أمام ناظري، أماكن أعرفها وأماكن لم أسمع بها من قبل، ولكن هذا كله لم يكن يعنيني من الرواية، كنت طوال الوقت أفتش عن ومضات الدكتور رزق الأدبية، ولقد وجدت الكثير منها، وسأطلعكم على بعضها.
   في الصفحة 25 يقول: "حدود البصر يختصرها انحناء قوس الأرض. يصبح الإنسان أمام البحر ضعيفاً، صغيراً، قزماً لا يمكنه التحدي، عاجزاً لا يمكنه مقارنة الأمور بين الحجم والزمن".
   هذه العبارات أبعد ما تكون عن السرد القصصي، إنها حكم تطعم الرواية لتزيدها أدباً.
   وفي الصفحة 27 يحلل الدكتور رزق بطريقة فكاهية سبب ذهاب الناس الى الجامع: "لا يزور ذلك المكان إلا العجائز، ولماذا تظن أنهم يأتون إليه؟ لأنهم يخافون من القبر". بعدها يتساءل: "لو سألنا الناس أيهما أفضل الذهاب إلى الجامع أم إلى السينما؟ فماذا سيكون الجواب؟ أنا أتصور أن أكثر الناس سيقولون السينما".
   لولا القبر، لما تعبد إنسان.. إنه خوف النهاية المطعم بأمل الدخول الى الجنة.. وإلا فالسينما خير مكان للترفيه عن الانسان.
   أما في الصفحة 35، فيرمي أمامنا هذا القول الرائع: "الحلم الذي يأتي في اليقظة، يتوهج حتى يصبح قريباً من الحقيقة، ثم ينتهي وكأنه لم يكن".
   في الصفحة 125 يصب الدكتور رزق الملح على جراح الجامعيين الذين لا يجدون عملاً رغم شهاداتهم العالية، بينما "السكاف" يتقاضى أكثر منهم بكثير، ولمعلوماتكم فقط، لا يمكن لإي كان أن يمارس مهنة "السكافة" في أستراليا إلا إذا تخرج من المدارس المهنية، وقد يلزمه أكثر من أربع سنوات دراسة  قبل ان يحمل لقب "سكاف".
   وعن العملاء المدسوسين في الأحزاب والمنظمات يعلن الدكتور رزق: "والله لا أرى من الحكمة أبداً أن أقاتل أو أنضم الى أي حزب بعد أن رأيت كيف تحول أبو زياد من قائد هنا الى ضابط هناك".
   وأبو زياد هذا هو من سلّم أسلحة المقاومة لأبطال المسرحية، وهو من سلّمهم للعدو الاسرائيلي، لا بل هو من قضى على زهرة شبابهم. إنه ضابط إسرائيلي في زي مقاوم.
   صحيح أن رواية "عملية في القطاع الرابع" ملأى بالمتفجرات، والمداهمات، والتظاهرات، والعمليات الفدائية، ولكنها أيضاً ملأى بالحكم الانسانية التي تشع في ظلمة الشرق: "الناس أصلاً ليسوا للقتل حتى ولو كانوا أعداء، الناس يمكن أن يتحولوا من حال الى حال بتحول السياسة، فمن يكون عدواً قد يتحول حليفاً".
   وهذا ما حصل بين الولايات المتحدة الاميركية واليابان، فلقد ضربت الأولى مدينتي ناكازاكي وهيروشيما اليابانيتين بالقنابل الذرية، بعد أن ضربت الثانية ميناء "بول هاربر"، وها هما الآن أكبر حليفتين رغم الدمار والموت.
   وعن الخيانة، السرطان المتفشي في عالمنا العربي، يقول الدكتور رزق صفحة 197: "أبشع صور الحرب عندما يكتشف الانسان أن عدوه يعيش معه في نفس المكان".
   بإمكاني أن أكتب صفحات وصفحات عن ومضات د. رامز رزق الأدبية، ولكنني سأكتفي بهذا القدر، كي لا أطيل عليكم القراءة، فالزمن زمن "الماكولات السريعة" "والقراءة الأسرع"، لذلك سأنهي مقالي بعبارة واحدة: لقد نفّذ الدكتور رامز رزق عمليته بنجاح في القطاع الرابع.
**
جدتي تفقد الحلم

   وصلني من الدكتورة نجمة خليل حبيب كتابها الجديد "جدتي تفقد الحلم"، المؤلف من 192 صفحة من الحجم الكبير، والصادر عن الدار العربية للعلوم ناشرون.
   ولكثرة اعجابي بالعنوان، رحت أقرأ القصة التي تحمله، والتي افتتحت بها الكتاب، وكأنها تأمرنا أن نقرأها.. وأن نتمعن بها.. وأن نتساءل اذا شئنا: لماذا خسرت جدتها الحلم؟.
   حلم واحد من أحلامها الرائعة استوقفني لأنه ذكرني بنفسي حين كتبت قصائد ديوان "مراهقة" منذ نصف قرن دون أن التفت إلى الوراء.
   وصدقوني أن جدتها هذه، جعلتني أندهش من جرأتها اللامحدودة، وكأنها لم تعش في زمن بابور الكاز بل في زمن "الانترنت والفايس بوك"، فلنقرأ معاً ما كتبت في قصاصات اعترافها:
   "حلمت يوماً أنني ضبطت رجلي في فراشي مع أخرى. لم أغضب، بل وقفت مختبئة أراقب وأتلذذ فعلهما".
   يا إلهي.. صرخت بأعلى صوتي، أتتلذذ امرأة شرقية قديمة بخيانة زوجها لها، وكأن شيئاً لم يكن؟.. 
   ماذا كان سيحدث لو رأت فتاة اليوم ما رأت الجدة في غابر الأزمان؟ بالطبع سيقع الطلاق:
   "إستفقت في الصباح ونفسي مشحونة بالإثم، حتى أنني شعرت بتصلب في عضلات حوضي جراء تفاعلاته مع وقائع الحلم"
   سأتوقف قليلاً قبل أن أكمل كي التقط أنفاسي، لأن من الصعب أن يأتي بهذه الصورة الأدبية الناطقة الا من كان بمستوى قلم نجمة حبيب. فلقد اعلمتنا بعبارة واحدة. أن الجدة الطاهرة العفيفة لا تكذب، ولا تخاف من قول الحقيقة مهما كانت وكيفما كانت:
   "بقيت طوال اليوم أحس بكرهي لنفسي، وكرهي له، حتى أنني لم أستطع أن أرمي عليه تحية الصباح".
   هذا ما كتبته الجدة بشفافية وصدق، فلنر كيف سيكون موقف حفيدتها من أحلام جدتها. فلقد كتبت:
   "بعد أن قرأت قصاصات جدتي تباطأت خطواتي اللاهثة وراء اليومي من أمور الحياة".
   ولم تكتفِ بذلك، بل أقرت أنها عندما حملت القصة لنشرها في إحدى الجرائد، رمقها مدير التحرير بنظرة "لم أستطع تفسير معناها، ولكنني علمت أن مقالتي أدهشته، فلقد كتبتها حرباية لها ألف لون ولون".
   لا لم تكتبها "حرباية" رغم الاندهاش الشديد الذي سيصيبنا عند قراءتها، بل كتبتها أديبة كبيرة، تعرف كيف توصل معاناة الفرد الى قرائها بصدق قد يولد الاندهاش اللذيذ.
**
حين تتعرى جهات عباس علي مراد

   من عادتي، حين يصلني كتاب، أن أقرأ ما كتب على الجهة الثانية من الغلاف، وإذا بي أتفاجأ بهذ العبارة اللاهوتية عن الحب: "في البدء كان الحب وسيبقى"، المأخوذة فكرتها من الإنجيل المقدس: "في البدء كان الكلمة"، وهذا ما يدل على ثقافة إنسانية واسعة.
   "حين تتعرى الجهات" هو المولود الجديد للشاعر المهجري الصديق عباس علي مراد، مؤلف من 114 صفحة من القطع الوسط، وقد صمم غلافه الفنان علي سهيل مراد.
   الإهداء كان لاهوتياً أيضاً: "العزيز شربل.. صداقتنا راسخة في أرض العطاء"، أي الأرض المقدسة التي تجمع الناس، على اختلاف معتقداتهم، وألوانهم، على بيدر عطائها، لتطعم الجياع الى المحبة.
   يحتوي الكتاب على 50 قصيدة، ودّعها بقصيدة "عيترون" البلدة التي أنجبته وأهدته الى الكلمة. فمن هي عيترون بنظر ابنها:
عيترون
الساكنة في تضاريس المجد
   لم يقل في سهول المجد، بل في تضاريسه، لأن من الصعب جداً أن يرتقي المجد من ليس أهلاً له.
   وكي لا تضيع خيرات عيترون، نرى عبّاس وقد سيجها بالهضاب، كي لا يصلها إلا من حرثها وسهر عليها:
هضاب سيجت خيراتك
كروم التين، العنب والصبّار
وزيتون يروي تاريخ الأحرار
   لقد أنطق عباس مراد زيتون بلدته، ليخبرنا عن تضحيات شهداء البلدة، الذين سقوا بالدم ترابها، ولهذا بقي:
صامداً شامخاً متجدداً
رفيق الأجيال
مغروس في الأرض كما في البال
   قصائد الكتاب كلها من الشعر الحر المنفلت على هواه، إلا هذين البيتين الموزونين تقريباً، ويتمتعان بقافية واحدة "الأجيال والبال" وهذا يثبت لنا أن بمقدور عبّاس لو أراد أن يكتب شعر التفعيلة، ومن يدري فقد يفاجأنا في يوم ما بقصائد موزونة.
   وككل مهاجر مغلوب على أمره، ينام باكياً، ويستيقظ باكياً لا بالدمع بل بالشعر، إذا أن الحب لمسقط رأسه، قوي وقاتل، تماماً كما الحنين وأكثر:
عيترون..
لك كل الحب
وأكثر بكثير من الحنين 
   ولك يا صديق غربتي عباس علي مراد كل الحب، وألف مبروك كتابك الجديد وعقبى لغيره بإذن الله.
**
حروف تجعّد فيها العمر للشاعر أسعد مكاري أبعد ما تكون عن الشيخوخة

   "حروف تجعّد فيها العمر"، مجموعة شعرية جميلة حملها لي مشكوراً من ربوع إهدن الاعلامي سركيس كرم، موقّعة بخط مؤلفها الصديق الشاعر أسعد بدوي مكاري، ليكون للإهداء قيمة ورونق، كيف لا وقد كتبت:
"ليبقى الحرف مضيئاً في سماء المعرفة، وتبقى الثقافة صرحاً أعلى من جميع الصروح.. إليك أخي الراقي الشاعر المهجري الذي يملأ الدنيا نوراً وشغفاً شربل بعيني، كل التقدير والمحبة".
   الكتاب مهدى "إلى الروح التي تتنقّل في جنائن الابجدية، تلثم الزهر، تطوف من حرف إلى حرف، تفتّق براعم الفكر لتصير أنشودة.. الى روح الشاعر الكبير شاعر الكورة الخضراء عبدالله شحاده، أقدّم كتابي".
   الغلاف من تصميم الاستاذ أنطوان فنيانوس، والرسوم الداخلية للفنانة جميلة الدويهي.. أما مقدّمة الكتاب فكانت للمهندسة ميراي شحاده حداد، باسم منتدى شاعر الكورة الخضراء عبدالله شحاده الثقافي، الذي أشرف على طباعته أيضاً.
   وقد وصفت المهندسة ميراي كلمات المكاري بأنها "مضمّخة بالشوق المتأجج دهشة ورعشة، والمتفلتة من سماء محبرته..".
   أما الشاعر قبلان المصري فقد أعلن في كلمته أنه ليس "من محبذي المقدمات في الشعر، فالشعر يقدّم ذاته للقارىء، فإما يجذبه إليه أو يتركه لحاله". ومع ذلك كانت له هذه الخلاصة "ديوان حروف تجعّد فيها العمر، تكثيف للغة العشق في هذا الوجود، تطال مكوناته في صور بديعية، يتفرّد الشاعر بها ليرسم صورة سوريالية على قاعدة المحسوس".
   أسعد المكاري الذي التقيته يوم زار سيدني، وكتبت عن أشعاره، أراه اليوم يائساً "ترافق الكهولة لغته" وتتكىء "فواصل الأوقات على قصبة باله". 
   أسعد المكاري الذي زرع البهجة في غربتي، وحكى لي عن طموحه الادبي، "احدودبت حروفه، والشيب يرسم عليها تجاعيد الأنواء". 
   فما الذي حدث؟
   هل هي الشيخوخة تدق على باب عمره؟
   بالطبع لا، لأن من يكتب: سأظل أعجن نهديك بأصابع من مرمر..
   لن تتمكن الشيخوخة منه، ولن تتجعّد حروف عمره.. طالما أن لهاث حبيبته من نسيم إهدن.
   أسعد بدوي مكاري، شاعر المرأة بحق، قصائده أنثوية، ينبض الحب في كل حرف منها، وكأنها وجهت الى امرأة واحدة، أغرقت المكاري في بحور عشقها، وهو يردد بفرح مع نزار قباني: إني أغرق أغرق أغرق.
**
إسوارة فؤاد نعمان الخوري
   
   قرأت مجموعة الشاعر فؤاد نعمان الخوري "قوس القدح إسوارتك" عدة مرات، بسبب حصولي عليها مرتين، المرة الأولى حين طلبت من الدكتورة بهية ابو حمد أن تأتيني بها ليلة توقيعها.
   وفي الثاني عشر من آب وصلتني نسخة ثانية عبر البريد، مزينة بهذا الاهداء المحب الذي يتمنى لي به دوام العافية، وكأنه يدرك أن اهم ما أحتاجه في هذا العمر هو العافية:
   يا صديقي الشاعر الكبير شربل بعيني، بهديك ها "الاسواره" عربون محبة وتقدير.. مع تمنياتي بدوام العافية والعطاء.
   قصائد "الاسوارة" تتشاوف على بعضها البعض، فكل واحدة منها تتوشح بحداثة مفعمة بالصور الشعرية الرائعة.. وخاصة قصيدة "شمس عتيقه"، التي ذكرتني بكتابي "الله ونقطة زيت". 
فيها يحاكي فؤاد الله كإبن وليس كعبد خائف من جبروته. ومن غير الإبن بإمكانه أن يتكلم مع أبيه "خوش بوش::
عتقت الشمس كتير، غيّرها
اضربها حجر من فوق واكسرها
هالارض شبعت عتم، نورها،
من الحبس حررها،
بالروح زنرها، 
وتسلّم الدفه!
   اليأس عند فؤاد نعمان الخوري ظاهر في كل بيت من أبيات "الإسوارة"، ولكنه ساطع كالشمس التي لم تعتق بعد، في رباعية "ورق أيلول"، فلنقرأ معاً:
أصفر ورق أيلول؟ من همّو
دشّر البيت وما حدا لمّو!
وقالت النسمه للدرب بالسر:
ما اصفر لولا ما ترك امّو..
   أربعة أسطر تختصر معاناة "الخوري" مع الغربة، فهو بذاته "ورق أيلول"، وهو بذاته الذي ترك أمه التي أهداها، رحمها الله، "مسبحة" شعرية خالدة، وهو بالذات الغرقان بهموم الغربة بعد أن ترك البيت الذي ولد وترعرع وكبر به، ليضيع " بين تذكرتين" دون أن يلمّه الوطن من جديد، بل تركه ينزف في غربته سنوات وسنوات.
   فؤاد نعمان الخوري في "قوس القدح اسوارتك" يتخطى الحداثة الشعرية في شعرنا العامي، ليسلك طريقاً اخططه بنفسه، علّ الآخرين يسلكونه.
   ألف شكر يا "بو طوني" على الكتابين.. والى "اسوارة" أخرى بإذن الله.
**
مخايل ابراهيم
شاعر الكرامة

   رغم مرور أكثر من ستين سنة على سماعي بيتين من الشعر الزجلي، ما زلت أرددهما بفرح، هما:
الدهر بإيديي لجمتو
وبليس بحجره رجمتو
حافر مهري انصاب الموت
مطيّر طاسة جمجمتو
   كنت يومذاك بالتاسعة أو العاشرة من عمري، وكان شاعر هذين البيتين التاريخيين العالقين في ذهني، يزور المرحوم عمي باخوس البعيني، ويقيم بمفرده حفلة زجلية في بيته، ولا أروع.
   ورغم صغر سني، فلقد طلب مني عمي أن أرد خلف الشاعر الضيف، وأن أصفّق بيديّ حسب وقع الوزن الشعري، ولهذا حفظت إلى يومنا هذا البيتين المذكورين سابقاً.
   فمن هو هذا الشاعر الذي احتل ذاكرتي وأبى أن يهبها الإستقلال، رغم الغربة والبعد عن الوطن؟
   إنه الشاعر الزجلي الشهير مخايل إبراهيم صاحب "حقل الشعر"، وحقول الإبداع، والومضة الشعرية النابضة بالدهشة.
   ورغم إبداعه الشعري، فلقد ترك لنا نسلاً شعرياً لا يقل ابداعاً عنه، ومن حظي أن الغربة جمعتني بولدين منه، هما الشاعران لطيف ونبيل مخايل.
   وبما أنني أكتب هذا المقال في شهر رمضان المبارك، يسرّني أن أطلعكم على هذه الردة المدهشة:
وجهك بريشة نور ألله مبودرو
وعا دروبك ملوك الجمال تأخرو
لا تمرقي برمضان بين المسلمين
بيفكرو طل القمر وبيفطرو
   ومن منا لم يقرأ أو يسمع عن غرق المراكب التي تحمل طالبي اللجوء الانساني من كل شعوب الأرض، ما عدا الشعب اللبناني، فلنسمعه يقول:
بيغرق بقلب البحر شعب الأرض
بس ما بيغرق شعب لبنان
   وهذه حقيقة لا ينكرها أحد، فرغم الحرب الأهلية الطاحنة التي أدمت قلب لبنان الى الأبد، لم نجد مخيمات للاجئين اللبنانيين، ولم تبحر مراكب اللجوء، كي تغرق في البحر، بل بقي شعب لبنان يتمتع بكرامته وعزّة نفسه، حتى في أحلك الظروف.
   وأثناء زيارته لأستراليا، تهافت المغتربون لتكريمه، ولسماع قصائده، وكلهم من أثرياء الجالية، ولكنه لم يأبه بأموالهم، فقال:
الأكثريه طفّحو الجزدان
وبعدنا نحنا بكرامتنا
قلتلهم: هادا الشعب غلطان
قالو: يا شاعر وين غلطتنا
قلتلهم: وينو الوطن لبنان
وحياتكن مال الشرق والغرب
ما بيسوى شلش أرزتنا
   إنه شاعر الكرامة، وما نفع الشعر بدون عزّة نفس؟
**
ميلاد نقولا 
وكتابه الجديد تراثنا

   عن المؤسسة الحديثة للكتاب صدر للشاعر المغترب ميلاد نقولا ديوان شعر بعنوان "تراثنا"، كتب مقدمته الدكتور مصطفى الحلوة الذي وصفه "بمارون عبود المعكّاري، كون الشاعر من قرية ضهر الليسينة قضاء عكار.
   الديوان مؤلف من 300 صفحة من الحجم الكبير، ويحتوي على قصص قروية تراثية ينهي الشاعر كل واحدة منها بقصيدة.
   و"تراثنا" هو الكتاب الرابع بعد أشعار من الغربة وشعر وتراث وحكايات ضيعة.
   وبما أنني من محبي خبز التنور، الذي نفتقده في أستراليا، أحببت أن أعرفكم على تنور أم دعّاس، كما وصفه شاعرنا ميلاد:
تنّورك يا أم دعّاس
كانت حلوه حكاياتو
البيض المشوي والقلقاس
من أحلى ذكرياتو
   وقد يتعجّب البعض من عبارة "البيض المشوي" الذي إما يكون مقلياً أو مسلوقاً، ولكنني رأيته مشوياً أيضاً في قريتي مجدليا، عندما كنت أسرق البيضة من قن الدجاج التابع لنا، دون أن أخبر أمي بذلك، يوم كنت في السابعة من عمري، وأركض باتجاه الفرن، كي تضع "حنة الفرانة" البيضة داخل عجينة مستديرة وتشويها لي دون مقابل.
   أما عن الغربة التي ابتلعت الشعب اللبناني، وما زالت تبتلعه، دون أن يتمكن من الرجوع الى حضن وطنه الآم، بسبب السياسات العقيمة التي دمرت لبنان، فلقد ناجاها ميلاد بلساننا جميعاً، هو ترك الوطن بسن العشرين تماماً كما تركته أنا، وتركه غيري:
يا غربه فيكي بقينا
وقضّينا سنين
تركنا الضيعه ومشينا
بسن العشرين
يا ما زعلنا وبكينا
وقلنا راجعين
ع الارض الفيها ربينا
أرض الأحباب
   وأخيراً، يسرّني أن أطلعكم على اهداء أخي ميلاد الرائع المحب، فلقد كتب:
   "الى صديقي الشاعر والاديب شربل بعيني المحترم مع محبتي.. عميد الأدب العربي المهجري في أستراليا دون منازع".
   وأنت أيضاً يا أخي ميلاد "مارون عبود العكاري" كما وصفك الكبير الدكتور مصطفى الحلوة، دون منازع أيضاً.
   والى كتاب خامس بإذن الله.
**
  
الدكتورة بهية ابو حمد.. سيدة الشعر والادب في الاغتراب
  
   أجل إنها سيدة الشعر، وملهمة الشعراء، وداعمة الأدب المهجري.
   منذ عرفتها، وهي تكرّم، وتشارك، وتتبنى، وتدعم دون أن تنبس ببنت شفة. همها فقط دعم الادب ومساعدة أربابه.
   الاسبوع الماضي، رعت حفل توقيع كتاب "كرم ع درب" للشاعر يوسف جبرين، فأعطت أدباً وكرماً.
   وقفتها وراء الميكرفون تسحرك بإلقاء يشد المستمعين اليه.. كيف لا وهي تحفظ آلاف القصائد لشعراء قدامى ومعاصرين، وقد لا أذيع سراً إنها تحفظ لي قصائد لم أتمكن أنا من حفظها، وكنت أعود الى ذاكرتها كي أسترجع ما كتبت.
   في السفارة المصرية، منذ عدة أعوام، طالبوني بإلقاء قصيدة "يا مصر" التي لحنها وغناها الفنان اسماعيل فاضل.. فاحترت ماذا افعل، الى ان خطرت على بالي فكرة تحويلهم الى الدكتورة بهية كي تسمعهم القصيدة، وهكذا صار.
   أدبنا المهجري يعيش أجمل لحظات حياته الاغترابية بوجود ست البهاء والأدب.
   أقول ست الأدب، لأنها أصدرب كتاباً رائعاً عن أدبي، وقّعته في لبنان ومصر وغيرهما من الدول العربية، وستوقعه في أستراليا بإذن الله، كما ستصدر العديد من الكتب الأدبية المهيئة للطبع، دون أن أذكر كتبها القانونية.
ومن تحضن الأدب عليها أن تبني صالوناً له، وهكذا فعلت، وكل من سيرى صالونها الأدبي عند افتتاحه، سيشهق أعجاباً من زخرفته الملوكية.
   دكتورة بهية.. شكراً لاحتضانك أدبنا المهجري.. وفقك الله.
**
قصيدة الدكتور مروان كسّاب 
أوقفت جمهور القاعة


بعد مضي نصف قرن وأكثر على مشاركاتي الكثيرة في تقديم الحفلات والأمسيات والقاء مئات القصائد، لم أرَ شاعراً تمكن من إيقاف الجمهور على أقدامه، كما فعل الدكتور مروان كسّاب في حفل توقيع كتاب الشاعر يوسف جبرين.
   قصيدته، قد أزمّها، إذا قلت عنها رائعة. لأنها تخطت الروعة من حيث السبك والإلقاء.. لدرجة تجعلك معها مشدوهاً ولا تدري ماذا تفعل سوى الانتصاب واقفاً عند الانتهاء من إلقائها.
   أجل.. لقد أجبرتنا قصيدته على الاعتراف بأن كل الألقاب ستندثر أمام عظمة مبدعها. وأن المراكز مهما علت ستظل أصغر من أن يتبوأها عملاق.
   عندما كان يغادر الشاعر جورج منصور القاعة، قلت له: أنا هنا كي أتعلّم الشعر منكم أنتم الكبار.
   وأقسم بالله أنني كنت تلميذاً يستمع الى أساتذته وهو فاغر الفم.
   صوت الدكتور مروان كساب ما زال ساحراً وهو يغني القصيدة..
   صوره الشعرية المذهلة كانت تتطاير كالفراشات الملونة بين جمهور القاعة.
   صرخة واحدة سمعتها، دون أن أعرف مصدرها، زرعت الفرحة في قلبي، فلقد صاحت إحداهن: أطال الله بعمرك يا دكتور. فما كان مني إلا أن تمتمت: آمين يا رب.
   أطال الله بعمرك يا دكتور الكل.. وشاعر الكل.. وحبيب الكل.. صديقي الكبير مروان كسّاب.
**
أضواء في ظلمة العمل الدبلوماسي: موسوعة السفير روبير نعوم

أهداني سعادة السفير روبير جوزف نعوّم كتابه الموسوعة "أضواء في ظلمة العمل الدبلوماسي"، ورحت أتصفحه فور اتسلامه من الصديق المشترك السيد جون دكان، فإذا بي أتعرّف على سفيرنا المؤمن المتعبد "لسيدة النورية"، التي بشّرت به والدته الحنونة ماري، قبل ثلاثة أشهر من ولادته.
وبعد الإهداء وكلمة شكر والتوطئة والتمهيد، وصلت الى الفصل الأول، فتعرّفت على إنسان شريف لا تغرّه المناصب ولا الشهادات، ولا أي شيء سوى مصلحة "وطن الرسالة".
وقد تتعجبون إذا أخبرتكم انني قرأت فقرة "رفضي شراء دكتورة" أكثر من خمس مرّات، وأنا أصيح: يا إلهي.. لقد كشفهم روبير، مع حفظ الألقاب، وعراهم من أوراق التين.
فلنقرأ:
" بعد أيام قليلة على بدئي بممارسة مهامي، أبلغتني موظفة الاستقبال أن السيد (و.ع) يريد تهنئتي، (ويا ليت السفير ذكر الاسم كاملاً كي يفضحهم أكثر، ولكن للنشر حرمات). بعد الترحيب به، بدأ بالتعريف عن نفسه، وللإختصار وصل الى المفاجأة: عرض علي "شراء" أطروحة قانونية، بعدما سألني عن دراستي الجامعية، شارحاً كيف أن العديد من الظلاب (إنتبهوا جيداً الى كلمة العديد)، من بلاد المغرب العربي، الجزائر، تونس والمغرب، يقومون بإعداد أطروحات متنوعة الاختصاصات وبيعها عبر قنوات معيّنة، ويتمكن الشاري من تسجيلها باسمه، ومناقشتها وبالتالي، الحصول على الدكتورة".
وبعد أن أسمعه سفيرنا المحبوب كلمات لا يرغب أحد منا بسماعها، بلع السمسار ريقه وأخبره بأن العديد من زملائه السابقين حصلوا بهذه الطريقة على الدكتورة.
والآن سأعود الى كلمة "العديد" التي نبهتكم إليها، لتروا معي أن العديد من الطلاب يكتبون الاطروحات، والعديد من حملة الدكتورة المزورة يدفعون الثمن.
ونحن، وبكل براءة، نرحب ونفتخر بحضرات الدكاترة من الرجال والإناث، لا بل نصفق لهم، دون أن نسألهم من كتب لكم الاطروحات وكم دفعتم ثمنها.
هذا الخبر أزعجني كثيراً يا سعادة السفير روبير نعّوم، لأنني كنت أعتقد أن شهادات الدكتورة الفخرية هي وحدها التي تباع بالمزاد العلني في كل بقاع الارض، إلى أن فاجأتني بقصتك، وبعلو هامتك، وبحفظ كرامتك، وبرفضك المشرف لدكتورة مزيّفة، يحملها وللأسف العديد من دكاترة اليوم التعساء البلهاء.
كتابك الرائع المؤلف من 368 صفحة من الحجم الكبير، هو أقرب إلى الموسوعة منه الى الكتاب، نظراً لاحتوائه على معلومات تاريخية قيمة تجمع بين لبنان المقيم ولبنان الانتشار، وتسلط الضوء على شخصية محبوبة، عرفناها في سيدني، وتتبعنا أخبارها في كوبا، فكانت المثل الصالح لكل من يريد تمثيل وطنه، أي وطن كان، لأن الوظيفة التي لا تعتريها الشوائب، هي وظيفة إنسانية أولاً، ووطنية ثانياً، وأخلاقية ثالثاً، وإيمانية رابعاً.. 
سيدة النورية تحفظك لنا، يا سعادة السفير روبير نعّوم، واسمح لي أن أقول وبكل فخر وتجرد: علواه لو يقتدي بك زعماء الوطن، علّهم يترفعون عن أنانيتهم، ويبدأون بالعمل المخلص من أجل بناء "دولة تليق بوطن الرسالات"، على حد تعبيرك، ويا ليت الشعب اللبناني يأتي بأمثالكم الى الحكم، علنا نعود بعد غربة طويلة.
**
ألف شكر يا سايد لأنك سرقتني من حواسي، وأجبرتني على الكتابة


 بالصدفة، قرأت قصيدة "إبن بحويتا" صديقي الشاعر سايد مخايل "دبلت عَ باب  قلوبنا  الحبقه"، فاستوقفتني فيها آلام الشاعر، خاصة عندما يقول:
لما الحبيب يروح شو بيبقى؟ 
الاَّ حبر أَسوَد  على الورقه 
بيصير ينزف ذكريات عتاق 
ويرسم قلب مدبوح  بالحرقه 
هذا القلب المذبوح بالحرقة، هو قلبي، وقلب كل انسان مهاجر ترك وطنه الحبيب، وغاص في لجج الغربة، وكلما حاول الخلاص، بلعته الأمواج أكثر فأكثر.
إذن، فالحبيب هنا، جاء بالمطلق، إما أن يكون إنساناً، وإما أن يكون وطناً، والاثنان تجمعهما مفردة واحدة، ألا وهي الحب. فيأتي عندئذ السؤال المؤلم: ماذا سيبقى إن غادر الحبيب، فيأتي الجواب من سايد:
ومن بعد منو بتدبل الأشواق  
وبعد أن تذبل الأشواق تنتهي البشرية لا محالة، أو قد يغض الطرف عن كل إنسان يمر بقربه:
 وكل اللِّي بعدو  بيمرقو مرقه 
ما هذه "المرقة" المحشوة باليأس، الملآنة بالدموع، التي تردد عبارة شمشوم الجبار: علي وعلى أعدائي يا رب.
ولكي يداوي نفسه بالتي كانت هي الداء، على حد قول احد الشعراء، نراه يقول:
ولْ كنت تبقى لطلتو  مشتاق 
وتسرق من خدودو العطر سرقه  
بتتذكرو  بسكرة ليالي غماق 
لمِّن  يجي تبقى الدني عجقا 
وأية "عجقة"، سنسمع الزغاريد، وقرع الطبول، والدبكة اللبنانية، ولكن:
عَا غيبتو صار القلب  منداق 
مش عم يصدق وقعت الفرقه 
ويبس الورد  والعطر بالاوراق  
ودبلت ع باب  قلوبنا  الحبقه..
قصيدة مسبوكة جيداً، تشعر مع الشاعر ما أرادك أن تشعر به، شئت أم أبيت،  ويسرقك من حواسك ليزرع حواسه فيك، وكأنه يقول لنا: الشعر الجميل ليس ملكي بل ملككم أنتم.

ألف شكر يا سايد لأنك سرقتني من حواسي، وأجبرتني على الكتابة.
**
الفرق بين عيدي العنصرة والغطاس
   
   سعادة سفيرنا المحبوب روبير نعّوم، صحح لي معلومة كنت أجهلها، فلقد كنت أعتبر أن عيد (العنصرة) هو عيد (الغطاس)، ولكنه، حماه الله، زودني بهذه الكلمات التي رفض أن ينشرها كتعليق، كي لا يحرجني:
عزيزي الغالي استاذ شربل ، دايم دايم . أسمح لنفسي بكل محبة أن ألفت نظرك الى أن العنصرة Pentecôte والغطاس (الدنح) Épiphanie بخصوص ما أشرت اليه على فايسبوك . بكل محبة واحترام.
هنا رحت أفتّش عن عيد (العنصرة) فوجدت ما يلي:
عيد العنصرة Pentecost ، عيد يهودى و مسيحى ، يقصد به فى اليهوديه الشكر على محصول الجنى، و فى نفس الوقت ذكرى نزول الشريعه الموسويه و الوصايا العشره ( الخروج 23 : 16 ) . يحتفل به اليهود بعد عيد الفصح بخمسين يوما ، و مدته 7 أسابيع ، و لده سمى فى "الكتاب المقدس " عيد الأسابيع ". ، و " عيد الحصاد " ، و " عيد البواكير ". فى المسيحيه تطور، و بقى يوم الحد السابع بعد القيامه ، ذكرى حلول " عنصر " الروح القدس على الرسل بعد قيامة المسيح بخمسين يوما ( اعمال الرسل 2 ).
أما عيد الغطاس فقد جاء في موعد مختلف تماماً:
عيد الظهور الإلهي،[2] عيد الغِطاس[3][4]، عيد الدنح أو عيد العماد، هو عيد يحتفل المسيحيون به في السادس من كانون الثاني يناير من كل عام لذكرى معمودية يسوع في نهر الأردن على يد يوحنا المعمدان، فكما ذُكِرَ بالإنجيل «فَلَمَّا اعْتَمَدَ يَسُوعُ صَعِدَ لِلْوَقْتِ مِنَ الْمَاءِ، وَإِذَا السَّمَأوَاتُ قَدِ انْفَتَحَتْ لَهُ، فَرَأَى رُوحَ اللهِ نَازِلًا مِثْلَ حَمَامَةٍ وَآتِيًا عَلَيْهِ، وَصَوْتٌ مِنَ السَّمَأوَاتِ قَائِلًا: «هذَا هُوَ ابْني الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ». (متى 16:3-17)» وهو الحدث الذي يظهر يسوع للعالم علناً، عيد الغطاس لأن عملية التعميد تجري بتغطيس الطفل بالماء، وعيد الدنح كما يسميه الكلدان في العراق أو الموارنة والسريان الدِّنحُ كلمة سريانيّة، تعني الظهورَ والاعتلانَ والإشراق، تعبّر عن المعنى اللاهوتي الحقيقي لعيد الغطاس، ذكرى اعتماد يسوع في نهر الأردن من يوحنا المعمدان.
من هنا يتضح لنا مدى عمق ثقافة سفيرنا الاستاذ روبير نعّوم الدينية، بعد أن أثبت وجوده الأدبي والسياسي والاجتماعي بكل فخر.
وصدق من قال: من علمني حرفاً كنت له عبداً.
*****
وما أن قرأ سعادته هذا المقال حتى اتحفني على صفحته بهذا التعليق الرائع:
صديقي الغالي أستاذ شربل ، لأنك كبير أبيت الى أن تشير الى ملاحظتي . تعجز الكلمات والحروف عن التعبير عما أكنّه لك من محبة وتقدير . ولأنني حصلت منك اليوم على معلومات جديدة ، خصوصا وقد سبق خلال مهمتي في القنصلية أن تعلمت منذ وصولي الى سدني سنة ٢٠٠٤ ، منذ التقينا في رحاب مدرسة سيّدة لبنان - هاريس بارك ، حيث كانت المعرفة الأعمق خلال سنة ٢٠٠٥ ، وحضوري مع العائلة مسرحيتك " الكنز المسحور"  ، ولغاية اليوم مع ما تخلل ذلك من تواصل بيننا خلال مهمتي في كوبا (٢٠١٣ - ٢٠١٧) ، والحديث الذي تبادلناه حول اوضاع جاليتنا هناك ، والذي قمت بنشره مشكورا تعميما للفائدة والاطلاع في موقعك الاخباري الوطني ، الإغترابي والادبي . حيّاك الله وأخذ بيدك دائما في نشر رسالتك الى جميع التي تحتضن جالياتنا الحبيبة . بكل محبة وصدق . روبير نعوم ، سفير لبنان.
**