الغلاف للفنانة رندى بعيني
**
كلمتي في لقاء الاربعاء
أيّها الأحبة.. مساء الخير،
اسمحوا لي أولاً أن أشكر المشرفين على "لقاء الاربعاء" لدعوتي اليوم للمشاركة بهذا "اللقاء" الرائع الذي أصبح على كل شفة ولسان.
عنوان لقائي الليلة: غربة طويلة ومواقف شعرية ساخنة، فالغربة الطويلة سئمت منها، أما المواقف الشعرية الساخنة فما زالت تقض مضجعي، لذلك سأتكلّم عنها، لتكونوا أنتم القضاة الذين سيصدرون حكمَهم عليّ.
بدأت أكتب الشعر وأنا في التاسعة من عمري، وكانت أول قصيدة ألقيتها يوم زار بيتَنا شخصُ العذراء مريم، كعادة أهالي بلدتي مجدليا الشمالية في شهر أيار، حيث كانوا يعتبرونه الشهرَ المريميَ المبارك، وكانوا ينقلون شخصَها من بيت الى بيت، يومذاك أدركت أنني شاعر، فألقيتُ قصيدة لا أدري كيف جاءت، ولكنها جاءت ركيكةً جداً، رغم تصفيق المؤمنين، وبقي والدي يحتفظ بها الى أن وافته المنية فماتت معه القصيدة.
أخبرتكم هذه القصة لتعرفوا كيف ولدت كشاعر، وكيف بدأت مسيرتي الشعرية مع الفرح والألم. الفرح لن أتكلّم عنه، لانه، رغم الاطراء الكثير الذي نلته، لم يؤثر بي كشاعر، فلقد كُتبت عني آلافُ المقالات، وعشرات الكتب، ومع ذلك لم تصهرْني كشاعر، الألم هو الذي أوجدني، وثبّت أقدامي على طريق الكلمة الحرة، ولولاه لبقيتُ شاعراً عددياً لا غير، حسب قول المرحوم بطرس عنداري.
والألم يأتي من النقد الجارح، والتهجمات الشخصية المؤذية، والمواقف الساخنة التي قد تودي بحياتك، ولكنك بدونه لن تشعرَ بثقل كلماتك، بوهج حروفك، بقيمتك كشاعر، وبعظمة شاعريتك. الاضطهاد وحده يرفعك كشاعر، ويرميك في أحضان المجد.
عام 1968، وأنا في سن المراهقة، أي في السابعةَ عشرةَ من عمري، نشرتُ أولَ كتابٍ لي بعنوان "مراهقة"، كانت معظم قصائده اباحية، أي أنني قلدت به يومذاك أشعارَ المرحوم نزار قبّاني، ولكن بالعامية، وحين أهديتُ الكتابَ لنزار، راح يتصفحُه في مكتبه ببناية العازرية في بيروت، وبعد أن قرأ عدة قصائدَ منه تطلع بي وقال:
ـ من أين جئت؟
قلت:
ـ من مجدليا ـ زغرتا.
فقال:
ـ أف المشوار طويل، وهذا يعني أنك لم تأكلْ بعد، تعال ننزل الى السوق ونشتري بعض السندويشات.
وأذكر أن أخي جوزاف الذي كان برفقتي، طلب سندويشة فلافل، وطلبت أنا سندويشة لبنة مع زيتون، وهكذا فعل نزار، وما أن قضينا على السندويشات حتى التفت إلي رحمَه الله وقال:
ـ أنت شاعر، ولكن عليك أن تكتبَ بالفصحى كي تصلَ الى مئتي مليون قارىء عربي، وليس بلغة سعيد عقل التي لا يقرأها الا ثلاثة ملايين قارىء فقط. فأجبته:
ـ إذا كتبت بالفصحى من الصعب أن أتقدمَ عليك، ولكنني بالعامية سأتقدمُ على الكثير الكثير من الشعراء.
فابتسم وراح يشد على يدي وهو يودعني قبل أن يعودَ الى مكتبه.
هذا الكتاب الذي أعجب نزار قبّاني لم يعجبْ العديد من النقّاد ورجال الدين، فكانوا يهاجمونه، ويطالبون الاهل بأن يمنعوا أبناءَهم وبناتِهم من اقتنائه.. وهكذا راحوا يروجون للكتاب عن طريق محاربته حتى لم تبقَ نسخةٌ واحدة منه في المكتبات، وليس هذا فحسب بل أن "توني سابا" وهو الاسم المستعار لاحد مستشاري رئيس الجمهورية يومذاك، راح يطالبني في مجلته "الساخر" العدد السادس، حزيران 1970، بأن أقرأ قصائدي في "مسرح فاروق"، والكل يعلم ما هو مسرح فاروق، وإليكم بعض ما كتب:
بلانا بغزل سيء سخيف زمخشري لرجل غبي قليل الذوق اسمه نزار قباني صاحب هذا البيت الذي لا معنى له:
أخاف أن أقول للتي أحبها أحبّها
فالخمرُ في جرارها تخسر شيئاً عندما نصبّها
واعاننا بالغزل الارستقراطي الرفيع ومنه هذه القصور لشربل بعيني (وينك يا مار شربل)،:
ـ1ـ
هالحلمة اللي مشوبي
يا ما قلوب مدوبي
ومكتوب حدا ع النهد
لا تلمسوني مكهربي
ـ2ـ
حلمتك يا زغيّرَه
متعجرفه ومتكبّره
مين خبرا.. هيي الدني
يا زغيرتي والآخره
ـ3ـ
ما أطيبا هالفستقه
وهالفستقه يا مراهقه
عم تنعبد بهالدني
متل الاله الخالقا
وتناسى أخونا أن نزار قبّاني قد سبقني بالقول:
حيّكتُ من جلد النساء عباءةً
وبنيتُ أهراماً من الحلَماتِ
وأخيراً يقول:
أخبروني ان مسرحَ فاروق بحاجة الى شاعر (ليقف) بين هلالين، ويلقي بين المَشاهد قصيدةً يُبقي فيها الحضور على اتصال بما يُقدَّم من برامج رائعة. هل تذهب يا شربل ام ان شعرَك لا ينفعُ في الوقوف مثله في (القرفصة) او (النوم).
ولم يُدركْ هذا المستشار أنني كنت في سن المراهقة، ومن حقي أن لا أفكر إلا في الخدود والشفاه والبوسات والحلمات والقد المياس، وإلا لكنتُ بحاجة الى طبيب نفسي.
عام 1969 نشرت قصيدةً بعنوان "القدر كذاب القدر مجرم" في ملحق جريدة البيرق البيروتية، أردت بها أن أجاري موجةَ الحداثة الشعرية التي كانت تجتاح العالم العربي، دون أن تصلَ الى شعرنا الزجلي العامي، فقلت في نفسي لماذا لا أجرب، وما أن نشرتُ القصيدة حتى قامت قيامة الأب نعمة الله ك. واتهمني بالكفر، واليكم بعض ما كتب في مجلة "صباح الخير" البيروتية، العدد 166، 13 تشرين الاول 1969:
وأخيراً، يتجاسرُ شاعرُنا العزيز ويقول:
الدنيي ما في لها نهايه
لها بدايه
كذب..
نحنا بداية هالدني ونحنا النهايه..
هنا الطامة الكبرى، هنا الالحاد.. كيف تنشر جريدة البيرق الغراء مثل هذه القصيدة؟ أو بالأحرى كيف يكتب شربل بعيني مثل هذه القصيدة؟
وبدأت الردود على الردود وبدأ وجعُ الرأس.. واليكم مقتطفات من القصيدة:
أَنَا قِدِّيسْ..
إِصْبعِي بْيِضْوِي بْلَيْلات الْقَدَرْ
حْمِلْتْ الأَرْضْ،
وِبْنَفختِي طْفِيتْ الشَّمسْ،
وِبْرُوسْ صَابِيعِي كْمَشْت الْقَمَرْ..
عُمْرِي:
نَسْمِةْ هَوَا..
بَرق وْرَعدْ
مِينْ قَالْ عِنْدِي عُمر؟!
**
غِطَّيْتْ وِجِّي بْإِيدَيِّي
وْصِرتْ إِمْشِي تَا أُوصَلْ
وْمَا أُوصَل..
الْهَدَفْ:
سْرَابْ،
ظلّ،
كَمْشِةْ خْيَالْ بْعَقلْ مَجْنُون!
الدِّنْيِي مَا فِي لِهَا نْهَايِه..
لِهَا بْدَايِه!
كذبْ..
نِحْنَا بْدَايِةْ هَـ الدِّنِي
وْنِحْنَا النّهَايِه!
وبعد هذه الشهرة الواسعة التي حصلت عليها بدون أي تعب في لبنان، وأنا ما زلت يافعاً، رحت أُدْعى الى أمسيات شعرية، وقد أوصلتني إحدى تلك الامسيات التي دعتني اليها حركة 24 تشرين التابعة للزعيم الطرابلسي فاروق المقدّم الى أستراليا، فلقد ألقيت فيها ما لا يحق لشاعر، أن يتفوّه به، ألا وهو انتقاد الزعامات اللبنانية ودعم المقاومة الفلسطينية، وبالطبع فلقد كان بعض الأزلام المندسين مشرورين في القاعة لالتقاط الانفاس قبل الكلمات، ولم أكن أتصور أن أمسيةً شعريةً ستقضي عليّ بتاتاً، فلقد قلت:
.. وَكَالْمَطَرْ
يَتَسَاقَطُ الْخَطَرْ
فِي بِلادٍ ضَائِعَه
عارِيَةٍ وَجائِعَه
وَكُلُّ مَنْ فِيها كَفَرْ
أَوْ هَجَرْ
وما أن ألقيت هذه الابيات عن الثورة الفلسطينية حتى انهمر الرصاص ابتهاجاً بالقصيدة، واليكم ما قلت:
لم يقتلوا طفلا اخواني
أعرفهم حتماً أعرفهم
فالرحمة هم
والرأفة هم
وليسمعْ كلُّ انسانِ
لولا عدالةُ ثورتهم
لفقدت بالعدل ايماني
وانهمرت معه التهديدات، إلى أن تمكنوا مني أمام سينما الريفولي في طرابلس، فأشبعوني ضرباً وهم يصيحون:
ـ انقبر سدّ بوزك.
ولولا وجود أخي جوزاف وأحد أقربائي على الرصيف الآخر من الطريق لقُضِيَ عليّ بتاتاً.
ورحلت الى أستراليا، دون ان تتركَني رحلةُ المتاعب والالم، فنشرت ديوان مجانين عام 1976، خلال الحرب اللبنانية اللعينة، عندما كان الجار يذبح جارَه على الهوية، وقامت القيامة علي لأنني قلت:
ـ1ـ
.. وْكَانُوا يْقُولُوا بْلادْ الْخَيْرْ
هِيِّي بْلادِي
بْلادْ النَّسْمِه.. بْلاد الطَّيْرْ
وجَوّ الْهَادِي!
ـ2ـ
.. وْكَانُوا يْقُولُوا إِنُّو بْلادِي
قِطْعِةْ سَمَا
أَللَّه.. لَوْلاَ وَفَا جْدُودِي
مَا تْقَاسَمَا!
ـ3ـ
.. وْضَلُّوا يْغَنُّوا رْوَابِيهَا
تَا صَارِتْ حُلْمْ
وْبِالآخِرْ.. شَكُّوا فِيهَا
رَايَاتْ الدَّمّْ
ـ4ـ
وِالنَّاسْ الْـ مَاتُوا صَارُوا
حْكَايَات كْبَارْ
يِحْكِيهَا الْجَارْ لْجَارُو
عَنْ شَعْب حْمَارْ
ـ5ـ
رِضِي يِحْرُق دْيَارُو
بْقَلب غضْبَانْ
وْرِضِي يْفَوِّتْ مِسْمَارُو
بْقَفَا لُبْنَانْ!
وقد تتعجبون إذا قلت أن مجلة "النهار العربي والدولي" البيروتية قد نشرت هذه القصيدة يومذاك، واعتبرتها من أصدق الأشعار المتألمة، التي نشرت خلال الحرب اللبنانية.
أما التهديد بالطرد من الوظيفة، والقتل، فكان يومَ نشرت ديوان "مناجاة علي" عام 1992، الذي ترجم لست لغات حتى الآن، وكنت يومذاك أعمل كمدرس للغة العربية في معهد سيدة لبنان ـ هاريس بارك، التابع لراهبات العائلة المقدسة المارونيات، فغضب بعضُ الاهل مني وطالبوا بطردي من الوظيفة، خوفاً من أن أعلّمَ أطفالَهم شيئاً عن الدين الاسلامي، وراحوا يتصلون بي ويهددونني، ولولا حكمةُ الاخوات الراهبات لأصبحتُ بلا عمل. أما سببُ الغضب فكان المزمور الثامن:
ـ1ـ
بِفْتَحْ قَلْبي تا حَاكيكْ
بْلاقيكْ بْقَلْبي مَوْجُودْ
بْأَسْهَلْ كِلْماتْ بْناجِيكْ
تا يِحْفَظْ كِلْماتي وْجُودْ
ـ2ـ
قَبْلي.. اللّي غَنُّوكْ كْتارْ
جْمَعْت غْنانيهُنْ كِلاَّ
بِكْتابي.. باقِةْ أَشْعارْ
بَرْكي بْيِرْحَمْني أَللَّه
ـ3ـ
يَسُوع الْـ عَلَّمْني حِبّ
يا عَلِي.. مِتْجَسَّدْ فِيكْ
شَارَكْتُو بْآلام الصَّلْبْ
وْخِفَّفْت عْذابُو يا شْريكْ
ـ4ـ
مُشْ رَحْ فَسِّرْ.. حَكْيي مْفَسَّرْ:
سَيِّدْنا مْحَمَّدْ شُو قالْ؟!:
إِنْتَ بْتِشْبَهْ عِيسى أَكْتَرْ
بَيْنو وْبَيْنَكْ وِحْدِةْ حالْ
وعام 1993، دعتني جمعيةُ بنت جبيل الخيرية، وكان يرأسُها يومذاك الدكتور الصديق قاسم مصطفى، لتكريم المحامي محمود بيضون الذي قضى معظمَ سنيّ عمرِه وراءَ القضبان، فماذا سأقول في مناسبة كهذه: هل أغني له: حول يا غنّام حول.. أم بدي أتجوز ع العيد.. هذا الانسان قد اضطهد وتعذب وعليَّ كشاعرٍ أن أشعُرَ معه وأتعذبَ وأُعذّبَ الجمهورَ معي، فألقيت قصيدةً بعنوان "قرف".. فالتهبت الاوساط الادبية والاعلامية وما زالت ملتهبة حتى الآن، وأعتقد أن أولَ المدافعين عنها كان أخي الشاعر شوقي مسلماني، ونكايةً بكل الذينَ هاجموني كرّمتني جمعيةُ بنت جبيل واهدتني درعَ المركب الفينيقي، القصيدة طويلة جداً ولكني سأقرأ المقاطع الحساسة بها:
نَفِّضْ عَنْ إِيدَيْك الْوَيْلْ
بْغُرْبِه.. غَطَّى نْهَارَا لَيْلْ
وْعَلِّقْ عَ كْفُوف الطّرْقَاتْ
شَمْس وْبَدْر وْنَجْم سْهَيْلْ
وْمِنْ رَوْضَكْ حَوِّشْ بَاقَاتْ
ما بْتِحْمِلْهَا ضْهُور الْخَيْلْ
وْمِنْ شِعْرَكْ جَمِّعْ أَبْيَاتْ
مِنْشَافِه مِنْ تَانِي مَيْلْ
وْلَفْلِف بِالشُّكْر الْكِلْمَاتْ
وْقَدِّمْهُنْ وِالْعِطْر يْفُوحْ
لِلْـ غَابُوا مِنْ بِنْت جْبَيْلْ
**
اشْتَقْنَالِكْ يَا بِنْت الْخَيْرْ
وْبِنْت الأَرْض الْمَفْجُوعَه
بْلادِي.. اللِّي غَنَّاهَا الطَّيْرْ
لَيشْ غِرْقَانِه بِدْمُوعَا؟!
بْتُوقَعْ كِلّ مَا تْجِدّ السَّيْرْ
وْبِتْفَشْكِلْنَا بِوْقُوعَا
حَرْقُوا الْجَامِعْ.. حَرْقُوا الدَّيْرْ
وْخَنْقُوا الْكِلْمِه الْمَسْمُوعَه
وْرِكْبُوهَا مَلْيُونْ "زْبَيْرْ"
وْهِيِّي تَحْتُنْ مَوْجُوعَه!
**
بدِّي سِبُّنْ.. بدِّي فِشّْ
خُلْقِي.. وْقُول الْـ مَا بْيِنْقَالْ
أَرْضِي عَمْ يِحْكِمْهَا الْغُشّْ
غَطُّوا عَوْرِتْهَا بِالْمَالْ
الْـ مَا بْيِنْغَرّ بْسِحْر الْقِرْشْ
بِتْعَلِّمْ عَ زْنُودُو حْبَالْ
الْـ مَا بْيِمْشِي.. بْيِمْشِي بِالدَّفْشْ
اللِّي بْيُوقَعْ بِتْجِرُّو جْمَالْ
اللِّي بْيِحْكِي.. فِي بْتِمُّو قَشّْ
اللِّي بْيِهْرُبْ.. خِسْرُو الِعْيَالْ
مَا بْتِسْمَعْ غِيرْ كِلْمِةْ "هِشّْ"
جْحَاشْ.. وْنَاقِصْهُنْ خِيَّالْ!
**
شُو رْبِحْنَا مِنْ حَرْب سْنِينْ؟!
كِذَاب الْـ بِيقُول الْعَكْسْ:
رْبِحْنَا أَطْفَال مْسَاكِينْ
مَا شَافُوا بِعْيُونُنْ شَمْسْ
رْبِحْنَا إِخْوِه مَلْجُومِينْ
خِصْيُوهُنْ بِـ كِلْمِةْ "هِسّْ"
رْبِحْنَا أَحْزَاب دْكَاكِينْ
بِتْقَتِّلْ أَعْضَاءَا بَسّْ!
رْبِحْنَا كِتَّابْ مْلاعِينْ
عَاشُوا عَ الْقَبْض وْعَ الدَّسّْ
رْبِحْنَا الدِّينْ الْـ مَنُّو دِينْ
الْـ تَاجَرْ بِاللِّفْت وْبِالْخَسّْ
رْبِحْنَا حُكَّامْ شْيَاطِينْ
لَوْ مِتْنَا.. مُشْ رَحْ بِتْحِسّْ
كَبْسُونَا طُون وْسَرْدِينْ
وِالْعُلْبِه.. سَمُّوهَا حَبْسْ
رْبِحْنَا شَوْفَاتْ فْسَاتِينْ
سَوْدَا.. مَا بْتِتْلاقَى بْعِرْسْ!
نِحْنَا مْنِخْلَقْ مَقْبُورِينْ
نِسّْ.. وْعَمْ بِيزَمِّطْ مَوْتْ
لا بَقَى تْزَمِّطْ يَا نِسّْ!
**
جْنُوبِكْ.. مَلْعَبْ لِلْيَهُودْ
وْنِحْنَا عَمْ نِرْقُصْ وِنْفُزّْ
وِنْعَلِّقْ أَعْلام الْجُودْ
فَوْق الصَّدْر الْـ عَمْ بِيهِزّْ
خَايِفْ آيَات التَّلْمُودْ
تِمْحِيلِكْ آيَات الْعِزّْ
وْيِهْدُوكِي مْوَاسِمْ بَارُودْ
وْتِتْخَبَّى شْوَالات الرِّزّْ
خَايِفْ يُوحَنَّا وْمَحْمُودْ
يْصِيرُوا لُغْز بْقَلْب اللُّغْزْ
يْضِيعُوا.. وِيْضِيع الْمَقْصُودْ
وْكِلّ مَا شِبْعُوا يْعَضُّوا الْبِزّْ!
يَا بِنْت جْبَيْل الْمَرْصُودْ
إِسْمِكْ بِالْقَلْب الْـ بِينِزّْ
أمِّتْنَا.. شَعْبَا مَفْقُودْ
بْتِسْقِي دَمُّو لِلْحُكَّامْ
وْحُكَّامَا بِتْقِللاَّ: طُزّْ!
**
مِسْلِم، قَالُوا، وْنصْرَانِي
عِلْقُوا عَ الْجُبْنِه مَرَّه
نْيُويُورْكِيِّه.. حِرْزَانِه
مْبَارِحْ وِصْلِتْ مِنْ بَرَّا
قَال الأَوّلْ لِلتَّانِي:
تْرِكْهَا.. وْعَيْنُو مِحْمَرَّه
قَال التَّانِي: إِيمَانِي
بِيقِللِّي كْسُور الْجَرَّه
وْعَ الْجُبْن الأَمِيرْكانِي
دْيَانِه هَجْمِتْ عَ دْيَانِه
وْمِحْيُوا الشَّعْب اللُّبْنَانِي
"وْمِنْ بَرَّا ضْرُوبْ يَا خَرَّا"!
أما الهجوم المخيف فلقد حصلَ بعد أن نشرتُ عام 2005 في موقع ايلاف الالكتروني مقالاً رفضتُ فيه طلبَ أحد الأحزاب الاسلامية الذي يرأسه شيخٌ إسلامي فيتنامي، بأن تتحوّلَ أستراليا الى الشريعة الاسلامية، كما أرفضُ تماماً أن تتحوّل الى الشريعة المسيحية أو اليهودية أو البوذية، لأنني أريدها كما هي، هكذا جئتُ اليها وهكذا أريدها أن تبقى، ولكي لا أكررَ الحادثة اترككم مع ما كتب أخي وصديقي شوقي مسلماني في موقع إيلاف بتاريخ 16 ايلول 2005:
"اليوم الجمعة فجراً وفي تمام الساعة الرابعة بتوقيت سيدني استيقظ الزميل الكاتب والشاعر شربل بعيني على صوت صراخ وشتائم باللغة العربيّة مع تهديد بوجوب "إقفال فمه".
وفي تمام السادسة صباحاً تفقّد الزميل بعيني سيّارته المركونة أمام بيته المؤلّف من طابقين في محلّة ميريلاندز فوجدها مغمورة بالبيض المحطّم دون غيرها من السيّارات.
وبعد عشرين دقيقة حضرت مفرزة من شرطة المنطقة وعاينت الحادث والتقطت صوراً وتمّ اصطحاب الزميل بعيني إلى مخفر شرطة ميريلاندز لأخذ إفادته بعد إشاعات سرت وسط أبناء الجالية العربيّة الأستراليّة أن ما جرى، له علاقة وطيدة بمقالات بعيني في صحيفة إيلاف الألكترونيّة، التي تعيد الصحف العربيّة الأستراليّة نشرها نقلاً عن إيلاف، وجرى بالتحديد ذكرُ المقالة الأخيرة التي يتحدّث فيها بعيني عن تشكيل حزب سياسي إسلامي في أستراليا يطالب بحكم الأستراليين ضمن قوانين التشريع الإسلامي، والتي أعادت صحيفة المستقبل اللبنانيّة ـ سيدني، نشرها صبيحة يوم الأربعاء الفائت".
وصدقوني إذا قلت إن أخبارَ ذلك الحزب الفيتنامي الاسلامي قد انقطعت تماماً بعد حادثة الهجوم، ولم يعد يسمع به أحد.
بلبنان طلبوا مني أن أسد بوزي، وفي أستراليا طلبوا مني أيضاً أن أسد بوزي، ولم يعلموا أن الشاعر الشاعر لا يمكنه أن يسدَّ بوزه، ولو على قطع رأسه، وكم من رؤوس للشعراء قطعت وما زال شعرُهم يتكلّم.
هذه بعض مواقفي الساخنة، التي آلمتني كثيراً، ولكنها في نفس الوقت أوصلتني الى أن التقي بكم الليلة، لتحكموا أنتم عليّ، وأعدكم بأن أتقبل حكمَكم مهما كان بكل رحابة صدر، حماكم الله. وشكراً.
**
أمي والكاردينال فريمن
عندما قرأ أخي الأصغر مرسال "أبو شربل" قصة والدته "بترونله" مع الكاهن "رود براي"، تطلع بي وقال:
ـ قصتك ناقصة يا أخي، فلقد نسيت أهم شيء فيها.
فقلت له بتعجب شديد:
ـ ما هو؟ أرجوك ذكّرني به.
ـ لقد نسيت أن تخبر القراء أن الكاهن "براي" أطلع رئيسه الكاردينال "جايمس فريمن" على الاعجوبة، واخبره أن أمي هي التي شفته بزيت مار رومانوس المقدس.. وأن الكاردينال طلب مقابلة أمي.. هل نسيت؟
لا لم أنسَ يا أخي، ولكني تركت تلك الزيارة التاريخية الى مقال آخر، سأبدأ به الآن.
بعد أعجوبة الزيت بأسبوع، اتصل بنا الكاهن "رود براي" وطلب موعداً رسمياً لزيارتنا على غير عادته، اذ كان يأتينا على حين غفلة، ساعة يشاء، فلقد كنا نعتبره فرداً من أفراد البيت بإمكانه أن يزورنا دون موعد مسبق.
إصراره على تحديد موعد رسمي حيّرنا جميعاً، فتجمعت العائلة البعينية حول أم العيال بترونله، ولسان حال كل واحد منا يردد:
ـ من سيأتي مع الخوري "براي"؟
فإذا بسيارة بيضاء تقف عند مدخل البيت ويترجل منها أعلى رجل في الكنيسة الكاثوليكية في سيدني: الكاردينال جايمس فريمن.
المفاجأة عقدت ألسننا، وما عدنا نعرف كيف نتصرف، فما كان من والدتي إلا أن اقتربت منه وقالت بإنكليزيتها الركيكة:
Welcome to my home
This is my family
هنا بدأ الأطفال الصغار يتراكضون نحوه، ويقبلون يده، كما أمرتهم أمهاتهم، وراح الخوري "براي" يعرّفنا بالكاردينال "فريمن"، ولماذا أراد مقابلة أمي:
ـ الكاردينال "فريمن" هو رأس الكتيسة الكاثوليكية في أستراليا، وقد اخبرته عن الاعجوبة التي حصلت معي، فأحب أن يتعرف على صاحبة الايمان القوي، السيدة بترونله بعيني.
ولم يدعه الكاردينال "فريمن" يكمل التعريف به، لتواضعه الجم، بل التفت الى أمي وسألها:
ـ لماذا تضعين هذا الطوق حول عنقك؟
فتنهدت أمي وقالت:
ـ عندما أخبرني الطبيب بأن رفيق عمري، ووالد أبنائي الستة سركيس بعيني، مصاب بمرض سرطان الدم "اللوكيميا"، أصبت بانهيار عصبي، وأحسست أنني أصبحت عاجزة عن المشي، فدخلت مستشفى "ويستميد" بذات الوقت الذي دخل به زوجي المرحوم اليها، وكانت عائلتي تتنقل من غرفة الى غرفة بغية الاطمئان علينا. وبعد أشهر من المعالجة، طلب الاخصائي اجتماعاً مع إبني البكر أنطوان، ليخبره، على مسمع مني، بأني لن أتمكن من المشي بعد الآن، واني بحاجة الى كرسي متحرك وإلى حمام خاص، ومدخل سهل للمنزل الى آخره.
وما أن انتهى من كلامه حتى قلت:
ـ أشكرك يا دكتور على اهتمامك بي، ولكن هناك من هو أهم منك وقد سلمته نفسي.
فاعتقد للوهلة الاولى انني سأعرض نفسي على اخصائي آخر، فقال:
ـ ومن هو هذا الطبيب.. هل أعرفه؟
ـ إنه سيدي ومخلصي يسوع المسيح.. هل سمعت به، أم أخبرك عنه أكثر؟
فلم يجب بحرف واحد، بل ودعنا وخرج.
وها أنا كم ترون أمشي وأتنقل من مكان الى آخر بدون كرسي متحرك، وهذا كله بفضل ربي.
فتطلع الخوري "براي" بالكاردينال "فريمن" وقال:
ـ هذا ما حصل معي عندما كنت شاباً.. هل نحن أمام أعجوبة جديدة يا سيدي.
فهز الكارديمال "فريمن" رأسه وقال:
ـ الايمان القوي يصنع المعجزات.
ثم اقترب من أمي وهمس في أذنها:
ـ أعجوبتك الكبرى يا سيدتي أراها الآن في هذه العائلة المسيحية المؤمنة التي تحيط بك من كل جانب، والتي سهرت على تربيتها في لبنان كي تتنعم بها أستراليا، أرجوك أن تصلي من أجلي.
وراح يودعنا واحداً واحداً حتى الأطفال، وهو يقول:
ـ لا تفرّطوا بإيمكانكم، تمسكوا به أكثر فأكثر، وخذوا من هذه الأم الطاهرة قدوة لكم، كي لا تتعثروا في الظلام.
ودعنا الكاردينال والكاهن، ولكن زياتهما المباركة، ما زالت تعيش معنا حتى اليوم.
**
إيمان إمي صنع أعجوبة
في الثاني من ايلول يصادف عيد ميلاد امي المرحومة بترونله بعيني، فاسمحوا لي اذن ان أنشر هذه القصة الحقيقية كمعايدة لها في ملكوتها السماوي حيث يوجد الكاهن "رود براي" ايضا:
إذا كنتم لا تؤمنون بالعجائب أرجوكم أن لا تكملوا القراءة، فلقد كنت مثلكم إلى أن حدث ما حدث.
ذات يوم زارنا الكاهن "رود براي" خادم كنيسة "سانت مارغريت ماري" في منطقة ماريلاندز، جرياً على عادته في تفقّد الرعية، فاستقبلته أمي بالترحاب، ومدت أمامه وليمة صغيرة مؤلفة من أطايب ما طبخت في ذلك اليوم.
وكان بين الفينة والفينة يمسح سائلاً لزجاً يسيل على جبينه، لدرجة لم يعد قادراً على ايقافه، فسألته والدتي بالعربية، وأنا أترجم له ولها:
ـ ما بك يا أبانا؟ أرى درنة كبيرة في جبينك؟
ـ انه سرطان جلدي خبيث، وسأجري عملية استئصال له بعد أسبوع.
ـ أتسمح لي بأن أمسح الدرنة بزيت مقدّس وصلني منذ يومين؟
ـ ومن أين جاءك الزيت؟
ـ من لبنان، من كنيسة مار رومانوس ـ حدشيت.
ـ لا مانع عندي البتة.
هنا، لم أعد أتمالك أعصابي، فصحت بها:
ـ لا يا أمي لا.. قد يؤذيه الزيت.
فأجابت وهي تغطّس القطنة بالزيت:
ـ مار رومانوس لا يؤذي أحداً.
فما كان من الخوري "براي" إلا أن نهرني قائلاً:
ـ شربل.. شربل.. خلّ إيمانك قوياً بربك. لو كنت تعرف قصتي مع العجائب لما فتحت فمك.
ـ ولكن الزيت قد يسبب لك التهاباً أو ما شابه.
ـ ألم أقل لك خلّ ايمانك قوياً بربك، فلماذا تحرمني من نعمة أرادت والدتك أن تهبها لي؟.. ماذا كنت ستفعل لو علمت أنني كنت مقعداً في بداية مشواري مع الحياة، وأن أبي وأمي باعا كل شيء يملكانه من أجل دفع تكاليف رحلة جوية من سيدني الى سيدة "لورد" في فرنسا، هناك حملني والدي ورماني في المياه المقدسة، فخرجت منها معافى، ولكنني لم أعد معهما الى البيت، بل قررت أن أخدم رب السماء والأرض، وأن أصبح كاهناً، وها أنا أمامك بصحة تامة. فاخرس اذن، ودع والدتك تكمل ما بدأت به.
وبعد أن رسم إشارة الصليب، انحنى أمام الزيت المقدس، وهو يتمتم بصلاة لم أفهم منها شيئاً، وبعد الانتهاء، ركع على ركبتيه، وأغمض عينيه، وقال:
ـ أنا جاهز يا بترونلة.
فمسحت أمي جبينه، وهي تردد صلاة لم أفهمها أيضاً، وكأنني أعيش في دوّامة من الحيرة والقلق والخوف.
انتهت عملية مسح الزيت، فوقف منحنياً، ولكن هذه المرة قبالة أمي، وقبّل يدها وقال:
ـ أنا واثق من أن الله سيشفيني على يدك أيتها السيدة المؤمنة.
أثناء النوم، أحس الخوري "براي" أن حرقاً قوياً يجتاح جبينه، فنهض من فراشه وتطلع في المرآة، فلم يجد تلك الدرنة السرطانية، فما كان منه إلا ان اخبر الناس في قداسه الصباحي عن أعجوبة حصلت معه في الليل، وأنه سيلغي موعد العملية الجراحية، لأن الله هو الطبيب الأعظم. ولكنه لم يخبرهم عن اسم السيدة التي مسحت جبينه كي لا يعرّضها لمضايقاتهم واسئلتهم الكثيرة.
ولكي تطمئن أمي أكثر على صحته، طلبت مني في اليوم التالي أن أذهب الى مكان سكنه واصطحبه ليتناول طعام الغداء معنا.
قرعت جرس البيت، فلم يفتح لي أحد، تطلعت نحو الكنيسة فوجدت بابها شبه مغلق، فعرفت أنه في الداخل، وقد تتعجبون اذا قلت أن المفاجأة عقدت لساني، وأجبرتني على الخروج من الكنيسة على رؤوس أصابعي كي لا ينتبه لي. فلقد وجدته مصلوباً على الارض تحت الصليب المرفوع فوق المذبح، وهو غارق بصمت قاتل، لولا تنفسه البطيء.
بعد ربع ساعة من الانتظار، خرج الكاهن القديس ـ هكذا صحت يوم مر جثمانه من أمامي بعد سنوات من وفاة والدتي ـ ليتفاجأ بوجودي، فقلت له:
ـ أمي بانتظارك على الغداء، تريد أن تطمئن عليك.
فأمسك بأحد أصابعي وقال:
ـ هات إصبعك يا شربل، لتصدق أن ايمان امك قد صنع أعجوبة.
الشيء الوحيد الذي أطلبه من والدتي الآن، هو أن تقوّي إيماني بالله تعالى، فلو كنت قويّ الايمان وقتذاك لما حاولت منعها من مسح جبين الخوري "براي"، وإتمام تلك الأعجوبة المقدسة التي حدثت على يدها الطاهرة، وشاءني ربي أن أكون الشاهد عليها.
**
أجل، لقد علّمت أمي القراءة والكتابة
لولا سفر أخي الاكبر أنطوان الى أستراليا، لما علمت أن أمي تقرأ وتكتب بصعوبة بالغة، شأنها شأن معظم نساء ذلك الوقت. فلقد كانت، رحمها الله، تتفحّص فروضي المدرسية بعينين جائعتين وتصرخ:
ـ شربل.. راجع فرضك جيّداً، قبل أن تذهب الى اللعب.
وكنت والحق أقول أحترم "معرفتها"، فأراجع فرضي مرة ومرتين، قبل أن أرميه مجدداً بين يديها الطاهرتين كي تتفحّصه من جديد، وأسمعها تقول:
ـ الله يرضى عليك وعلى إخوتك.. بإمكانك أن تذهب الآن.
قلت "إخوتك" ولم أقل "أخواتك" لأن الله رزقها بستة شباب: أنطوان وجورج وجوزاف وشربل وميشال ومرسال، لذلك كانوا ينادونها في بلدتي مجدليا بـ "أم الست شباب".
كانت الأمور التعليمية تسير كما يحلو لوالدتي "بترونله"، إلى أن نادتني الى مطبخها المتواضع الفقير القابع في قبو المنزل، إثر استلامها رسالة من أخي المغترب أنطوان، وهمست كي لا يسمعها أحد:
ـ سأغضب عليك اذا فضحت أمري..
ـ ما بك يا أمي قولي؟
ـ أريدك أن تستمع إلي وأنا أقرأ رسالة أخيك، وأن تصحح لي أخطائي.. ومن ثم ستعاونني على كتابة الجواب.
فصحت بأعلى صوتي:
ـ أمي.. ماذا تقولين؟ أنت معلمتي.
ـ كنت أتظاهر أمامك بأني معلمة، كي لا يقاصصك أحد المعلمين.
وكطفل صغير غمرت يديها الاثنتين ورحت أقبلهما وأبكي.. وهي تربّت على ظهري وتقول:
ـ لا تخف، سأتعلم بسرعة.
ولم تتعلّم أمي بسرعة إلا عندما سافر أخي جورج، فلقد وجدت أن حبّات "مسبحة" عائلتها بدأت تتطاير في كل مكان، وأن عليها أن تقرأ وتجيب على أكثر من رسالة.
وما أن بدأت بنشر قصائدي الثورية في الصحف والمجلات اللبنانية، حتى بدأت أمي تراجع حساباتها، وتقول في سرّها "ماذا لو سافر ابني شربل؟"، وبدأت تطالبني بدروس كتابية أكثر، لأن قراءتها أصبحت مقبولة، إلى أن تحقّق ظنها. فلقد نشرت باللغة العامية اللبنانية عام 1968 ديوان "مراهقة" الذي لاقى استهجاناً شديداً من بعض المتزمتين أخلاقياً ودينياً بسبب إباحيته الفاضحة، حسب تعبيرهم، مما ساعد في شهرتي وأنا في السابعة عشر من عمري.
بعده بسنتين، أي عام 1970، نشرت ديواني الثاني "قصائد مبعثرة عن لبنان والثورة"، ألحقته مباشرة في الصحف والمجلات وعلى حلقات ديوان "يوميات مراسل أجنبي في الشرق الأوسط "، مما حدا بحزب "24 تشرين" لدعوتي لإلقاء أمسية شعرية في مقره بمدينة طرابلس، جاءت قاضية على مستقبلي المعيشي في لبنان، بسبب مطاردة خفافيش المخابرات لي، وتهديداتهم المتواصلة، فحملت حقيبتي ورحلت الى سيدني أستراليا في أواخر عام 1971.
هنا بدأت أقطف ثمار ما زرعت، فلقد وصلتني أول رسالة بخط أمي وإمضائها تقول في مطلعها:
"مجدليا في 2 كانون الأول 1972
إبني الحبيب، ومعلمي الأحب، قرة عيني شربولتي..
أشكر الله تعالى أنني أمنتك على سري، يوم أخبرتك أنني أقرأ وأكتب بصعوبة بالغة، وها أنا، بفضل الله وفضلك، أكتب إليك أول رسالة، أرجو أن تصحح لي أخطائي الاملائية، وتخبرني عنها كي أتلافاها في رسائلي المقبلة.
ستبقى معلمي وإن بعدت عن ناظري، وسأظل أتلقى دروسك البريدية إلى أن تقول لي: مبروك يا أمي لقد نجحت في الامتحان."
واسمحوا لي بعد أكثر من 44 سنة، وبعد أن غيّبها الموت، أن أقول لها والدموع تحرق خديّ:
ـ مبروك يا أمي، لقد نجحت في الامتحان.
**
معلمي يقبل رأس أمي
منذ مدة طويلة وأنا أحاول أن أكتب بعض مذكراتي مع أمي، علني أرد لها بعض الفضل، وكي يبقى ذكرها خالداً، لأنها طبّقت المثل القائل:"وراء كل رجل عظيم امرأة". وأعترف أن كل نجاح حصدته طوال رحلتي مع القلم كان بدعم منها.
واليكم قصتي الجديدة:
يوم كنت في الصف الثالث ابتدائي، قررت إدارة مدرسة الزاهرية في طرابلس، أن ترفعني من الثالث الى الخامس ابتدائي بسبب تفوقي الدائم على رفاق صفي، كي لا أقول "الأول".
انتقلت الى الصف الخامس، وتقدمت لشهادة "السرتيفيكا" ونجحت، فبدأت أقترب أكثر فأكثر من صف أخي جوزاف الذي يكبرني بسنتين وعدة أشهر، ولم يبقَ بيني وبينه سوى صف واحد، الى أن انتقلت الى "العالي ثانٍ"، هناك قرر جميع معلمي الصف الذين يدرسون مواد مختلفة أن أنتقل الى "العالي رابع" وأن أتقدم الى شهادة "البريفه"، فطلبوا اجتماعاً مع أهلي، فوافق أبي بسرعة هائلة، أما أمي فلم تنطق بكلمة.
وما أن دخلت الى "العالي رابع" حتى أجلسني مدير المدرسة الى جانب أخي الحبيب "جوزاف"، أي أنني لحقته في صفه رغم فرق العمر بيننا. وكان هناك، لحسن حظي وسوء حظه، أستاذ اسمه جليل بحليس من بلدة منيارة ـ عكار، يعلمنا مادتيْ التاريخ والجغرافيا وكان يؤلف الكتب التي يدرسنا بها، وتطبعها وتوزعها له، دون ذكر اسمه، دائرة المعارف اللبنانية، وكان، رحمه الله، يجلس في الصف طوال فرصة "الغداء" بغية تنقيح وإضافة معلومات الى طبعات كتبه الجديدة، وكان يعجب باتقاني الشديد للغة العربية، فسألني ذات يوم:
ـ ألا تلعب مع رفاقك؟ لقد راقبتك البارحة فوجدتك جالساً لوحدك في الملعب. العب مع أخيك جوزاف وان كان أكبر منك، فأنت بصف واحد معه. أو بإمكانك أن تجلس معي في الصف وتراجع ما أكتب، فإن وجدت أي خطأ ضع تحته خطاً أحمر، أو صححه لي. ما رأيك؟
لم أصدق ما سمعت، فقلت له باندهاش ظاهر:
ـ أنا أصحح لك يا معلمي!؟
ـ أجل أنت.. وأنا معجب بمقدرتك اللغوية.
ـ ولكنني تلميذك.. ماذا ستقول لباقي الرفاق؟.
ـ سأقول لهم: كونوا مثل شربل بعيني.
ولم يكتفِ الاستاذ جليل بحليس بهذا القدر من الاعجاب، بل راح يقول للطلاب إثر كل امتحان:
ـ ستقولون في يوم من الايام أننا تعلّمنا في صف واحد مع شربل بعيني.
وكان أخي جوزاف ينقل هذه الأخبار السارة الى أذن أمي بترونله، بغية إسعادها بنجاح أخيه شربل، وكانت أمي تتجاهل الأخبار المفرحة كلياً.
إلى أن أنبّ الاستاذ بحليس أخي جوزاف أمام باقي طلاب الصف، وقال له:
ـ كن ذكياً مثل أخيك شربل، ألم تأتيا من بطن واحد، ألم ترضعا نفس الحليب، فلماذا اذن علاماتك متدنية وعلاماته عالية؟
فأجابه أخي جوزاف:
ـ أنا أدرس أكثر منه، ومع ذلك تضع لي علامات سيئة.
وهنا وقع ما ليس في الحسبان، إذ التفت المعلم الى أخي وصاح بأعلى صوته:
ـ أتريد أن تعرف لماذا علاماتك أدنى بكثير من علامات أخيك شربل، لأنه "فرخ فيلسوف".
وكعادته حمل أخي جوزاف الخبر الى أذن أمي، فطلبت من جميع اخوتي أن يخرجوا من الغرفة، لأنها تريد أن تكلمني على انفراد، فسألتني، والغضب ظاهر على وجهها:
ـ هل سررت عندما سمعت توبيخ المعلم لأخيك، ومديحه لك.
ـ لا يا أمي، لأن أخي جوزاف صديقي الوحيد بين اخوتي، وهو يحبني كثيراً، ويفرح اثر كل اطراء يقدمه المعلم لي.
وفي اليوم التالي، وبينما كان الاستاذ بحليس يشرح لنا درساً جديداً، جاء ناظر المدرسة وهمس في أذنه كلاماً لم نسمعه، فطلب مني أن أراقب الصف كي يرد على مكالمة هاتفية هامة.
مر وقت طويل، والمعلم لم يأت بعد، وفجأة رن جرس فرصة الغداء، فخرج جميع الطلاب وبقيت وحدي في الصف أنتظر عودة معلمي لأكمل تصحيح بعض صفحات كتابه الجديد، فإذا به يدخل دون أن يعيرني اهتماماً، فسألته:
ـ هل أزعجتك المكالمة؟ أراك لا تكلمني.
ـ لا لم تزعجني، ولكنها أعطتني درساً لن أنساه.
ـ وممن كانت؟
ـ من أمك بترونله..
ـ أمي أنا؟
ـ أجل.. لقد طلبت مني أن لا أمدحك أمام أخيك جوزاف، خاصة عندما أوبّخه.
ـ أرجوك أن تسامح أمي، وأن لا تغضب مني أو من أخي، لأننا نحترمك كثيراً.
فقام، رحمه الله، عن كرسيه، وقبلني على رأسي، وقال:
ـ أوصل هذه القبلة لرأس أمك، فلو كانت موجودة أمامي لقبلت رأسها شخصياً.
ـ ولماذا؟
ـ لأنها تخاف على وحدة أبنائها.. تريدهم أن يكونوا واحداً.. لا أن يدب التنافس والتناحر بينهم. ولقد اعترفت لها بخطإي فسامحتني.
ـ أنت يا معلمي طلبت السماح من أمي؟
ـ أجل، فلقد كانت على حق، وكنت أنا على خطأ، فلماذا لا أطلب السماح.
عندها وقفت وقبّلت رأسه، والدموع تنهمر من عيني، فإذا بأخي جوزاف يدخل الصف فجأة، فوجدني أبكي، فقال للمعلم:
ـ لقد أرسلت بطلبي يا سيدي، فهل قام أخي شربل بعمل سيىء، أني أراه يبكي؟!
فطلب منه المعلم أن يقترب أكثر، ليقبله على رأسه كما قبّلني تماماً، وليقول له:
ـ هذه القبلة ليست لك بل لرأس أمك.. قبّلها عني.
رحمكما الله يا استاذي الكبير جليل بحليس ويا امي الحنونة بترونله، فلقد كنتما القدوة الصالحة لي، وأطال الله بعمرك يا اخي وصديقي جوزاف، كي تبقى دائماً معي، تظللني بحبك وتشجيعك، كما كنت تفعل دائماً.
ولمعلوماتكم فقط، فلقد أهديت احد كتبي الى روح معلمي هذا وذكرت شيئاً من هذه القصة.
**
هل كتب عليّ الاغتراب الأبدي؟
القضية الوحيدة التي لا أحب أن أخبر أحداً عنها هي قضيتي مع الغربة.
قلت: قضيّتي، ولم أقل قصّتي، لأن مرافعاتي الطويلة المرهقة ضد الغربة، ما زالت أصداؤها تتردد في قاعة محكمة الضمير الانساني، الذي بدأ الصدأ ينخر خلاياه النتنة، بعد سكوته المشبوه المقرف عن حرب حصدت الأرض والمسكن والسكّان، ولم تترك لناً خياراً إلا الموت أو الرحيل.
وأذكر يوم ودّعت أهلي في أواخر عام 1971، كيف أجهشت أمي بالبكاء، وأخذت تقبّلني بنهم شديد، وهي تتأوّه وتقول:
ـ الى أين أنت ذاهب يا شربل؟ هل بإمكانك أن تجد بلاداً أجمل وأفضل من لبنان؟
ـ غربتي لن تطول يا أمي.. سنتان فقط وأعود.
ـ سنتان، سنتان، كلمة سمعتها مراراً من أخويك أنطوان وجورج اللذين سبقاك الى هناك. تصور أن عمّاتك وعمومتك هاجروا منذ عشرين سنة ولم يعودوا بعد!.
ـ وحياة عيونك سأعود.. صدقيني يا أمي.
ـ اخواك وعداني بالعودة.. وما زلت أنتظر..
ـ أنت تعرفين وضعي، والضغوط التي أعاني منها.
ـ كان بإمكانك أن تعيش "برواق"، من دون أن تجرح أحداً، أو تعاديه بكتاباتك.
ـ أريد رضاك يا أمي.. فبدونه لن أوفّق.
ـ ولمن ستترك وطنك، أهلك، أصحابك، ذكرياتك، مكتبتك، وكل الدفاتر التي كنت "تخرطش" عليها أشعارك.
ـ بخاطرك يا امي..
وأقسمت أن أعود، وحاولت جاهداً أن أكون صادقاً معها، وأن لا أخنث بوعد قطعته أمام عينيها الطاهرتين، وعلى مسمع من الرب. ولكن رياحي المادية جرت بما لا تشتهي سفني، فمرت السنتان مثل لمح البصر، ورسائل أمي تتكدّس في أدراجي حاملة في طيّاتها ألف ألف تأنيب وسؤال عن يوم الرجوع.
وفجأة تبدلت المقاييس بعد اندلاع الحرب اللبنانية اللئيمة، التي كانت قريتي الآمنة مجدليا مسرحاً لبعض فصولها، فأحرقت منازلها، وتشرد سكانها، وهاجر أهلي الى أستراليا، فانقطعت بذلك آخر صلة انسانية لي بالوطن، بعد أن سرقت الغربة معظم أقربائي، وقضى "الواجب الوطني" على من بقي منهم هناك.
والمضحك المبكي هو أن أمي التي كانت تلح علي بالرجوع، بدأت تتغيّر، وتجابهني بأسئلتها الكثيرة كلما فاتحتها بالموضوع:
ـ لعند مَنْ تريدني أن أرجع.. إخوتك وعائلاتهم هنا، وأهالي مجدليا استوطنوا أستراليا، وأصبح عمري على شفير الهاوية؟
ـ إذا قال كل واحد منا ما تقولين، ستبتلعنا الغربة الى الأبد؟
ـ ..والعصابات، والغش، والتزوير، والواسطة، والزعيم الذي تطالب كل من يصفّق له أن يقطع أصابعه تكفيراً عن فعلته الشنيعة. عش يا شربل هنا، لأنك ستقتل هناك.
ـ إذا عدتِ معي، أعدك أن لا أكتب.
ـ لا تكذب يا بنيّ، أنت مدمن على الكتابة.
ـ هذه هي مكاتيبك لي، إقرئيها، هل نسيت ما بداخلها من تأنيب لعدم عودتي الى لبنان.
ـ من يوم ركبت الطائرة بصحبة أبيك، لم أعد أذكر شيئاً.
ـ أبي كان يحلم بالعودة..
ـ لو بقي حياً الى يومنا هذا، ورأى المجازر التي تحصل هناك لغيّر فكره.
ـ رحمه الله.. مات وهو يردد اسم مجدليا وبيروت ولبنان.
ـ وأصبح قبره مزاراً نقصده كل أسبوع.. أتريدني أن أتركه وحيداً في قبره؟ هل جننت يا ولدي؟
ـ سأنقل جثمانه الى مجدليا.. إذا وافقت على العودة.
ـ وهل بإمكانك أن تنقل ثلاثين ابن وكنة وحفيد وحفيدة؟
ـ لا، بالطبع، هذا شيء مستحيل.
ـ إذن، اتركني أمت هنا، واقبرني قرب والدك.
وها هي الآن ترقد قرب أحب انسان الى قلبها، والدي سركيس بعيني. وصدقوني أن الغصة لا تفارق قلبي، فحبّي للبنان، ووفائي لهذه البلاد المضيافة، عوامل تتصارع في داخلي، وتقضّ مضجعي، لدرجة أصبحت معها أتساءل:
ـ هل كتب علي الاغتراب الأبدي؟
**
إلى سيادة المطران أنطوان طربيه
مرّ على طائفتنا المارونية في أستراليا ثلاثة مطارنة حتى الآن، الأول هو المثلث الرحمات المطران عبده خليفة، وقد ربطتني به صداقة أدبية متينة لدرجة قدّم خلالها ديواني "ألله ونقطة زيت" بصفحات كادت تفوق عدد صفحات الديوان، ضارباً عرض الحائط بتهجماتي الموجعة على كافة رجال الدين.
والثاني، هو المطران يوسف حتّي، أطال الله بعمره، وقد شارك بتكريمي في يوبيلي الفضي الى جانب مفتي أستراليا الشيخ تاج الدين الهلالي، بكلمة رائعة جعلتني أتقرّب منه وأتعرّف عليه أكثر فأكثر.
أما الثالث، فهو المطران عاد أبي كرم، وقد رعى الطائفة المارونية يوم قرّرت الابتعاد عن الأدب والاعلام، ولهذا، لم ألتقِ به وجهاً لوجه، لا في الاحتفالات والمناسبات ولا في الكنيسة ولا في أي مكان آخر، وهذا ما سيؤلمني كثيراً.
أما الآن، وقد عين قداسة البابا فرنسيس الأول حضرة الأب أنطوان طربيه أسقفاً جديداً على أبرشية أستراليا المارونية، وقد التقيته عدة مرات، لا يسعني إلا أن أرمي بين يديه باقةً من تمنياتي، أرجو أن يتقبّلها بروح إيجابية كما هو معروف عنه، لأنني ما أردت منها سوى الخير لطائفة أتشرّف بالانتماء إليها.
سئلت مرة كيف تريد أن يكون مطرانك الجديد فقلت:
أريد مطراناً لا يُعلّقُ الصليب، بل يُعلّق عليه، كالفادي تماماً، من أجل خلاصنا.
أريد مطراناً يملأ القلوب إيماناً ورحمة، وليس "مطرةً" يملؤها المراؤون والفريسيون برذاذ لعابهم الكاذب، المخادع والسام.
أريد مطراناً لا يتخلّى عن أصحابه القدامى، بل يتخلّى عن تدخّلهم السّافر في شؤون أبرشيته.
أريد مطراناً يعترف بصلة الرحم، شرط أن يميّز بين قرابته كإنسان، وأبوّته لرعية تنظر إليه كوالد.
أريد مطراناً لا يتراكض من أجل الظهور الإعلامي، بل يتراكض الاعلاميون من أجل الظهور معه.
أريد مطراناً يعامل كهنته كما عامل السيّد المسيح تلامذته، يعظهم بحكمة، يوجههم بإيمان، يطعمهم بعطف، ويغسل أقدامهم بتواضع المعلّم الأكبر. وهكذا تستقيم الرعية.. ويفرح الراعي.
أريد مطراناً يؤمن أن "نور العالم" ما جاء كرمى لعيون المسيحيين فقط، بل ليفدي الناس أجمع. وأن كنيسته لن تفرحه ما لم تصبح كنيسة واحدة جامعة رسولية.
أريد مطراناً إذا دخل مجلساً لا تهب الأقدام وقوفاً له، بل تهب القلوب لملاقاته، كون الأقدام إذا تحرّكت يتطاير الغبار المزعج، أما القلوب إذا وقفت إجلالاً ينهمر فرح الله تعالى ويغمر الكون كله.
أريد مطراناً لا يتشرّف برتبته، بل تتشرّف الرتبة به.
أريد مطراناً لا تهمه مصلحته، بل مصلحة أبرشيته.
أريد مطراناً يعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله.. لأنه تراب والى التراب يعود.
أريد مطراناً لا يعامل أغنياء طائفته كأسياد، وفقراءها كعبيد، بل يحضنهم تحت جناحيه كما تحضن الدجاجة فراخها، إذ لا يحق للراعي الصالح التمييز بين خرافه، هي له الأبرشية، وهو لها القدوة.
أريد مطراناً إذا نظرت إليه أقول في سرّي، وبفرح غامر: إني أرى قديساً حياً.. هللويا.
وأخيراً، اريد مطراناً اسمه أنطوان طربيه، لا غير، كي لا يختلط عليّ، وعلى أمثالي من المؤمنين، اسم الراعي الذي سيقودنا الى حظيرة الرب. عندها نعلّق على صدره أرزة من أرزات بلدته تنورين.
سيّدنا.. ألف مبروك.
**
حفلات الجالية تسبب الصداع
إذا قادك سوء حظك لحضور حفلة ما من حفلات جاليتنا، تأكّد من أنك تحمل في جيبك كمية كبيرة من حبوب "البانادول" والبناماكس" "والاسبرين" وغيرها من المسكنات التي تخفف من الصداع، لأنك ستبتلعها حتماً، وستوزّعها مجاناً على الجالسين على طاولتك، وإلا لن تكتمل سهرتك، وستحملك رجلاك إلى البيت، لا بل الى السرير، ولسان حالك يردد: آخ يا راسي.
يقول الصديق جميل البابا ان الصداع لا يأتيه إلا في حفلات الجالية، فصوت الموسيقى المرتفع جداً لا يسبب ألماً في الرأس فحسب، بل يقضي على ما تبقّى من أوتارك السمعية، وقد يسبب لك الطرش.
ذات يوم، حضرت عرساً، كلّف أصحابه مالاً كثيراً، أي أنهم "جخّوا" عليه، لدرجة أذهلوا بها مدعويهم، فكل ما تطلبه العين، وتشتهيه المعدة موجود، وما عليك إلا أن تشحذ شهيتك وتأكل. شيء واحد دمّر العرس، وجعله على كل شفة ولسان، لا بل لعن المدعوون ساعة مجيئهم اليه، ألا وهو الموسيقى الصاخبة. أجل صوت الميكرفونات العالي حول الفرح الى ترح.
والجدير بالذكر ان العديد من المدعوين، بمن فيهم أنا، طالبوا بتخفيف الصوت عدة مرات، ولكن على من تقرع مزاميرك يا داوود، المسؤول عن الصوت في واد والمدعووين في واد آخر.
المراحيض النسائية والرجالية امتلأت بالناس، لا لاستعمالها، بل هرباً من صخب الموسيقى، ومن بقي في القاعة لجأ الى المحارم الورقية، فدوّرها كالسيجارة وشكّها في أذنيه، بما فيهم والد العروس، فرحنا نتطلّع ببعضنا البعض ونضحك.. إذ أصبح منظرنا أشبه ما يكون بمخلوقات فضائية قادمة من كوكب مجهول والاوراق الملونة تتدلى من آذانها. هذه حقيقة والله.
إذا كنتم في حفل ساهر، راقبوا الناس الداخلين الى القاعة جيداً، ستجدون أن أول شيء يفعلونه هو التطلع نحو "المايكرفونات": أين هي؟ كم تبعد عن طاولتهم؟ وما مدى الازعاج الذي قد تسببه لهم؟.. انها، وباختصار شديد، تخيفهم. أجل تخيفهم.
وستلاحظون أيضاً كيف حوّلت الموسيقى الصاخبة جميع المدعوين الى طرشان، يتحادثون مع بعضهم البعض عن طريق الاشارة، أو الكتابة. وقد لا أبالغ اذا قلت انني خسرت صوتي عدة مرّات وأنا أحاول أن أرفعه على صوت الموسيقى كي أكلّم الجالس قربي.
والغريب حقاً أن البهجة لا تعود الى الحاضرين إلا اذا توقفت الموسيقى عن العزف، عندها تجدون أن الابتسامات المشرقة قد عادت الى الشفاه، والأحاديث الشيقة بدأت تتطاير بين الأصدقاء، خاصة أولئك الذين لا يلتقون الا في المناسبات؟
فما العمل إذن، كي ننقذ الناس من آلام الراس؟
أولاً، علينا أن نطلب من أصحاب الصالات الحد من الصخب الموسيقي، قبل أن نطلب منهم زيادة المازات وما شابه.
ثانياً، الاستعانة بمهندسي صوت محترفين، يعرفون جيداً كيف يوزّعون الميكرفونات في الصالة كي لا يفتك بنا الصداع.
ثالثاً، شراء "سدتين" مطاطيتين للاذنين، لأن المحارم الورقية لن تنفع. والمثل يقول: اسألوا مجرباً ولا تسألوا طبيباً، وقد جرّبتها ولم تحجب الصوت.
أخيراً، أتمنى لكم سهرة ممتعة. والى اللقاء.
**
سنة حلوة يا جريدة العراقية
أيها الأحبّاء..
عندما تُطفِىءُ جريدةٌ مهجريّةٌ شمعتَها الثامنة لتضيء التاسعة، فهذا يعني أن المشرفين عليها قد أحرقوا الليالي الطِّوالَ من أجل بقائها.
فالإعلامُ الجادُّ يتطلَّبُ أَرقاً وعرقاً، وإلاّ انهارت صفحاتُه كما ينهارُ البناءُ المشيَّدُ على رمل الشاطىء.
ولو لَمْ تكن جريدةُ العراقية رمزاً للإعلام الهادفِ المتألّقِ لما كنتُم هنا، ولما احتفلتُم بعيدها.
موفّق ساوا.. هذا المسرحيُّ الأكاديميُّ الفائز بجائزة شربل بعيني، عَرَفَ كيف يُمسرِحُ الإعلامَ االمهجريَّ ويخرجُهُ ليجعلَنا، بدون إدراكٍ منّا، أبطالَ مسرحِهِ هذا، ضارباً عرضَ الحائطِ بجنسياتِنا، ولهجاتِنا، وخلفياتِنا الدينيّةِ والمذهبيّةِ والسياسيةِ، لأنه أدركَ بحسّه الاعلامي والأدبي أن جريدةَ العراقيةَ ستوّحدُ الجميعَ، وستحضُنُ الجميعَ، وستكرّمُ الجميع، وإلاّ لما وهبَها إسمَ العراق، الوطنِ الأم، كي لا تكونَ أمومتُها عقيمةً ومشوّهة.
قد يختلفُ الاعلاميون مع بعضهم البعض لسبب أو لآخر، قد تشرئبُّ أفاعي المحاربةِ هنا وهناك، قد تصبحُ الساحةُ الإعلاميّةُ ساحةَ وغى، ولكن علينا أن نحافظ على شرفِ الكلمة وقيمتِها، والويلُ ثم الويلُ لنا إذا شوّهناها، لأننا بذلك نكونُ قد دمّرنا اللهَ فينا.. ألم نسمعْ ما قيل: في البدءِ كان الكلمة، والكلمةُ هو الله.
بعضُكم يعرِفون أنني كنت من أوائلِ الذينَ أصدروا صحفاً ومجلاتٍ ورقيةً وإلكترونيةً في أستراليا، ابتداءً من جريدة "صوت الأرز 1973" مروراً بمجلّة "ليلى 1995" وانتهاءً "بالغربة"، وكنت في كل مرّة أُصدرُ فيها مطبوعةً أقفُ أمامَ المرآةِ لأُنبّهَ نفسي: إياكَ أن تشتمَ أحداً.. إيّاكَ أن تُظهِرَ ضُعفَكَ.. فأنتَ لستَ بضعيف.
وها أنا بعد أربعين سنة من ممارسةِ الاعلامِ المهجري، أجدُ نفسي واقفاً، ليسَ أمامَ المرآةِ، بل وجهاً لوجهٍ أمام صديقٍ عزيزٍ اسمه موفّق ساوا، وبدون أن أفتحَ فمي لأُكلِّمَهُ، سمعتُه يقولُ لي: أنا لستُ ضعيفاً لأُحاربَ، أنا موفّق لأُوّفق.
وفّقك الله يا صديقي موفّق، معَ زوجتِك هيفاء وأولادِك، والاستاذ أحمد الياسري، وخاصّةً هذه العائلة الاعلامية الملتفة حولك وهي تردّد بفرح زائد: سنة حلوة يا جريدة العراقية.
قبل أن أختمَ كلمتي، أحب أن أهنّىءَ جميعَ المكرّمين، وخاصة أخي وصديقي ايلي عاقوري، الذي حملَ همَّ التراثِ الفلكلوري اللبناني على منكبيهِ، وراح يزرعُ الفرحَ في كلِّ مكان إلى أن حصدَه الليلةَ في عيد "العراقية" الثامن. فألف مبروك يا صديقي.. ليس لك وحدَك بل لكل اللبنانيين أينما وجدوا، فهل أجمل من أن يلتقي نهرُ الفرات بالليطاني ليكوّنا نهراً واحداً من المحبةِ والتقدير، نرتوي منه ساعةَ نشاء في غربتنا البعيدة هذه.
أيّها العراقيون الشرفاء.. شكراً لكم.
**
من حذف اسم شربل بعيني؟
منذ عشر سنوات لم أشترِ جريدة عربية مطبوعة في أستراليا، فلقد خصصت كل وقتي للاعلام الالكتروني، وأقسمت أمام الله تعالى أنني لن أحارب انساناً مهما تدنت أخلاقه، خاصة إذا كان أديباً أو شاعراً أو إعلامياً..
ومنذ أسبوعين اتصل بي الكاهن العراقي والأديب المعروف يوسف الجزراوي، وأخبرني أن مؤسسة "السواقي" العراقية تريد تكريمي، فرفضت، وقلت له، وهو يشهد على ذلك:
ـ لقد كرّمت كثيراً في السابق، وآن الأوان كي تكرّموا غيري.
ولكن حضرة الأب أصرّ على تكريمي، وقال:
ـ مؤسسة "السواقي" تريد تكريمك ولو غيابياً، والجائزة ستأتيك الى مكتبك.
وفي الموعد المحدد، أعلنوا عن أسماء المكرمين، وكان اسمي من بين الذين اختاروهم، فطلبوا من أحد اللبنانيين أن يتقدّم لاستلام الجائزة نيابة عني، فاعتلى المسرح بقامته الجبلية، وابتسامته المشرقة، وروحه اللبنانية الأبية، أخي وصديقي رجل الأعمال بسّام دكّان، لينوب عنّي باستلام جائزتي، فألف شكر له.
وبعد يومين وصلتني الجائزة عن طريق الأب الجزراوي، فاستلمتها منه، اضافة الى جائزة أنطوني ولسن، بكل احترام وتقدير.
وعندما وصلني الخبر من المؤسسة، وجدت أن اسم صديقي الكاتب المصري أنطوني ولسن غير مذكور بين الأسماء، فأضفته بنفسي، كيف لا، وقد سلّمني جائزته لأوصلها له، واعتبرت الأمر خطأ مطبعياً، أو سهوة بشرية.
بالطبع، نشرت الخبر كما وردني تماماً، حتى أنني لم أتلاعب بالاسماء، من يأتي أولاً أو يدرج آخراً، هكذا وصلني الخبر وهكذا يجب أن ينشر.
واليوم، تلقيت اتصالات هاتفية كثيرة، معظمها يتهم رئيس تحرير احدى الصحف بحذف اسمي، واسم أنطوني ولسن من بين المكرمين.. وكما ذكرت اسم انطوني لم يكن موجوداً في الخبر الذي وصلني، إذن، فالمقصود "بالتطيير والتغييب"، هو محسوبكم. محسوبكم فقط.
أنا لا أتهم احداً، ولكن "اسم شربل بعيني" قد حذف.. فمن هو الحقير الذي قام بهذا العمل؟
وما هو مأخذ ذلك "الجربوع" على شربل بعيني كي يحذف اسمه بدون أي رادع من ضمير أو أخلاق مهنية؟ مع العلم أنني لم أحذف أي حرف من الخبر الذي وردني. فأين الأمانة؟ وأين الاخلاق؟
اسم شربل بعيني لا يحذف، لأنه موجود في كل أصقاع الأرض، وكل محركات البحث الالكترونية، وكل قواميس الأدب والشعر، وكل المكتبات الخاصة والعامة. وأنتم تعلمون ذلك جيداً، ولكنكم بوساختكم، ودناءة أخلاقكم، قد حذفتم أسماءكم أنتم من قائمة الضمير الانساني والمهني والأدبي. لعنكم الله لأنكم أهل لكل لعنة.
شيء واحد لن أتعلمه منكم، ولن تجبروني عليه، ألا وهو حذف أسمائكم أو صوركم الكريهة اذا وردت الى "الغربة"، لأن شربل بعيني أكبر منكم، ومن الذين يشدّون على مشدّكم.. أو يدفعون لكم.
احذفوا اسمي دائماً وأبداً.. كي تضحك عليكم الجالية كما ضحكت اليوم.
**
وسام حنّا.. ظلموك، والله ظلموك
قليلون جداً جداً هم الذين يعرفون أنني أعشق الرقص لدرجة الجنون، فإذا ابتدأ بث أحد برامج الرقص، وما أكثرها والحمد لله، أقفل هاتفي النقّال، وأجلب بعض الفستق مع الليموناضة، وأغني مع عبد الحليم حافظ قصيدة أخي وصديقي المرحوم نزار قبّاني: إني أغرق.. أغرق.. أغرق. ولا ينقذني من الغرق سوى انتهاء الرقص.
وكنت، بدون مبالغة، أضع علامات الحكام قبل أن يضعوها، وتأتي، في معظم الأحيان متطابقة مع علاماتهم. كما أنني كنت أعرف من سيخرج من البرنامج قبل خروجه، وهذا كله بسبب تتبّعي للرقص وجنوني به.
وقد أكون مقصّراً في نقل فرحتي لكم عندما علمت أن تلفزيون "الـ أم تي في" سيعرض " برنامج الرقص مع النجوم" في وطني الحبيب لبنان.
بادىء ذي بدء لم أكن أعلم أن في لبنان راقصين وراقصات محترفات في التانغو والرامبا والسامبا والكويك ستاب إلى آخره، كنت أعتقد أن لبنان هو بلد الدبكة ليس إلا.
ومنذ الحلقة الأولى أعجبت برقص "وسام حنا"، وأقسم بالله العلي العظيم، لم أكن قد سمعت به من قبل، إلا من خلال الريبورتاج، كما أعجبت أيضاً بتفاني "ساندرا عباس" في إنجاح الرقصات، فكتبت على صفحتها هذه العبارة: جميع الراقصات يتمايلن مع الموسيقى، ما عدا ساندرا عبّاس فالموسيقى هي التي تتمايل معها.
وقد صدق ظنّي بوسام وساندرا، فلم يقفا مرة واحدة في دائرة الخطر، حتى وإن كانت علاماتهما منخفضة، نظراً لكثرة المعجبين المصوتين لهما حول العالم.
وبدأت سلسلة الرجال الراقصين تتفتّت بسرعة متناهية، ولم يبقَ في الساحة "الذكورية الراقصة" إلا وسام حنّا الرجل اللبناني الشرقي الذي عمل المستحيل كي ينجح.. فلقد رقص "الكويك ستاب" ورجله تؤلمه وحصل على أعلى نتيجة، وإن كانت بنظري غير كافية، لأنه يستأهل عليها أربع عشرات ذهبية.
وسام حنا وضع رجله، بمعاونة أروع راقصة في لبنان ساندرا عباس، على عتبة الفوز بكأس النجوم، لولا ظلم حكّام البرنامج.. وبخلهم المقرف عليه، فمن حصل على "التسعات" في أول البرنامج، وإن كان حماراُ بأربع آذان، سيحصل على عشرة في آخر البرنامج بسبب تمرسّه واتقانه للعديد من الخطوات التي تعلّمها.. إلا وسام حنّا! مع العلم أن "العشرات" تطايرت من بين أحناك الحكّام "الفناصين" وأعني ما أقول، وأصابت الذين زحطوا والذين لم يزحطوا.. إلا وسام حنّا.
وصدقوني إذا قلت أن الفرحة التي تملكتني عندما علمت ببث برنامج "الرقص مع النجوم" في لبنان تحولت الى حزن شديد وغضب جامح.. وأدركت أن "الواسطة" هناك هي التي تفلح.. وأن "الزعبرة"، حتى في البرامج الراقصة، أصبحت من تراثنا الوطني.. وأن "الضحك على الذقون" هو الدارج في وطن الأرز الخالد.
يا جماعة.. هناك أسئلة يجب الاجابة عليها وإلا ودّعوا الرقص في لبنان:
1ـ كيف يقف في دائرة الخطر من لم يقف طوال البرنامج حتى ساعة حصوله على علامات متدنيّة؟
2ـ كيف يمنح الحكّام عشرة لمن "تزحط" وهي ترقص، مع احترامي للجميع؟
3ـ كيف يرفع "حاكم" رقم العشرة لراقصة انتقد رقصتها عدة مرّات؟
4ـ كيف تسمح إدارة "الأم تي في" لأربعة حكّام أن يتلاعبوا بأعصاب المشاهدين؟
5ـ نرجو من المشرفين على " برنامج الرقص مع النجوم" الإجابة على أسئلة إنسان أبله اسمه شربل بعيني، نشر أكثر من أربعين كتاباً ترجمت الى لغات عديدة وكرمته الدول عشرات المرّات، وقدّم حفلات أشهر الفنانين والفنانات، وكتب وأخرج 14 مسرحية راقصة للاطفال، قال عن إحداها الفنان دريد لحام: أن كل وزارات الثقافة العربية لن تأتي بمثلها.
ألا يحق لشاعر تمنى أن لا يكون "كاتباً" بل "راقصاً" لكثرة عشقه للرقص، أن يحصل على جواب مقنع؟
بلى والله.
بلى والله.
**
يارا بو ملحم كرّمها العالم
منذ عدة أيام، نقلت محطة الأس بي أس الحكومية وقائع توزيع جائزة Walkley Awards التي تمنح لأشهر الإعلاميين الأستراليين عن تحقيقات خارقة قاموا بها، بعد أن عرّضوا حياتهم للخطر.
ولم أكن أعلم أن الشهقة التي تفاعلت داخل صدري ستجبرني على البكاء المفرح وأنا أشاهد صورة تلميذتي الاعلامية الشهيرة يارا بو ملحم، ابنة أحب الناس الى قلبي صديقي وأخي جوزاف بو ملحم، تظهر مع اسمها بين أفضل ثلاثة أعمال صحفية اختيرت من بين الآلاف لنيل الجائزة.
صحيح أن يارا لم تفز بالجائزة هذه السنة ولكنها وضعتها في جيبها ثلاث مرات من قبل، كما انها هزّت الجسم الاعلامي الاسترالي ببلوغها هذه المرتبة الراقية، وهي بعد صغيرة جداً على مهنة المتاعب. إنها الزهرة العيمارية (نسبة الى بلدة عيمار الشمالية) التي تفتحت في المهجر لتهدي الوطن أريجها.
يارا.. لا تهمها الجوائز، وهي التي حصدتها عن بكرة أبيها، كان آخرها هذه العام جائزة الأمم المتحدة للسلام التي حصدتها ثلاث مرات ايضاً، قدر ما يهمها أن تبقى السبّاقة في أعمالها التي أذهلت العالم أجمع.
فمن غيرها، يجازف في الدخول مع الثوار السوريين الى خنادق تأبى الجرذان أن تدخلها؟
ومن غيرها يتجاسر على الدخول الى سوريا متخفيّاً، ليجري تحقيقاً مع المعارضة السورية، قبل الانتفاضة بأشهر، ويخرج منها، وبجعبته ما جعل الكون أجمع يفتح فمه متعجباً.
من غيرها، قولوا، يدخل السجون الليبية، ويجلس مع أخطر المساجين، يكلّمهم، يمالحهم، يمازحهم، ليسجل معاناتهم بأدق تفاصيلها؟ ناهيكم عن تغطيتها المميزة عن جرائم الشرف في الاردن.
من غيرها، تألّق بسبق صحفي، تناقله الاعلام أجمع، المقروء والمسموع والمرئي، باستثناء العربي في أستراليا، يوم دخل زهير الصديق الشاهد في جريمة الرئيس الحريري فجأة، ليدلي بإفادة جديدة غيّرت مجرى التحقيق، بينما كانت يارا تلتقي المعارض السوري هيثم المالح، فطلب الصديق عدم التصوير أولاً، لكنه أكمل تهديده تحت عدسة الكاميرا.
يارا بو ملحم.. تمكنت بذكائها الاعلامي من أن تضعنا، كلبنانيين، على خريطة العالم، بينما غيرها، من أبناء وطنها، ممن تبوّأ المراكز الحكومية العالية، وخان الأمانة، جعلنا نلعن الساعة على وجوده بيننا.
وصدقوني، إذا قلت، أن يارا ستجعلنا كإعلاميين عرضة للسخرية: هي تزحف في الخنادق ونحن نجلس وراء المكاتب الفخمة وندعي النبوّة الاعلامية. هي تدخل السجون الليبية المعتمة ونحن نتسابق للإنتفاخ على طاولات الشرف كطواويس ملونة. هي تنتقل من بلد الى بلد ونحن ننتقل من مائدة الى مائدة كأبناء آوى. هي تحصد الجوائز العالمية ونحن نطالب أياً كان، تحت التهديد والوعيد، أن يمنحنا تنكة ما، شرط أن يكتب اسمنا عليها.
يارا بو ملحم.. غيّرت المعادلة الصحفية بوقت زمني قصير، ليس في أستراليا فحسب، بل في العالم أجمع، وجعلت أشهر الوكالات العالمية تنتظر جديدها المبهر.. لتتسابق في توزيعه ونشره.
إنها الزهرة اللبنانية التي أعادت لنا الثقة بلبنانيتنا في أستراليا، بعد أن أجبرونا على التخلي منها.
يارا.. مهما قلنا سنظل عاجزين عن التعبير عن افتخارنا بك. ولكن تأكّدي من أن قلوبنا معك، وصلواتنا تحرسك أينما كنتِ. أتعرفين لماذا؟ لأننا نحبك.
**
فننا المهجري.. إلى أين؟
تبكي وأنت تعاين انحدار الفن المهجري إلى القعر، بعد أن كاد يتبوّأ القمّة. كيف لا، وقد قدّمت أعمال فنيّة مهجريّة رائعة، لاقت التشجيع من الناس ومن الإعلام في آن واحد. وأصبحت ذات علامة فارقة في تاريخنا الفنّي المهجري في أستراليا.
أمّا الأن، فالحالة الفنيّة يرثى لها، تماماً كالحالة الأدبية، وبدأت تتقوقع على نفسها، لا خوفاً من عدم إقبال الناس عليها، بل خوفاً من المتعاملين في هذا الحقل!
والكلام الذي سأقوله قد ينطبق على الحالة الفنية في معظم الجوالي العربية المنتشرة في كل بقاع الأرض، خاصة وقد غاب عنها تشجيع الدول والمؤسسات الفنية والإعلامية والمرئية وما شابه، واحتضنتها حماسة الأفراد واندفاعهم لعمل شيء ما يثبت وجودهم كعرب في تلك البقعة من الأرض.
قد يتعجّب البعض من هذا الكلام، ولكن أكثرية العاملين في الحقل الفني سيوافقون على كل كلمة سأكتبها، هذا إذا بقي عند البعض منهم حب التغيير والإنتفاض والنهوض بعد كبوات كثيرة.
عديدون هم الذين تحمّسوا لإنتاج أعمال مسرحيّة في هذا المقلب البعيد من الأرض، لا حبّاً بالإنتاج بل إثباتاً للوجود، ودعماً للتراث العربي العريق. ولكن سرعان ما ينقلب السحرعلى الساحر، ويدرك المنتج المسكين أن أمواله قد ذهبت في مهب الريح، وأن الرفاق الذين وثق بهم هم الذين غرّقوه في الديون والفائدة.
وكثيرون هم الذين سهروا الليالي من أجل أن تهبهم مخيلتهم نصّاً مسرحياً يشرف أسماءهم ويرفعها، فإذا بهم، لحظة العرض، يجدون أنفسهم أمام نص مسرحي لا علاقة لهم به، وتبدأ الانتقادات السلبية تنهمر على رأس المؤلف، دون أن يتمكّن من رد سهامها. وكيف يرد السهام وهو عاجز عن التصريح بما أصاب نصّه من تشويه، وتجعيد، ونكات ارتجالية سخيفة.
ومن منّا يجهل ما بين الممثلين من حساسيّات، جعلت البعض منهم يبتعد عن التمثيل مكرها، إذ أن كل واحد منهم لا يقبل إلا بلقب المرحوم فريد شوقي، وحش الشاشة، أو بلقب فاتن حمامة، سيدة الشاشة، وخذ على تنافس، وشتائم، وثرثرات عقيمة لا تجدي نفعاً.
كما لا ننسى كيف توزع البطاقات على الممثلين والممثلات بغية بيعها، وتسليم ثمنها للمنتج المسكين، وبعض عرض المسرحية يختفي الممثلون، وتتبخّر الأموال.. هكذا والله!
إذن هناك مشكلة.. ولكن من السهل حلّها إذا تضامن عشرة ممثلين فقط، وأقسموا أن ما يصيب الواحد منهم يصيب الكل. وأن ما يخسره الواحد منهم يتقاسمه الكل. وأن لا غدر ولا ثرثرات ولا تشاوف فيما بينهم.. فإذا وقع ممثل وقع الجميع، وإذا ارتفع ممثل ارتفع الجميع ..
عندئذ خذوا من هذه الفرقة المسرحيّة العجب العجاب.. وصدقوني إذا قلت أنها ستغزو العالـم العربي بأقل من ثلاث سنوات.. خاصة وقد أصبح عندنا بث تلفزيوني موجه للعالم العربي، بعد أن كنا نتلقى البث منه، ونتعم بمشاهدة برامجه.
مسرحنا الإغترابي بحاجة إلى نفض.. فلتبدأ مكانس الشرفاء قبل أن تركعهم وتركعنا الشيخوخة .
قديماً ردّ عليّ البعض، وقالوا كلاماً لـم أفهمه، ولن يفهمه أحد، لأن الواقع المر يقول عكس ما يقولون، ولأن الحقيقة كالشمس لا تحجبها ورقة، ولا تسوّدها خربشات قلـم،. فلو صاح مليون ديك، وقاقت مليون دجاجة، ستبقى الحقيقة هي الحقيقة إلى يوم الدينونة.
**
بدوي سمعان ومنطقة عكّار
مراح السفيرة، قرية لبنانيّة تشرئبّ في أحد جرود قضاء الضنيّة، تعرّض أهلها للتهجير عدّة مرّات، أيّام حلف بغداد وثورة عام 1958، وخلال الحرب الأهليّة الأخيرة، ومع ذلك لـم يتزعزع إيمانهم بمنطقتهم وبأهلها، وبتعايشهم الأخوي، كما أنهم لـم يتخلّوا عن حبّة واحدة من تراب قريتهم المقدّس.
ومن عطاءات هذه البلدة البشريّة، أطلّ الباحث الإجتماعي والإقتصادي الأستاذ بدوي سمعان، الذي التقيته في لبنان، وفي بلدتي مجدليا بالذات، كونه صهر مختارها الياس أبي خطّار، فغمرني باهتمامه، بحبّه، وبمشاويره المميّزة. وخاصّة تلك الرحلة إلى منطقة عكّار، وإلى بحيرتها الرائعة، وإلى سراياها القديمة المبنيّة بالحجر العكاري الأسود، الذي أقسم الأمير فخر الدين الثاني الكبير أن يعمّر به دير القمر، يوم عيّره آل سيفا بقصر قامته، فقال:
نحنا كبار.. بعيون الأعادي زغار
إنتو خشب حور.. نحنا للخشب منشار
وحقّ طيبَه وزمزم والنبي المختار
ما بعمّر الدّير إلاّ من حجر عكّار
وصدّقوني أنني لـم أزر منطقة عكّار من قبل، وأن انطباعي عنها كان عكس ما تنعّمت بمشاهدته، فلقد كنت أعتبرها، أو هكذا صوّرها لي الإعلام اللبناني، منطقة متخلّفة، لـم تصلها الكهرباء، ولـم تجرِ في قساطلها المياه، حتى ولـم تتعبّد طرقاتها بالإسفلت. كنت أعتبرها خارج المدنيّة تماماً، فإذا بي أجدها توزّع مدنيّة وعمراناً على باقي المناطق اللبنانيّة، وتتشاوف عليها بطرقاتها المعبّدة الواسعة، وببناياتها الحديثة الشامخة. إنها، وباختصار، جنّة داخل الجنّة اللبنانيّة.
تتسع ابتسامتك، وأنت تستمع للصديق بدوي، وهو يعلمك بأنك دخلت الآن مركز القضاء حلبا، وبعد لحظات أنت في القبيّات وعندقت وغيرها من البلدات العكاريّة المتراصّة عمراناً وشعباً، كعقد ذهبيّ تماسكت حلقاته بشدة، كي لا تتخلّى عن بعضها البعض، وتتناثر في السهل المثقل بالخيرات.
سؤال واحد ما زال يراودني: لماذا لا تستغلّ الدولة سرايا عكّار القديمة، وتحوّلها إلى متحف ندخله رافعي الرأس، ونثقّف أنفسنا به، بدلاً من أن نقف أمام بناء تراثي مهجور، أقفلوا أبوابه بكومة من الحجارة؟
رحلتنا إلى عكّارنا الشامخ كانت شيّقة، كون الذي أخذنا إليه، شيّق الكلام، جميل الصحبة، ومعجماً هائلاً من المعلومات. فألف شكر يا بدوي سمعان، وإلى اللقاء يا منطقة عكّار الحبيبة.
**
بريدي الإلكتروني.. يخيفني
ما أن حط قلمي الرحال على صفحات (إيلاف)، وبدأ بحياكة كلمات لم ترق لبعض القراء، حتى بدأت الشتائم والرسائل المفخخة تصل إلى بريدي الإلكتروني يومياً، منها ما يضحكني حتى الاستلقاء على قفاي، ومنها ما يخيفني، لأنه يعيق اتصالاتي وكتاباتي بجراثيمه الوسخة كأصابع وعقول مرسليها.
الشتائم التي وصلتني أشبه ما تكون بالنكات، تضحك قارئها لتفاهة أسلوبها، وفي نفس الوقت تبكيه لجهل أصحابها، وكأنهم يعيشون في زمن ليس بزمنهم، ويقرأون لغة ليست بلغتهم، ويتكلمون مع أناس لا يريدون أن يفهموهم أو أن يتفاهموا معهم، وكأنهم لا يشبهونهم، لا بالشكل ولا بالأخلاق ولا بالتعايش. فإذا طالبت بمساعدة ضحايا الإرهاب الأبرياء، وقد يكونون منهم في يوم من الأيام، شتموك. وإذا تكلمت عن أطفال العراق الذين يسحقون تحت ألف جزمة وجزمة، لعنوك. وإذا دافعت عن أديب مضطهد في بلادنا العربية، هددوك. وإذا ناديت بتثقيف الفتاة جنسياً، وإعطائها شيئاً من الحرية لتتنفس، رجموك، وكفروك، وقالوا عنك: (ديّوث).. هكذا والله!
ولكي يغيظوك أكثر فأكثر، تنهال شتائمهم على أختك وأمك وزوجتك وابنتك وكل مؤنث حي وميت في عائلتك المباركة، وهم لو أدركوا أن لا أخت لي، لصمتوا، وأن ابنتي لم تولد بعد، لخجلوا، وأن أمي سيّدة فاضلة، يوم توفّاها الله، احتشد آلاف الناس من جميع الأديان والبلدان لوداعها، نظراً لانفتاحها الإنساني الشامل، ولمحبتها لكل مخلوق على وجه الأرض.. وقد لا أذيع سراً إذا قلت: إن النساء المسلمات المحجبات كن الأكثر حضوراً وبكاء يوم جنازتها، لدرجة أجبرت الكاهن الأسترالي على الترحيب بهن، وإعلان فخره بالمرحومة والدتي لأنها أدخلت إلى كنيسته مثل هذه الوجوه الإسلامية المضيئة.
ولو اكتفوا بذلك لشكرت الله تعالى على مواهب خلقه البشعة المضحكة، ولكنهم يلجأون في كثير من الأحيان إلى خداعك، وإرسال رسائل محشوة بجراثيمهم الخبيثة، وموقعة بأسماء معروفة، كي لا تشك فيها إطلاقاً، والويل لك إذا فتحت (الملحق) المرفق معها، فلسوف تدميك خساستهم، ويلفك حقدهم، ويتطاول عليك أذاهم.
مرة، جاءتني رسالة موقعة باسم صحفي لبناني معروف يكتب في جريدة بيروتية، ومرفقة (بملحق) طلب مني الإطلاع عليه، نظراً لأهميته، فصدقته، والله صدقته، وعندما فتحت (الملحق) أحسست أن شيئاً مزعجاً قد حصل، فأسرعت إلى برنامج مكافحة الجراثيم، فإذا به قد تجمّد، وتجمدت معه آلة الكومبيوتر، وأصبحت بفضل خداعه الزائد جثة هامدة، لم يتمكن خبير الكومبيوتر الذي استدعيته على عجل من إعادة الروح إليها.
بربكم، هل يشك أحد ما برسالة كهذه، إسم صاحبها معروف، وجريدته مشهورة؟ فلقد استعملوا اسمه واسم جريدته دون علمهما بالطبع، من أجل تمرير جراثيمهم السوداء كقلوبهم.
ومرة ثانية، جاءتني رسالة مفرحة، أشبعني صاحبها إطراءً، ذكّرني بذلك الثعلب الخبيث الذي أشبع الغراب إطراءً حتى وقعت الجبنة بين أنيابه، فراح يلتهمها ويسخر منه.. وأخبرني أنه كتب عني مقالاً في إحدى المجلات الخليجية، وما علي سوى قراءة (الملحق) المرفق، لأنعم بما جادت به قريحته. فصدقته كما صدق الغراب الثعلب، وانطلت علي حيلته، وأوقعتني براءتي، وللمرة الثانية، والثالثة، والعاشرة، في فخ الجراثيم، التي تمكنت، والحمد لله، من القضاء عليها نكاية بثعالبها، وثأراً لكل غراب مسكين مثلي.
أما الآن، فمن المستحيل أن أفتح (ملحقاً) في بريدي الإلكتروني، حتى ولو جاءني من المرحوم والدي، عملاً بالمثل القائل: المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، فلقد لدغوني عشرات المرات، وحان وقت الاستهزاء بهم.
**
هابي باريزداي.. صباح
قامت القيامة على السيدة صباح لأنها احتفلت بعيد ميلاها التاسع والسبعين، في ظرف عصيب، محزن وقاتل يمر به وطنها الغالي لبنان.
كان عليها، كي ترضي بعض المتشائمين، أن ترتدي الحداد، وتذرف الدموع، وتولول، وتندب، وتصرخ: وامعتصماه.
لا بل كان عليها أن تتخلى عن فساتينها الجميلة، وترتدي الأسمال لتماشي الأحوال، وتسير بين الخراب، من شارع لشارع، كي لا ينبذها بعض مدعي الوطنية والعروبة من أبناء جنسها.
منهم من اعتبر أن صباح تصرفت تصرفاً غير لائق، لأن اللائق بنظره أن تموت صباح دون أن تحتفل بأي عيد ميلاد، كون المصائب في هذه الأمة العربية التعيسة لا تتوقف، والحروب لا تنتهي، والموت يهطل علينا كالمطر ليجرف البشر والحجر.
ومنهم من طالب صباح أن تكون على رأس حملة لدعم بناء ما تهدم، بدلاً من أن تقوم بإحياء حفلة عيد ميلادها، وكأن لا يحق لصباح أن تترأس وأن تحتفل، أن تساعد بالبناء، وأن تُسعِد بالغناء. وما نفع صباح إذا لم تكن كما كانت.. وما نفع لبنان إذا تخلى أبناؤه عن سعادتهم وأهدوه الحزن والبكاء.
ومنهم من صرح بأن ما قامت به صباح يدخل في خانة عدم الاحساس بالمسؤولية، وكأن المسؤولية لا تلقى إلا على عاتق الصبوحة، أطال الله بعمرها، وهي تطفىء 79 شمعة، أضاءتها في ظلام أمتها الدامس أغنيات وأفلاماً فلكلورية وطربية وتراثية واجتماعية، تعتبر بحق فخراً لنا.
ألم يسمع هؤلاء المتشائمون بالنكات اللبنانية خلال الحرب، وكيف أن اللبناني وقف صامداً بوجه الموت والدمار بضحكات صارخة غطت على صوت هدير الطائرات، وأزيز الرصاص، وانفجار القنابل.
هل يعقل أن نوقف مسيرة حياتنا لأننا ضربنا من الجو والبر والبحر؟
هل يعقل أن نلغي أعراسنا، ونعنّس فتياتنا وفتياننا، ونوقف الإنجاب، لأن العدو هاجمنا وهدم بعض أحيائنا، وقتل العديد من أبريائنا؟
نحن شعب صارع الموت خلال حرب أهلية طويلة، دون أن يتمكن الموت منه، لا بل قيل أنه هو الذي صرع الموت، كطائر الفينيق، وأهدى الحياة لأجياله. لذلك لن تتمكن حرب شهر واحد، مهما بلغت شدتها، من أن تهدم سعادته، وتغيّر مجرى حياته.
هكذا نحن.. نعيش بفرح ونموت بفرح.. ولهذا صمدنا، ولهذا انتصرنا، ولهذا دخلنا التاريخ.. فاتركونا نعيش كما اعتدنا أن نعيش، لأننا سئمنا من التنظير والتبخير والتنجير، وكأن لا هم عندنا سوى سماع ثرثرات الآخرين.
احتفلت صباح بعيدها التاسع والسبعين، وستحتفل بإذن الله، بعيدها المئوي، وهذا ما سوف يسعدنا كثيراً، ولسان حالنا يردد في كل عيد ميلاد تحتفل به: سنة حلوة يا صبوحة.. هابي باريزداي تو يو.
**
كنيسة مار سمعان العمودي
لماذا أغفلها كتاب (إعرف لبنان)
جبيل ـ بيبلوس، المدينة الأولى المميّزة في الكون، على اسمها سميت التوراة (بايبل )، وتحت ترابها المقدّس دفنت الآثار، وشرّش التاريخ.. وعلى مقربة من معهد أبجديتها ـ الفرع الجديد، تقوم كنيسة أثرية صغيرة، أطلقوا عليها اسم (كنيسة مار سمعان العمودي) نسبة للعمود الضخم القائم في وسطها، والآخذ ربع مساحتها.. وصدّقوني أن لا أحد يدري لماذا وضع هذا العمود الضخم بالداخل، ألِدعم بناء الكنيسة، أم لتزيينها به، أم تيمناً باسم شفيعها (العمودي)؟!
شكل الكنيسة يدل على أن للمهندسين الرومان أصابع في بنائها.. وخاصة وجود العمود الروماني في داخلها.. ولكن مدخلها ونمط قناطرها الشرقية يدلان على أنها بنيت بأيدي مهندسين لبنانيين، وقد جيء بالعمود من قلعة جبيل لدعم البناء ليس إلاّ.
لصوص الآثار دخلوا إليها، زعزعوا بنيانها، بعد أن حفروا حول عمودها حفرة عميقة بغية التفتيش عن الذهب والآثار، ولكنهم لـم يجدوا شيئاً، بل تركوا لنا وساخة ما فعلوا، وتشويهاً ظاهراً في حيطان الكنيسة الأثرية.
طلاّب معهد الأبجدية يولون الكنيسة اهتمامهم، ويمنحونها حبّهم وإيمانهم.. فلقد شجّروا ساحتها الصخرية، ونظفوها من الأوساخ، ولسان حالهم يردد: الجار للجار.. ومار سمعان العمودي جارنا، ونحن أحقّ به.
الأستاذ سامي حداد زرع أيضاً بيوت نحلاته في أرض الكنيسة الواسعة، حرصاً منه على البيئة، التي بدأت تندثر في لبنان.. فالنحل والعصافير والفراشات والأشجار من أهم مقومات البيئة النظيفة.. وهذا ما يعمل له طلاب وأساتذة معهد الأبجدية في جبيل بإشراف ورعاية مديره الدكتور عصام حداد.
شيء واحد أضحكنا جداً، ألا وهو كتاب إعرف لبنان لصاحبه عفيف مرهج.. فعندما تصفّحناه لنعرف شيئاً عن الكنيسة، وجدناه لـم يأت على ذكرها بتاتاً.. بل ذكر كنيسة مار يعقوب التي تحتوي عموداً في داخلها.. وقال: (ومن المحتمل ان بعض كنائس جبيل راقية الى زمن ملوك الروم كمار يعقوب وفيها عمود يظن انه كان صومعة لبعض النسّاك).. ومن يدري فقد تكون كنيسة مار يعقوب هي كنيسة مار سمعان نفسها.. وقد لخبط (المرهج) في الأسماء والكنائس.. لنترك (إعرف لبنان) جانباً ولنأخذ بمعلومات الاستاذ سامي حداد فهي الأصح.
**
شتائم.. ببلاش
إذا أردت أن تصبح رجلاً مهمّاً في مجتمعك.. أشتم الناس. فالشتائـم لا تكلّفك شيئاً، إنها ببلاش، كما أن حكومات الدول التي تأويك، لن تأخذ منك ضريبة على ذلك، فاسرح وامرح على ذوقك، ولا تخف لومة لائم.
وإذا أردت أن تختصر الطريق، وتتبوّأ أعلى المراكز، وتتناقل أخبارك وسائل الإعلام، إنتقِ بعض الأوادم، وارجمهم بشتائمك القذرة جداً جداً، دون أن يرفّ لك جفن، أو أن يردعك ضمير، أو إيمان، أو خوف من يوم الحساب.
فالغاية تبرّر الواسطة، وغايتك أنت هي الوجاهة، فلا تخجل من صديق، أو قريب، ولا تلتفت إلى الأخلاقيّات وما يدور في فلكها، فالتهذيب، في هذه الأيام، اضمحل، والكرامة الذاتية انتحرت، والقيم الإجتماعية والإنسانية أعلنت إفلاسها، فماذا تنتظر؟ الشهرة أمامك، فلا تدع أحداً يقف حجر عثرة بينك وبينها، اشتمه بما ملك لسانك، وجندله أرضاً، فإن لم يقع، إلجأ إلى بعض الأساليب الوسخة المضجرة التي يلجأ إليها النواب، والوزراء، والزعماء، والرؤساء في كافة أقطار العالم، من أجل الحفاظ على كراسيهم، وصدقني أنك ستنجح مئة بالمئة، لأنهم نجحوا قبلك، وضحكوا على الملايين من شعوبهم، وما زالوا يضحكون عليها، ويحتفظون بمراكزهم، ويتلذذون بهتافات جماهيرهم.
قد تضطر في بعض الأحيان إلى استعمال شتائم طائفية بغيضة، وإلى تكفير كل من لا يعجبك شكله، أو رأيه، أو معتقده، لا فرق، فهذه الشتائم مسموح بها أيضاً، وكثيراً ما يلجأ إليها رجال الدين، والسياسة، والصحافة، والأدب، وعامة الناس. إنها شتائم شائعة، خاصة على مواقع التواصل الاجتماعي كالفايس بوك وتويتر، يتبعها كل فاشل لينجح.. وينجح! فاستعملها ولا تخف، فلا منظمات حقوق الإنسان ستلاحقك عليها، ولا الأمم المتحدة، حتى قوانين البلاد التي تعيش فيها لم تعد تهتم بها، فلكثرة استعمالها أصبحت فوق القانون، والويل، ثم الويل، لمن يحاكم مريضاً طائفياً استعمل لسانه في تكفير الآخرين، وهدر دمائهم، لا لشيء، سوى لأنهم لا يؤمنون إيمانه، ولا يتبعون عقيدته، ولا يبشرون بما يبشّر به.
عليك أن تشتم، وأن تسلّط راجمات صواريخك على كل من يقف بوجهك، عندئذ ستجد أن الكثيرين سيعجبون بشتائمك، وسيهللون لطائفيتك، وسيعلنون أنك وحيد قرنك، فاشتم، ثم اشتم، ولا تخف إذا تخطيت حدود المحظور، فالشتيمة المسممة القاتلة لا حدود لها، ولا حظر عليها.
هناك أنواع كثيرة من الشتائم، تقذفها أحناك المبغضين، وتلوكها ألسنة الخبثاء، ولكن أكثرها انتشاراً هي الشتائم الإلكترونية، فجرّبها، وأدخل عليها بعض الجراثيم الفتاكة، كي تقضي على غريمك قضاءً مبرماً، وتشل حركة آلياته، وتقطع طرق مؤنته، مخافة أن يكيل لك بنفس المكيال، وهذا غير مسموح به بتاتاً.
أنت قبضاي عندما تشتم، فلا تدع أحداً يقوى عليك، ويتسلّق حائطك. لسانك بسبعة خناجر.. فلعّبها يا جدع!!
**
السير في لبنان.. فلتان
إذا أردت أن تحكم على السلطة في أي من البلدان، راقب شرطي السير: هل يقوم بواجباته؟ هل يرعب السائقين المخالفين؟ وهل لقبّعته هيبة الدولة أم لا؟
ونحن في لبنان لـم نراقب عناصر الجيش، ولـم نراقب رجال الأمن العام في المطار، بل راقبنا شرطي السير، لنحكم على مدى احترام المواطن للسلطة.
وأثناء مرورنا بمنطقة التل في طرابلس، سمعنا صفّارات قوية، تبعتها حركات وتنقلات غريبة قام بها بعض السائقين المخالفين، منهم من هرب، ومنهم من وقع في المصيدة، ومنهم من حاول أن يتكلّم مع الشرطي دون جدوى، فدفتر المخالفات بحاجة إلى مخالفين، وما أكثرهم في لبنان!! ولكن، وللأسف، ما أن يختفي الشرطي عن الأنظار حتى تعود الفوضى إلى سابق عهدها، وكأن شيئاً لم يكن.
سائق واحد لفت نظرنا، لـم يخف ولـم يهرب، بل ظلّ واقفاً مكانه، يراقب الشرطي وهو يتصيّد طرائده، فاقتربنا منه وسألناه:
ـ لماذا لـم تهرب كالآخرين؟!
ـ لأنني لا أخالف.. جميعهم يقفون في وسط الطريق.. أما أنا فأقف في المكان المخصص للوقوف.. الشطارة على القانون غير مستحبّة عندي.
ـ وما اسمك؟
ـ غسّان.. من باب الرمل.
ـ هل لك أن تخبرنا عن أجمل حادثة حصلت معك أثناء القيادة..
ـ أنا أحترم القانون، وأحب التقيّد بالنظام، وخاصة قانون السير، وكنت في كل مرّة أنتقل بها من خط إلى خط أضع الإشارة ليعرف السائق الذي خلفي أنني سأنتقل إلى الجهة الأخرى، فكان يشتمني ويصوّب نحوي إصبعه بطريقة غير لائقة..
ـ لماذا؟!
ـ لأنني وضعت الإشارة، وما من أحد يضعها على الاطلاق وبإمكانكم معاينة ذلك. فوضى السير يجب أن يضعوا لها حداً.
ـ وماذا عن الشارة الحمراء؟
ـ لا أحد يتوقف عليها.. معظم السائقين لا يعرفون لماذا وضعت على الطرقات، هم يعتبرونها زينة شوارع ليس إلاّ.
ـ وهل تتوقف أنت عليها؟
ـ كل مرة أتوقف عليها أعرّض نفسي لخطر اصطدام أحدهم بي من الخلف، المسألة ليست آمنة، فإذا لم يصدمك السائق الآخر من الخلف سيشتمك لأنك تسد عليه الطريق وتمنعه من إكمال سيره. حالة لا تطاق. قيادة السيارة في لبنان تجعلك تنهار جسدياً وعقلياً، فالكل يطاحش، والكل يزمّر، والكل يخالف، والطريق التي رسموا عليها خطين، أي أنها تصلح لمرور سيارتين فقط، تتحول إلى عشرين خط وقت الزحام، فكيف ستصل إلى بيتك دون تعرضك لحادث ما. منذ مدة صدموا امرأة على أوتستراد بيروت، بقيت مشلوحة على قارعة الطريق لساعات طويلة والناس، كل الناس، بما فيهم الأطفال يتفرجون على هذا المنظر الموجع دون أن يتحرك مسؤول ما ويقوم بتغطية الجثة. الإنسان في لبنان لا ثمن له، إنه أرخص من الفجل.
ـ وما هو الحل بنظرك؟
ـ سحب رخصة القيادة من كل سائق لا يحترم القانون، وإجباره على دفع غرامة مالية موجعة، عندها يختفي شرطي السير من الشوارع ليحل القانون مكانه.
إلى السائق المثالي غسان تحيتنا، وإلى شرطي السير الذي أرعب السائقين المخالفين محبتنا واحترامنا، وإلى جميع الذين تمسّك بهم هذا الشرطي الشجاع نرسل أسفنا وتأنيبنا.. فلبنان لن يقوم من كبوته والفوضويون يعيثون فيه فساداً.
كونوا تحت القانون يا أبناء وطني ليحميكم القانون..
بئس وطن يتسلق المواطنون على قانونه ويتزحلقون. وبئس مواطن يتشاوف بتلاعبه على القانون، وبئس حاكم يسن القانون و(يمسّح) بأوراقه.
لا تخف، يا وطني لبنان، فشرطي السير سيمشّي سيرك بإذن اللـه.
**
هل رأيتم جبلاً للقمامة من قبل؟
لـم ألتقط صورة جبل الزبالة ـ القمامة في برج حمّود كي أشوّه صورة لبنان السياحية، وأمنع الغيّاب من العودة إليه، أو المصطافين العرب من التنعم بمناخه الرائع، كما قد يعتقد البعض. ولكنني التقطتها لغرابة الجبل، لموقعه، لعلوه، ولعدم وجود جبل مثله على الاطلاق.
صحيح أن لبنان مرّ بحرب مؤلمة للغاية دامت ربع قرن، وصحيح أن البنية الإدارية، التحتية والفوقية، قد تعطّلت كلياً خلال تلك الحرب اللعينة، ولكن الأصح هو أن بعض اللبنانيين يحبّون الفوضى، ويريدون التخلّص من نفاياتهم بأية طريقة كانت، حتى ولو رموها في غابة أرز الربّ، أو أخفوها تحت أسرّتهم، أو بنوا بها جبلاً تخجل منه الجبال، وتشمئز من التطلّع إليه!!..
وإذا راجعنا سنوات الحرب اللبنانية، لوجدنا أن الميليشيات المتحاربة قد جرفت كل شيء، الاسواق التجارية، الفنادق، البنايات الشاهقة وغيرها. ولكنها لـم تفكّر، ولو للحظة واحدة، بجرف الزبالة من تحت شبابيك الناس وطمرها بالجرّافات التي طمرت بها منازلنا، فنادقنا، وأجساد خيرة شبابنا، في أرض بعيدة عن السكن.
الجرافات موجودة، ولكن لتنفيذ مهمات أخرى، كلنا نعرف ما هي. دون أن يرفّ جفن مسؤول واحد، أو يتأفف من رائحة القمامة، حتى أن بعض الناس بدأوا يألفون منظر الجبل وسط منازلهم، ومن يدري فقد يعملون مستقبلاً على فرزه قطعاً أرضية صالحة للبناء، تدر على الدولة ملايين الدولارات، نظراً لموقعه المميّز، وارتفاعه في وسط المدينة.
عندما عرضت صورة جبل القمامة على نائب لبناني التقيته في سيدني، ضحك وقال: هناك جبال كثيرة في لبنان مثل هذا الجبل، لا تدري الدولة ماذا تفعل بها، أو كيف تتخلّص منها. وعندما أخبرته ما أخبرني إياه أحد الوزراء الأستراليين، من أن محرقة النفايات التي كان من المقرر أن تنفذّها حكومة ولاية نيو ساوث ويلز في لبنان، قد أحرقوها قبل أن يرى دخانها اللبنانيون. ضحك مرة ثانية وقال: هذه المحرقة أحرقت أعصاب القضاة اللبنانيين، ولست أدري متى يصدر الحكم.
ما من مشروع حيوي في لبنان، إلاّ وأحرقوه قبل أن يتنفّس الصعداء، والشعب يعيد إلى الحكم من أحرق مشاريعه، وأتلف أعصابه، ونغّص عيشه، ولسان حاله يردد تلك الأغنية الفكاهية التي غنّاها الفنان المرحوم فيلمون وهبة:
جحا قال
هالموال
خربت..
عمرت..
حايد عن ضهري.. بسيطة.
أمام بيتي، في مريلاندز، برميلان متحركان على عجلات: واحد للزبالة المربحة، تلك التي يعاد تصنيعها، كالورق والبلاستيك والألمنيوم. وواحد للنفايات التي يجب التخلص منها بتاتاً. والبرميلان هدية من بلدية المنطقة التي أعيش فيها، وفي حال تعطّل أحدهما، تستبدله البلدية حالاً ومجاناً. وقد وجدت مثل هذه البراميل بأيدي عمّال بعض البلديّات في لبنان. فمتى توزعها كافة البلديات على جميع البيوت، وتحمّل، كل من لا يستعملها، غرامة مالية باهظة.
هكذا يعود لبنان وطن الجمال، وهكذا نريده أن يعود.. بدون زبالة!
**
فتّشوا عن سرجون إسحق
عندما اكتشفت موقع (إيلاف)، تماماً كما اكتشف كريستوف كولومبس أميركا، أو الكابتن جايمس كوك أستراليا، لـم أكن أعرف من هم المشرفون عليه، وما زلت لا أعرف، ولكنني ارتحت له من النظرة الأولى، كي لا أقول أحببته. وقررت معاودة الكتابة من على صفحاته، بعد سنين طويلة من الاستراحة. ولكن خبرتي في الاتصال الإلكتروني صفر، فكيف العمل؟. حاولت، بادىء الأمر، أن أفتح بالموقع بريداً إلكترونياً، ففشلت، رغم محاولاتي الكثيرة، التي كنت، في كل واحدة منها، أستعمل إسماً مختلفاً لتسجيل بريدي الموعود. ولم أكن أدري أن على الخط الآخر في عاصمة الضباب رجلاً يشعر بي، وبمحاولاتي الفاشلة، فإذا به يرسل لي أربع كلمات سر، لجميع الأسماء التي أرسلتها، وحسبتها ضاعت في فضاء الإنترنيت اللامتناهي.
جرّبت كلمات السر التي زوّدني بها الرجل الخفيّ المنقذ، دون جدوى، فأرسلت له رسالة أخبره بها أن مغارة علي بابا ستفتح بكلمات سرّه، أما بريدي الإلكتروني فلا. فلم ييأس، بل أرسل لي كلمة سريّة جديدة هي (صندوق البريد). أف، تمتمت في سري، هل سيفتح صندوق بريده هذا صندوق بريدي؟ فجرّبت، وجرّبت، حتى ضجرت مني آلة الكومبيوتر، وقررت التوقّف عن العمل من شدّة الإرهاق.
ورغم الخجل الذي اعتراني من تكرار فشلي، فلقد أحسست أن (منقذي) على الخط اللندني لن يتأفف مني، ولن يتبرّم من أسئلتي الكثيرة، فعاودت الكرّة، وأخبرته باندحار جيوشي الإلكترونية في المعركة، وباستسلامي لمشيئته، فما كان منه إلا أن طلب مني اختيار كلمة السر التي أريد، وفجأة، هللت السماء والأرض، وتم افتتاح بريدي الإلكتروني، وسط تصفيقي الحاد، ونباح كلبتي المدللة (ليلي).
صديقي الخفيّ المنقذ اسمه سرجون اسحق، وأسأل الله تعالى أن يكون اسماً حقيقياً، لا يتغيّر ككلمات السر التي أرسلها لي، كونه الوحيد الذي أعرفه في الموقع، بعد ثلاثة أشهر من الكتابة فيه. أما لماذا أسميته (المنقذ)، فإليكم الحكاية:
كما تعلمون، هناك فرق بالوقت بين سيدني ولندن، فعندما نتأهب للعمل في سيدني، يتأهب عمال لندن للنوم، ولكن عاملاً واحداً لا ينام، إنه سرجون، فلقد راسلته في منتصف الليل، فأجابني بعد لحظات، وراسلته عند ساعات الصباح الأولى، فأجابني بسرعة البرق.. إنه (الحاضر الناضر) على مدار الساعة.
إذا حصلت معي مشكلة في بريدي، يسرع سرجون في حلّها، وصدقوني إذا قلت: إنه الوحيد الذي بإمكانه أن يدخل إلى بريدي ويقرأ محتوياته، ويلفت انتباهي إلى الجراثيم الإلكترونية العالقة بأذياله، وعلى قلبي أحلى من العسل.. يكفي فقط أن أستنجد به برسالة سريعة يكون عنوانها: أين أنت يا سرجون باشا، حتى يطل من الأحرف الضوئية صارخاً: شبّيك لبّيك، سرجون بين يديك.
مرة، أراد موقع إلكتروني في كندا أن يعيد نشر مقالي (هؤلاء هم الأبطال يا مفجّري الجوامع والكنائس)، فوجدت أن من الواجب إعلام رئيس تحرير إيلاف بذلك، وكنت أجهل من هو، فجاءني الرد معنوناً باسم الاستاذ عثمان العمير، فسررت لمراسلة هذا الصحفي الكبير لي، ولكنني عندما وصلت إلى آخر الرسالة، وجدتها موقّعة باسم سرجون اسحق، فضحكت وصحت: ـ أأنت عثمان العمير يا سرجون؟!.
ألم أقل لكم إنه (حاضر ناضر) كرجال المخابرات في البلاد العربية، ولكن الفرق بينه وبينهم، كالفرق بين الثريا والثرى: هم يدمّرونك ويقتلونك، وسرجون يساعدك ويعضدك ويحميك.
عندما أصدرت مجلة (ليلى)، وهذا اعتراف أبوح به للمرة الأولى، فتّشت عن مراسلين لها في البلدان التي زرتها، فلم أوفّق، فبدأت أكتب مقالات بأسماء وهمية، أدعي وصولها، من عثمان الأحمدي ـ الجزائر، أو من لويس حنّا ـ باريس، أو من أمادو عبود ـ إيطاليا، إلى أن أتخمت صفحات المجلّة بكثرة المراسلين، الذين هم أنا أولاً وأخيراً، وبدأ القراء يشيدون بهم وبأدبهم الرفيع، كما أن شاعراً زجلياً مهجرياً راح يطرّز قصائد المديح لهم.
سامحني اللـه، أردت أن أكون في كل مكان وزمان، كما يفعل سرجون اسحق.. أنا أركب الطائرة البليدة المملة المتعبة للوصول إلى مدينة ما، وهو يركب الأجنحة الإلكترونية التي تربط العالم، من مشرقه إلى مغربه، بآلة صغيرة إسمها الكومبيوتر، ففشلت أنا ونجح هو.
طلب أخير يا منقذي، لقد نشر موقع (google) العالمي معلومات مفصلة عن شخصي الفاني، قرأت منها أربعة أسطر فقط، وعجزت عن اكتشاف الباقي، فأرجوك أن تدخله تحت اسم (charbel baini)، وأن تخبرني ماذا قالوا عني، ولك مني، إذا جئت أستراليا، هدية: حيوان (كنغرو) حي، أنا أهرّبه لك عن طريق (المراكب) من أستراليا، وأنت أدخله إلى بريطانيا كهدية لجلالة الملكة.
أخبرتكم قصّتي مع سرجون، لأرطّب الأجواء المحمومة، وألهيكم عن الأخبار التي تسم الأبدان، وأنقلكم من الأدب السياسي الموجع، إلى أدب الفكاهة والتواصل والحياة.
إذا كنتم لا تملكون في مواقعكم الإلكترونية "سراجين" نشيطين كسرجون اسحق، استعيروا من ديوجين شمعته، وفتّشوا عنهم، لعلكم تجدونهم بين ضباب لندن.
**
عيسى القنصل: تمددي في روحي
الرائع شربل..
ما أجمل أن تكون دموعي بين يديك.
اعلم انها سوف تنمو طهارة وانتماء الى الحياة
عيسى القنصل
بهذه العبارات الباكية أهداني الشاعر الاردني عيسى القنصل، المغترب في الولايات المتحدة الأميركية، ديوانه الأخير "تمددي في روحي"، لا ليفرّحني بل ليفجّر الدموع من عينيّ. فكل كلمة في الكتاب حزينة، حتى صورة الغلاف.
وعيسى القنصل يرفض أن ينسى ما حصل في الخامس والعشرين من أيار عام 2015، يوم اجتاحت الفيضانات مدينة هيوستن الاميركية، واغتالت رفيقة عمره مدة ثمانية وثلاثين سنة:
لماذا لم يزل وجعي
يلاحقني
ويقتلني
ويسبي راحتي مني؟
لماذا؟ لأن التي سرقها الموت قبل اسبوع واحد من تقاعدها، لم تكن امرأة عادية، كانت "أم عصام" شمس البيت، التي أحبت الشاعر بجنون، فأعلن جنونه حين غابت:
ملاكاً كنت سيدتي
أناملك
سعت دهراً لتسعدني
وما تعبت وما شحّت
ولا غابت عن الدار
أنه يناجيها بحرقة شاعرية تقتل صاحبها لا محالة:
نهاد، يا حبيبتنا
غيابك موجع روحاً
فيحرقني
رماداً سوف يتركني
لأرض الحزن والحرمان والفقد
أنا قلب بلا ضلع ليحميه
أنا وجع دوائي صار منقرضاً
فلن أشفى الى الأبد
والمعروف عن الشاعر انه يغلّب العقل على العاطفة، إلا أن شاعرنا، أبى ان يكبح جماح عاطفته، فراح قلبه يلومه على ذلك، ويسأله:
أرى قلبي
بعمق الفكر يسألني
لماذا دمعتي سيلٌ على خدي؟
لماذا دائماً أبكي؟
سؤال، طرحه عيسى، دون أن يتمكن من الاجابة عليه، فها هو يصدر مجموعته هذه عن فقيدة الدار والعائلة، وقد يصدر الثانية والثالثة والرابعة الى أن يوقف قلبه أسئلته ويخلد للراحة:
سوف أبقى عمق حزني
أشتهي يوماً ليأتي
ضمن تابوت لأغفو
باسماً في حضن ربي
أتمنى أن لا يخلد قلب صديقي عيسى القنصل الى الراحة، ليبدع أكثر فأكثر، فالشعر الصادق لا يفجره إلا الحزن الشديد، وما قرأت أصدق من أشعارك. وقد لا أغالي اذا قلت: لقد ابكيتني دماً. أطال الله بعمرك.
**
سركيس كرم.. مبروك
سركيس كرم، هذا الزغرتاوي الشامخ في غربته، عرفته منذ ثلاث سنوات، وكأنني أعرفه منذ دهور. أحببت أن أهديه بيتين من الشعر بمناسبة تكريمه من قبل أهلنا العراقيين، أعضاء رابطة الشاعر الخالد عبد الوهاب البيّاتي، في احتفال ضم العديد من الفعاليات السياسية والأدبية والاجتماعية والاعلامية، فقلت له:
سركيس كرم من عنّا
كلماتو ما في منّا
زغرتاوي أباً عن جد
فيه بيفرح موطنّا
فإذا به يجيبني بتلقائية أذهلتني، وكأنه أحد روّاد الزجل اللبناني، مع العلم بأنه يعترف على رؤوس الأشهاد بأنه ليس بشاعر، فكيف يكون الشاعر اذن؟.. فاسمعوه وباركوه:
شربل يا استاذ الكل
شعرك من احلى جنينه
الغربه انزرعت ورد وفل
بفضلك يا إبنْ بعيني
ما أروع الكاتب عندما يوزّع على الناس الورد والفل.. وما أروع سركيس كرم عندما يستقبلك بابتسامته، ويحضنك بمحبته، ويودعك بعد أن يسرق منك القلب، والعقل، ويجبرك على القول:
خدت العقل.. تركلي القلب
تا حبّك.. ويدوخ الحبّ
يا سركيس وجودك هون
أرزه من أرزات الربّ
انتقدت سركيس كرم فشكرني، ومدحته فأخجلني.. فلقد وجدته يشعّ تواضعاً، وما من شيء يجعلك تشعّ أكثر من التواضع. وأذكر أنني كتبت عبارة مفادها:
ـ لو لم يكن المسيح وديعاً ومتواضع القلب لما تبعته.
سركيس كرم أشكرك على محبتك وتواضعك وشعرك.. وألف مبروك.
**
الكتابة باللغة العربية في أستراليا
إسمي شربل بعيني، عملت أستاذاً في مدرسة سيدة لبنان ـ هاريس بارك التابعة لراهبات العائلة المقدسة المارونيات، التي تضم في قسميها الابتدائي والثانوي أكثر من ألف طالب وطالبة. أشرفت فيها لمدة 30 سنة على تدريس اللغة العربية في الصفوف الرابعة والخامسة والسادسة الابتدائية. كما أعددت لها معظم الكتب العربية التي تدرس فيها، ولقد طبع العديد منها برنامج المساعدات الحكومية للمدارس الاثنية التي يشرف عليها مكتب وزير التربية والتعليم لولاية نيو ساوث ويلز.
"The Ethnic schools grants program administrated by the office of the minister for education for NSW"
الصف الرابع:
من بين الصفوف التي درّستها، اخترت الصف الرابع ابتدائي، كونه البداية في القسم.. فتلامذته يأتون من قسم آخر يشرف عليه أساتذة آخرون. ومن واجبي تحضيرهم بشكل جيد لدخول الصفوف الثانوية بعد 3 سنوات من تلقي اللغة العربية في الصفوف 4 و 5 و6 التي أشرف عليها.. وإلا سوف لن يتم تحضيرهم، في الصفوف الثانوية، للخضوع لامتحانات اللغة العربية في شهادة الـ H S C الرسمية، نظراً لعدم تمكّنهم من اللغة العربيّة.
أعمار تلامذة الصف الرابع تتراوح بين الثامنة والتاسعة، وقد ولدوا بمعظمهم في أستراليا، ويتكلّمون العربيّة العاميّة بركاكة مضحكة كما أنّهم لا يعرفون من العربيّة الفصحى سوى كلمات تعلّموها في الصفوف الأولى والثانية والثالثة لابتدائيّة.
الصعوبة الكبرى:
لا أنكر أن صعوبات جمة واجهتني أثناء تدريس العربية، سأكتفي بمعالجة واحدة منها أسميتها الصعوبة الكبرى، ألا وهي "الكتابة". وكما هو معروف لدى الجميع، فالكتابة باللغة العربية تبدأ من اليمين الى اليسار، عكس الانكليزية، التي يتعلمها الطالب طوال النهار، والتي تؤثر عليه سلباً أثناء تلقي العربية. خاصة وأن حروفنا العربية تتغيَّر باستمرار، لنأخذ مثلا آخر حرف منها وهو "الياء YA'A ي" فيكتب في بداية الكلمة "يـ ـ يد" وفي منتصفها "ـيـ ـ سيد" وفي نهايتها "ـي و ي ـ أبي ، جدي".. إلى آخره.
مرة طلبت من الطلاب كتابة كلمة "عمي ـMY UNCLE"، فجاءت النتيجة هكذا:
Student 1 ي م ع
Student 2 ع مي
Student 3 ع م ي
Student 4 عم ي
* التلميذ الاول كتبها حسب الطريقة الانكليزية، من الشمال الى اليمين، دون أن يربط بين الحروف..
* التلميذ الثاني لـم يجمع حرف ال "ع" مع "مي" .
* التلميذ الثالث، كتب الكلمة حسب الطريقة العربية، من اليمين الى الشمال، دون أن يربط حروفها.
* والتلميذ الرابع، لـم يجمع كلمة "عم UNCLE" مع الـ "ي MY" لتصبح "عمي".
والمضحك حقاً، أن الطلاب الاربعة ينسخون كلمة "عمي" من الكتاب بطريقة مدهشة دون ارتكاب أي خطأ ما.. فلماذا تتغير الحال عند الاتكال على أنفسهم؟
دروس جديدة:
لقد حاولت التخفيف من تمارين النسخ التي أعددتها لهم، فبدلاً من إضاعة وقتهم في تمرين كهذا :
* أنسخُ ما يلي:
COPY THE FOLLOWING WORDS:
عمي أمي أبي خالي خالتي جدي
............................................................
يتعاملون معه دون تفكير أو إحساس، ويزرع في نفوسهم الملل، لجأت الى تمارين مختلفة، مفيدة ومسلية، سأكتفي بشرح اثنين منها:
التمرين الأوَّل:
"ملاحظة: استعملت في الأسئلة العربية صيغة المتكلم كي لا تتغيّر بين المذكر والمؤنث" ضع، ضعي، رتب، رتبي".
* أضعُ الحرف الناقص مكان النقطة ليكتمل معنى الكلمة:
FILL IN THE MISSING LETTER TO MAKE A WORD:
. ارٌ NEIGHBOUR
. دٌ GRANDFATHER
. رسٌ BELL
. ابٌ DOOR
رَ.ـيع SPRING
كلـ . DOG
التمرين الثاني:
* أرتّبُ الحروف حسب الترجمة:
* UNJUMBLE THE ARABIC LETTERS:
م ر ق .............................. MOON
ل م ق ...................................... PEN
د ق م .............................. FOOT
ص ر ق .............................. PALACE
في التمرين الأول وضعت الترجمات الانكليزية للكلمات العربية المزمع كتابتها، لأنشل الطالب من الحيرة، ولأخفف عنه التفتيش والضياع.. فالمطلوب حرف واحد لا غير.. وما عليه إلا إيجاده وربطه بطريقة سليمة بباقي الحروف، لتتكون عنده الكلمة المطلوبة .
أما في التمرين الثاني ، فقد كتبت الحروف بطريقة عشوائيّة، وما عليه سوى ربطها ببعضها البعض بعد ترتيبها بطريقة جيدة تعطيه كلمة مفيدة تناسب الترجمة المرفقة .
قصدت من هذا كله:
ـ دفعه على مراجعة الحروف العربية، للحصول على الحرف الناقص.
ـ تمرينه على ربط الحروف العربية بطريقة سليمة ومسلية.
ـ دفعه للترجمة بطريقة غير مباشرة.
ـ تحسين الكتابة العربية عنده، من دون أن يشعر بذلك.
ماذا حصل:
لقد تحسّن وضع طلابي من ناحية ربط الحروف العربية ببعضها البعض، والكتابة التلقائيّة دون الرجوع الى نص مكتوب أمامهم.. كما أصبحوا على معرفة بترجمات بعض الكلمات العربية من جرّاء التعامل الدّائم معها.
التمارين كانت مسليّة لهم ومفيدة.. صحيح أنّها سبّبت بعض الضجيج في الصف، من جراء تعاون الطلاب مع بعضهم البعض بغية حلّ الكلمة، ولكنني أعتبره ضجيجاً عادياً مفرحاً لهم ولي في آن واحد، نظراً للنتيجة الجيدة التي حصلنا عليها معاً، بسبب هذه التمارين الشيِّقة.
**
عائلة جورج ابو انطون المقدسة
جورج، أو جرجي ابو انطون، نقيب شعراء الزجل في لبنان، شاءني الحظ أن التقيه في أستراليا أثناء زيارته لنا بدعوة من الدكتورة بهية ابو حمد رئيسة جمعية انماء الشعر، فوجدته قمة في التواضع، والتفاني، والابداع، والمحبة، وقد لا أغالي اذا قلت انني افتقدته كثيراً، وما زلت أفتقد تلك النكتة الجاهزة على شفتيه، مثل ابتسامته تماماً، أي أن النكتة والابتسامة صنوان لا يفترقان عند أخي وصديقي الشاعر الكبير جورج أبو أنطون.
وعلى أيامه، أشرق تكريم نقابة الزجل لشعراء ومبدعين في الجالية، وعلى أيامه فقط كرّم الزجل في برلمان ولاية نيو ساوث ويلز، يوم كرم ثلاثة من عمالقته: جورج ابو انطون والياس خليل وانطوان سعادة.
ومنذ يومين، نشر على صفحته الفايس بوكية، صورة معبرة تجمعه مع عائلته، هو في منتصف الصورة، والعائلة من حوله، فما كان مني إلا أن كتبت هذا التعليق:
شو هالعيله القديسه
كنيستها معبد للشعر
وجرجي كاهن الكنيسه
زيّنها بباقات الزهر
وبعد نشري للتعليق لاحظت أنني أسأت التعبير عندما قلت: "زيّنها بباقات الزهر"، لأن للزهر عمرا محدودا، وستذبل تلك الباقات، لا سمح الله، فعدت اليه واستبدلت الشطر، لتصبح الردة هكذا:
شو هالعيله القديسه
كنيستها معبد للشعر
وجرجي كاهن الكنيسه
حدّو عم بيفرّخ زهر
لأن زهر النقيب سيبقى ينمو وينمو الى الأبد، بإذن الله.
والظاهر أنه أعجب بالتعليق، فارتجل ردة رائعة لم أتمكن من الاجابة عليها إلا نثراً، لأنها جاءت محكمة من الجهات الاربع، قال، لا فض فوه:
انتا أحلى وأغلى الناس
بعلم العالم وبعلمي
وحتى يكمل هالقدّاس
بدّو مطران الكلمه
أف.. كم أنا مشتاق إليك يا صديقي القدوة، يا شاعري المفضل، يا بطريرك الكلمة، ويا نقيبي المتواضع شموخاً وعزة وابداعاً.
الى اللقاء، باذن الله.
**
نبيد معتّق
أجمل شيء في الفايس بوك انه يعرفنا بأناس لم يخطر في بالنا أن نلتقيهم أو أن نتبادل الردات الشعرية معهم، ومن هؤلاء الناس الشرفاء الصديق سمير نخول، الذي أهداني بمناسبة الأعياد المباركة هذه الردة الشعرية الرائعة:
شعرك يا شربل معروف
نبيد معتّق بقناني
وسميّك شربل مخلوف
شربو بعد القربانه
وما أن قرأتها حتى شعرت برهبة القداسة، وان الاسم الذي أحمله لا يشرفني فقط بل يشرف الكون أجمع، ومن قوة الرهبة، أجبته بما يلي:
يا دلّي ويا تعتيري
كبيره هالقصه كبيره
تا يرضى شربل مخلوف
شعرك علّقتو دخيره
واعتقد أن القديس شربل مخلوف سيرضى عليّ وعلى الصديق سمير نخول بدون ردات شعرية، فله منا الصلاة الدائمة. والف شكر يا أخي سمير.
**
مقدمة خلجات وعروس الشرق بغداد
عام 1987 دعتني وزارة الثقافة العراقية للمشاركة بمهرجان المربد الشعري، وكانت المرة الأولى التي أغادر بها غربتي لزيارة وطني العراق.
صحيح أنني لبناني، ولكنني أعتبر أن كل البلدان العربية هي أوطاني، رغم الحدود واختلاف اللهجات، وبطش الحكام. فانا مهما ابتعدت ما زلت من ذلك التراب المقدس، لذلك عندما وطأت قدماي أرض العراق قبلتها بشغف، كما تقبّل الأم جبين وحيدها العائد بعد غيبة طويلة.
وأذكر أنني ألقيت في مسرح الرشيد قصيدة بعنوان "أرض العراق أتيتك" دمجت بها جميع الأنواع الشعرية بما فيها العامي اللبناني، وأترككم مع الموزون منها:
لُبنانُ، يا بَغْدادُ، كَمْ سَنَةٍ
يَقْتاتُ مِنْ أَكْبادِهِ الأَلَمُ
هَلْ يَنْتَهي الإنسانُ في وَطَنٍ
كانَتْ تُناغي أَرْضَهُ الْقِيَمُ
أَعْداؤهُ الأَوغادُ هَمُّهُمُ
أَن يُسكِرَ المُسْتَنقعاتِ دَمُ
أَوصافُهُمْ، إن شِئْتِ، أَكْتُبُها
كَيْ تَعْلَمي كَمْ يَخْجَلُ الْقَلَمُ
واذكر أن تلك القصيدة لاقت التصفيق الحاد، وكان التلفزيون العراقي ينهي نشرته الاخبارية بها لمدة أسبوع تقريباً.
هذا هو العراق الذي عاش ويعيش في ذاكرتي: فنادق فخمة، مسارح واسعة، طرقات معبدة، شعب طيّب ومضياف، شارع المتنبي ومكتباته الغنية بالفكر الرائد، وأعراس مساء الخميس من كل أسبوع، التي كانت من أجمل الأعراس التي شاهدتها، لا بل شاركت بها رقصاً وغناء.
ورغم تتبعي للأحداث الدامية التي وقعت وتقع في عراقنا الحبيب وجدت أن كلمات المؤلف قد أثرت فيّ كالأحداث تماماً، ولم أتمالك نفسي بل رحت أبكي كطفل صغير، بعد ان تمكن الأب يوسف جزراوي من أن يسكب دموعه الغزيرة في عينيّ، وخلجاته المؤلمة في صدري، إذ أن كل كلمة قرأتها في كتابه كانت موجعة الى حد التأوه والصراخ.
بغداد التي يناجيها لم تكن بغداد التي ناجيتها أنا. بغدادي كانت ترفل بفساتين الأعراس، وبغداده مزنرة لا بل مغطسة بالسواد، لدرجة الابتلاع. صحيح أنه يعيش مكرّماً في غربته، لكنه يرفض استبدالها بعروس الشرق بغداد كما يحلو له أن يسميها، فلنسمعه ينوح:
"يوم غادرت عاصمتي وبلدي، شعرتُ أنَّي فقدتُ جزءًا من روحي وجذوري وهويتي العراقيّة من دون مشيئتي، ويوم أكتب كلمة حُبّ حُرّة بنّاءة " لبغدادي"، أشعر أنني استرد عراقيتي بمشيئتي".
بغداد رغم الألم الذي تعيشه هي عنده حلم عودته، لذلك نجده طوال الوقت يفتّش عن شراع يبحر بسفينته المتعبة الى برّ العراق الآمن الأمين:
أغور في الغربة،
ملامح الغريب في وجهي
احيا يتيم الوطن في قارة نائية.
تركتُ في العراق
قبطان سفينتي وساريتي
وأنا كسفينةٍ تائهة،
ابحث عن شراع،
وجهتي بغداد
للعودة إلى ارضي
حيث جذور الأجداد.
أليس مؤلماً حقاً أن تدرك أن الأب يوسف جزراوي لم يشعر بالعيد خارج بغداد؟ وأنه يرفض الغربة برفاهيتها وسلامها وأعيادها من أجل عيني بغداد؟ لذلك قرّر أن يبني من كلمته مركباً، ومن حروفه مجذافاً، ليبحر الى مسقط رأسه، علّه يتنعم بفرحة العيد:
ابحر في كلمتي،
حروفي المِجذَاف
كنيتي جواز عبوري،
إلى مسقط رأسي؛
حيث العيد
والفرح وطيّبة الناس.
منذ سنة كتبت قصيدة بعنوان "بغداد أنت حبيبتي" لحنها وغناها المطرب العراقي المعروف اسماعيل فاضل، أذكر منها:
بَغْدادُ أنْتِ حَبيبتِي.. لا تَخْجَلي
منذُ الوُجُودِ، خُلِقْتِ يا بَغْدادُ لي
أحْبَبْتُ وَجْهَكِ.. وَالْغَرامُ حِكايَةٌ
مِثْلَ الدِّماءِ تَدَفَّقَتْ بِمَفاصِلي
لَوَّنْتُ بِالشَّفَقِ الْجَميل شَوارِعاً
خِلْتُ الشَّوارِعَ أمْسَكَتْ بِأنامِلي
كَمْ مِنْ قَصائدِ حُبِّنا غَنّى الْهَوَا
وَتَشامَخَتْ فَوْقَ الرُّبوعِ مَنازِلي
قَسَماً بِحُبِّكِ.. إنْ تَكَحَّلَ مَوْطِنٌ
إلا بِدَمْعِ الْعَيْنِ لَنْ تَتَكَحَّلي
لا لَسْتُ أَنْسى يَوْمَ جِئْتُكِ مُغْرَماً
وَتَراقَصَتْ قُرْبَ الفُراتِ جَداوِلي
وَتَهامَسَتْ أَمْواجُ دِجْلَةَ: ها أنا
ماءُ السَّعادَةِ.. غُبَّنِي بِتَمَهُّلِ
أَوْدَعْتُ فيكِ طُفولَةً يَحْلو لَها
أن تَسْتَبيحَ عَواطِفي وَتَأَمُّلي
إسْمِي على شَفَةِ الصباحِ كَتَبْتُهُ
إبْنُ العراقِ أنا.. أنا.. إنْ تَسْأَلِي
مَهْما ابْتَعَدْتُ.. لَنْ أُطيلَ تَشَرُّدي
فَتَأَلّقي، وَتَزَيّنِي، وتَدَلَّلِي
إِنِّي أُصَدِّقُ بَيْتَ شِعْرٍ رائِعِ:
"ما الْحُبُّ إلاّ لِلْحَبيبِ الأوَّلِ"
فوجدت أن الأب يوسف جزراوي قد بزّني في حبّ بغداد، وأجبرني على مراجعة كل ما كتبت، كيف لا وهو البغدادي أباً عن جد، وما يعتمل في صدره من أشواق، قد لا يعتمل في صدر أي شاعر مهما علا شأنه. الحب ينبع من الصدق، وأبتي الجليل صادق في حبه لمدينته الفاضلة، وكأنه يتعبد لها بعد الله تعالى، لا بل راح يذكرني بتلك الثلاثية الشهيرة: ألله، الوطن، العائلة:
بغداد..
معلقُ أنا بين الأرض والسماءِ
على صليب باتساع مساحتكِ
الليل فيه ظلّ متابدًا
والصباح بقي معصوبًا
صلبني فراقكِ على جُلجلة المنافي
وأنا ما بلغتُ عمر الورود.
هذا من ناحية الحب والمشاعر، أما من الناحية الفنية فنجد أن الكاتب قد استعان بالسجع، وأحياناً بالنثر الشعري، كي يصل الى غايته، وكي يقنع القارىء أن من يناجيها تخضع لها جميع انواع الأدب، كونها منبعاً للآداب على مر التاريخ.
مؤلفات الأب جزراوي كثيرة، متنوعة ورائعة، إذ أنه لم يترك باباً أدبياً إلا وطرقه، ولكن أصدقها على الاطلاق، بنظري، هو هذا الكتاب، فتنعموا بقراءته.
**
مهرجان العراقية
مجدُ أمسي.. هل سينساهُ غدي
ليس ينسى الهجرُ ما أعطت يدي
أصحابَ السيادة والسعادة.. أيها الحفل الكريم..
نِعَمٌ كثيرةٌ مَنَّ اللهُ بها عليّ لَمْ تُساوِ بمُجملِها زيارتي للعراق..
فلقد دُعيتُ عام 1987 للمشاركةِ بمِهْرَجانِ المربد الشعري الثامن..
فهل من نعمةٍ توازي نعمةَ معانقةِ العراق؟
هل من نعمةٍ توازي أجملَ قبلةٍ طبعْتُها في حياتي يومَ قبّلتُ ثَرى العراق؟
وصدّقوني أن الهموم التي تراكمت عليّ في غربتي قد محتْ ذِكرياتٍ كثيرةً وعجِزتْ عن محوِ ذِكْرياتي في العراق.
فبعدَ رُبْعِ قرْنٍ من تلك الزيارةِ ما زلتُ أسمَعُ وقعَ خُطُواتي في شوارعِ بغداد والموصل والبصرة وبابل وكلِّ كلِّ زاويةٍ من زوايا العراق.
عام 1987 تمكّن العراقُ من فكِّ قُيودِ غربتي، وإطلاقِ سراحي، وإعلاني، على مسمع الأمم، إبناً له. لماذا؟ لأنني ما مدحتُ سوى العراق، وما قبضت أجراً سوى محبّةِ أهل العراق.
يومَها، كان لُبنانُ ينزِفُ، وكان نزيفُه يدمي العراق:
لُبنانُ، يا بَغْدادُ، كَمْ سَنَةٍ
يَقْتاتُ مِنْ أَكْبادِهِ الأَلَمُ
هَلْ يَنْتَهي الإنسانُ في وَطَنٍ
كانَتْ تُناغي أَرْضَهُ الْقِيَمُ
أَعْداؤهُ الأَوغادُ هَمُّهُمُ
أَن يُسكِرَ المُسْتَنقعاتِ دَمُ
أَوصافُهُمْ، إن شِئْتِ، أَكْتُبُها
كَيْ تَعْلَمي كَمْ يَخْجَلُ الْقَلَمُ
هكذا ناجيتُ بغداد، فأحسست أن لبنانَ والعراقَ يبكيان لبكائي.. فقرّرتُ أن أغني لهما من على مسرح قاعة الرشيد أغنيةً شعبيّةً بثّها التلفزيون العراقي بعد كلّ نشرة أخبار ولمدّةِ أسبوعٍ كامل:
هيهات يا بو الزلف
عيني يا موليّا
بغداد هيي القلب
ولبنان عينيّا
وها هو العراقُ يا وطني، ها هو الاعلامُ العراقيُّ المجسّدُ بمؤسسة العراقية للإعلام والثقافة، وها هو المخرجُ والشاعرُ والصديقُ موفّق ساوا وأسرةُ صحيفتِه الغراء، يمدّون يدَ التكريم لي، يمسحون الغبارَ عن وجهيَ المهجَّرِ، ويهمسون في أذني: لا تخف.. فغربتُكَ غربتُنا، وألمُكَ أَلَمُنا، وأَدَبُكَ أدبُنا.. فساعدني كي يأتِيَ الشكرُ بحجمِ جبالِك.. بنصاعَةِ ثُلُوجِك.. بصَفاءِ مياهِكْ.. وبطيبَةِ شعبِك، وإلاّ سأصمُت، وما عوّدتَني على الصمتِ يا وطني.
أيّها العراقيون الأحرار، ألفُ شكرٍ لكُم.
يوم تكريمي من قبل جريدة العراقية عام 2012
**
الحب هو الدواء
أنطوني ولسن في (الحب هو الدواء) لا يختلف عن أنطوني ولسن في باقي مؤلفاته الكثيرة، فهو المؤرّخ بصدق، والواعظ بإدراك، والمصري بجنون. فلقد وجدته في كل كلمة نزفها يراعه محترماً لكل الأديان، من خلال احترامه لأخيه الانسان، كائناً من كان.
وإذا كان قيس مجنون ليلى، وعنتر مجنون عبلة، وروميو مجنون جولييت، فإن أنطوني ولسن، وبكل ما تنطوي عليه تلك العبارة من معنى هو مجنون مصر. أجل.. إنه مجنون مصر.. يحبها، يعبدها وفي كثير من الأحيان يؤلهها في مقالاته، ويصرخ بأعلى صوته: هي أمي.. ومن لا يحب أمه حتى العبادة.
الحب هو الدواء، مربح أدبي وتاريخي وثقافي ليس في بلاد الاغتراب فحسب بل في كل بقعة من هذا الكون الصغير، إذ أنه يأتي في زمن نحن بأشد الحاجة فيه الى كتّاب يعرفون كيف يؤرخون لهذه الحقبة العاصفة التي تمر بها مصر، لا بل كل الأمة العربية من المحيط الى الخليج.
أنطوني ولسن الذي أغنى المكتبة الاغترابية بالعديد من المؤلفات القيمة، أدرك في مؤلفه الأخير هذا أن "الحب هو الدواء" فنعم الإدراك، ونعم العنوان، ونعم الكتاب.. فتنعّموا به.
**
عائلتي البعينية تجتمع مجدداً
كالحلم الجميل جاؤوا الى بلدتي الحبيبة مجدليا، ليعانقوا أهلهم ويهمسوا في آذانهم نحن عائلة "واحدة"، من جد واحد، ومنبت واحد، ودم طاهر واحد.
أنهم أهلي "آل بعيني" من مزرعة الشوف وزحلة وغيرهما من البلدات اللبنانية التي أنبتت وحضنت أشرف الناس قاطبة.
حملوا أشواقهم وعواطفهم، وخلجات صدورهم، وجاؤوا "لردة الإجر" كما يقولون، بعد أن استقبلوا "آل بعيني" مجدليا" في مزرعتنا الشوفية الحبيبة. ومعهم جاء بطل الاستقلال الخالد الشهيد "أديب البعيني"، ليبارك الجمع، ويثبت للجميع أنه الحي الباقي الى الابد في قلوبنا، وقلوب كل اللبنانيين قاطبة.
رئيسة بلدية مجدليا الرائعة جومانة بعيني وأخوها جوزيف كانا هناك،
كاهن مجدليا المقدس انطون بيوس البعيني كاهن هناك،
أديبة مجدليا المبدعة سوزان بعيني كانت هناك،
والبعينية الجميلة كلارا بعيني شكور كانت هناك،
وكان هناك أيضاً العديد من أبناء وبنات عائلة بعيني،
وحدي أنا كنت بعيداً عن الفرحة التي نقلها لي مصورة ابن العم نوّاف صابر البعيني عبر "الواتس أب"، فوصلتني عند الساعة الواحدة فجراً في العاشر من شباط، يوم عيد ميلادي السادس والستين، أي بعد ساعة واحدة، لتجعل من العيد عيدين، ومن الغربة وطناً.. لقد كانت أجمل هدية وصلتني في عيد ميلادي.
أهلي يجتمعون مجدداً، فكيف لا أفرح، وهذه كانت رغبتي منذ التقيت وأنا طفل صغير بأبناء عم جدي الدروز قادمين من مزرعة الشوف الى مجدليا لتهنئتنا بأعيادنا المسيحية، ومحملين بالهدايا، وغير عابئين بالطائفية الكريهة التي أحرقت الأخضر واليابس، كل همهم أن يعانقوا بعضهم بعضاً، ولسان حالهم يردد: الدم ما بيصير مي.
فإليهم أهدي هذه الابيات التي نشرتها في ديوان اشتقنا:
ـ1ـ
انت "بعيني" علّي الراس
دمّك دمّي مهما كان
جدّك جدّي.. من الاساس
ما بتلعب فيك الأديان
درزي ماروني القياس
وقياسك مجد الانسان
وين ما كنت.. وكتروا الناس
أصل "بعيني" رح بيعود
لمزرعة الشوف بلبنان
ـ2ـ
يا "بعيني" بهالاسم اعْتَزّ
متل الزهره بِجْنينه
لولا "الحاسد" صيتك هَزّ
وحاول يسرق منك عِزّ
وإسم العيله عم يِبْتَزّ
شو ما قلّك رح بيقول:
يا "بعيني" إنت بعيني
ولهم أقول: أنتم بعيني أيضاً. حماكم الله.
**
حديقة من زهور الكلمات..
جديد الشاعر يحيى السماوي
صدر عن مؤسسة المثقف العربي في سيدني ـ أستراليا، كتاب جديد للشاعر العراقي الكبير يحيى السماوي بعنوان "حديقة من زهور الكلمات".
وبعد مطالعتي للكتاب، وجدت أن السماوي قد ابى أن يسمي "زهور كلماته" أشعاراً، بل أشار اليها على غلاف الكتاب بعبارة "نصوص نثرية" كي يبعد عنها كل الشبهات، أو ليعطي درساً قاسياً لأولئك الذي يكتبون "النثر" ويطلقون عليه بدون أي خجل لقب "الشعر". وشتان ما بين الثريا والثرى.
إذا كانت "حديقة" السماوي ليست شعراً منثوراً، فيجب أن نلغي مسمى الشعر النثري الحديث، لأن كل عبارة وردت في النصوص شعرية، وتحتوي على صور خلابة:
فأنا يكفيني من كل الدنيا
خدرك،
وكأس من زفيرك،
وطبق من خبز تنورك،
مع لحاف من دفئك،
يستر عورة شتاءات جسدي.
وكما عودنا السماوي، فجرأته الكتابية تجعلك تشهق وانت تقرأ:
رجولتي أعلنت الإمساك عن المائدة
حتى تفطر بخبز أنوثتها.
وككل شاعر نراه مشاكساً في الحب:
ما دمنا قد أوقدنا نار الخصام
فليسترجع كل منا ما أعطى للآخر
لتعد شفتاك الى شفتي
آلاف القبلات
وليسترجع صدرك دفئه من صدري!
إلى أن يستنجد بها:
هاتني شفتيكِ
فأنا أريد
أن أنحت لك تمثالا من القبلات.
هذا شعر يا أخي "يحيى"، وليس "نثراً"، فتسمية ما أبدعت "بنصوص نثرية" لن تغيّر شيئاً عند القارىء، فكل رعشة إعجاب يعيشها ستجعله يهتف: هذا شعر.
وأذكر مرة في إحدى الأمسيات التي شاركت بها مع السماوي، وأجبرت على الاستماع الى عشرات الشعراء الذين لم أفهم منهم شيئاً، الى أن اعتلى الكبير "يحيى" المنبر، فهتفت:
أسمع شعرك أتعلم
أسمع غيرك أتألّم
وهذا يحصل معي وأنا أقرأ أيضاً، فالنص الذي لا يغنيني سأبكي على إضاعة وقتي بقراءته، ونصوص السماوي أغنتني، وعلمتني، وثقفتني، أمد الله بعمره، وألف شكر له على هذا الاهداء الرائع:
"صديقي الشاعر الكبير شربل بعيني
أهديك بتلة نبضي هذه،
آملاً أن تكون جديرة ببستان رضاك يا صديقي الكبير
إبداعاً ومحبة كونية"
فهل يوجد كلام بعد كلام السماوي.. لا والله.
**
الأب ابراهيم شاهين سيّد القانون والكلمة
أهداني الأب ابراهيم شاهين أربع دراسات قيّمة بعنوان "انت والقانون"، الجزء الأول منها كان بعنوان "دراسة قانونية"، والثاني "دراسة قانونية في الزواج وانحلاله والدعاوى الزواجية لدى الطوائف الكاثوليكية"، والثالث "دراسة قانونية في أنظمة العائلة الاسلامية"، والرابع "بعض من أحكام واجتهادات المحكمة الروحية البدائية في أبرشية طرابلس الارثوذكسية"، وبهذا يكون قد جمع الأحكام من كافة الجهات، ليتربع على كرسي المعرفة، وليوزع العدل بميزان كتب هامة ستصبح مرجعاً لكل مجتهد، ونصراً لكل مضطهد مظلوم.
وبما أنني أبعد ما أكون عن القانون وأحكامه، رحت أغوص في بحور الصرف والنحو، والاسلوب الأدبي عند قدس الأب شاهين، فوجدته متمكناً بلغة سهلة ممتنعة تساعد على فهم المادة واستيعابها، وهنا تكمن المقدرة.
وقد خصني مشكوراً بإهداء سأعلقه وساماً على صدري يقول فيه: "الى الاخ الحبيب الاستاذ شربل بعيني تقديراً لعلمه وفكره ومحبته الأخوية الصادقة". كيف لا، وقد جاءني من باحث علاّمة، وأديب مثقل بالعطاء، ألم يصفه الدكتور ميخائيل مسعود بهذا الوصف الرائع: "قلب طفل، وعنفوان رجل، ومحبّة كاهن حقيقي".
فمن هو هذا القانوني الفذ باختصار شديد:
ـ ولد في 3 آذار 1952 في قرية الخرنوب التابعة لقضاء المنية ـ الضنية، ويسكن الآن بلدة شكا.
ـ متزوج من المربيّة منى سمعان مرعب وله منها ابنان وبنتان.
ـ سيم كاهناً في رعية شكا بتاريخ 24 آذار 1974.
ـ نال الاجازة في الحقوق عام 1979.
ـ نال شهادة الماجيستير في اللغة العربية وآدابها، بإشراف الدكتور ميخائيل مسعود، وقد حظيت دراسته "الأبعاد الاجتماعية والتغييرية في أدب المطران أبيفانيوس زائد" بتقدير "جيد جداً".
ـ عيّنه المتروبوليت الياس قربان في المحكمة الروحية عام 1979. وفي العام 1991 عينه غبطة البطريريك اغناطيوس الرابع هزيم مستشارا للمحكمة الروحية الاستئنافية البطريركية الارثوذكسية في لبنان.
ومن مراجعتي المتأنية لكتبه بإمكاني القول أن الأب ابراهيم شاهين هو سيّد القانون والكلمة.. يتوجّه كهنوتٌ مقدس، أضفى عليه هالة من الوقار والتواضع، يدهشك حين تلتقيه، لدرجة تودّ معها أن لا تفارقه.
شكراً يا أبتي الجليل على الهدية القيمة.. الى ان نلتقي مرة ثانية بإذن الله.
**
الإباحية عند روميو عويس
بعد مسيرة طويلة مع الغربة يُتحفنا الشاعرُ الصديق روميو عويس بإصدار كتابين رائعين، هما: كاس نبيد وعناقيد شعر، وصدقوني ان كلَّ قصيدة في هذين الكتابين تتشاوف على غيرها، لدرجة احترت معها من أين أبدأ، ولكي اكونَ منصفاً، سأبدأ من ديوان "كاس نبيد" لأن لقصائده الفضلَ الأولَ في إصدار ديواني الأخير "عبلى"، فلقد تساءلت وأنا أقرأ قصيدة "يا ريتني خياط":
ـ هل روميو أكبر مني سناً أم أصغر؟
فوجدته يسبِقُني بعدة سنوات. إذن، فالغزلُ الإباحي ليس حكراً على الشعراء الشباب، بل يَحُق لأي شاعرٍ أن يكتبَه، بغض النظر عن سنوات عمره، إذ أن الشعرَ صوتُ القلب، والقلبُ لا يشيخ. وإليكم ما كتب:
عليي اتركي فستانك الصيفي
بفصّلك الموديل ع كيفي
شوب الدني رح اعملو بلا كمام
مزلّط ع ضهرك اجمل الهندام
وفتحات ع جنبين نحت رخام
وأرشتو ع الصدر من قدّام
احلى اذا بتبيّن القونه
من بين هالـ ريتن يقبروني
خيّاط "نسونجي".. ولكنه شريف، عينُه فقط على زبونة واحدة، لا تأتيه إلا وقت الحشرة، لذلك نسمعه يصرخ:
يا ريتني خيّاط وتكوني
بآخر نهاري آخر زبونه
وصدق المثلُ القائل: العين بصيرة واليد قصيرة.. مسكين روميو، لا هو خياط ولا هي جولييت.
ومن قصيدة "كاس نبيد" أختار ما يلي، فقط لتُدركوا أن هذا الشاعرَ الختيار ما زال يعيشُ مراهَقَتَه:
وبين اللي بدّا وبين ما بتريد
ما عاندو عراوي بلوزتها
بوّس شفافا تقول: دخلك زيد
وشو شفاف؟ متل المسك طعمتها
وبين الضحك واللعب والتغريد
فوّرت ع النار ركوتها
مجنون مَن يعتقد أن روميو فوّرَ "ركوة القهوة" بالمفهوم الذي نعرفه، معاذ الله، فعبارة "فورت ع النار ركوتها" تنطوي على ايحاءات جنسية صارخة، قد لا يُسمح لي أن أفسرَها لكم الآن.
روميو عويس الشاعر، في كل ما كتب، يرفض أن يتخلى عن شبابه، عن نزواته، عن دقات قلبه، اليس هو القائل:
مين قال كبر العمر بيولد فتور
بالقلب.. وفصول الربيع بتنتهي
ورغم كثرة حبيباته، تبقى هناك حبيبةٌ واحدة، لا يمكن لأي أنثى أن تحتلَّ مكانَها في قلبه، إنها بلدَتُه "رشعين" الشامخة في شمال لبنان، والمشهورة بنبعها، لا بل نراه يستدرجُ حبيبتَه كي تُحِبَّها أكثرَ منه:
مشّي معي "رشعين" حلوه تفرّجي
من النبع دوقي طيبة مويّاتها
بالمي.. أوعِك تدعسي بتلّجي
وإمك.. بيطلع عَليي خواتها
لقد طلبتَ مني يا صديقي أن لا يزيدَ كلامي عن خمس دقائق، وها أنا أتقيّد بالوقت وإن كنتَ قد ظلمتني.. فشعرُك يدعوني للاسترسال وأنت تدعوني للإختزال.. وانا بين الاسترسال والاختزال ضائعٌ والله.
وشكراً.
**
قمر عيسى القنصل الأزرق
القمر الأزرق ما هو إلا رفيقة درب الشاعر عيسى القنصل المرحومة "ام عصام"، بكاها بعشرات القصائد، حتى أصبح يلقب"بخنساء الرجال"، لأن الدموع، رغم مرور السنوات، لم تزل تبلل وجنتيه، وأرق الرحيل يقض مضجعه. إنه وباختصار شديد يرفض أن يتخلى عن حبيبته الابدية، ناسياً بأن ما جمعه الله لا يفرقه إلا الموت.
من الاهداء، نشعر بلوعته وانينه، فلقد كتب:
"الرائع الشاعر شربل بعيني، لا زال قلبي يرتجف ألماً، ولا زلت أبكي، وبعد مرور ثلاثة اعوام عليها. هل أنا مجنون، أم عاشق الى درجة الجنون؟"
مجنون لا!؟ ولكنك يا صديقي عاشق حتى الجنون، وإلا لما كتبت:
تلاحقني ملامحها
فمن صحوي الى نومي
ففي نومي
تعانقني معالمها
وتأتي داخل الحلمِ
اراها بسمة دوماً
واغنية
ترافقني بلحن رائع النغمِ
ولم لم تكن عاشقاً مجنوناً لما اعترفت:
يا الهي ان قلبي
صار بيتاً للعزاءِ
صارت الأجفان نبعاً
لدموعي من بكائي.
فأنت يا أخي عيسى لم تعد تكتب قصائدك بالحبر بل بالدمع:
صار دمعي حبر شعري
فاتركوني لبكائي
ذكرياتي انتحابٌ
في صباحي ومسائي.
فكل من يقرأ قصيدة "أم عصام معي"، حتى يطالبك بزيارة طبيب نفسي، لأن ما تعلنه فيها قد لا يصدقه عقل:
أراها في ثنايا البيت سيدتي
فما غابت عن الأفكار والقلبِ
تناديني.. فأسمعها
أناديها.. فتسمعني
وأبكي حين أحضنها.
فرغم رحيلها الثالث، ما زلت تكلمها، وتحضنها، وكأنها لم تفارقك، وهذه أشياء قد لا يصدقها عقل، لولا مقولة: "يحق للشاعر ما لا يحق لغيره"، حتى في أشعاره الحزينة.
حين أستلم أحد كتبك أعرف للحال أن دموعي سنتهمر على خديّ، لذلك سأضع كتابك جانباً لأمسح دموعي، وأنا أتمتم: رحمك الله يا ام عصام، وألهمك الصبر يا صديقي.
**
حصاد السبعين من مواسم الرأي والحنين
قد أكون عاجزاً عن التعبير عن فرحتي يوم سلمني الصديق ايلي ناصيف هدية الاديب المهجري بول خيّاط "حصاد السبعين من مواسم الرأي والحنين"، فلقد كانت الهدية كناية عن موسوعة أدبية بحدود 450 صفحة من الحجم الكبير، جمع بها "الخياط" بعضاً من نتاجه الفكري، قلت "بعضاً" لأنني أعرف أن لبول خياط الكثير من المقالات التي لم تنشر بعد، كيف لا وقد أغنى الاعلام في الوطن والمهجر بإبداعاته الفكرية لأكثر من نصف قرن.
وبول جاء الى سيدني لتوقيع كتابه، ولكن حظي السيء حال دون تمكني من الحضور، فكنت الغائب الحزين، وكان الحاضر الكريم، الذي أبى إلا أن يتذكرني، غير عابىء بغيابي، فأرسل لي هديته الرائعة، ممهورة بهذا الاهداء الأروع:
يسرني ويشرفني أن أقدم كتابي هذا موقعاً الى مكتبة مؤسسة الغربة الاعلامية في سيدني، آملاً أن يكون الكتاب لقرائه مصدر مطالعة مفيدة وممتعة.
مع أجمل تمنياتي ومودتي واحترامي وتقديري.
ودمتم سالمين
بول خياط
بعد هذه المودة الغامرة بدأت، وما زلت ألوم نفسي على غيابي، فلقد أخبرت الشاعر الصديق عصام ملكي حين وصلني اعلان الندوة، أي قبل شهر من حدوثها، أنني سأكون خارج سيدني، وطلبت منه أن يعتذر عني، في حال عدم تمكني من الرجوع، من الآديب الصديق بول خياط. وأعتقد أنه نقل اعتذاري.
أتمنى من كل قلبي أن يوقّع "بول" حصاد الثمانين والتسعين والمئة" وأعده من الآن بأنني لن أتغيّب مهما كانت الظروف.
ألف شكر يا ابن زحلة البار، على هديتك الثمينة.
**
ردي على أسئلة الأستاذ حسن علوش
يقول المثل "ومن الشر ما نفع"، وهذا ما فعلته الحرب اللبنانية اللعينة حين شردت خيرة شباب الوطن، ورمت بالمبدعين والمبدعات في أتون غربة لا ترحم. صحيح أننا نعيش في استراليا بأمان وسلام، وننعم بالدولار الذي يركع له معظم حكامنا الجبناء، ولكن سلام الروح مفقود تماماً، فالحنين الى الوطن يكوي أفئدتنا كل إشراقة شمس.
تصور أن المواطن الاسترالي الأصلي لا ينتمي الى قرية أينما سكن، بل يقول أنا استرالي وكفى، بينما نحن فيوجد عندنا أكثر من ألف جمعية قروية، وتجد أن اللحمة بين أبناء القرية اللبنانية متينة جداً رغم الاغتراب لدرجة أنهم يتجمعون في منطقة واحدة أينما حلّوا، بينما هي غير موجودة بتاتاً بين الاستراليين، حيث الجيرة مفقودة، والتواصل الاجتماعي معدوم تماماً.
فمثلا، نقول نحن: الفيلسوف جبران خليل جبران من بشري، بينما يقول الأستراليون: الشاعر هنري لووسون من أستراليا، وليس من القرية التي ولد بها.
نحن في أستراليا ننعم بنخبة جيدة من شعراء وأدباء قرانا اللبنانية، واسمح لي بهذا التعبير لأن هذه هي الحقيقة، فإذا مات أحدنا وكان محظوظاً، يقام له تمثال في قريته، وليس في أي مكان آخر من لبنان، وهذا عيب.. أجل عيب.
أما عن أبرز الأعلام الأدبية هنا، فالجميع بارزون والحمد لله، وقد نشرت كتب في أستراليا أكثر مما نشر في كافة المغتربات على مر التاريخ، فتأسست من جراء ذلك أول مكتبة إغترابية في قنصلية لبنان العامة في سيدني، بأمر من الوزير جبران باسيل، وبطلب من الدكتورة بهية ابو حمد، رئيسة جمعية انماء الشعر، بناء على رسالة وجهتها أنا إليها وللوزير باسيل.
عددنا كبير جداً، ولذلك لن أسمي أحداً كي لا أقع بما وقع به العديد من قبلي، فالنسيان بدأ يتغلغل الى عقلي، وأخاف أن أنسى إسماً واحداً قد يعكر صفو أيامي.
ولكني سأتكلم عن المضمون الأدبي والتحولات التي طرأت على قضايانا الأدبية بعد أن يئسنا من العودة الى الوطن، وبدأنا بشراء قبورنا في مقابر أسترالية قريبة من سكن الأهل كي لا ننأى عن الوطن والأهل دفعة واحدة، وهذا مؤلم جداً.
بادىء ذي بدء، كنا نكتب عن القرية التي هجرناها، عن الحور والشربين والسنديان والنبع والساقية، ثم انتقلنا بسبب الأحداث الى التغني بالوطن، والمناداة بالعيش المشترك، ومحاربة الطائفية، والزعامات اللئيمة، والدعوة الى بناء الوطن الديمقراطي المدني الحر الذي يكفل حقوق مواطنيه بغض النظر عن الانتساب الطائفي، أو العشائري، وما شابه. لبنان وطن الجميع، كما هي أستراليا وطن الجميع.
وما أن انتهت الحرب حتى بتنا نتغنى بأستراليا، الأم التي أعطتنا ما عجز عنه لبنان وللأسف، ثم انتقلنا الى الحب، والتغني بالقدود المياسة، والعيون الكحيلة، والشفاه التي تقطر عسلاً. ولكن، وفي كل ما أنتجنا، كانت القضية الفلسطينة، والتشرذم العربي المخيف، والارهاب اللعين، محور كل لقاء أو أمسية.
سيرتي الأدبية مهما اختصرتها تبقى طويلة جداً جداً، فلقد نشرت أكثر من خمسين كتاباً، ترجم الكثير منها الى لغات مختلفة، وكتبت عني عشرات الكتب، كما ألفت وأخرجت أكثر من 14 مسرحية للأطفال المغتربين، بالإمكان مشاهدتها من خلال "اليوتوب". ناهيك عن الكتب المدرسية التي ألفتها بناء على طلب وزارة الثقافة والتعليم في ولاية نيو ساوث ويلز لتدرس في المدارس الأسترالية التي أدخلت اللغة العربية الى برامجها.
هذا كل شيء باختصار، وأشكرك يا أخي حسن علوش على اهتمامك بي وبأدبنا المهجري.
**
لعن الله من منحني شهادة الدكتورة الفخرية
هذا ما قاله يوسف الحنكليس عندما غادر منزل أحد أصدقائه في سيدني، فلقد أراد هذا الصديق أن يكرّمه بعد نيله أعلى شهادة في العالم، وأن يفاخر به أمام جيرانه العرب، فدعا أكثر من ثلاثين شخصاً الى حفل باربكيو على شرف الدكتور حنكليس، وما أن انتهى الجيران من التهام لحوم الغنم والدجاج، حتى التفتوا الى حضرة الدكتور وراحوا يوجهون له الاسئلة المحرجة:
ـ أهلا بك يا دكتور وألف مبروك الشهادة.. أنا اسمي فاضل أسكن في ثالث بيت من هنا، أحب أن أسألك شيئاً عن معركة اليرموك، متى حصلت ولماذا حصلت؟
ـ آسف، لم أسمع بهذه المعركة اطلاقاً؟
فصاحت سهام إبنة صاحب المنزل التي لم تبلغ بعد ربيعها الثالث عشر:
ـ معركة اليرموك، وقعت عام 15 هـ (636) بين المسلمين والروم (الإمبراطورية البيزنطية)، ويعتبرها بعض المؤرخين من أهم المعارك في تاريخ العالم لأنها كانت بداية أول موجة انتصارات للمسلمين خارج جزيرة العرب.
ـ أنا نجوى، ومن حقك يا دكتور أن لا تعرف شيئاً عن التاريخ، لأن الدكتورة التي حصلت عليها قد تكون أدبية، هل لك أن تعدد لنا الأسماء الخمسة في اللغة العربية؟
ـ لم اسمع بها ايضاً؟ هل هي حقاً باللغة العربية؟
فصاحت سهام مرة ثانية:
ـ أب، أخ، حم، فو، ذو..
ـ أنا سامي أقرب الجيران الى صديقك، يا حضرة الدكتور، إذا لم تعرف بالتاريخ واللغة فإذن أنت دكتور علوم. عدد لنا أسماء الكواكب في المجموعة الشمسية لو سمحت؟
ـ كواكب في المجموعة الشمسية؟ هذا عجيب حقاً! ولكني لم أسمع بها ايضاً.
فصاحت سهام مرة ثالثة:
ـ عطارد، الزهرة، الأرض، المريخ، المشتري، زحل، أورانوس، نبتون، وبلوتو.
وما أن لفظت إسم "بلوتو" حتى راحوا يصفقون لها، وينادونها بالدكتورة سهام.
هنا تدخل صديقه والد سهام بعد أن وجد أن العرق المتصبب من جبينه قد يسبب له الذبحة القلبية، فصاح بأعلى صوته:
ـ اتركوا الدكتور يا جماعة، بلا أسئلة بلا بلوط.. صديقي حصل على الدكتورة الفخرية بالموسيقى.
ومثل هزة أرضية صاح الجميع:
ـ فليطبل لنا إذن؟
ـ لا توجد طبلة..
ـ فليطبل لنا على تنكة الزيت.. المهم أن نسمع موسيقاه.
وفجأة، شذر حضرة الدكتور ابنة صديقه الطفلة الذكية بلؤم شديد وانسحب من حفل التكريم، وصوته يلعلع في الفضاء:
ـ لعن الله من منحني شهادة الدكتورة الفخرية.. إنه لص ابن لص.
وكان أول شيء فعله حين حط الرحال في منزله أن أنزل الشهادة من على الحائط ورح يدوس عليها الى أن حطمها شر تحطيم.
**
شربل المسلم
أخبرني أحدهم اليوم، بمناسبة عيد شفيعي القديس شربل، أن أحد أقربائه كان يصور حفلاً، فركض نحو الكاميرا طفل صغير، فإذا بسيدة مسلمة محجبة تركض خلفه وتصيح:
ـ إرجع يا شربل.. انتبه يا شربل..
فالتفت نحوها المصور وقال:
ـ فداه مليون كاميرا.. من يكون هذا الطفل؟
ـ إنه إبني..
ـ إبنك.. شربل..
فلم تجبه، بل نادت زوجها قائلة:
ـ يا محمود.. أخبر المصور قصتنا مع القديس شربل.
وراح محمود يشرح له:
ـ لقد خسرت زوجتي خمسة أطفال، كانت تحبل وتروّح، حتى دبّ اليأس في قلبي وقلبها، وذات يوم بينما كنت امر بالقرب من دير مار شربل في بانشبول، حتى أوقفت سيارتي ورحت اركض نحو الكنيسة واصيح:
ـ يا مار شربل.. لقد سمعت عنك وعن عجائبك الكثير الكثير، فهل لهذا العبد المسلم محمود أي شفاعة عندك.. لقد خسرت خمسة أطفال.. واريد شفاعتك كي أرزق بطفل وسأسميه شربل..
وبعد تسعة أشهر رزقني الله بطفل أسميته شربل. كان الاسم غريباً بين أفراد عائلتي، ولكنهم مع الوقت تعودوا عليه، وأصبح إبني شربل غنّوج العائلة.
أف ما أعظمك يا شفيعي، لقد كنت كريماً على الجميع دون تفرقة، فساعدني كي أرضي الله وأرضيك.
**
الانفلونزا القاتلة تصيب شهادات الدكتورة الفخرية
لست أدري كيف يسمح الدكاترة الحقيقيون بأن تمر مهزلة منح شهادات الدكتورة الفخرية من معاهد شتى دون أن ينبسوا ببنت شفة، أو أن يعلموا جامعاتهم بالمهزلة التي تحصل على مرأى منهم.
هناك عظيمان فقط، لن أذكر اسميهما كي لا أجرح كبرياءهما، أرجعا شهادة الدكتورة الفخرية التي منحت لهما لأنها غير صالحة للاستعمال، إذ ان مانحها لا يستوفي الشروط المطلوبة كي يمنح شهادة مدرسية ابتدائية فكم بالحري أعلى شهادة في العالم.
شهادة الدكتورة الفخرية هي أصعب شهادة تمنح لمستحقيها من جامعات معروفة، تقيم لها احتفالات كبرى أمام دكاترة الجامعات وطلابها والاعلام المرئي والمسموع والمكتوب. انها فخر لا يضاهيه فخر، ولذلك يهتم عمدة كل جامعة بها اشد اهتمام، ولا تمنح إلا نادراً، ونادراً جداً جداً.
اليوم بدأوا يشرشحون الشهادة، وبدأوا يوزعونها كما توزع المأكولات في مطاعم الفقراء، ببلاش، ولمن يرضى باستلامها، عله بذلك يرتفع شبراً عن زملائه.
إنها انفلونزا شهادة الدكتورة الفخرية القاتلة، التي تفتك بمانحها المتطفل، قبل أن تفتك بمستحقيها المساكين، إذ تحول المانح المتطفل الى القضاء، لأن هذا ممنوع قانونياً، والمستحق الى المهزلة.
ألا فاسمعوا وعوا.. هنا في أستراليا معاهد كثيرة، بإمكانها فقط أن تمنح شهادات استحقاق وتشجيع بالاضافة الى شهادات بالطبخ والنفخ إلى آخره، ولكن لن تتجاسر، رغم عظمتها، على منح شهادة دكتورة فخرية لأي كان، كما يحصل مع معاهدنا العربية الوهمية. الجامعات فقط، وليس كلها، لها الحق بمنح شهادة الدكتورة الفخرية.
فيا أعزائي، أنتم مبدعون حقاً، فلا حاجة لكم بشهادات ليست بشهادات، فما تركتم من نتاج ستكرمون عليه ما دام الكتاب خير جليس في الأنام، لذلك أطالبكم بأن تحذوا حذو العظيمين اللذين ذكرت سابقاً، وتعيدوا شهادات الدكتورة الى مانحيها مع كلمات جارحة كي لا يعيدوها مرة ثانية ويسيئوا الى غيركم كما أساؤوا اليكم بمنحكم ما ليس من حقهم.
هذا رأيي مع احترامي الشديد لكم.
**
أبو الهول.. سيهدم لا محالة
ترددت كثيراً قبل أن أكتب عن موضوع الفتوى المقلقة التي أطلقها شيخ مصري يدعى مرجان الجوهري، وأمر بها بهدم الأهرامات وأبي الهول لأنها أصنام تتعارض وتعاليم الدين الاسلامي على حد تعبيره.
ترددت، لا لعدم قدرتي على الخوض بمواضيع كهذه، بل خوفاً من مهاجمتي مرة ثالثة بالبيض، واتهامي بالكفر.
ولكنني ما أن استمعت الى اللقاء التلفزيوني الذي أجراه الدكتور سام نان مع الدكتورين أنسي مطر والشيخ مصطفى راشد حتى قلت: ضع رأسك بين الرؤوس ولا تخف.
كثيرون هم الذين سخروا من تلك الفتوى، وراحوا يقيّمون الأمور بتفاؤل مريح ولسان حالهم يردد أن لا أحد يقدر على هدم الأهرامات أو مس ظفر أبي الهول وهناك مصري واحد على قيد الحياة.
ولكن من ينظر الى الأمور بمنظار مختلف سيرى أن تمثال أبي الهول ليس أقوى من تمثال بوذا الذي شارك بهدمه الشيخ مرجان الجوهري نفسه في أفغانستان على حد قول أحد المسؤولين الأمنيين في مصر.. كما أن أتباعه ليسوا أكثر من أتباع بوذا.. ومع ذلك تمكنت إحدى الفتاوى من محو أثر ذلك التمثال النادر الرائع، الذي كان يدر مئات الملايين من الدولارات على أفغانستان جراء تراكض البوذيين من كل حدب وصوب لزيارته والتبرك منه.
صحيح أن أبا الهول ليس تمثالاً دينياً، ولا يأتي أحد، حتى جيرانه، للتبرك منه، ولكنه، بنظر المتأسلمين، صنم يجب تحطيمه بأي ثمن، كي يتمكنوا لاحقاً من تحطيم كافة الأصنام الموجودة على الأرض المصرية.
ولأن صاحب الفتوى يعلم جيداً أن أبا الهول هو "أبو المصريين" جميعاً، ومصدر رزقهم، وأنه يدخل، عن طريق السياحة، الى جيوبهم ملايين الدولارات سنوياً، بغية إعالة أطفالهم، راح يشتم جميع العاملين بالسياحة، في برنامج "العاشرة مساء"، ويصفهم بأهل الفسق والدعارة، لأنهم يحرّضون الناس على ارتكاب ما يغضب الله". لا لشيء، سوى لإبعاد السيّاح عنه، وتخويفهم منه، كونه مهدّداً، فيضرب عصفورين بحجر واحد: لا سياحة ولا مردود سياحي فالفتوى إذاً صائبة.
وبهذا يكون قد بكّل فتواه من كافة جوانبها، تماماً كما بكّلوا فتوى هدم تمثال بوذا قبل تفجيره وسط هتافاتهم وتكبيراتهم وما شابه.
لقد بكى المسلمون المتنوّرون على تمثال بوذا أكثر مما بكى عليه البوذيون، وراحوا يندبونه بالقصائد والمقالات، ولكن البكاء على الاطلال لا يعيد بناء التمثال، وإن تنادوا اليوم لإعادة بنائه، ولكن أنى للتقليدي أن يبزّ الأصلي مقاماً وقيمة.
من ينظر بعين العقل الى تسارع الأحداث في مصر، واستفحال المدّ السلفي، الذي سينفّذ فتوى الجوهري، سيدرك تماماً أن أيام أبي الهول قليلة على هذه الأرض، وأنه سيلحق بأخيه "بوذا" الأفغاني لا محالة، والكون سيغض النظر عن الجريمة كما فعل يوم تفجير تمثال "بوذا" ويكتفي بالاستنكار فقط.
عام 21 هجرية افتتح الصحابي الجليل عمرو بن العاص مصر، وحكمها بعده آلاف الأمراء والسلاطين، كصلاح الدين الأيوبي وغيره، فلا ابن العاص ولا كافة الامراء، ولا حتى الخليفة عمر بن الخطاب الذي تم بعهده فتح مصر، خاصموا أبا الهول، أو تذمّروا منه، أو أمروا، لا سمح الله، بهدمه. لا بل اعتنوا به، كي يبقى أباً للمصريين، كما يجب أن يبقى.
ولكن أصحاب "الفتاوى" المخيفة لا يقرأون التاريخ، ولا يتبعون السلف الصالح، ولا يهمهم الجمال، لذلك أنا خائف، ومن حقي أن أصرخ: عجائب الدنيا في خطر.. أبو الهول في خطر.. وأهرامات الجيزة في خطر. فتحرّكوا.
**
أخذ الخاطر.. أخطر ما يكون
نحن، وللأسف، مهما تغرّبنا، نظل أبناء العادات والتقاليد، نسير عليها كالبلهاء، ننفذها بحذافيرها كالببغاء، نحترمها كما نحترم القديسين والأنبياء. والويل ثم الويل لمن يزيح عنها، أو يتلاعب بها، فمصيره الجحيم الأرضي لا محالة.. إذ ينقلب الكل ضده، لا لشيء سوى لأنه انقلب على عادات وتقاليد أجداده.
وقد لا أضيف شيئاً الى معلوماتكم إن أخبرتكم أن لكل شعب عاداته وتقاليده، فعادات الشعب اللبناني تختلف تماماً عن عادات الشعب الأسترالي، الذي أصبحنا والحمد لله منه. وهكذا الحال مع كافة شعوب الأرض.
مثلاً: إذا مات شخص لبناني، لبسنا الأسود كالغربان، ولطمنا الخدود، وعفّرنا الجبين، وامتنعنا عن ملذات الدنيا. بينما إذا مات شخص أسترالي لبسوا الأحمر والأصفر والأخضر كالطاوويس، ودعوا الجميع الى تناول الكحول على شرف الفقيد الغالي.
ثم، وهذا الأهم، لا يقفون كرأس الشقعة، ولا يدفشّون بعضهم بعضاً بغية "الأخذ بالخاطر"، بل يخرجون من الكنيسة ويتحادثون ثم يذهب كل واحد الى بيته.
قديماً، كان "الأخذ بالخاطر" عندنا من أخطر ما يكون، الداخل إليه مفقود والخارج منه مولود، إذ يقف المئات، كي لا أقول الآلاف، من أجل أن يسلّموا ويحضنوا ويبوّسوا ويولولوا ويظهروا محبتهم العمياء، ضاربين عرض الحائط بأعصاب أهل الفقيد المساكين، ناهيكم عن أعصاب المئات من المعزين الواقفين وراءهم ونيران الغضب تتأجج في أبدانهم.
أما اليوم، فقد عملت بعض الكنائس على تلافي مثل هذه العادات السيئة، إذ نصبت حاجزاً بين أهل الفقيد والمعزين، وما عليكم سوى السير بسرعة وانتم تضعون اليد على صدوركم، وتهمسون بعبارة، طالما همستموها في العزاء: ألله يرحمه.
ورغم التخلّص من التبويس والشمّ والضمّ والنحيب والولولة، بقيت خطة الكنائس، أي وضع الحاجز، ناقصة، لا تفي بالغرض المطلوب، أي أنها لم تخفّف من تزاحم المعزين بغية القيام بالواجب، والذهاب كل في حال سبيله.
وصدّقوني ان الارهاق الشديد لا يقع على المعزين فقط بقدر ما يقع على أهل الميت، كونهم يقفون لساعات، بل لأيام، أمام حشد هائل من المحبين، فتخيّلوا مدى التعب الذي يجتاحهم.
ما العمل إذن؟
هناك حلاّن، لا ثالث لهما، الأول أن يطلب الكاهن من كل من عزّى في البيت أن لا يعزّي أمام الكنيسة، وهكذا نحذف من الحشد نصفه.
والثاني، أن نضع سجلاً أمام باب الكنيسة، يوقّع عليه كل من حضر الجنازة، نسلّمه فيما بعد الى أهل الفقيد، وهكذا نحذف الحشد كاملاً، لا ربعه ولا نصفه.
تقولون: قد يوقّع أي كان اسمه وأسماء باقي عشيرته دون أن يحضر منهم أحد، وهنا يبدأ التزوير، ويضيع الحابل بالنابل.
ولتلافي مثل هذا العمل السيىء السخيف، نطلب من أحد أقرباء الفقيد الاشراف على سجل التعازي ومراقبة الموقعين، وهكذا نتخلّى عن عادة التزوير السيئة التي اعتدنا عليها في لبنان وباقي الأوطان العربية.
أما إذا طرحنا هذين الحليّن للتصويت بغية اختيار الافضل، فأنا واثق من أنكم ستصوّتون للحلّ الأول، كونه يتماشى أكثر مع العادات والتقاليد.
رحم الله جميع الموتى ليرحم أهلهم وجميع المعزين بهم أيضاً.
**
البابا فرنسيس الأول صفعني بشدّة
عندما كتبت ونشرت ديوان "ألله.. ونقطة زيت" لم أكن أدري أن أحد أكبر رجالات الدين المسيحي: البابا فرنسيس الأول، سيصفعني بشدّة ويقول لي بنبرة حادة: ما كتبته عن رجال الدين لا يشمل الجميع، دائماً هناك استثناء.
صحيح أن قصائد الديوان كانت بالعامية اللبنانية، ولكنه ترجم الى الانكليزية ونشر ورقياً وإلكترونياً، وفي إحدى قصائده أقول:
تاج المسيح الـ كان من بلاّن
تا الدمّ غطّى الرّاس
حرقوه.. قالوا: كهنة الأديان
بيلبقلها الإلماس
ولأن بعض القراء لا يفهمون العامية اللبنانية، أحب أن أوضّح لهم أن تاج السيد المسيح كان من الشوك الذي أسال دمه على الجبين الطاهر، وخوفاً من أن يمتثل به رجال الدين المسيحي، ويتألمون كما تألّم، أحرقوا الاكليل المؤلم واستبدلوه بتاج مطعّم بالإلماس والجواهر.
صحيح أن المثلث الرحمات المطران عبده خليفة قال في مقدّمة الديوان أن شربل بعيني "لا يهاب ملامة، ولا يخاف من بشر. مسؤوليته كبيرة، يشرّفها بأن يقول ما عليه أن يقوله: يؤنّب، يوبّخ كالنبي"، ولكن، رغم التوبيخات المتكررة، نجد أن التيجان الذهبية الدينية تكاثرت بدلاً من أن تضمحّل، وعنجهية رجال الدين التافهين بدأت تقلق أنفس المؤمنين، وتدفعهم إلى الإلحاد المدمّر.
كثيراً ما تساءلت: لماذا ينخرط المرء في سلك الكهنوت إذا لم يقتدِ بسيّد المجد، يحمل صليبه بعزم وإدراك وتواضع ومحبة.. وإلا فليذهب إلى بيته غير مأسوف عليه.
البابا فرنسيس الأول أحدث هزّة لا بل زلزالاً في الفاتيكان وفي العالم المسيحي أجمع، فلقد استبدل الصليب المطعّم بالجواهر بصليب معدنيّ ليس له ثمن من الناحية التجارية، ولكنه أغلى وأجمل وأقدس صليب شاهده المسيحيّون بعد صليب السيّد.
هنا، وهناك، وفي كل مكان لا يجلس رجال الدين إلا على الكراسي الأمامية وطاولات الشرف طلباً للأبّهة ليس إلاّ، أما قداسته فلقد رفض الجلوس على الكرسي الذهبي النفيس المخصص له، واستبدله بكرسي خشبي بإمكان أي فقير في العالم أن يقتنيه ويجلس عليه.
وقد تتعجّبون إذا قلت ان الحبر الأعظم رفض ارتداء الحذاء الأحمر الذي لبسه قبله عشرات الباباوات، واستبدله بحذاء أسود يشبه أحذية الكهنة العاديين وباقي الناس.
أما الخاتم الذهبي فلقد ألقاه جانباً، ليكتفي بخاتم فضي يرفض الغني أن يتزيّن به في هذه الأيام التعيسة.
ورغم معرفته التامة بأن جدودي الفينيقيين هم أول من اكتشف الأرجوان، وسخّروه فقط لزينة الملوك والأمراء والباباوات والكرادلة، نجد أن السجاد الأحمر لم يعد له وجود تحت أقدام قداسته، إذ استبدله بالخشب العاري من أي دجلٍ وعظمة.
كثيرة هي التغيرات المحببة لنا كمؤمنين، والموحشة لهم كرجال دين، التي قام بها بابا الفاتيكان، وجعلتنا نهتف له: هللويا.. هللويا. وجعلتهم يرتعدون غيظاً وحقداً، إذ كيف بإمكانهم أن يقابلوا رأس الكنيسة الناصع البياض، وهم، كالطواويس، مدجّجون بكل الزينات الدنيوية الزائلة التي رماها جانباً، واشاح بوجهه عنها.
مجنون من يعتقد أن الشر لا يوجد إلا في الخمارات وبيوت المتعة والأزقة المعتمة وقلوب المجرمين.. الشر الأكبر والأشرس موجود أيضاً في أماكن العبادة، وفي قلوب رجال الدين.. فصلّوا معي إذن كي يحمي الفادي من فدانا بتواضعه الجمّ: قداسة البابا فرنسيس الأول. وأتمنى من كل قلبي أن تتوحّد الكنيسة على أيامه، وأن أتلقّى صفعة ثانية من رجل دين آخر، لأصرخ بأعلى صوتي: مبارك أنت يا ربّ.
**
حاربوا طاولات الشرف
بعد أن حاربنا طاولات الشرف وقلنا ان: من يجلس على طاولة الشرف بلا شرف.. وبعد أن نظمنا القصائد بأولئك المرضى الذين يتقدمون الآخرين بسبب أموالهم التافهة.. ومراكزهم الأتفه.. وعقولهم الفارغة وقلنا:
بدّك الكرسي تكون من قدّام
تا تعرّم وينقال عنّك بيْك
أكبر شرف بتنال لو بتنام
تا نقعّد الكرسي شي مرّه عليك
وبعد أن جعلنا أطفال الجالية يبولون (أي يشخّون) على طاولة الشرف في مسرحية (يا عيب الشوم) أمام أعين المئات من المشاهدين.
وبعد أن استغنت الجالية، والحمد لله، لفترة طويلة عن طاولات الشرف وما شابه، نراها الآن قد عادت بزخم مفزع وجب على كل الشرفاء التصدي له وللمرضى المعتوهين الذين يقفون وراءه.
إذا كان السيّد المسيح، حسب اعتقادي المسيحي، قد نزل من السماء ليصبح بشراً مثلنا، فما رأيكم بهؤلاء المساطيل الذين يريدون أن يتركوا (بشريتنا) ليتحوّلوا الى آلهة تتشاوف علينا.. مصيبة والله!
وها هو الصديق الاستاذ سركيس كرم يزوّدنا بتعليق صارخ ننشره له ليتعظ الآخرون:
"معقول! صاحب الدعوة وعدد قليل من الضيوف يجلسون على "طاولة" .. وبقية الضيوف يقفون! او ليست العادات المتبعة والمعروفة في العالم أجمع تقضي بأن يجلس الجميع او ان يقف الجميع!"
بلى يا سركيس بلى، إلا في أستراليا، لأن المتشاوفين المنفوخين المهزوزين التائهين الضائعين أكثر من الهم على القلب. ولذلك قررنا في مؤسسة الغربة أن لا ننشر أي خبر يصلنا، عن أي احتفال، حتى ولو أرادوا أن يدفعوا ثمن نشر الخبر، إذا عرفنا، من بعيد أو قريب، أن هناك طاولة شرف في ذلك الاحتفال.
عليكم أن تفهموا، وان كنتم لا تفهمون، أن لا أحد أكبر من أحد على وجه الأرض، وخاصة في هذه الجالية، فكلنا وقفنا على أبواب السفارات، وكلنا عملنا من أجل لقمة عيشنا، وكلنا تعبنا في غربتنا من أجل أن نرفع أسماء البلدان التي تركناها مرغمين.
حلّوا عن ظهرنا.. اتركوا جاليتنا وشأنها.. لقد تعبت منكم ومن اعاقاتكم العقلية والبدنية..... وتفوه عليكم.
**
حرب طائفية في أستراليا
التقيته، بعد غياب طويل، رأيته مهموماً، فسألته:
ـ ما بك يا صديقي؟ أراك شارداً وكأنّك في عالم آخر؟
ـ أريد أن أهرب من المنطقة التي أسكنها، لم أعد أطيق سماع تهديداتهم المتواصلة بحرق منزلي.
ـ ومن سيحرق منزلك؟
ـ هم..
ـ ومن هم؟
ـ المسلمون..
ـ ولكنك مسلم أيضاً..
ـ أجل أنا مسلم يا صديقي.. ولكنني من طائفة مختلفة.
ـ ماذا تقول؟.. أنسيت أنك تعيش في أستراليا؟
ـ حتّى أستراليا لم تعد آمنة.. ألم ترَ التقارير الاعلامية التي تبثها القنوات الاسترالية؟ ألم ترَ الحرب الشيعية السنيّة بين أبناء الدين الواحد؟ أنا جدّ خائف على أطفالي..
هذا الحوار حقيقي والله.. ولكنني حجبت اسم الصديق والطائفة التي ينتمي اليها، كي أكون عادلاً وحراً ومنطقياً فيما سأكتب، وما عليكم سوى المساعدة على اطفاء نيران جهنمية ستحرق الاخضر واليابس في غربتنا، بعد أن كانت السبب في هجرتنا جميعاً الى هذه البلاد المضيافة الرائعة.
خلال الحرب اللبنانية اللعينة، وصلت درجة الكراهية بين المسيحيين والمسلمين في لبنان الى درجة القتل على الهوية، ومع ذلك لم يضرب كفّ واحد بين مسلم ومسيحي في أستراليا.. بل على العكس تكاتف المغتربون اللبنانيون، مسلمون ومسيحيون، في العالم أجمع من أجل انقاذ لبنان، وهكذا كان.
وكنت يومذاك أملك شركة تجارية لبيع الكاسيتات الغنائية العربية، وكنت أتعامل، من أجل الترويج لها، مع محلات تجارية يملك معظمها مسلمون لبنانيون شرفاء.
وذات يوم دخل على خط التسجيلات تاجر مسلم، فراح يبث سموم طائفيته في آذان أصحاب هذه المحلات، دون أن يلتفت إليه أحد، بل كانوا يصدونه ويؤنبونه، وفي أوقات كثيرة يطردونه من محلاتهم.
وإن أنسى لا أنسى يوم دخلت محل أخي "محمد الحوراني" في منطقة أرنكليف، وكان التاجر المذكور في محله، فسمعت ما دار بينهما من حديث دون أن يعلما بوجودي.
قال التاجر:
ـ يجب أن نساعد بعضنا البعض في الغربة، أنا مسلم مثلك يا محمد، وشربل بعيني مسيحي، والمسيحيون في لبنان يقتلوننا دون شفقة.. بع اشرطتي أنا وتخلَّ عن أشرطته.
فأجابه محمد، ونعم الاسم:
ـ شربل بعيني رجل آدمي، شريف، أبعد ما يكون عن الطائفية، كل كلمة يكتبها في الصحف تزرع الأمل في قلبي بأن لبنان سيعود كما كان أرض المحبة والوفاق.. إسمع ما يقول في جريدة اليوم:
أؤمن بألله وعيب أكّد هالإيمان
أؤمن بعيسى وبالرسول كمان
أؤمن يإنجيلي وبالقرآن
أؤمن بوحدة شعب
عاش برضى وبحب
ع أرض لبنان
ـ ولكنه مسيحي..
ـ وما دخلك أنت بدينه.. ألم تسمع ما قال في شعره؟
ـ لقد حذرتك منه.. وأنت حرّ..
وهنا طار عقل صديقي الدائم محمد، وراح يصرخ:
ـ أخرج من محلي الآن، وإلاّ سأطلب الشرطة..
وعندما خرجت الفتنة من محله، اقتربت منه، وسط تعجبّه الشديد من وجودي دون الانتباه لي، وطبعت على جبينه قبلة، ورحنا نضحك معاً.
فإلى إخواني أبناء الطائفتين الشيعية والسنية أقول: من حقّكم أن تحبذوا أبناء طائفتكم، ومن حقّكم أن تدعموهم انسانياً في الدول التي يتقاتلون فيها، ولكن ليس من حقّكم أن تجلبوا حروبهم الى بلاد هربتم إليها، ليس من أجل المال، بل من أجل الأمان، الذي افتقدتموه وافتقدناه نحن قبلكم.
قلت وأركّز على دعمكم "الإنساني" فقط، لأن أي دعم آخر، سيكون السبب في خسارة الأهل والوطن.
تكاتفوا، كما تكاتف اللبنانيون المغتربون خلال حربهم الوسخة، علكم تعيدون لحمة التعايش بين أبناء أوطانكم.
حربكم هنا، ستضركم أنتم، دون أن تفيد المتحاربين هناك.. فشغّلوا عقولكم، وارفعوا بيارق انسانيتكم.. وتذكروا دائماً أن الغريب أخو الغريب.. والغربة بحد ذاتها موت، فلماذا تموتون مرتين؟.
**
زعماء ملاعب الفوتبول
عام 1971 أجبرت على ترك وطني الحبيب لبنان بسبب سياساته الضيقة، وطائفيته العمياء، وسياسييه اللصوص، وشعبه المغلوب على أمره.
وعام 2013، أجد أن الالآف من أبناء شعبي بدأوا يحزمون أمتعتهم بغية الالتحاق بنا في بلدان أعطتنا الديمقراطية والانفتاح والفرح، وأعطيناها التزمّت الديني والتقوقع والرعب.
قلت: سياساته الضيقة، لأنها لا تعمل من أجل مصلحة الوطن، بل من أجل مصلحة مناطق طائفية صغيرة يسيطر على كل واحدة منها ديكتاتور قد لا تزيد شعبيته على عدد مشجعي فريق كرة قدم ناشىء، إذن هو أقرب ما يكون الى زعيم "ملعب فوتبول" ليس إلاّ.
أما عن طائفيته العمياء فحدّث ولا حرج، وخير دليل على ذلك تلك المعارك المؤسفة والمشبوهة الدائرة بين شارعين في مدينة طرابلس، واحد يسكنه العلويون والثاني يسكنه السنيّون، وسكان هذين الشارعين متصاهرين، أي أنهما أقرباء وجيران وأحبة، ومع ذلك نراهم يتعاركون باسم المذهبية التي شلّت لبنان الكبير منذ أصبح صغيراً، وفئوياً، وطائفياً.. إرضاء لعينيّ الزعيم، وتنفيذاً لأجندة خارجية.
ومن لم يقتنع حتى الآن أن زعماءنا لصوص من الدرجة الأولى، أقتنع البارحة عندما مدّد نوّابنا لأنفسهم مدة زمنية تكفي لشنّ وإنهاء حرب عالمية ثالثة، وحجتهم في ذلك أن الأوضاع متردية في البلاد وليس بالامكان اجراء انتخابات نيابية. والرضيع بات يدرك أن هؤلاء اللصوص هم من يؤجج الأحداث وفقاً لمصالحهم الشخصية، وقد فعلوها البارحة، دون أن يرفّ لهم جفن، أو أن يردعهم ضمير.
والمضحك المبكي في الأمر أنهم، وإمعاناً في الضحك على ذقوننا، اتخذوا قراراً بعدم قبض أجورهم طوال مدة التمديد، وهم من قبض الثمن مسبقاً، كونهم وفّروا على جيوبهم ملايين الدولارات التي قد يصرفونها على حملاتهم الانتخابية لو جرت الانتخابات في حينها، كيف لا، وهم على معرفة أكيدة من أن المنتخب الحر سيصفعهم بقوة ويرسلهم مهزومين الى قصورهم النتنة.
والأنكى من كل هذا انهم لم يتفقوا على شيء طوال مدة تربعهم على كرسي النيابة، لا على القانون الانتخابي، ولا على تأليف الحكومة، ولا على المشاريع العمرانية، ولا على تزفيت الطرقات، ولا على إنارة المساكن بالكهرباء، ولا على مدّها بمياه الشفة.. اتفقوا، وبالاجماع، على تمديد ولايتهم فقط.. وصاحوا بصوت واحد، كعلي بابا والأربعين حرامي: افتح يا سمسم.
أمام كل هذا الدجل الوطني، ماذا فعل الشعب اللبناني: لا شيء، يقولون أن العشرات منه رشقوا سيارات النواب بالبندورة احتجاجاً على فعلهم الدنيء، ولكن الالآف غيرهم زاروهم في قصورهم بغية تهنئتهم بالخطوة المباركة. فهل رأيتم شعباً بريئاً، كي لا أقول "حماراً" كما قلتها في ديواني "مجانين" عام 1976، كشعبي اللبناني.. لا والله.
هؤلاء النواب، وأقولها دون تردد، لم يسرقوا أموالكم فحسب، بل سرقوا إرادتكم وكرامتكم وأصواتكم الانتخابية كمواطنين أحرار، ورموكم في أتون الضياع، وصاحوا في وجوهكم مهددين: اما نحن واما الموت.. واما الهجرة، وهذا ما حدث للملايين من أبناء شعبي وانا واحد منهم.
مصيبة لبنان الأولى هي نحن، منّا تأتي ومنّا تذهب، تأتي إذا لم لم نستعمل حقّنا كمواطنين شرفاء في محاسبة المسؤولين ومحاكمتهم وزجهم في السجون كما يحدث في معظم دول العالم. وتذهب إذا استعملنا هذا الحق المقدّس بدرجته القسوى بغية إرهاب سياسيينا وردعهم عن غيّهم.
كثيراً ما نهمس في آذان بعضنا البعض: زعماؤنا لصوص، ولكن نادراً ما نفعل شيئاً من أجل فضحهم، لا بل نصفّق لهم إثر كل صفقة غشّ يجرونها، وندعو لهم بطول العمر والحكم الممدّد. وقد انتقل مرض الهوبرة للزعماء الذين هجّرونا إلى بلاد الاغتراب، فهل من مصيبة أكبر من هذه.
سنة ونصف من تمديد ديناصورات الوطن لأنفسهم، سنعاني خلالها الأمرين، كما عانينا طوال مدة حكمهم، ومن يدري فقد تصبح أربع سنوات، وعشر سنوات، إذ من يكفل أن الأحداث الدامية ستتوقف بعد 18 شهراً، ومن يكفل أن مؤججي المعارك المذهبية بغية التمديد لن يؤججوها لاحقاً طالما أن مصلحتهم تأتي، دائماً وأبداً، قبل مصلحة الوطن والمواطن.
يا شعبي الحبيب.. عدوّك ليس جارك، عدوّك هو من زوّدك بالسلاح، ودفعك إلى محاربة جار عايشته سنوات طويلة، فبدلاً من أن تقتله احضنه بمحبة والتفتا معاً إلى محاربة أعدائكم الأشرس: زعماء ملاعب الفوتبول.
**
شكراً أيّها المسلمون الأبطال
لم يحدث من قبل أن عايدني هذا الكم الهائل من إخواني المسلمين الشرفاء المنتشرين في كل بقاع الأرض.
وقد أكون عاجزاً عن رسم صورة مصغرة لفرحي، رغم امتلاكي لملايين الكلمات، كون الفرح الذي انتابني من جرّاء ذلك أكبر من كل الكلمات.
عبارة واحدة زرعوها في أذنيّ، في بريدي الالكتروني، وفي بطاقات المعايدة: "عيد ميلاد مجيد وسنة مباركة"، جعلتني أشعر أن الأخوة الانسانية أهم من كل الأديان والطوائف والمذاهب وما شابه.
وأعتقد أن سبب هذه الانفاضة المباركة من قبل إخواني المسلمين المؤمنين أن الاسلام ما جاء الا رحمة للعالمين، هو كثرة الفتاوى اللئيمة التي ردّدها بعض مشايخهم بغية منعهم من مشاركة المسيحيين أعيادهم.. فرفضوا تلك الفتاوى الجائرة وذيّلوا معايداتهم بعبارات نابية مثل: لعنة الله على هكذا مشايخ.
أجل.. معظم الذين عايدوني شتموا مشايخهم بعبارات بذيئة ذكرت واحدة منها فقط كي لا أخدج حياء قرائي.
ومن المعايدات التي استوقفتني وأثلجت صدري تلك التي كتبها مغترب أسترالي مسلم، وفيها يقول: "ضحكت وأنا أقرأ ما كتبته الصحف الأسترالية حول الفتوى التي تشدّق بها إمام أحد جوامع سيدني، وكأنه تناسى وقوفه لساعات طويلة أيام عيديْ الفطر والأضحى بغية التقاط الصور التذكارية مع الوزراء الاستراليين الكفّار الذين دعاهم من أجل مشاركتنا فرحة أعيادنا.
أعتقد أن بعض مشايخنا قد ضربهم جنون البقر.. ويجب إبعادهم عن مجتمعاتنا الاغترابية الآمنة كي لا ينقلوا العدوى ويسمّموا عقول الناس".
وفرحت أكثر وأنا أقرأ ما جادت به قريحة أحد الدكاترة المسلمين: لو كان لشيخنا هذا مثقال ذرة من العقل لتساءل: ماذا سيحدث لو قاطعنا المسيحيّون في بلاد مسيحية فتحت لنا ذراعيها وضمتنا كالأم الحنون. عندئذ تقع الكارثة.
وفرحت أكثر وأكثر وأنا أقرأ هذا الكلام المقدّس الصادر عن إنسان مقدّس: أنت أخي، أيها المسيحي، الذي لم تلده أمي وسأظل أعايدك يا شربل بعيني وتعايدني حتى يوم القيامة.. عندها سنرى من سيدخل الجنة.. انا وأنت الرجلان المسالمان المتحابان، أم رجال الدين الاشرار الذين يبذرون البغضاء والكره الطائفي إثر كل شهيق وزفير؟
زمن الوصاية على الله والتكلّم باسمه قد ولّى، فلا الفتاوى الكثيرة التي تتطاير من أشداق أصحابها قادرة على سلخ الانسان عن مجتمعه الفاضل، ولا كل الحروب الطائفية. لقد تغيّرت عقول البشر كلياً في زمن الوصول الى المريخ، وتخبئة الكون في جيوبهم ضمن هاتف ذكي نقّال، وهذا ما افقد رجال ديننا الأشرار سطوتهم والتحكّم برقاب المؤمنين. وقد لا أبالغ إذا قلت انهم أشد خطراً على البشرية من رجال السياسة، بما فيهم هتلر وهولاكو.
كنت كلما قرأت إحدى الفتاوى المذنبة الدنيئة الكاذبة، أشعر بخوف شديد من أن يتضاءل عدد أحبائي المسلمين، الذين هم أكثر من إخوة لي أو رفاق، أو جيران، إنهم وبكل ما في الكلمة من معنى "أهلي"، أجل أهلي.. ولهذا سأعلن الحرب على كل من سيقف حجر عثرة بيني وبين أهلي.
أيها المسلمون الأبطال..
يا أحفاد النبي العربي العظيم..
ألف شكر على المعايدة..
**
عظة كاهن عجوز لم يولد بعد
لأول مرّة في حياتي أبكي وأنا أستمع الى عظة كاهن عجوز. ينتمي الى طائفة غير طائفتي، ويصلي في كنيسة غير كنيستي، فشكرت الله تعالى الذي قادني الى هناك لأستمع اليه.
ماذا قال أبونا؟ تعالوا نقرأ:
ـ يا أبنائي، إيّاكم أن تتركوا كنيسة الربّ بسبب تصرفات كاهن أناني أرعن، أو بسبب فظاظة أو غلاظة راهبة لم تخطب السيد المسيح بل خطبت الخطيئة، كي لا أقول الأفعى.
نحن بشر مثلكم أيها الأحبة، ولكننا نخطىء أكثر منكم. أجل، إن الشيطان يجرّبنا أكثر منكم، لأنه يكرهنا أكثر منكم.. كوننا القدوة لكم، ولا همّ عنده إلا أن يحطّم قدوتكم.
هل نجح في تحطيمنا؟ أجل يا أحبائي.. فلقد بتنا نعبد المال، ونضرب عرض الحائط بكلام السيد: لا تعبدوا ربّين ألله والمال.
أتصدقون أن بعض الكهنة يسرقون المال من الصواني التي تجمع في الكنائس، ناهيكم عن السرقات التي يرتكبها جامعو الصواني. أجل، إنهم يسرقون أموالكم التي تحسنون بها على كنيستكم؟
أتصدقون أيضاً انني استلمت رسالة من صديق يطلب مني أن أتواسط له مع راهبة طردت ابنة أخيه من المدرسة في لبنان، لأنها لم تتمكن من دفع كامل قسطها المدرسي، وأخبرني أنه اتصل بالراهبة هاتفياً وأعطاها رقم "الفيزا كارد" كي تسحب منه ما تبقّى من القسط، ولكنها رفضت أن تستلم المال إلاّ نقداً؟ وقد جننت، يا إخوتي، حين علمت أن اسم المدرسة يحمل في نهايته صفة "خيرية"، أي أنها مدرسة خيرية، ومع ذلك يطردون الطالبات من أجل مبلغ زهيد، رفضوا أن يقبضوه إلا نقداً.
سأخبركم عن كاهن جشع، كان يضع السكر في قنينات الحليب كي يرتفع معدّل السكر في جسم زميله المريض، ويذهب الى البيت، كي يقبض لوحده ما تجود به أكف المؤمنين من حسنات قداديس أو جنانيز أو عمادات أو ما شابه.
أجل، يا أبنائي، نحن أشرار، ولكن المسيح قال: اسمعوا كلامهم ولا تفعلوا أفعالهم. واسمحوا لي أن أضيف الى كلام السيد هذه العبارة: لا تتركوا المسيح بسبب كاهن، أو مطران، أو أي رجل دين مهما علا شأنه، لأنهم، وأعني ما أقول، يخطئون، أما المسيح فلا يخطىء.
بسبب أنانيتهم، وطمعهم، وتمسكهم بالمجد الدنيوي، شتّتوا، لا بل مزّقوا، كنيسة المسيح الواحدة، التي أرادها جامعة رسولية، وهم أرادوها ضعيفة وفئوية ومذهبية.
أتعرفون لماذا ولد الطفل يسوع في مزود، كي يعلّمنا التواضع، وها هم رجال دينه يلبسون الذهب، ويسكنون القصور، ويلبسون الحرير، ويركبون السيارات الفخمة، ويتناسون كلياً أن مسيحهم ركب ابن أتان إمعاناً في التواضع.. فتأملوا وابكوا معي.
في العشاء السري جلس المسيح على المائدة وحوله تلامذته، يأكل ما يأكلون، ويشرب ما يشربون، أما رؤساؤنا فلا يرضون بما دون الشرف طاولة، كي يجلسوا في مكان يصعب على أي منكم الاقتراب منه، هم في واد والمؤمنون في واد آخر.
حين دخلت الكهنوت، أقسمت أن لا أكذب، فكذبت. وأن لا أسرق فسرقت، وأن لا أزني فزنيت.. لقد فعلت من السيئات أكثر مما فعلتم أنتم، لذلك جئت أطلب منكم المغفرة، بعد أن طلبتها مراراً وتكراراً من إله المجد. وها هي الشيخوخة تركعني بعد شموخ كاذب، ولم يبق لي إلا الخشوع والتقوى.. والتوبة.
وبينما كان يتكلّم كان المصلون يصغون بكامل جوارحهم، وكأن حمامة الروح القدس غطت على رأس كل واحد منهم حتى الأطفال.
كلام رائع ومقدس لم يتفوه به رجل دين منذ مجيء المسيح، حتى اليوم.
ولكن المحزن في الأمر أن كل ما سمعته كان مجرد حلم، استيقظت منه والدموع تبلل وسادتي. فلعنت لحظة استيقاظي.
**
لقمة الرحمة أم لقمة النقمة
كثيرا ما نسمع الكاهن في الجنانيز يقول: أنتم مدعوون الى تناول لقمة الرحمة مع أهل الفقيد أو الفقيدة.
وكثيراً ما نشارك في تناول تلك اللقمة التي هي أقرب ما تكون إلى وليمة فخمة كلّفت أصحابها آلاف الدولارات، نظراً لكثرة المأكولات والمشروبات والأطايب التي تفنّنوا بعرضها على طاولة أين منها طاولات الملوك والأمراء والميسورين.
وكثيراً ما يبقى الأكل بوجه أهل الميت، أي أن المشاركين في الجنازة فضّلوا الذهاب الى بيوتهم وتناول الطعام مع أطفالهم، أو في أقرب مطعم للوجبات السريعة، على أن يتناولوا لقمة واحدة مع اهل الفقيد.
وهذا ما رأيته بأم عيني، فلقد توجهت، ذات يوم، الى القاعة المعدة لتناول لقمة الرحمة، فوجدت من الخيرات ما يطعم ألف نسمة، ولكني لم أجد في القاعة أكثر من ثلاثين شخصاً لا غير.. أي أن الآلاف من الدولارات التي صُرفت ستذهب الى سلاّت المهملات وليس الى بطون الناس.
والمضحك المبكي في الحكاية أن الشركة التي أعدت الطعام رفضت أن تعيده الى مطبخها، رغم استلامها المبلغ كاملاً، لأن لا مكان لديها لفضلات كثيرة كهذه.. فراحت إحدى النساء توزّعه على الموجودين قسراً، أي أنها أجبرتني على حمل عدة أكياس من الطعام دون أن تسمع اعتراضي أو احتجاج بعض المساكين الذين تواجدوا هناك.
وكثيراً جداً ما تتحوّل لقمة الرحمة الى لقمة النقمة، كما حدث في جنازة إحدى الصديقات المقرّبات، إذ لم تكتفِ إبنتها بالطعام الذي أعدته شركة المأكولات بل اصطحبت معها طبقاً من الأرز كانت قد أعدته المرحومة قبل وفاتها ولم تتنعّم بتذوّقه، فراحت الابنة تضع ملعقة في فم كل من تختاره وهي تولول: دوق أكل أمي شو طيّب!.
والظاهر أنها نسيت أن تضع ملعقة في فم عمّتها، وكانت على خلاف معها، فوقفت العمة في وسط القاعة وصاحت: يا واطية.. يا منحطّة.. أطعمت الكلّ وتجاهلتني.. ألهذه الدرجة تكرهين عمتك؟
وما أن أنهت عبارتها هذه حتى انقضّت على ابنة أخيها وراحت تشبعها لطماً وعضاً وحلش شعر الى آخر المعزوفة. ولن أخبركم ماذا حصل بعدها كي لا أشككم في محبة أقربائكم.
قصيدة عن "لقمة الرحمة" قرأتها للشاعر عصام ملكي وفيها يخبرنا أن الناس في قديم الأزمان كانوا يأتون على الدواب من قرية لبنانية لأخرى بغية المشاركة في وداع قريب أو صديق، وكان من الواجب على أهل القرية، وليس أهل الفقيد كما هو متبّع اليوم، تحضير الطعام لإشباع الضيوف، فلا مطاعم وجبات سريعة، كالتي نراها الآن على كل زاوية شارع، ولا سيارات فاخرة تنقلهم من مكان لآخر، وكانت نخوة أبناء القرية تظهر جلية في المآتم، كي لا يتحمّل المحزون، ولو كان غنياً، عبء مصابه لوحده.
سؤال لا بد من طرحه: لماذا لا نستبدل لقمة الرحمة بلقمة الحسنة؟.. أي بدلاً من أن نرمي الأكل في سلات القمامة، كما يحصل دائماً، نوزّع ثمنه على منظمات خيرية أو طبيّة أو ما شابه، فيأكل اليتيم والفقير، وتتزايد الأبحاث العلمية التي تساعد في تخفيف آلامنا، عندها يقول قائل: رحم الله من كان السبب.
وعندها أيضاً نقول قول السيّد المسيح: لا أريد ذبيحة بل أريد رحمة.. ورحمته لن تتمّ ما لم نرحم الفقير واليتيم، ونخفف أوجاع المرضى. فتعالوا نحوّل روائح فضلات الأطعمة إلى روائح ورود إنسانية ذكية.. يتنعّم بأريجها ابن الانسان في كل مكان وزمان.
رحم الله موتاكم.. وأعطاكم مما سوف تعطون: السعادة والصحة.
**
هل التقطت صورة مع أحد المسؤولين؟
ما أن يأتي مسؤول ما من بلادنا، أيا كانت تلك البلاد، حتى نرى صفاً طويلاً من المتهافتين لالتقاط الصور التذكارية معه، وتقبيل يديه، وتكحيل عينيه بأغلى الهدايا، والتبرع له بمبالغ مالية كبيرة تُجمع من الأرامل والمساكين والمتقاعدين عن العمل، وكأنه ملاك هبط فجأة من السماء.
والمضحك المبكي في الأمر أن أحد أهم أسباب هجرتنا وانسلاخنا عن أوطاننا هم هؤلاء المسؤولون الجشعون الذين نطبّل ونزمّر لهم في بلاد لا يطبّل شعبها لأي مسؤول فيها.. عنيت بها أستراليا.
تذكرت هذا بعدما التقيت رجلاً لبنانياً عجوزاً جالساً على مقعد في أحد التجمعات التجارية، فشدني تطلعّه الصارم في بعض الصور التي يقلّبها بين يديه للجلوس قربه. وبعد لحظات التفت إليّ وقال:
ـ إستاذ شربل.. إنّي لا أراك في هذه الصور.
ـ أتعرفني؟ أعتذر، لم يحصل لي شرف معرفتك.
ـ أنا فلان الفلاني.. عم أحد المسؤولين اللبنانيين الكبار الذين زاروا سيدني مؤخراً.. وقد التقطت له آلاف الصور مع آلاف المدعوين.. ولكنني لم أرَ وجهك في إحداها على الاطلاق.
ـ ولن تراه..
ـ أتريد أن تضحك؟..
ـ تفضّل..
ـ بعد عودة ابن أخي المسؤول الى الوطن، قررت أن ألحقه لتخليص إرثنا العائلي قبل فوات الأوان، فوجدت أن الإرث قد طار.. ولن أخبرك من ابتلعه..
ـ إبن أخيك..
ـ المهم.. حملت هذه الصور التي تراها بين يديّ، والتي تجمعه بوجوه عديدة من الجالية، ورحت أسأله: أتعرف من هذا؟.. أتذكر هذا الوجه؟ وكان يهز رأسه علامة النفي.. أي أنه لم يتذكّر إسماً واحداً من كل الذين هرعوا لالتقاط صورة تذكارية معه.
ـ ولماذا تحمل الصور الآن.. وتتطلّع بها طوال الوقت؟
ـ للتسلية.. أريد أن أتسلّى.. هذه الصور تضحكني كثيراً..
ـ لماذا..
ـ لأنها تريني تفاهة البعض في بلاد لم تنقذنا، رغم ديمقراطيتها المفرطة، من تزلمنا لزعمائنا هناك، من طائفيتنا المقيتة، أو من تراكضنا نحو قبور يحفرها لنا ولأهلنا في الوطن زعماء أشرار، لا تليق بهم سوى اللعنة.
ـ إذا جاء ابن أخيك مرة ثانية ماذا ستفعل؟
ـ لن يأتي.. لقد شتمته بسبب الإرث.. إنه مسؤول لص... حرامي.. أتعرف ما معنى حرامي.
ـ أعرف.. كلهم هكذا.. ونحن نطبّل لهم، ونتبرّع لهم، ونتزلّم لهم..
ـ أكتب يا أستاذ عن لساني: بدلاً من أن تصيّرنا أستراليا بشراً كباقي البشر، رميناها في أتون التزلّم الأعمى والتعصّب الطائفي والجهل المدقع.
وعندما وجدت أن ضغط دمه قد بدأ بالارتفاع تركته، لا خوفاً عليه، بل هرباً من الشتائم التي تتطاير من شفتيه كطلقات رشاش أوتوماتيكي، ولسان حالي يردد: لماذا نحن بلهاء الى درجة يضحك بها علينا زعماء أشرار، رغم أننا نعيش في بلاد تبعد عنهم آلاف الأميال؟
هل التزلّم للآخرين من العادات التي لا يمكن الاستغناء عنها؟
وهل فشلت أستراليا في زرع حريتها المطلقة في نفوس تأبى إلا أن تعيش عبوديتها المؤلمة؟
هذا ما يحيّرني حقاً.
**
أطلقوا سراح شربل حاماتي
هزني خبر قرأته عن شربل حاماتي الوالد اللبناني المسجون في الولايات المتحدة الأميركية، بعد أن وجهت إليه تهمة التحرش الجنسي بابنه البالغ من العمر أربعة أشهر لا غير. وكان شربل قد التقط بعض الصور لابنه عارياً (من الزنّار ونازل)، وأرسل الفيلم إلى التظهير، وبدلاً من استلام الصور، استلمه البوليس الأميركي وأودعه بيت خالته.
بربكم، من يتحرّش بطفل رضيع بهذا العمر وهذا الحجم؟ إنه مجرد قطعة لحمية صغيرة قد لا يشتهيها إلاّ حيوان (الدينغو) الذي افترس الطفلة الأسترالية أزاريا تشمبرلن، واتهموا والديها بقتلها، إلى أن اعترف أحدهم، بعد سنوالت طويلة، بأنه ورفاقه وجدوا جثمان الطفلة، فأخفوه، خوفاً من الملاحقة، ودفنوه في مدينة مالبورن. كما أن جسد طفل محفّض كهذا، قد لا يثير غرائز المهووسين جنسياً، فكم بالأحرى والده!. وأجزم أن (سميي شربل) قد طار صوابه من شدة الفرح، عندما أنجبت له زوجته طفلاً ذكراً، فراح يقبّله، كعادتنا نحن الشرقيين، في جميع أنحاء جسمه، غير عابىء بالقانون، أو بشرطة مدينة (رالي) الأميركية، أو بجميع قضاة ولاية كارولينا الشمالية، ولسان حاله يردد: هذا إبني وأنا حر به.
مسكين ابن الحاماتي، فلقد تمسّك بعاداته الشرقية حدّ العمى، ولم يتأقلم، ككثيرين مثله، مع عادات البلاد التي اختارها لسكنه، ولتنشئة عائلته، وتناسى أن القوانين في الدول الراقية لا ترحم أباً ولا أماً، ولا تعترف بحنوٍّ، أو بمحبّة، أو بفرح أبوي.
قد تتعجبون إذا أخبرتكم أن قصصاً كثيرة، كهذه، تحدث في جاليتنا العربية في أستراليا، ولكن البوليس الأسترالي بدأ يتفهّمها، ويغض النظر عنها، بعد أن يوجّه إنذاراً لعائلة الطفل (المجنى عليه!)، حسب القوانين المرعية.
ومن هذه القصص الكثيرة، اخترت لكم قصة حدثت في (معهد سيدة لبنان ـ هاريس بارك، سيدني) منذ 20 عاماً تقريباً.. فلقد همس أحد الأطفال في أذن معلمته أن عمّه القادم حديثاً من لبنان يقبّله بين فخذيه، فجن جنونها، وأسرعت إلى مكتبي بغية استعمال الهاتف، ولم يدر بخلدي أنها ستتصل بالشرطة، إلاّ عندما سمعتها تقول: هناك طفل في صفي أخبرني أن عمّه يقبله في مكان محرّم، وأعطتهم عنوان المدرسة، وغادرت المكتب دون أن تشرح لي الأمر. فلقد كان السمّ ينقّط من وجهها، ليس حبّاً بالطفل بل خوفاً من أن يطالها القانون الأسترالي الصارم، الذي يجبر المعلمين على إبلاغ الشرطة بكل ما يسمعون من قصص تتعلّق بالتحرش الجنسي أو بالضرب، وإلا تعرضوا هم للملاحقة القانونية. فلحقتها إلى الصفّ، وطلبت منها إرسال الطفل الضحية إلى مكتبي، كوني المسؤول عن التربية والأخلاق في المعهد. وفجأة، دخل إلى مكتبي رجل وامرأة، لست أدري كيف وصلا بهذه السرعة، وقالا أنهما من دائرة مكافحة التحرش الجنسي في ولاية نيوساوث ويلز، وسألا عن تلميذ في الصف الرابع الإبتدائي اسمه سركيس. فأشرت إليه وقلت: هذا هو، ولكن قبل أن تقوما بأي إجراء قانوني، هل لي أن أسأله أمامكما بعض الأسئلة، فوافقا على ذلك. فسألته وهما يصغيان إلى كل كلمة أتفوّه بها:
ـ ما اسمك؟
ـ سركيس..
ـ وما اسم عمك؟
ـ سركيس..
ـ أنت تحمل اسم عمك إذن..
ـ نعم..
ـ متى جاء عمّك من لبنان؟
ـ منذ أسبوع تقريباً..
ـ ولماذا جاء إلى أستراليا؟
ـ حتى يراني.. فأنا أحمل اسمه في العائلة..
ـ إذن هو فرحان بك كثيراً..
ـ نعم..
ـ وماذا يقول لك عندما يقبّلك بين فخذيك؟
ـ يقول لي: أريدك أن تكون رجلاً كعمّك..
ـ وبعد ذلك؟
ـ يحملني في الفضاء ويصيح: سركيس الصغير هو أنا.. أفهمتم؟
ـ هل كان يقبّلك أمام والديك..
ـ نعم.. وأمام إخوتي أيضاً..
ـ أتدري أن البوليس سيعتقل عمّك بسبب تقبيله لك بين فخذيك، وسيأخذه إلى السجن.
ـ لن أدعهم يفعلون ذلك.. أنا أحب عمّي كثيراً.. سأعضهم.
ـ هل ستقول لهم ذلك متى جاؤوا إلى هنا..
ـ أجل.. وسأشتمهم أيضاً..
ـ الرجل والمرأة الواقفان أمامك من شرطة الولاية، فماذا ستقول لهما؟
ولم أكن أدري أن طفلاً كسركيس، لم يستقبل ربيعه الثامن بعد، سيكون قوياً وجباراً إلى هذا الحد، وسيهجم عليهما محاولاً رفسهما برجليه الصغيرتين، وهو يصيح:
ـ أخرجا من هنا.. أنا أحب عمّي كثيراً، ولن أدعكما تأخذانه إلى السجن.
عندئذ، التفت إليهما وقلت:
ـ أتصدقان أن عمّي قد قبّلني مئات المرات عندما كنت صغيراً، تماماً كما فعل عم هذا الطفل. وأن عمتي تحملني عارياً في إحدى الصور وأنا ابن 3 أشهر، وقد نشرت هذه الصورة في كتاب (شربل بعيني بأقلامهم)، إنها عاداتنا اللبنانية، هكذا نفرح بالطفل الذكر عندما يرزقنا إيّاه الله.. فأرجوكما أن تتركا المسألة بين يديّ، وأعدكما بأنني سأتصل بعم الطفل، وسأحذّره من تقبيله في الأماكن المحرمة، وإلا سيلاحق قانونياً.
والمضحك في الأمر، أن العم سركيس لـم يقتنع بأقوالي، ولم يأخذ تحذيري له بجدية، بل راح يشتم أستراليا وقوانينها التي تمنعه من تقبيل ابن أخيه أينما شاء. وأقسم برحمة أبيه وأمه ثلاث مرّات، أنه لن يبقى يوماً واحداً في بلاد لا تحترم شعوره ولا تفهم عاداته، وغادرها في الحال.
قصة حقيقية، رميتها أمامكم، علّها تساعد عائلة شربل حاماتي من بعيد أو قريب أثناء محاكمته، فقد يتفهّم القاضي الأميركي عاداتنا اللبنانية كما تفهّمها البوليس الأسترالي، وتعامل معها بمرونة يشكر عليها، أنقذت حياة إنسان لبناني جاءنا ضيفاً، فكادت محبته لابن أخيه أن ترميه في السجن.
من حسن حظ القاضي الأميركي أن ابن شربل حاماتي لا يرفس ولا يتكلّم، وإلا لكان أصابه ما أصاب البوليس الأسترالي من رفسات تلميذي سركيس، ولسمع (الحاماتي) الصغير يصيح بوجهه وهو يبكي:
ـ اطلق سراح أبي.. فأنا أحبه.
إذا كان شربل حاماتي ما زال في السجن، أطلقوا سراحه وسراح صوره، وشرّفوه على صحن كبة وكأس عرق احتفاء بمولوده الذكر. عقبى لغيره إن شاء الله، ولكن بدون صور.
**
