الغلاف للفنانة رندى بعيني
**
نشرت هذه المقالات في مجلة الدبور اللبنانية 1969 ـ 1972
**
حفلة عشاء خيرية
حضرتي متزوّج، وزوجتي تشبه البدر الذي ديس أكثر من مرة، وظلّ محافظاً على جماله وهيبته. وهذا ما جعلني حائراً، حزيناً، مشوّش البال، أفكّر دائماً، وأتكلّم نادراً، وغير قادر على تحمّل المصيبة.
أجل، مصيبتي أيها القرّاء الأعزاء، هي وليدة الإغراء والجمال، اللذين تتمتّه بهما زوجتي.
تصوّروا أنني دعيت مؤخرّاً لحضور حفلة عشاء خيرية، وما أكثرها في هذا البلد السيّىء الطالع، وبالطبع اصطحبتها معي، وما أن ولجنا عتبة الدار، كما يقولون، حتّى تدفّق سيل عرم من الرجال الأشاوس، أصحاب الشعور المسترسلة، والقدود الميّاسة، والأحناك الرخوة، واللغات الملبننة، المفرنسة، المأنكلزة، وأخذ يرحب بنا، ويغمرنا بواسع حنوّه وعطفه.
هذا يطعمني قطعة بفتاك، وأصابعه ممسكة بطرفها حتى لا تلامس شفتيّ وشاربيّ، وذاك "يدحش"، إن صح التعبير، يده كلّها في فم زوجتي، مدّعياً أن اللقمة صغيرة.
وهكذا دواليك، حتى إعلان انتهاء العشاء، والبدء في الرقص. ويا ليت المعلن تأخّر قليلاً عن الكلام، لأنني صمّمت الرحيل فوراً، والعودة إلى البيت، حيث لا عجيج ولا ضجيج. ولكن مهما يكن من أمر، فلسوف أنسحب وأضرب عرض الحائط بوشوشة الهامسين، واستنكار المستنكرين، وتأويل النساء العاطلات إلا عن فبركة الأخبار، ونشر غسيل الناس الآمنين الطيّبين.
فتّشت عن زوجتي في كل أرجاء القاعة، في الزوايا وتحت الطاولات، في الحديقة وخلف الستائر، فلم أجدها، فاقتربت من سيّدة أعرفها، وسألتها عن رفيقة عمري، فأشارت غير مبالية: هناك!.
ونظرت إلى هناك، فوجدت سبعة رجال يهزجزن ويمرحون، ويشكلون دائرة صغيرة شبه متلاحمة.
دنوت منهم بحذر شديد، كي لا أعكّر صفو هنائهم، فسمعت أحدهم يقول:
ـ حا، دي، هش..
فما كان مني إلا أن انبطحت أرضاً، ورحت أفتح طريقي بين غابات الأرجل الكثيفة، حتى وصلت، من حيث لا أدري، إلى داخل الحلبة، وقبل أن أسترّد أنفاسي، شعرت بشخص يمتطيني ويصيح:
ـ جيب الرمح وهات السيف وناولني هالباروده
وثار غضبي، وعلا الإحمرار وجهي، وأيقنت أن معركتي قد حانت، فمددت يدي، وأمسكت بشعره، ورميته على الأرض، وناولته لكمة من لكماتي الفتيّة، وسط تصفير وإعجاب الشلّة المحترمة.
وغاب أخونا عن الوعي، فانتهرت المرأة الواقفة الى جانبي بحدّة، وقلت:
ـ يا سافلة، يا منحطّة، إمشي معي إلى البيت.
ورعدت أخت الرجال جملة مفيدة هي:
ـ ولاه.. عم تضرب مرقص؟
وأمطرتني بوابل من الضربات المحكمة، التي لو لم أتّقيها بساعديّ، لأصبحت مرحوماً لا تجوز لنفسه الرحمة.
نهضت مسرعاً، وأخذت أعدو باتجاه حلبة الرقص، وأنا أشكر المولى تعالى على إنقاذي من براثن زوجة مرقض، الفارس المسكين الذي امتطاني هازجاً، فامتطيته ملاكماً ثائراً مفتول السواعد.
دخلت أجواء الموسيقى والهز والفتولة كالمجنون الفالت حديثاً من سجن العصفورية، أو من دير الصليب، وما أن رأتني رئيسة الجمعية الخيرية حتى صاحت بي:
ـ أنت هنا ونحن نفتّش عنك؟!.. أسرع، أسرع، زوجتك تنتظرك في السيّارة منذ ربع ساعة.
صدّقوني انني لم أدعها تكمل كلامها، فأسرعت خارجاً من الباب الذي دخلت، ولسان حالي يردّد:
جينا نتعشّى ونرقص
ألله يلعن هالشّغله
تغلبطنا بزوجة مرقص
وكنّا كلناها قتله
الدبّور البيروتية، العدد2380، آذار 1971
**
خناقة في جنازة
الموت هو الموت، أيّاً كان السبب، وأبو فريد المسكين شمله الموت بعنايته وحنانه، إذ نقله البارحة من هذه الحياة الفانية، ورماه في قبر قد لا أدخله وأنا حيّ، حتى ولو هدّدت بمدفع، وذلك لكثرة عناكبه، وعقاربه، وفئرانه وما شابه.
أتساءل في كثير من الأحيان: لماذا لا يحرق جسد الإنسان إثر وفاته، ويحتفظ الأهل والأقارب برماده في علب زجاجية يعلّقونها على الحائط، وهذا، بالطبع، أفضل بكثير من زجّه في دهليز معتم مخيف، قد "ينقلع" حنكه من مكانه، لو زاره، أو فكّر بزيارته، وهو على قيد الحياة؟.
تتخيّلون، ولا شكّ، انني أدعو لموضة جديدة، والموضة، في مفهومنا اليوم، تعني الانفلات، والانعتاق من التقاليد. حاشا والله، فأنا أدرك تمام الإدراك، إنني عاجز عن تغيير وطمس العادات التي درجنا عليها مذ وجدنا في هذه البقعة الجميلة من الأرض. ولكنني أردت من مقالي هذا أن أصوّر جنازة المرحوم أبي فريد، التي حصل لي شرف مشاهدتها، ونيل نصيبي من لكماتها وحجارتها، وأن أرسم صورة ولو مائية، للأضرار التي قد تسبّبها الحزازات الانتخابية حتى في المآتم.
كنّا مئة شخص وأكثر مجتمعين حلقات حلقات حول منزل الفقيد، وإذا بنا نسمع صوتاً مخنوقاً يقول:
ـ من يودّ أن يساعد في حمل النعش فليتقدّم؟
وبعد قليل، ولولت النساء، وهدرت أصوات الرجال، وعزفت موسيقى الموت، وأطلّ النعش من باب البيت محمولاً على أكفّ سبعة رجال قبضايات.. والظاهر أن حبّ كسب تأييد أهل المرحوم، وعددهم عشرة أنفار، في الانتخابات النيابيّة المقبلة، قد ساهم كثيراً في إضرام نار المروءة في نفوس الرجال السبعة، مما دفعهم للتدفيش، والتلطيش، ولكز بعضهم البعض، وشهر خناجرهم، وتدفئة قبضاتهم، وفرك سواعدهم، وهذا كلّه لا يتم إلا بترك التابوت على الأرض.
ـ ويلاه.. انتبهوا.. الميّت قام!
زأر أحدهم خلفي، وأخذ يركض عكس الاتجاه الذي تسير فيه الجنازة، فتعالت للحال أصوات النساء ممزوجة بجعير وهدير أبنائهنّ وأزواجهنّ:
ـ انتبه يا إندراوس على أخيك، حتّى لا يخاف.
ـ أخ يا رأسي.. من ضربني بالحجر؟
ـ اهربي يا نجيبة قبل أن يؤذيك أحدهم.
ـ قه، قه، قه.. انظروا أم سليمان تركض حافية، يظهر أنها أضاعت قبقابها.
ـ ولاه.. اترك غطاء التابوت، حرام عليك، فقد يصاب المرحوم بكعب سكربينة طائشة.
ـ وصل الدرك.. اهربوا يا ناس.
وكانت هذه العبارة الأخيرة أفضل العبارات التي ذكرت سابقاً، لأن كل من سمعها شمّع خيطه وهرب، ولم يبقَ في الساحة إلاّ شال واحد، ودزينة قباقيب جديدة لمّاعة، وكومة أحجار ملطخة بالدماء، قد تبني برلماناً نيابياً آخر، وتزيد في متانة السد الليطاني الشهير.. وأيضاً، تابوت المرحوم أبي فريد، وخمس نسوة متّشحات بالسواد الظاهري، ومحسوبكم أنا.
ـ اقتربن يا نساء حتّى نجرّ التابوت، فالمقبرة، والحمد لله، قريبة.
صاحت إحداهنّ بعزم شديد، وأخذت تشدّ ذات اليمين وذات اليسار، والتابوت المرعوب القلب، المرتجف البدن، يأبى أن يتزحزح من مكانه، لولا وصول نجدتي، ونجدة رجال الدرك.
وقد تتعجبون إذا قلت إنني الوحيد من بين المشيّعين، الذي دخل بيت خالته مدّة أربعة أيّام متتالية، لإجراء التحقيق معي، وأخذ إفادتي.. ونظراً لأنني كنت مثل الأطرش بالزفّة، فقد أخلوا سبيلي لقاء كفالة مالية، تعتريني رجفة وهزّة حائط كلّما أتيت على ذكرها.
ومن ذلك الحين وأنا أتجاهل كل دعوة تأتيني لتشييع جنازة، أو لحضور عرس، مخافة أن أدخل السجن، ولا أعود أخرج منه إلاّ بكفالة مالية مماثلة.
ألا ليتك تتعثّرين بأذيالك يا انتخابات الربيع القادم، حتّى ننعم، ولو مؤقتاً، براحة البال.
الدبّور البيروتيّة، العدد 2392، أيار 1971
**
الأحلام ومدى ارتباطها باليقظة
لست أدري ما سبب الأحلام التي تقضّ مضجعي كل ليلة، وتجعل النوم يطير من عينيّ، لدرجة أن صحتي تدهورت كثيراً من جرّاء ذلك.
تارة أتخيّل نفسي غارقاً في خضمّ من الأحزان، تتقاذفني الأمواج، وتعمي بصيرتي الأنواء، وطوراً أحسب أنني غراب أسود أطلقته يد الحياة من فلكها، ليحمل إليها نبوءات الجوّ، فهام على وجهه، وضاع حيث العميان يبصرون، وهلك شرّ هلاك.
لجأت إلى مفسّري الأحلام، رغم كوني لا أؤمن بهم، فأشار عليّ أحدهم بذبح حمامتين بريتين وشرب دمهما. وآخر، باستعمال الحجاب الواقي من شياطين النوم. وأما الثالث، فنصحني بركوب الخيل قبل الظهر، والسير على الأقدام مدّة ساعة قبل النوم.
وصدّقوني أنني استعملت جميع هذه الأساليب الاحتيالية، وداومت عليها، وآمنت بفعاليتها، ولكن أنّى لي بلوغ مأربي، ألا وهو معرفة سر هذه الأحلام، وكيفيّة التخلّص منها.
وذات يوم أتاني صديق وبيده كرّاسة صغيرة مهترئة، فناولني إيّاها قائلاً:
ـ خذ واقرأ من الصفحة 144 إلى الصفحة 150، واطلب لي التوفيق.
قلّبت صفحات الكتاب لحظة، ثم قلت:
ـ ولمن هذه التحفة الأثرية؟ وما اسمها؟ وفي أي عام طبعت؟
فأجابني، بهدوء غير منتظر، على أسئلتي التافهة هذه، وقال:
ـ صدّقني إذا قلت إنني لا أعرف، ولكن يخيّل لي أنها للأب خير الله اسطفان، نسخها له الياس شمعون الديراني في غزة سنة 1896، واسمها عجالة البيان.
فتحت الكتاب على الصفحات المشار إليها، ورحت أقرأ:
"وجود الأحلام يناط بغيبوبة التصوّر الخارجي عند إغضاء الحواس، فتتغافل حينئذ عن تأثيرات المواضيع القارعة أبوابها. ومن ثم يقدّم الدماغ للروح تصوّرات كاذبة غير كاملة. فالنفس والحالة هي النوم، لا تقدر أن تتروّى بها، أو تحكم عليها حكماً صادقاً لعدم تمكّنها من مقابلتها بأشباهها ومواضيعها الحقيقية. فالتصورات تكون حينئذ غير منتسقة حرة معتوقة لذاتها: فتأخذ المخيّلة، والعقل لا يدري، في أن تجمع بين الممكن والمستحيل، وتتوهّم الكذب صدقاً، وتخلط وتمزج أمكنة بأزمنة، وأشخاصاً بأشخاص.
تتوالى الأفكار بلا ارتباط، وإن تتابعت وانتسقت وارتبطت، فلا ينشأ عنها الحكم الصادق الرابط لفقدان الإرادة ومطاوعة الدماغ للانفعال، وانقياده إليه قسراً.
فإذا تأمّلنا غبّ ذلك بما كنا عليه في رقادنا ومنامنا، علمنا أن النفس كانت مسجونة في الجسم، وممنوعة عن الاشتراك في الخارج، وانها مع ذلك لا تفتأ عن العمل، ولكن على غير نظام، وبدون ضبط وتدقيق بسبب غياب العقل المدبّر للإرادة الموجّهة".
هنا، أتوقّف قليلاً عن القراءة، وانظر بإعجاب إلى صديقي، وأقول:
ـ يظهر أنني لقيت الدواء الناجع.
فيبتسم لي بمحبة ويقول:
ـ أكمل.. أكمل..
وأعود لأغرف من درر هذا الكتيّب النادر، فأقرأ:
"ليس للحلم مواد غير ما يعطاه في اليقظة، فتكون الأحلام تأثيرات جزئية شديدة غير كاملة، بقايا اليقظة، متتابعة في نظام متقطّع وسياق مختلف، مادته تصوّراتنا السابقة. ولنا في حال اليقظة ما يشبه الأحلام، وهو هذيان المخيّلة لدى إطلاقنا لها العنان، فتذهل ساهياً كأنّك ناسٍ ذاتك والهواجس تلاعبك، ولكن لا يلبث العقل أن يقبض على العنان الذي كان مطلقاً.
وإذا أردنا أن نعرف مدى علاقة الحلم مع اليقظة وفرق الحالتين، نرى أن لا اختلاف بين الحالتين، والرابط موجود، فالأنانية الحالمة، والذات الساهرة، تحفظان المماثلة ووحدة الذات. فاليقظى تعدّ للنائمة مواد أحلامها، ولا تركب النائمة أحلامها ما لم تلقّنها اليقظى صوراً هي مواد أحلامها.
الفرق من حيث الرقاد، أولاً: غياب الإرادة وعدم تولّي العقل تدبيرها.
ثانياً: حال النائم حالة أسر واسترقاق، فلا حريّة له، وعليه فهو للانفعال صاغر، فكأنه يهمل نفسه بنفسه، فيمسي ملعباً لأفكاره، وإنما هو الملعب واللاعب ومشاهد المشاهد، ومتى استفاق الهاجع عرف الحق من الباطل.
وللأحلام اختلاف في التصوّر والطبع أوجب قسمتها إلى أربع رتب:
أولاً: الأحلام الجهازية، لأن الجهاز مصدرها، فهذا يهيّج المخيّلة، فتبتدع أشباحاً وخيالات تلازمنا ولا تخلو من أن تكون إما ذات أشجان أو ذات أفراح وملاذ، وعلى أي الحالات تسمّى كابوساً.
ثانياً: الأحلام البصريّة، لأن البصر مصدرها، وهي متوافرة الحدوث كصور الأمكنة التي زرناها والأشخاص الذين عرفناهم.
ثالثاً: الأحلام العقلية، حيث قوّة العقل تلبث على حال شدّتها، وإنما هذا من النوادر، فمن الفلاسفة من برهن حقائق سامية، ومن الحسبة من حل مسائل مشكلة، ومن الشعراء من نظم أشعاراً، ومن الخطباء من ألقى خطباً، فكأن الانسان والحالة هذه يرتفع فوق ذاته.
رابعاً: اليقظة في المنام، نوع نوم يشبه النوم الحقيقي من أوجه، ويختلف عنه من أخرى، فيوقف بعضاً من أعمال الحالم عن الحياة الخارجية، وأما الحياة الداخلية فتتابع أعمالها. قلت بعضاً، لأن الانسان والحالة هي هذه لا ينفصل انفصالاً كلياً عن الأشياء الخارجيّة، فإذا كلّمته يجاوبك، وإن نبهته إلى شيء انتبه. فالنائم الحقيقي لا حكم له بالكليّة على نفسه، وأما "النائميقظان" فبالعكس حيث يظهر أنه يعلم ماذا يعمل وإلى أين يذهب، يمشي في طريق معلوم، وإذ تدعوه ليرجع، حالاً يعود، ولكنه لا يذكر ماذا عمل وأين كان. فتصوراته دون رابط تكون، يعرف الولد صوت والديه وإخوته، فيجاوب: "أنا آتٍ يا.." وما يساعده على عمله هذا الغريب، ثلاثة أشياء على الأخص هي:
1ـ حاسة اللمس، فتكون حينئذ مستيقظة.
2ـ اعتياده سلوك تلك الطريق، وتكرار مراجعة ذاك التصوّر حتى انطبع في المخيّلة، طبعاً لا يمحى، فتفعل أعضاؤه في حال النوم ما اعتادت على عمله في اليقظة.
3ـ تحضير المخيّلة له ما آلف من المواضيع، واتضحت لديه معرفتها وتأكدها تأكيداً قبل الهجوع وذلك بتمام وضوحها".
انتهى الفصل، فهممت بالكلام، ولكن لساني عجز عن الإفصاح بما يجيش داخل قلبي من شكر لهذا الصديق الوفي المخلص، وذلك لأنني وجدته يغطّ بنوم عميق هانىء.
الدبور البيروتية، العدد 2384، نيسان 1971
**
وجهنم بالعز أفضل من دوائر الدولة
ـ ماذا تفضل الذهاب إلى جهنم أم إلى دوائر الدولة؟
لو طرحنا هذا السؤال السخيف المحرج، لأن بيني وبينكم لا يطلع أحد عن روحه، على سكان لبنان المقيمين والمغتربين، والذين على أهبّة الولادة، لأجابوا بصوت واحد: وجهنم بالعزّ أفضل منزل!
تتساءلون، ولا شك، لماذا يفضّلون وكر لوسيفورس اللعين على دوائر الدولة؟
أولاً: لأن الدخول إلى جهنم سهل ومجاني، عكس الدوائر التي تكلف ما فتح ورزق.
ثانياً: لأن المعاملة عندنا تنام في الجوارير نومة أهل الكهف، وقد لا تستيقظ إلاّ وقد استلم صاحبها رسالة مستعجلة من جهنم، تدعوه لتبوّء سدة رئاسة بلدية إحدى المقاطعات النارية الجافة، التي تشبه بالعرض والطول "بيروتنا الممتازة".
ثالثاً: هل رأيتم ميتاً ذاهباً إلى حيث البكاء وصريف الأسنان، وبجيبه بطاقة توصية من أحد النواب المكرشين لكثرة أكل الفراريج واللحوم، والزبدة، والبسكويت، والأموال، والإسمنت، والاسفلت "الزفت" إلى آخره؟
بالطبع لا، لأن التعامل هناك لا يتم بالواسطات والتوصيات كما هي الحال في برج بابل الدولة، حيث الفخفخة والرفاهية، وقراءة الجرائد والمجلات السياسية والفنيّة والجنسية، وأكل الحمص والفول والزيتون والفستق والبزر، حيث الكبرياء بأبهتها وجلالها متغلغلة برؤوس أصغر الحجّاب المياومين.
ومن منا يقدر على التحديق بوجوه الآخرين، كما يفعل حضرات الموظفين الكرام، فهم رغم سحنتهم القاطعة للرزق، ترونهم يودّون معرفة قياس أرجلكم وأجسامكم، وأي نوع من الأقمشة تلبسون، وكم تحملون من دراهم، وهل معاملتكم مهمة وسريعة، أم أنكم أتيتم للفرجة وأخذ الأشكال؟
رابعاً: إذا دخلتم، بدون سابق تصميم، دائرة حكوميّة، وخصوصاً تلك التي يعلّقون على بابها إحدى هذه اللوحات: "إحذر البرطيل" "هنا الخدمة مجانية" " لا ترش الموظفين"، فاعلموا أنكم من المغضوب عليهم، وأن أبواب جهنم لن تفتح لأمثالكم من البلهاء، أصحاب القلوب الطيّبة، والأيدي البيضاء السخيّة.
خامساً: جننت مرة وذهبت إلى دائرة تسجيل السيارات، فقبض مني سمسار يستغلّ اسم عائلته الرفيع، فيسيء بذلك إلى سيّد هذه العائلة خاصة والبلد عامة، مبلغ خمسين ليرة لبنانية، لقاء إمضاء واحد، وعندما رجوته أن يخفّف الأجر قليلاً، زعق بوجهي قائلاً: لا أقدر، فنصف هذا المبلغ سيتحوّل للمدير، هكذا بالحرف الواحد.
سادساً: من الصعب أن تروا مخلوقاً جهنمياً ينتعل حذاء، لكثرة النتوءات والتعاريج والغبار التي تقذفها فوهات البراكين، بينما في دوائر ستّنا الدولة، رحمها الله، فسمحوا لماسحي ألأحذية بدخول المكاتب، وعرض خدماتهم على الموظفين، لقاء عمولة معيّنة.
وليس هذا فحسب ما يثير الاشمئزاز، بل ذلك المنظر المقرف لموظف يجمل الجريدة بيديه والسيجارة في فمه، ويرفع إحدى رجليه للماسح "البويجي"، غير عابىء بتوسلات الجمهور الفقير الواقف إزاء طاولته بغية الحصول على معاملاته المتراكمة أمامه كرأس الشقعة.
وأخيراً، أرجو المعذرة لهذه المقارنة التي ما قصدتها إلا لأفتح عيون معالي وزرائنا الصغار على أشياء وأشياء مقرفة، مقيتة، مشرشحة ومسمّة للبدن، هم غافلون أو متغافلون عنها، لست أدري.
الدبور البيروتية، العدد 2398، تموز 1971
**
اكمشه يا صالح
هو يحلق، أنت تحلق، أنا أحلق.. ولعنة الله على الساعة التي طبّقت بها هذا الفعل اللعين، يوم دخلت دكّان حلاق في إحدى القرى النائية، بناء لرغبة الصديق الذي استضافني عنده مدّة أسبوعين متتاليين، تدلّت بهما غرّتي حتى باتت كجمّ البلان، تغطي جبهتي، وتدخل شعيراتها في عينيّ ومنخرَي، مما دفعني للتعطيس المتواصل، ولإزعاج الآخرين.
لهذا كله جازفت ودخلت مستودع المناجل والمقصّات الأثرية والمكانس التي يفرشون بها الذقون بعد طليها بالصابون المعتّق في أقبية المنازل، غير عابىء بما سيصيب أذنيّ من تقطيع وتشويه.
وكان صديقي كلما رآني أتراجع وأحاول الهرب، زعق في وجهي قائلاً:
ـ ولو، ولو.. أنت خائف؟ أفلا تدري أن الخوف يذلّ صاحبه؟ رحم الله القائل:
عيشة بالذلّ لا أرضى بها
وجهنّم بالعزّ أفضل منزلِ
وبدلاً من ان يلهب حماستي، هذا البيت من الشعر الآتي على ذكر الموت وجهنم، جعلني أرتعش كالورقة العالقة في مهب الريح، وأتصبّب عرقاً بارداً، ولا أقوى على الوقوف طويلاً، نظراً للرجفة التي أصابت رجليّ. وهنا لا بد لي من توجيه الشكر لله، لأنني ما أن دخلت الدكان، حتى وجدت، بعونه تعالى، صندوقاً قديماً شبه مهترىء، فجلست عليه رغم موسيقاه المزعجة "حيق.. زيق.. زيق.. حيق" التي اقتبسوا عنها الموسيقى العربية الحديثة.
وما هي إلا لحظات حتى أطلّ مسبّع الكارات، وبيده مطرقة وازميل، فهشّ لي وبشّ، وعرّفني بنفسه على هذا النحو:
ـ عبدك، عبد ربّك، سليمان.. سليمان المولود من مرتا زوجة كنعان.. كنعان بن إندراوس الفاشيطي. أشتغل سنكريّاً، وخيّاطاً، وحدّاداً، وطبيب أسنان، وقارىء بخت، وقابلة قانونية، وفي بعض الأحيان.. حلاقاً. والآن أعطني ذقنك..
ـ انتظر.. انتظر.. أرجوك.. كم تودّ أن أدفع لك؟
ـ لن نختلف..
ـ قل كلمة..
ـ أنا لست كحلاّقي بيروت وطرابلس، أضحك على الزبون، وأقول له: أنت وشرفك.. أعوذ بالله، هنا السعر محدود، نصف ليرة بدون زيادة ولا نقصان.
ـ وما رأيك لو شذذنا عن القاعدة هذه المرة؟
ـ كيف يعني؟
ـ يعني أن أدفع لك بدل النصف ليرة خمس ليرات..
ـ هيئتك ابن ذوات..
ـ ولكن على شرط..
ـ وما هو؟
ـ أن لا تحلق لي..
ـ يا ساتر.. اكمشه يا صالح..
وفجأة انقضّ عليّ رجل كان مختبئاً وراء ستار، ومتأهباً لمثل هذه الحالات التي كثيراً ما تحدث، فكبّل يديّ، ومن ثمّ ربطني على قنطرة الدكان، وشزرني بعينيه وصاح:
ـ تحرّك إذا كنت تقدر..
والحقّ أقول إنني لم أستنجد بأحد من المارّة، حتى ولا بصديقي العزيز الذي راح يصفّر برتابة لحن أغنية: "يا حلاّق عملّي غرّة"، إلاّ عندما حمل سليمان بن كنعان الفاشيطي مقصاً لتقليم الأشجار، وبدأ في جزّ الغرّة والشاربين، وزرع جمجمتي بالقطن الأسود لكثرة استعماله.
ولمّا انتهى من عمليّته الجراحية هذه، تنهّد، وبسمل، وصلّى، وربّت على كتفي قائلاً:
ـ هناك كم شعرة لم يلحقها المقص، إذا لم تكن مستعجلاً سأريحك منها.
وما أن سمعته يقول هذا، حتى نهضت مسرعاً، وكان النسر صالح قد أطلق حريتي، وخرجت من دكانه وأنا أصيح بصوت مبحوح:
مزرعة القطن كبيره
إعمل معروف
تركلي شي بوره زغيره
إزرعها صوف
الدبور البيروتية، العدد 2399، تموز 1971
**
ضيف ثقيل
أردت، وللمرّة الأولى، أن أسهر داخل البيت، فطلبت من زوجتي إعداد عشاء فاخر، وتحضير مازة تقول للقلب طقّ. وقمت بدوري، ففتحت التلفزيون، ويداي ترتجفان خوفاً من أن يطلع عليّ بعبع أصلع، يزعقني صوتاً ترتجّ من هوله جنبات الدار.
وبالفعل، حدث ما توقعت، فقد كان غاستون أول الظاهرين على الشاشة المسكينة، وعلى شفتيه تكشيرة، لو رآها الجاحظ، لشكر المولى تعالى على نعمة الجمال التي بها عليه.
والحقّ أقول إنني تصورت نفسي وجهاً لوجه مع غاستون، فشمّرت عن ساعديّ، واستعدّيت لتوجيه لكمة إلى حنكه، تكون كافية لإخراسه.
ولكنّ زوجتي وصلت في الوقت المناسب، وصاحت بي:
ـ ماذا تفعل؟ قف..
فأجبتها والنرفزة بادية على محياي:
ـ اتركيني عليه، حتى أعلمه كيف..
فابتسمت ابتسامة بريئة وقالت:
ـ سأريحك منه تماماً.
الحاصل أنها أطفأت التلفزيون، وانتظرت قليلاً حتى عاد هدوئي إلى قواعده سالماً، فدعتني إلى تناول العشاء.
وما أن لامست قعدتي أرض الكرسي، حتى فتح باب البيت دون استئذان، والظاهر أن زوجتي نسيت المفتاح في الخارج، ودخل منه رجل مربوع القامة، متوسط الحال، وأخذ يحدّق بوجهينا حيناً، وبالمآكل الشهية أحياناً.
حسبته بادىء ذي بدء شيطاناً، جاء يجرّبني، ولكنه ما أن أمسك بلقمة الخبز، حتى أدركت أنني أمام ضيف ثقيل، حملته الأقدار ورمته داخل بيتي.
ظلّ يأكل ويأكل، ونحن نتفرّج عليه ببلاهة المشدوه، حتى امتلأ بطنه، وبان كرشه، ونقر نقرتين على صدره كأعظم دقّاقي الطبول، وتنحنح بغبطة المنتصر على أعدائه، ثم حمل الكنبة، ووضعها في وسط الغرفة وصاح قائلاً:
ـ فنجان قهوة مرّة، مع علبة دخان تهريب، لأنني متعوّد عليه.. بسرعة.
رمى بفرمانه هذا في الهواء، واتجه نحو التلفزيون، فكبس زرّ الإضاءة، بالرغم من استغاثتي واسترحامي له، وعاد فجلس على عرشه مكتوف الرجلين، وركوة القهوة المرّة التي أتت بها زوجتي بسرعة البرق، تتأفف على يمينه، وعلبة الدخان تئنّ على يساره، حتى انقضاء السهرة.
غزا النعاس عينيّ زوجتي، فهمست في أذني:
ـ ماذا تنتظر.. عجّل تخلّص منه، أريد أن أنام؟
بلّعت بريقي قبل أن أقف ثلاث مرّات متتالية، ثم اقتربت من البعبع الحقيقي ببطء، ووضعت يدي على كتفه وقلت:
ـ تفضل قم ونم معنا..
فحدجني بنظرة فيها الكثير من المعاني الرديئة، وتمتم:
ـ إيه.. ما في عندي مانع..
وهنا رعد الغضب و زمجر في داخلي، فأمسكت بالضيف ورميته أرضاً، وأنا أصيح:
ـ ناوليني يا امرأة المسدس، المترليوز، الكلاشينكوف، الخنجر.. ولا تنسي أن تفتحي الباب على مصراعيه كي لا يهرب.
وما أن فتحت الباب، حتى أطلق لرجليه العنان، وفرّ هارباً، ونحن نضحك لهذه السهرة الجهنمية المفزعة.
الدبور البيروتية، العدد 2384، نيسان 1971
**
بل أيلول كله
"وجدت فيك النواة الصالحة لهذا الفرع القيّم من الأدب الحي"
بهذه العبارة قدّم الاديب يوسف يونس مجموعة مخايل نمنوم الأولى: بل أيلول كله.
وقد يكون في هذه العبارة بعض المبالغة، إلاّ أنها لا تخلو من الصدق. فمخايل نمنوم برعم سيتفتّح بعد الارتواء الجيّد. فشطحات قلمه تدل دلالة واضحة على أن خلف السحاب قمراً، وأسلوبه السرابي السريع يبشّر بهطول مطر غزير، ففي كلماته شيء من الحنو والرأفة، إذ أنه لا يقسو عليها، بل يعاملها برقّة، وينظّفها من بعض الأدران التي قد تعلق بها من جرّاء النمو وعدم الثبات.
نراه في "كرامة ترابنا" بركاناً ثائراً على الهجرة، وعلى من يدعو إليها، ويؤكّد أن كل ذرة من تراب لبنان تساوي الدنيا وما فيها، فهي خير من أعطى بصدق، وخير من ضحّى بصمت.
ونتابع القراءة بشغف مصحوب بالانتباه، حتى نصل إلى قصة تحمل عنوان الكتاب، ويا ليتها لم تكن فيه، لأنها كالرجل الفاقد العينين واليدين، تدور حول نفسها بشكل مملّ، لدرجة تخال بعدها أن الكاتب أرادها ليبيّن طائفية أهل القرى، وبالأخصّ نسائها، دون أن يداوي الجرح الذي تبرّع بتطبيبه.
وتمضي ساعة ونحن نتصفّح الكتاب، فتمرّ أمامنا أسماء وحوادث القصص الباقية، دون التأثّر بواحدة منها، وكأنّ الكتاب يتضمّن صفحات هي أقرب إلى المقالات منها إلى القصص.
ولكن ما الفرق، فالقلم متى تتلمذ أعطى، ومتى اعتاد السير، قلّ تماهله وتباطؤه.
وأخيراً أقول إن مخايل نمنوم بحاجة إلى رعاية وحماية، لأنه يبشّر بمستقبل حسن.
الدبور البيروتية، العدد 2384، نيسان 1971
**
الحاكم العادل
سألت مرّة أحد أصدقائي عن رأيه في هذا الارتباك السياسي، الذي عانيناه في السابق، وما زلنا نعانيه اليوم، فأجابني والابتسامة تكلّل شفتيه:
ـ العنكبوت حشرة تحمل أطفالها على ظهرها، وتشقى في تربيتهم، ولكنهم متى كبروا أكلوها غير عابئين بتضحياتها وإخلاصها لهم.
نقدر أن نستنتج من هذا الكلام أن الحاكم الذي يعمل على إرضاء رجال السياسة، وملاينتهم، وتنفيذ رغباتهم، وحملهم على ظهره، إنّما يفتح قبره بيديه.
فالأحرى به أن يقف بوجههم، كالجبل أمام العاصفة، ويجادلهم جدال القسّيس للملحد، حتى يقنعهم بصواب فكرته، وأن يتناسى كليّاً مساعدتهم له للمجيء للحكم، لأن الملك العادل هو الذي يجهل من أيّ النساء ولد.
الدبور البيروتية، العدد 2384، نيسان 1971
**
درس لا ينسى
وقعت يا شربل!
أجل وقعت، وفي أقل من دقيقة واحدة، وعرّضت نفسك لشماتة الشامتات والشامتين، ووشوشة الهامسات والهامسين، وذلك إثر موعد، فانتظار، فمرض.
جميلة، رأيتها كضوء القمر المنسكب فوق بحيرة ماء، وخلتها، بادىء ذي بدء، حملاً وديعاً، له فم يأكل وليس له فم يتكلّم، فأعجبتني لدرجة فقدت معها كل اتزاني وخبرتي في الحياة. وأنا، لمعلوماتكم الشخصية، من أولئك المساكين المغرورين، الذين لهم جولات وصولات في عالم الضحك على الذقون، والتلاعب بأفئدة الصبايا، فاقتربت منها، وهمست في أذنها كلمات لا اخالكم تجهلونها، فاحمرت وجنتاها، وتمتمت بصوت منخفض:
ـ وأين تريدني أن ألقاك؟
ـ في المكان كذا..
ـ ولكن عندي شروط وأسئلة كثيرة أود أن تجيبني عنها قبل تنفيذ الاتفاق، وذلك لسبر أغوار نفسك.
ـ كلّي آذان صاغية.
ـ أولاً، من تحب من رجال السياسة عندنا؟
ـ عدّي ورائي: كميل شمعون وكمال جنبلاط، رشيد كرامي وصائب سلام، عبدالله اليافي وريمون إده، بيار الجميل وفؤاد...
ـ كفى، كفى، إنك تمزح!
ـ لا والله لست أمزح، وإنما أتكلّم الجدّ..
ـ طيّب، قل لي: من تحبّ من الوزراء؟
ـ أي وزراء؟
ـ وزراؤنا الشباب؟
ـ لا أحبّ أحداً.
ـ وأنا مثلك.. ومن الممثلين والممثلات؟
ـ قرياقوس ويوسفيّة..
ـ ومن هما، بالله عليك؟
ـ قرياقوس، رجل يديّن بالفائدة، ولا ينام قبل أن يصلّي، وتطفر الدمعة من عينيه لدى سماع خبر محزن، خصوصاً عندما يتأخّر أحدهم عن تسديد كمبيالته.
ويوسفيّة، امرأة تغشّ الحليب، ومع ذلك ترينها عاجزة عن تلبية طلبات ملحّة لشراء الحليب، تردها من أهل قريتنا والقرى المجاورة لنا.
ـ عال، وما اسمك؟
ـ شربل..
هنا، وضعت إصبعها في فمها، وارتسمت على وجهها إمارات التفكير العميق، ثم تطلّعت بي وقالت:
ـ انتظرني في المكان الذي ذكرت، من الساعة الثامنة حتى التاسعة صباحاً، وأنا سآتيك متى سنحت لي الفرصة، لأن أهلي يحصون عليّ خطواتي وأنفاسي، ولكن ثق ستسنح بإذن الله.
قفزت من مكاني كالبهلوان، ورحت أعدو باتجاه البيت، والشعور الذي يغمرني أكبر من أن يوصف. وما أن احتوتني غرفتي حتى غيّرت هندامي، وعطّرت جسمي وشعري، ودندنت للحظات مع مطربنا المتنقل من قارة إلى قارة، ومن بلد إلى بلد، ومن مدينة إلى مدينة، حتّى ومن دسكرة إلى دسكرة، بحثاً عن رزقه ورزق عياله المقطوع هنا، والمرمي في سلة مهملات الدولة.
أجل، لقد دندت مع مطربنا الكبير وديع الصافي هذه الأغنية المنسيّة من زمان:
بالساحه تلاقينا بالساحه
عليها جوز عيون شو دبّاحه
وقامه يخزي العين والخدين
تفّاحه بتغار من تفّاحه
ولكن حساب الحقل لم ينطبق على حساب البيدر، لأنني والحق أقول انتظرت من الساعة السابعة والنصف حتى العاشرة صباحاً دون أن تأتي، أو تبعث بمن يعتذر لي عنها.
وصدقوني إذا قلت إن رجليّ تورمتا من الوقوف، وظهري انكسر، ورأسي بات يغلي كالمرجل من شدّة حرارة الشمس الربيعية، ولولا قوّتي البدنية، لكنت الآن في إحدى المستشفيات الرخيصة التي تراعي الظروف، ولا تقبض سلفاً، أو تأبى أن تستقبل مريضاً ما لم يكن مرفقاً ببطاقة توصية من أحد الأطباء الاحتكاريين الجشعين، أو الوزراء الطامعين بالنيابة، أو النواب الخائفين على كراسيهم المدفوع ثمنها من الضياع.
وبينما أنا أجمع شتات أفكاري، اقترب مني صبي صغير وقال:
ـ لك معي رسالة.
فتناولتها من يده بلهفة بالغة، وفضضت الظرف بأصابع مرتجفة، فوجدت بداخله ليرة لبنانية واحدة، وورقة كتب عليها ما يلي:
"هذه اجرة التاكسي، أرجو أن لا تصاب بضربة شمس، وأنصحك متى وصلت إلى البيت، أن ترفع رجليك قليلاً، حتى يتسرّب الدم المتجمع في أسفلهما إلى الشرايين، ومن الشرايين إلى القلب، وعندها تشعر بالراحة والطمأنينة.
واعلم أن الفكرة السيّئة التي كونتموها عنا نحن الفتيات المراهقات عارية عن الصحة تماماً، وهذا خير دليل تلمسه أنت بنفسك، كما أرجو أن تكتب وتنشر هذه الحادثة، ليطمئن الأهل، وليعرفوا أن مستقبل فتياتهم مضمون مئة بالمئة، وكل ما يشاع ويذاع عنهن تفشير وثأثأة ألسنة مريضة".
ألا بارك الله بأمثالك يا فتاتي الطاهرة، لأنك أعطيتني درساً لن أنساه ما حييت.
الدبور البيروتية، العدد 2396، حزيران 1971
**
يحق للنائب ما لا يحق لغيره
"المشهد مكتب فخم ازدان بالأزهار الجميلة، وفي أحد جوانبه كنبة يجلس عليها نائب، يحمل ورقة وقلماً. يدخل عليه نائب آخر"
النائب الأول: صباح الخير يا عزيزي، أراك منهمكاً بكتابة خطاب سياسي!
النائب الثاني: "يرحب به ويجلسه إلى جانبه" أجل، أجل.. لقد دعيت مؤخراً لافتتاح مهرجان فني كبير..
الأول: مهرجان فنيّ؟!
الثاني: إيه.. مهرجان فني..
الأول: وما دخل السياسة بالفن؟
الثاني: سأغتنم الفرصة لبث آرائي بين جمهور الحاضرين.
الأول: ولكن هذا غشّ واحتيال!
الثاني: يمكنك أن تسميه ما شئت، ولكنه بنظري كسب شعبي، لا يمكنني الحصول عليه إلاّ في ظرف كهذا.
الأول: إلهذا الحدّ؟
الثاني: وأكثر..
الأول: حرام عليك يا صديقي.. دع الناس وشأنهم، دعهم ينعمون بالطرب، دعهم يصفّقون لصوت مطرب أعجبهم، فلقد ملّوا من التصفيق لنا، والتهبت حناجرهم من كثرة الصياح والصفير لدى رؤيتنا، دعهم ينعمون بعيداً عنّا ولو لمدة ساعتين فقط..
الثاني: ها.. ها.. لقد أصبحت مرشداً واعياً، وعهدي بك غير ذلك!
الأول: الأيام، يا عزيزي، تعلّم الانسان كل شيء.. حتّى الحكمة.
الثاني: وما معنى الحكمة؟
الأول: هو أن تعرف نتيجة عملك قبل الإقدام عليه.
الثاني: أعرفها يا سيّدي..
الأول: وهو أيضاً التطلّع إلى المستقبل من خلال الماضي والحاضر..
الثاني: لم أفهم..
الأول: ستفهم غداً، والغد قريب. والآن أرجوك أن تقرأ لي بعضاً مما كتبت في خطابك هذا.
الثاني: "يقف وقفة شاعر" إسمع:
سيّداتي، آنساتي، سادتي
جئت أقول كلمه
ليست كباقي الكلمات
فيها صدق وسلامه
فيها دعم للحياة
ما رأيك؟
الأول: أهذا شعر.. أم أنني غلطان؟
الثاني: لا بل أنت على صواب..
الأول: ومن أين حصلت عليه؟
الثاني: دفعت ثمنه..
الأول: "تأخذه الدهشة" وكيف؟!
الثاني: قصدت شاعراً مغموراً، وطلبت منه نظم قصيدة تلهب الأكفّ.
الأول: وهذا مطلعها؟
الثاني: أجل..
الأول: وبالطبع ستقول إنك أنت مؤلفها؟
الثاني: "بحدة" ألم أدفع ثمنها؟ ثم لا تنسَ يا صديقي أن الشاعر يلاقي العطف أينما حلّ.
الأول: وهل يرضى الشاعر؟
الثاني: أعرف كيف أسكته..
الأول: أكمل..
الثاني: "وكأنه يفتّش عن ورقة أضاعها" سأقرأ عليك بعض الفقرات التي أضفتها إلى القصيدة.
الأول: تفضل.. كلّي آذان صاغية.
الثاني: الحكم رديء عندنا لدرجة قصوى، تصوّروا أنني قلت لأحد المسؤولون..
الأول: "مصححاً له" لأحد المسؤولين..
الثاني: إنني شخصاً..
الأول: "يقاطعه بتأفف" إنني شخصٌ.. شخصٌ
الثاني: .. شخصٌ تهمّه مصلحة البلاد قبل كل شيء، ولذا طلبت منه منصباً وزارياً، لعلّي بذلك أخدم الشّعب الذي نذرت نفسي لخدمته، وأنا كما تعلمون لا تهمّني المناصب بقدر ما تهمّني مصالحكم.
الأول: "يصفّق" الجملة الأخيرة رائعة، أهنّئك عليها، ولكن هل صحيح ما تقول؟
الثاني: نحن لنا أن نقول، ولهم أن يصدّقوا..
الأول: وممن طلبت المنصب؟
الثاني: "يشعل سيجارة وينفخ دخانها في الفضاء" هم وعدوني به في ظرف إستثنائي، ولكنهم أخلّوا بوعدهم في ظرف إستثنائي آخر.
الأول: "يضرب كفاً بكف" وقعت يا مسكين!
الثاني: "يحملق به" ألم تقع قبلي؟
الأول: "بحسرة وألم" مراراً..
الثاني: إذن..
الأول: أذكر يوم انتخاب رئيس المجلس في العام، في العام..
الثاني: الحاصل..
الأول: اقترب مني أحدهم وقال لي همساً: ضع هذه الورقة في الصندوق، لأضع في جيبك مبلغاً كبيراً من المال، فأخذت الورقة منه ووضعتها في الصندوق، دون أن أفتحها، أو أعرف اسم الشخص الذي كُتب بداخلها.
الثاني: "وقد نفذ صبره" أخبرني هل قبضت المبلغ بعد ذلك؟
الأول: قبضت نصفه..
الثاني: والنصف الآخر؟!
الأول: طار..
الثاني: أنت طيّروا لك نصف مبلغك، وأنا طيّروا لي نصف عقلي..
الأول: وما العمل؟
الثاني: ادعُ أحدهم إلى مأدبة عشاء فاخر وسترى..
الأول: جرّبت هذا، ولم ينفع..
الثاني: هدّد بإقامة مهرجان شعبي، وسترى..
الأول: هدّدت ولم يبالوا..
الثاني: "بعصبية بالغة" ادعُ الشعب إلى المهرجان..
الأول: دعوته ولم يحضر..
الثاني: .. وكيف نجحت في الانتخابات؟
الأول: "بصوت منخفض" كان عندي قطعة أرض بعتها ووزعت ثمنها على الفقراء المساكين، الذين يحقّ له التصويت فقط..
الثاني: أف، أنت حالتك صعبة جداً..
الأول: ولهذا تراني صامتاً، وحكيماً، وكبير العقل..
الثاني: آه، على فوقة، هل ستمنح الثقة للحكومة الجديدة؟
الأول: ولو على قطع رأسي..
الثاني: وأنا أيضاً، والله والله سأقيم الأرض وأقعدها في جلسة الثقة غداً، وسأهاجم الجميع، وخاصّة دولة الرئيس. "يرن هاتفه النقّال".. ألو، من؟ صباح الخير دولة الرئيس، كيف حالك؟ ماذا؟ تكرم، تكرم، والله لأعطيك عيوني مع الثقة.. مع ألف سلامة.
الأول: هه، ماذا قال لك؟ وماذا قلت له؟
الثاني: ألم تسمعني؟
الأول: بلى.. ولكني حسبتك تمزح..
الثاني: أمزح؟!.. مستحيل، فلقد وعدته.
الأول: عكس ما أقسمت عليه منذ برهة!
الثاني: "يضحك ملء فمه" أولاً: هذه سياسة، ثانياً: يحقّ للنائب ما لا يحق لغيره.
الأول: "بسخرية" وخصوصاً إذا كان شاعراً.
الدبور البيروتية، العدد 2310، تشرين أول 1969
**
بين رسائل الأمس ورسائل اليوم
ـ1ـ
رسالة قديمة
مجدليا في 24 نيسان 1926
حبيبي آميل..
من بعد التحيّة والسّلام، إنّي أكلّمك بأجمل الكلام، يا أملي الوحيد، وزوجي العتيد، يا أيّها الصنديد، وآكل النحاس والحديد، يا داعس النجوم، وشارب الغيوم، إرحم حبيبتك زينوبْ، وابعث لها مكتوبْ، يُلَوّي القلوبْ.
هذا ما أردت تبيانه، في هذه الرسالة وإعلانه، لأنني أحبّك كثيرا، كما تحب العنزة الشّعيرا، وأكثر، حبّ خالتك أم أنور، للغمّة والمصران الأعور.
يا حبيبي آميل، بعدك القلب عليل، وفي لقياك الدواء، وفي شخيرك الهواء، فارجع إلى لبنان، يا عنتر الجفلان، وفارس الميدان، لنحصد البلاّن، ونقطف الريحان، ونقوّص القيقان.
سلّم على أبيك، واعطف على أخيك، وانتبه من النسوان، وخصوصاً الأميركان، كي لا أصبح مرحومة قبل الأوان، واكتب لي دائما، كي ترضى عليك السّما، وأم مخائيل، تقبّلك يا آميل، في وجنتيك الجميلتين، وإذا سمحت لها بقبلتين، قبّلتك مرتين، في كل أذن وعين.
البارحة ذهبت إلى الزاروب، وجلست تحت شجر الخرّوب، ورحت أفكّر فيك، وأتذكّر ماضيك، يوم كنت تجلس أمامي، مثل الصوص البالع حبّة قضامي، وتغني لي ميجانا، فأضحك منك أنا، ومن صوتك المخنوق، وكأنه صوت مطرب في حنكه خازوق.
تصوّر يا حبيب الروح، أن جدّتك أم ممدوح، وقفت لي بنصف الدرب، وقالت لي: يا بنت الكلب، ويا صفتك، ويا نعتك، لماذا تدندلين غرّتك، وابننا المحروس غائب، أوَ تدرين كم يلاقي من المصائب، كي، لا سمح الله، يتزوجك، ويدلّلك ويغنّجك.
وحياتك يا أبا القامة الممشوقة، أنني كنت ألبس البشنوقة، وشعري تحتها غالل، رحمة الله على القائل: مربى الفتاة، لا يتغيّر مدى الحياة.
واسلم يا حبّوب، لحبيبتك زينوب.
ـ2ـ
رسالة نصف قديمة
مجدليا في 17 نيسان 1953
دقّات قلبي خرستين..
من بعد بعيد، وشوق ما عليه من مزيد، جئت أطمئنّ عنكِ، وأخبرك أنني وضعت في البنكِ، مبلغ ألف وستمئة ليرة، وهذا كل ما تبقّى لي من ثمن الحظيرة.
كيف حال نيويورك يا خرستين، قولي الحقيقة من أحلى، أهي أم البساتين؟ أم تلّة الذهب الملآنة بالحساسين؟
ماذا أخبرك بعد، فأنا أكره السرد، والمكتوب إن لم يكن رزينْ، ما نفعه يا خرستين، فلا تلوميني إذن، إن لم أخبرك عن الفتن، التي عمّت البلاد، وأهلكت الزرع والعباد.
ولكنه بعونه تعالى، ستتحسّن الحالة، ويعود الازدهار إلى الديار، وخصوصاً في مطلع هذا العهد، الذي لا يفرّق بين سيّد وعبد.
موسم التفّاح هذا العام، مصاب بالقرحة والكتام، والعنب كلّه مضروب، والتين لا يحمل حبوبْ، والبقرة الحلوب أماتت عجلها، والجحشة السمينة فقدت بعلها، وابن المختار تزوّجْ، عقبى لنا عندما تفرج، ونلتقي من جديد، ونحقّق المواعيد.
لي وصيّة عندكِ، لا تتفرنجي وتتركي عادات جدّكِ، فتراثنا ثمين، يجب أن نحميه من تلويث الملوّثين، قولي معي: آمين.
ودمت لحبيبك تحسين.
ـ3ـ
رسالة حديثة
مجدليا في 8 أيار 1971
مون أمور فريدي..
انتظر حتّى أبصق العلكة، التي مع أسناني مشتبكة، في أعنف معركة، وكان بودّي أن أرسل لك هديّة، ولكنني، والحق أقول، من الدراهم خالية.
لماذا أصبحت بخيلا، ويدك من قلّة العطاء عليلة، لا تقل الواردات قليلة، فأنا أعرف هذه الحيلة.
إيّاك أن تنسى فرو الفأر الأبيض، الذي وعدتني به من زمان، ولا تنسَ خاتم المرجان، هذا إن نسيته فلسوف أمرض.
فوفو..
أتذكر ستيريو (لا فام)، يوم التقينا في الظلام، وأقسمت أنك لي، وأقسمت أنني لك، وقلت لي: أنتِ الأحلى، وقلت لك: أنتَ الأغلى، ومرّت الأيام، ونحن نلتقي، لنستقي، ماء الغرام.
أمس ذهبت إلى بيروت، وانتقيت أجمل (شورت)، ليتك كنت في لبنان، لتشاهدني به أزدان، وكأنني حوريّة أتت من بلاد الجان، صدّقني انّه أجمل من الميكرو ـ جيب، يا أغلى حبيب.
غداً، سأدعو بعض الأصدقاء، إلى حفلتَيْ رقص وعشاء، وخسارة أن لا تكون فيهما، وتلطّف جوّهما.
وأخيراً (أوريفوار)..
حبيبتك فيكتوار
الدبور البيروتية، العدد 2390، أيار 1971
**
حديث الفراش
(المشهد: غرفة نوم، والزوجان في فراشهما)
الزوج: "يتثاءب" آه لو تعلمين يا عزيزتي كم أنا تعب، وكم أنا بحاجة إلى النوم..
الزوجة: ولكنّي أريد أن أخبرك أن أمي زارتنا اليوم للاطمئنان، ولاستدانة مبلغ بسيط من المال..
الزوج: بسيط؟
الزوجة: أجل.. مئة دولار..
الزوج: "ساخراً" فقط؟
الزوجة: طلبت أكثر، ولكنّي لم أكن أملك سواها.
الزوج: حماك الله يا عزيزتي.. حماك الله.
الزوجة: ما بك تكاد تغفو؟! ألا تريد أن أخبرك ماذا فعلت بي الخادمة اليوم؟
الزوج: "وقد غالبه النعاس" وماذا فعلت؟
الزوجة: سرقتني..
الزوج: "بانتفاض" وماذا سرقت؟
الزوجة: إحزر..
الزوج: هل سرقت الراديو؟
الزوجة: لا..
الزوج: إذن.. التلفزيون.
الزوجة: وأيضاً لا..
الزوج: يا لها من مجرمة، أيعقل أن تسرق الطناجر؟
الزوجة: إطمئن يا عزيزي، فالطناجر بخير..
الزوج: إذن.. فهي لم تسرق شيئاً.
الزوجة: بلى.. بلى..
الزوج: وماذا سرقت؟
الزوجة: سرقت جواربي..
الزوج: يا للمصيبة!
الزوجة: ألم تلحظ شيئاً جديداً في البيت يا عزيزي؟
الزوج: أرجوك.. أريد أن أنام.
الزوجة: ولكنّها جميلة..
الزوج: سأراها في الغد..
الزوجة: وزهيدة الثمن..
الزوج: "بتأفف" وما هي؟
الزوجة: المزهرية.. المزهرية.. سآتيك بها "تخرج".
الزوج: يا ناس.. أريد أن أنام.
الزوجة: "تدخل وبيدها مزهرية فيها بعض الأزهار" ها هي، أنظر ما أروعها..
الزوج: وكم ثمنها؟
الزوجة: لقد سايروني كثيراً، تصوّر أن ثمنها لا ينقص عن الستين، وبفضل شطارتي تمكنت من شرائها بخمسين دولاراً فقط.
الزوج: "مهللاً" يا للفرحة.. لقد كنت أشك في أن زوجتي تحب الاقتصاد..
الزوجة: .. وتحبّك.
الزوج: لم أشك في هذا مطلقاً.
الزوجة: إذن، من هي تلك التي كانت في سيارتك أول أمس؟
الزوج: أول أمس؟.. سكرتيرتي.
الزوجة: سكرتيرتك على ما أعلم سمراء، والتي كانت بقربك شقراء، فما معنى هذا؟
الزوج: لقد صبغت شعرها..
الزوجة: هكذا إذن.. ولكن كيف تمكنّت من إطالة جسمها؟
الزوج: لقد كانت تلبس كعباً عالياً.
الزوجة: لا تحاول إقناعي، فالادلّة كثيرة ضدّك.
الزوج: ومن أين لك هذه الأدلّة؟
الزوجة: من الذين شاهدوك..
الزوج: ومن شاهدني؟
الزوجة: عملائي..
الزوج: "وقد أخذته الدهشة" عملاؤك؟!
الزوجة: أجل.. عملائي.
الزوج: وأين شاهدوني معها؟
الزوجة: قرب المكتب.
الزوج: قرب المكتب؟ يا للجرم المشهود..
الزوجة: لا تغضب يا عزيزي، فأنا أغار عليك كثيراً.
الزوج: لا بأس، ولكني أريد أن أنام، أرجوك لقد تعبت اليوم.
الزوجة: "معاتبة" أنت لست شاطراً إلا بالعمل والنوم، وأما بغير ذلك فلا..
الزوج: لو لم أكدّ وأعمل، لكنت الآن في عجز مالي، ولبيع بيتي في المزاد العلني.
الزوجة: "تلطم خدها" يا إلهي، أحقّاً ما تقول؟!
الزوج: أجل يا عزيزتي، ففساطينك الكثيرة المكدسة في الصناديق والخزائن، وشعرك المستعار، وأدوات زينتك وزينة منزلك، أمثال هذه المزهرية، يعجز أكبر البنوك في العالم عن شرائها.
الزوجة: ولكن أحوالنا بخير..
الزوج: هذا بفضل العمل الذي تشكين منه..
الزوجة: كم أنا غبيّة..
الزوج: إسمعي يا عزيزتي، أنا كما تعلمين لا أبخل عليك بشيء، فعندما تزوجتك قطعت لك جهازاً لا مثيل له، حتى في دار السلطان، وكنت كل نهاية شهر أعطيك نصف معاشي لشراء لوازم البيت من مأكولات ومشروبات، وكنتِ، بالرغم من هذا كله، تطلبين المزيد، فأعطيك دون أن أسأل، أو دون أن يردعك ضمير.
الزوجة: كفى.. كفى.. أرجوك.
الزوج: ولكني لم أقل شيئاً بعد..
الزوجة: لا داعي للمزيد، فالذي سمعته يكفي لإعادة رشدي.
الزوج: "ينظر إلى ساعته" والآن، هل بإمكاني أن أنام مطمئناً؟
الزوجة: "تقبّله على جبينه وهي تضحك" بالطبع يا عزيزي، فأنا أشد منك نعاساً.
الدبور البيروتية، العدد 2303، أيلول 1969
**
يا بيّاع العنب والعنبيّا
كثيرون هم الذين سمعوا أغنية فيروز الأخيرة التي يقول مطلعها:
يا بيّاع العنب والعِنَبِيَّا
قول لأمي وقول لبيَّا
سرقوني الغجر..
من تحت خيمة مجدليّا
وكثيرون هم الذين يجهلون أن لهذه الأغنية قصة واقعية، جرت حوادثها في بلدة واقعة شرقي طرابلس، تدعى مجدليّا.
وما زاد في انتشار هذه ألأغنية، حتى عمّت شهرتها مغارب لبنان ومشارقه، هو كلامها السلس، ووزنها الخفيف، وجرسها المموسق.
والغريب حقاً، أن لهذه الأغنية قصصاً عديدة، زادت في غموضها، وعدم صحتها.
ولكنّي قمت مؤخراً بزيارة بعض عجائز القرية، لعلّي أحظى بشيء من الحقيقة، فأخبروني جميعهم قصة واحدة مدعومة بالإثبات الوحيد الباقي، ألا وهو جذع سنديانة غارق بالقدم، وأشاروا عليه بأصابعهم: هذا هو الدليل.
وليس هذا فحسب ما يدل على صحّة القصّة، حيث أن الأغنية الكاملة التي غنّوها لي، تزخر بأسماء أشخاص ومناطق ما زالت معروفة حتى الآن.
فمثلاً: عائلة "أنيسة"، وهناك العديد من أبنائها، أشهرهم عضو البلدية الحالية موسى أنيسة.
وساحة البيادر، التي تكاد أن تضاهي بشهرتها إسم القرية نفسه.
والقصة حسب ادعائهم تقول:
منذ أربعمئة سنة ونيّف، سكنت في مجدليا عائلة مكونة من زوجين وطفلين، كبيرهما طفلة لم تناهز بعد ربيعها العاشر. وكانت أعمال العائلة محصورة في الزراعة وتربية الماشية.
وذات يوم، وبينما كانت الطفلة ترعى خرافها، أرادت أن ترتاح، فاختارت سنديانة ظليلة، أسندت إليها رأسها، وغرقت في نوم عميق.
وما هي إلاّ لحظات، حتى فاجأها صوت غريب فيه لكنة ابن البادية، فارتاعت كثيراً، وحاولت أن تصرخ، ولكن الخوف لجمها ومنعها عن الحركة، فحملها الإعرابي على ظهر حصانه، وساق أمامه القطيع، إلى أن وصل برّ الشام، فأنزلها هناك وسط الصحراء، وأدخلها خيمة مفروشة بالطنافس العربية، وبجلود الغنم، عرفت فيما بعد أنها خيمة ألأمير.
ومرّت الأيّام مسرعة، وأهل الفتاة أضناهم التفتيش عنها، حتى دبّ في قلوبهم اليأس، واعتقدوا أن وحشاً افترسها مع القطيع، إلى أن لعبت الصدفة دورها ألأكبر، فقادت إليها بائع عنب متجولاً، يحمل على شفتيه قبس أمل.
أجل، فالبائع راح يغني أنّى وصل، هذه الأغنية التي زوّدته بها الفتاة:
ـ1ـ
يا بيّاع العنب والعِنَبِيّا
قول لأمّي وقول لبيّا
سرقوني العرب والعاربيّا
من تحت سنديانة مجدليّا
ـ2ـ
بيتنا حدّ البيادر
وبيّي إسمو الشيخ نادر
وأمي من عيلة أنيسة
سآل عنها وعن كرم ديّا
يا بيّاع العنب والعِنَبِيّا
ـ3ـ
كنت هزهز من زمان
لخيّي بسرير المرجان
واليوم يا بيّاع صرت
هزهز لطفله بْنيَّه
بسرير الخشب والخاشبيّا
وهكذا أدرك أهل الفتاة أن اعتقادهم خاطىء، وأن ابنتهم بحاجة لمساعدتهم، فجنّدوا أنفسهم، وتوجّهوا نحو مضارب القبيلة، حيث دخل أحدهم متنكراً إلى خيمة الأمير، فحاور وداور، حتى سنحت له الفرصة، فاستولى على الفتاة، وعاد بها ظافراً، والبسمة تعلو ثغريهما معاً.
هذه هي حكاية بائع العنب والعنّاب، أرجو أن تكونوا قد اقتنعتم بها.
الدبور البيروتية، العدد 2368، كانون أول 1970
**
كوكتيل على الطريقة القروية
شويعر
البارحة اجتمعت بشاعر مشهور، فخفت منه بادىء ذي بدء، ورحت أقيس كل كلمة أنطقها بمقياس أطول من الكابل البحري، وفضائحه الملغومة. ولكنه ما أن فتح حنفية برميله الشعري، حتّى وجدته قزماً لا يستحقّ لقب شويعر، والدليل على ذلك هذه الأبيات الشعرية الموزونة بقشّة مكنسة، كما تفضّل وقال لي:
1ـ في وصف الطبيعة:
يا أيّتها الشجيجرات
ألله، ألله كم فيكنّ من جمال وروعة وحياة!
2ـ في وصف الأعمى:
يا صاحب العينين اللتين كنت تفاخر بهما البشريّة
عيناك، لست أدري، في أيّة سلّة للزبالة مرميّة
ولكن قمّة أعماله الشعرية الملأى بالأغلاط النحوية والإملائية، التي يعرفها ابن الصفّ العاشر، هو هذا البيت الذي يرثي به ميتاً لو لم يكن أطرش، خلقة ربّه، لقام من قبره، وأكله بدون ملح. قال لا فض فوه:
إنّ الطيورُ (بضمّ الراء)..
على القبورُ (بضمّ الراء)..
تغني وتقولُ:
رحمة الله عليك يا محمّد علي باشا الشمخرورو
**
بيضة
أم ربيز.. اختلفت مع كنّتها، فاجتمع على صوتيهما المرتفعين أهل القرية، وأخذوا يسخرون منهما، ويضرمون نار الحقد في نفسيهما، حتى وصل بهما الأمر إلى شدّ شعريهما، وشهر لسانيهما، وتصوير بعضهما بكعبيْ سكربينتيهما، وسبب الخناقة، كما عرفت، بيضة، كانت أم ربيز قد أعارتها إلى كنّتها منذ أسبوعين، لتطعم طفلها الجائع، ولم تتمكن الكنّة من إرجاعها.
**
اليوغا الهندية
منذ مدّة وأنا قابع في غرفتي، لا أقابل أحداً، فاشتهر أمري بين الكبير والصغير، وأخذ البعض بفبركة الأخبار عني. ولتدركوا كم هي مؤلمة، سأذكر على سبيل المثال بعضاً منها:
ـ البارحة طرد أمه، لأنه رأى ذبابة على أنفها.
ـ مسكين، لقد بقي طوال الليل الفائت يهذي ويصيح: الكوليرا، الكوليرا، يا وزارة الصحة، اطردي الكوليرا من لبنان.
ـ كيف يقدر رجل نحيل مثل هذا، أن يعيش مدة يومين متتاليين بدون طعام، اعتقاداً منه أن الطعام ملوث تلقائياً، نظراً لانتقاله من يد لأخرى.
ـ لا يشرب الماء إلا بعد غليها، فوزارة الموارد المائية والكهربائية عندنا لا تعتني بنظافة مياه الشفة، خوفاً على مصالح بعض الشركات التي تبيع المواطن مشروباً ملوناً، له رائحة تشبه إلى حد بعيد رائحة مياه عين الدلبة.
إلى هؤلاء الفضوليين أقول: صححوا معلوماتكم، فأنا لست بخائف من المياه القذرة لأنني اعتدت عليها منذ نعومة أظافري، ولا من الذباب، لأنني عاشرت البرغش وألفت لذعاته. حتى ولا من الكوليرا لأنني ملقّح ضدّها، بل كنت طوال تنسكي الجزئي، وابتعادي عن الناس، أمارس أو بالأحرى، أتعلّم فنّ اليوغا على الطريقة الهندية، لأن من لا يمارس اليوغا في هذا البلد العائش على أعصابه، مات حزناً وكمداً.
الدبّور البيروتية، العدد 2405، آب 1971
**
مجلس نواب القرية
يوجد في قريتنا مجلس دائم، ينعقد مساء كل يوم، وذلك لمحاسبة النواب والوزراء، وتقييم أعمالهم، وعرضها على بساط البحث، ونقدها نقداً يعجز عنه واضعو أسئلة البكالوريا اللبنانية، نظراً لتشعّب الاتجاهات السياسية، وارتباط البعض منّا بأحزاب وتكتّلات نيابية، قد لا تخطر على بال أحد.
بالأمس، كنت كلما وجدت المجلس الكريم منعقداً، استلقي على ظهري من شدّة الضحك، وأقول للموجودين حولي:
ـ روحوا خبّروهم أن الشعب لن يرضى عنهم، ولن يعطيهم ثقته ما لم يوقفوا تيّار الهجرة، ويقضوا على كوليرا البطالة في لبنان.
ولكنني عدت فغيّرت رأيي في الموضوع، وعملت المستحيل كي أدخل في جوهم المتلبّد، الممطر ويلات ونقمات على الحكم والحكّام، فتقدّمت بطلب انتساب للمجلس، ورجوت (ريّسه) أن يعمل على إقناع النوّاب وحثّهم على قبول شاب مثقّف بينهم، لسانه قصير، وفعله كبير، (ويشيل الزير من البير) حسب تعبير الشيخ يوسف، الخبير بالتقاط الموجات الصوتيّة على الراديو، وهو، سيرة وانفتحت، أول من سمع البلاغ رقم واحد الذي بثّته إذاعة ليبيا، إثر الانقلاب العسكري الفاشل على الملك حسن عاهل المغرب.
أطلقت طلقين من مسدسي، ورحت أرقص من شدّة الفرح، عندما وصلني خبر فوزي بكرسي النيابة المحليّة، بأكثرية صوت واحد، كان، ولسوء الحظّ، مبحوحاً، وغير قادر على النطق. وللحال تجمهر آكلو الجبنة حول بيتي، وراحوا يرددون بصوت عالٍ:
شربل بك لا تهتم
عندك زلم بتشرب دم
شربل بك نيّالك
بتربّي الهول رجالك
وكنت كلما رجوتهم أن يكفّوا عن الصياح، تعلّقوا بأذيال ثوبي، وراحوا يشدونني بعنف ويغنّون:
وينك يا خيّال نزال
وخلّي السيف يشرقط نار
خيالك بيوقّع خيّال
حصانك ملّى الساحه غبار
علماً منهم بأنني من طينة زعماء الوطن الحقيقيين، الذين يدفعون دم قلوبهم مقابل هيصة ورقصة أمام قصورهم الشامخة المصابة، في هذه الأيام، بداء الوحدة والضجر.
وهكذا بين ليلة وضحاها، أصبح محسوبكم من وجهاء القرية، بيتي ملك الجميع، ونبع قهوتي لا ينضب، وبتّ أشتري كل خمسين (كروس) من الدخان دفعة واحدة، ولا أقدر أن أنام قبل بزوغ الفجر.
والغريب في الأمر أن زوجتي لم تتأفّف من هذا كلّه، بل طالبتني بدزينة أثواب جديدة، وعشر سكربينات، وعقد، وثلاث إسوارات، وخادمة تساعدها في جلي الصحون، وإعداد القهوة، وتقديمها للضيوف، والسهر على راحتهم، كي لا ينرفزوا ويزعلوا منا.
مرّ شهر على انتسابي لمجلس نوّاب القرية، وحالتي المالية تنتقل من سيىء إلى أسوأ، لأن كرمي زاد في عدد الطفيليين العائشين على حساب أمثالي من المساطيل البالعين ألسنتهم، خوفاً على مراكزهم بين الناس، وتحسّباً لكل ردّة فعل من ألسنة زوجاتهم، سيّدات المجتمع الأورستقراطي. فبلغ مجموع ما دفعته ثمن حاجيّات متنوعة "5000 ل ل"، ومازات "600 ل ل"، وكاتو "950 ل ل"، وقهوة وشاي ويانسون ودخان "1110 ل ل"، ومشروبات روحيّة "390 ل ل".
الغاية، أنني دفعت مبلغ ثمانية آلاف ليرة لبنانية، وأنا أعلم تماماً أنني لم أدفع شيئاً بعد، لأن تدفق "المحبّين" على كوخي المتواضع، أشبه ما يكون بتدفّق إنذارات البنك الذي أقرضني المال، بعد أن استرحمت مديره، وأخبرته قصّتي، والحالة المبهدلة التي سأصل إليها إن لم أفتح يدي للناس قبل قلبي، لأن ما يهمهم هو الكسب المادي، وليس العواطف المهترئة، كما يسمّون التضحية الروحية والاخلاص بالحب.
وأخيراً طفح الكيل، فانفجرت كقنبلة المولوتوف المصنوعة على اليد، وطردت من بيتي جميع الموجودين وأنا أصيح بهم:
ـ بيتي بيت (النزاهة) يدعى، وأنتم جعلتموه مغارة (للسماسرة).
حاولت زوجتي الوقوف في وجهي، بغية منعي من تنفيذ خطّتي المدروسة، حسب ادعائها، فأدخلتها الحمّام، وأقفلت عليها، وتابعت عملية الطرد بثورة جسدية لاهبة، حتى لم يبقَ أحد على الإطلاق، عندئذ أطلقت سراحها، فخرجت كالمجنونة وهي تهذي:
ـ هل طردت الصانعة؟ هل طردت النسوة أيضاً؟ يا دلّي.. كيف سأواجههن بعد اليوم؟ أين الصانعة.. أريدها الآن؟
وأخذت تبكي وتندب حظّها العاثر، وتحاول استدرار عطفي وحناني، ولما أعيتها الحيلة، تطلعت بي وقالت:
ـ مبسوط يا خواجة؟
فأجبتها بقهقهة عالية:
مبسوط.. وقلبي فرحان
كيف خلصنا من البلوه
وما عدنا نصرف دخّان
ولا عدنا نطحن قهوه
الدبور البيروتية، العدد 2402، آب 1971
**
رباعيّات فشّار
أقسم بكل ما هو غالٍ على قلبي، بأنني لست بفشّار كما يدّعي البعض، وأنني ما درست التفشير لا في البيت ولا في المدرسة، حتى ولا في الشارع.
ولهذا أرجوك، أيها القارىء العزيز، أن تحكم عليّ بالخيانة العظمى، إذا شممت رائحة تفشير بين طيّات ما سأكتبه لك، وفي نفس الوقت أرجوك أن تغضّ النظر قليلاً، لأنك لبيب، واللبيب من الإشارة يفهم.
ـ1ـ
ما أن وطأت قدماي أرض مطار سيدني، حتّى فوجئت بجمع غفير من الأقارب والأصدقاء يستقبلني استقبالاً منقطع النظير، لدرجة أن أحدهم حاول تقبيل يدي، فزجرته صائحاً:
ـ توقّف يا صاح.. ما أنا إلا إنسان مثلك.
فتمتم بانكسار ظاهر:
ـ أحببت أن أقبّل اليد القادمة حديثاً من لبنان، لأتنشّق من خلال مسامها رائحة الأرز والصنوبر.
وصدّقوني أنني جدّ نادم لرضوخي للأمر الواقع، ولسماحي له بتقبيل يديّ الإثنتين، لأن احمرارهما وتورمهما من جراء تهافت الجميع لتقبيلهما، قد أذاقاني مرّ العلقم.
ـ2ـ
أخي الأكبر يملك ثلاثة بيوت، وابنتين وزوجة. وأخي الأصغر منه يملك أربعة محلاّت تجاريّة، وابنة واحدة، وزوجة في أحشائها جنين ينمو ويكبر.
أما أنا، فقد عرض علي مبلغ ضخم من المال، وبناية في قلب سيدني، وزورق بحري، مقابل أن أتزوّج حفيدة أحد المهاجرين الأثرياء، التي توفي والداها إثر سقوط طائرتهما الخاصة، ومع ذلك رفضت العرض رفضاً قاطعاً، وهددت بقتل كل من يفتح أمامي سيرة الزواج، وحجتي في ذلك أن الفتاة تكبرني بشهرين ونصف وغير قادرة على إسعادي لجهلها النطق باللغة العربية.
ـ3ـ
طلبت بعد ثلاثة أشهر من دخولي إلى أستراليا للخدمة العسكرية، فثارت ثائرتي، وهاج بي دمي، وأعلنت العصيان على الدولة، فحملت رشاشاً حربياً، وسبع قنابل يدوية، ومسدساً، وتسع دزينات من الخرطوش السام، حتى أقضي قضاء مبرماً على كل من يقترب مني. ومن ثمّ صعدت إلى سطح البيت، وتمركزت وراء متراس، أين منه كافة المتاريس في لبنان.
وحين وصلت أخباري وعنترياتي إلى رئيس الشرطة، جهّز مصفحتين وسيارة نصف مجنزرة، وأخذ يهاجمني المرة تلو المرة، وأنا صامد كالجبل الذي أتيت منه، عندئذ أدرك أن الحوار معي خير علاج لتدارك الأمور قبل استفحالها، فرفع العلم الأبيض، واستأذنني بالاقتراب، وبدأ يسألني وأنا أجيب:
ـ لماذا أعلنت العصيان؟
ـ كي لا أذهب إلى الجيش..
ـ ولكنّك محارب من الدرجة الأولى..
ـ وسأحارب حتى آخر نقطة من دمي..
ـ وهل كنت تفعل مثل هذا لو كنت في بلادك؟
ـ آه كم أنت مسكين ومغفّل! أنا لو كنت في بلادي لاستعملت المدفع بدل الرشّاش، والديناميت بدل الخرطوش، ولرأيت حولي الأزلام والمحاسيب مدججين بالسلاح، وعلى رأسهم زعيم المنطقة، الذي أمنحه صوتي كل أربع سنوات.
ـ ومن أي بلاد أنت؟
ـ أنا من لبنان..
ـ يا ساتر.. إلى الوراء يا رجال.
وهكذا أثبتّ لكل صاحب بصيرة أن الرجل اللبناني من أشدّ الرجال صلابة، يعرف كيف يجابه الأخطار أثناء وقوعها.
ـ4ـ
لكثرة معارفي وتنقلاتي، جمعتني الظروف برجل اسمه "نقولا"، فسبّحت الخالق تعالى الذي جبله من الإسفلت "الزفت" الغالي، وجبلنا نحن من الحوّارة البيضاء الرخيصة. فهو إذا مازحك نطحك، وإذا جادلك قتلك، ومسكين جداً كل من يقترب منه، لأن يديه كمراوح الهواء المصفوفة على طول الشاطىء اللبناني، تارة تغنّجان هذا، وطوراً تنكعان ذاك.
إذا توحّش، أي صار وحشاً، تراه يتخانق مع جميع زملائه، الذين باتوا يتجنبون النظر إليه، متى مني بخسارة نظراً لادمانه على المراهنة في سباق الخيل والكلاب.
أما إذا تدبلمس، أي أصبح دبلوماسياً، فيكتفي بالصياح والنرفزة وشد شعر رأسه.
والمصيبة الكبرى، أن الجميع هنا مثل نقولا بالذات، مرضهم كذبهم واستبدادهم، وعدم اقتناعهم بالأشياء البعيدة عن مفهومياتهم.
ـ5ـ
أخجل كثيراً حين أسمع الناس يتكلّمون عن مهاراتي ومغامراتي في عالم الصيد، وأنا حقاً، بدون أي كنفشة أو كبرياء، صيّاد ماهر، أقلع عين الدوري بخردقة واحدة، مع العلم أنني ما تعوّدت اصطياد الطيور على كافة أنواعها، نظراً لابتعادي عن الجرائم، وقتل الطير، بعرف الجمال، جريمة كبرى، لهذا كان عليكم أن لا تتسرعوا وتحسبوني مثل صيّادي لبنان، الذين يتحملون عبء السفر، ومشاق الطريق، ليتمكنوا، وهيهات يسمح لهم، من اصطياد باشق في بلد شقيق.
وخير شاهد على ادعائي هذا، معرض الحيوانات البريّة الذي صممته بنفسي داخل بيتي، وزيّنته، أو بالأحرى، زوّدته بآلاف الأصناف من الوحوش الضارية، التي قتلتها ببارودتي، كما يقتل الطفل نملة. ولا أبالغ إذا قلت إنني ما اشتريت حيواناً واحداً، مع العلم بأن في معرضي عشرات الأصناف من الحيوانات المنقرضة.
ـ6ـ
لو أن أديسون المخترع الكبير، ما زال حيّاً يروق، لأجبر اللجنة المختصة في منح جوائز زميله المسكين نوبل، على إعطائي جائزة شرفية كبرى، وذلك لاختراعي جهاز "الحياة والموت".
تتساءلون، ولا ريب، عن ماهية هذا الجهاز، وكيفية استعماله، وعن الفوائد التي قد تجنيها البشرية من ورائه.
"الحياة والموت"، يا أعزائي، جهاز صغير يوضع على مسلّة عالية في وسط المدن، ويعمل تلقائياً على قتل كل من يكذب، ونقله إلى العالم الثاني، حيث البكاء وصريف الأسنان، أما الصادق فجزاؤه أغنية لطيفة من تلحين الأخوين رحباني وغناء فيروز.
ولكن، ويا للأسف، هناك مشكلة كبرى تحول دون تنفيذي للمشروع، ألا وهي تلك المآسي والويلات التي قد يجرها الجهاز على المجتمع، وخاصة خراب بيوت بعض العائلات المطمورة بالملايين، وتشريد أبنائها، ومحو السياسيين المراوغين والتجّار الجشعين من الوجود، وهذا، لعمري، قمة في الاجرام وفقدان الضمير.
ـ7ـ
الطبيب العالمي كريستيان برنار الذي توصّل إلى إجراء عملية استبدال قلب مريض منفوخ مثل رأس البطيخ الأحمر، بقلب صغير منمنم، لم يتمكن بعد من اللحاق بي في ميادين الطبّ، بعد أن نجحت معي عملية استبدال رأس هرة برأس كلب.
والحكاية النادرة التي سأرويها لكم الآن، تبدأ حين سمعت كلبي يموء وهرتي تنبح، فأصبت بشبه جنون، وحزنت كثيراً للأمر، لأن من غير المعقول أن أترك ما للكلب للهرة، وما للهرة للكلب. فأخذت، بادىء ذي بدء، بإجراء الفحوصات الأولية على كليهما، فوجدت أن هناك أغلاطاً طفيفة في تكوين رأسيهما، بإمكاني التخلص منها بأقل من ربع ساعة، وذلك بقطع الرأسين واستبدالهما ببعض، بعد أن سقيتهما قنينتين من العرق المثلّث، حتى لا يشعران بألم.
ولكي لا أكون كاذباً، أجدني مضطراً للقول إن صعوبات جمة اعترضت سير العملية وإنجاحها، خصوصاً كيفية لصق الرأسين بعد قطعهما. ولكنني، والحمد لله، تغلبت على هذه الصعوبة، باسنعمالي ماء السكّر اللزج، وتمكنت من إنقاذ الكلب والهرة من عقد نفسية قاتلة، قد تشوّه نسليهما في المستقبل.
الدبور البيروتية، العدد 2460، ايلول 1972
**
من أستراليا مع أطيب التمنيات
ـ1ـ
حتّى تؤمن على مستقبلك، ومستقبل أطفالك في لبنان، انزع عنك حالاً ثيابك الجديدة، وخاصّة ربطة عنقك، وارتد ثياباً رثّة بالية. ثمّ اتخذ لك شارعاً غاصّاً بالمارة، فتمتليء يدك الممدودة بالدراهم قبل أن تيبس، واعلم بأن هذا العمل السهل مسموح به من قبل الدولة، رغم الأضرار التي يلحقها بالسياحة، ورغم اشمئزاز معظم السيّاح من هذا المنظر الكريه، الذي يدلّ دلالة واضحة على أننا ما زلنا نعيش في عصر الجاهلية.
ـ2ـ
إذا طلبت منك زوجتك أن تختار، وهي في شهرها التاسع، بين أن تأتيك بمولود ذكر يخلّد اسمك، أم بمولود أنثى يحمل اسم غيرك، فأنصحك باختيار الثاني دون تردد، لأن البنت، في هذه الأيام الضائعة، تأكل خبزها بعرق جبينها، بينما الصبي فيأكل خبزه بعرق جبينك أنت.
ـ3ـ
حتى لا تطرد من عملك، كما طرد الله حواء وآدم من الجنة، أنصحك بأن لا تسافر إلى أستراليا، وتعمل في مصانعها الكثيرة، لأن رب العمل، في هذه البلاد المسكينة، أصبح ديكتاتورياً ، بالاذن من ريمون إده، نظراً لتلاعبه بعمّاله، وصرفهم ساعة يشاء، وهذا ما حدث معي شخصياً، ومع الكثير من اللبنانيين والأجانب.
ـ4ـ
إذا ادعيت بأنك متحدر من سلالة إحدى العائلات الغنية، فاعلم بأن أحداً ما سيبتسم بسخرية ويتمتم بهدوء: وهذا أبله آخر لا يعرف من هو والده.
ـ5ـ
حتى تكون من أرباب الفكر العظام، الذين دوّن التاريخ أسماءهم بحروف من ذهب، صرّح بأنّك ستلغي من الوجود كافة لغات العالم، السهلة منها والصعبة، بعد أن ابتكرت حروفاً جديدة، تساعد على تقارب الشعوب وتفاهمها مع بعضها البعض، واعطِ برهاناً على ذلك هاتين العبارتين: "أكل الفيل نملة" و"رقص الدبّ على الطاولة"، فتصبح الأولى:" بلع أبو الخرطوم ذبابة غير مجنّحة" والثانية: "هزّ وحشّ الثلج خصره على جذع شجرة فارغ". أما الأحرف التي ستكتب بها هذه العبارات، فاطلب من حفيدك تصويرها.
ـ6ـ
إذا قالوا إنك حيوان بهيم، فلا تزعل، أو إنسان مجنون، فلا تحزن، أو محتال نصّاب، فلا تيأس. أما إذا قالوا إنك رجل شريف ومحب للجميع، فابكِ، وابكِ، لأنك بذلك تكون قد خسرت جميع أصحابك.
الدبور البيروتية، العدد 2470، تشرين الثاني 1972
**
مذكرات طالب
هذه وريقات اعتراف، أو بالأحرى مذكرات، كتبها طالب لم يفصح عن اسمه، ومنذ عدّة أيام وجدتها في دفتر مهمل، فبعثت فيها الحياة من جديد، لأني على يقين تام من أنها تحمل أفكاراً، كثيراً ما تراودنا، ونعجز عن الإفصاح عنها لسبب ما.
ـ1ـ
وقفت لأجيب المعلّم عن سؤال وجهه إليّ، قال:
ـ لخّص الحياة بعبارة واحدة، أو بالأحرى، عرّف الحياة بكلمات معدودة؟
فقلت:
ـ الحياة واحة لا مجال للحقد فيها، ونافذة ما أن تفتح حتى يعاد إقفالها.
وجلست. لكن الزميل الذي يجلس بجانبي لكزني، وقال ساخراً:
ـ قل هذا لجماعتك.
فسألته متعجباً:
ـ جماعتي! ومن هي جماعتي؟
فلم يجب.
ـ2ـ
للحقيقة أن كلمات حسين جعلتني في دوّامة من الحيرة والتفكير.
ماذا يقصد؟
أتعني عبارته تلك شيئاً؟ أم قيلت على أساس المزاح واللهو؟ من يدري؟
ولكنني قررت أن أستفهم أكثر.
ـ3ـ
ـ هل من جديد؟ سألته.
أجاب: لا.. وأنت؟
قلت: ليس عندي من جديد، لأنني أفتّش عن الماضي.
قال: وهل يعجبك الماضي لدرجة التفتيش عنه؟
قلت: الماضي كناية عن ذكريات لا تدمي، أما الحاضر فحقائق ترعب، وتجرح، وتميت.
قال: أهذه فلسفتك؟
قلت: لا، بل هذه عقليتي.
ـ4ـ
طلبت منه القيام بنزهة، فوافق، شرط أن لا أكلّمه بالسياسة مطلقاً، خوفاً، وهكذا قال، من أن أبثّ فيه روح الانهزامية والاستعمار.
ـ5ـ
لدى نزولنا من السيارة، سألني:
ـ لِمَ أنتم ضدّ التجنيد الإجباري؟
فأجبت:
ـ معاذ الله، فأنا أول من سيحمل البندقيّة دفاعاً عن أرضه، ولكن ليست الحرب، اليوم، بجمع الجنود وحشدهم، بل باقتناء آلات حربية حديثة، وتدريب اختصاصيين عليها، فطيّار واحد، قال بيار الجميّل، أفضل من ألف جندي.
ـ وفلسطين هذه المسكينة، قالها بحدة وألم، لِمَ لا تؤيّدون فدائييها الأبطال، الذين لا يرضون الذل أبداً؟
فقلت:
ـ يظهر أنك لا تقرأ إلا الجرائد اليسارية المتطرفة، لذا سآتيك بما قاله بعض أركان الحلف الثلاثي بهذا الصدد:
قال الشيخ بيار الجميل: " إن اللبنانيين مجمعون على تقديس العمل الفدائي، والسمو به إلى أعلى المستويات في سبيل قضية نعتبرها عادلة ومحقّة".
وقال أيضاً:
"إن شباب الكتائب يتبرعون بالدم للفدائيين، وهذا عمل إيجابي، أما الهتافات العدائية، والشعارات والتظاهرات الاعتباطية، فهي لا تخدم أولاً وأخيراً سوى مصلحة العدو".
وقال الرئيس كميل شمعون في خطاب له:
"فلسطين لنا، والقدس لنا، والشرق العربي شرقنا به نفخر ونعتز".
ـ6ـ
ـ وجمال عبد الناصر لِمَ لا تحبّونه، وهو.. وهو؟
قلت له باستغراب ظاهر:
ـ ومن قال إننا لا نحبه؟
أجاب:
ـ تلك التظاهرة التي دعت إليها أحزاب الحلف استنكاراً لتدنيس العلم اللبناني. قالوا إن العلم ديس ومزّق، والحقيقة أنه لم يحصل شيء من هذا القبيل.
قلت:
ـ وما الذي حصل إذن؟
قال:
ـ علّقت فوقه صورة الرئيس جمال عبد الناصر فقط!
قلت:
ـ وهل يريد الرئيس عبد الناصر ذلك؟ هل يريد أن تعلّق صورته فوق علم الجمهورية العربية المتحدة؟
قال:
ـ لا وألف لا.. فهو عزيز النفس أبيّها، لا يرضى بمثل هذه السخافات أبداً.
قلت:
ـ إذن كيف تريدنا نحن أن نرضى بها، على حساب شرفنا وأسمى قدسياتنا، علمنا المفدى؟
قال:
ـ لو أنكم تحبّونه فعلاً، لما كنتم تقفون جانباً كلما قمنا بتظاهرة تأييد له، وكأنكم لستم من أبناء العروبة؟
قلت:
ـ إن مظاهر التأييد والاعجاب لا تظهر بالمسيرات الضخمة، والخطب الرنانة، بل بالسكوت والعمل المثمر أيضاً. وأعتقد أن جميع الرؤساء يفضّلون السكوت على الضجيج، والعمل المثمر على التظاهرات والاضرابات التي تشلّ حركة البلاد، ولا تخدم سوى مصالح العدو.
ـ7ـ
سألني:
ـ من تحب من السياسيين بغضّ النظر عن الحزبيّات الضيّقة؟
فأجبت على الفور:
ـ أحب الذين يحبّون لبنان.
فنظر إليّ نظرة عتاب وقال:
ـ والعروبة، ألم تخطر ببالك؟
قلت مبتسماً:
ـ لبنان، يا عزيزي، قلب العروبة النابض، فلا حياة لقلب دون جسم يقيه شرّ الطامعين بدمائه.
ـ8ـ
قال لي فجأة:
ـ انتظرني.. فسأعود بعد قليل، لن يطول غيابي.
فسألته:
ـ إلى أين؟ أيمكنني مرافقتك؟
فأجاب:
ـ كلاّ.. فأنا ذاهب لأصلي.
قلت:
ـ سأذهب معك.
قال:
ـ مستحيل..
قلت:
ـ ولماذا؟
قال:
ـ أنسيت أنك ماروني مسيحي؟
قلت:
ـ أمحرّمة علينا نحن الصلاة في الجامع؟
قال:
ـ لا.. ولكن هناك شروط يجب تنفيذها قبل بدء الصلاة. انتظرني ريثما أعود.
قلت:
ـ إسمع يا صديقي: بإمكانك أن تبقى أنت هنا، أما أنا فسأذهب وأصلي..
فقال:
ـ لا تعنّد..
قلت:
ـ وأنت لا تغضب الله..
قال:
ـ أمري له..
قلت:
ـ بل كلنا له.
ـ9ـ
ـ أتدري يا حسين، إني بدخولي الجامع زدت إيماناً وتقوى، فلقد بتّ أشعر أن خطيئة مميتة قد غفرت لي. أتعرف ما هي؟ إنها خطيئة التعصّب.
ـ10ـ
ـ حسين.. هل دخلت الكنيسة يوماً؟
ـ كلاّ..
ـ وهل ستدخلها؟
ـ أجل.. فعمّا قريب سأرد لك الزيارة.
ـ11ـ
تنهد وقال:
ـ السياسة!
ـ دعنا منها يا حسين..
ـ السياسة هي التي تفرّقنا..
ـ والتفاهم هو الذي يجمعنا..
ـ أجل.. التفاهم..
ـ آه لو يحدث بين زعماء هذا الوطن المسكين.
الدبور البيروتية، العدد 2314، تشرين الثاني 1969
**
المشرّدة
.. ومشت متجهة نحو المجهول، تخطّ طريقها بأصابع صغيرة حافية.
الطمع، الاغتصاب، العدوان، جميعها عوامل تكاتفت ورمتها خارج حدود بلادها، وطبعتها بوشم التشرّد.
كلما سارت، تظلّ الدروب بعيدة، ويظلّ الأمل ينأى عنها أكثر فأكثر، والقدر يسخر منها، والذكريات تتطاحن في مخيّلتها وتتكاثف.
كانت قبل الخامس من حزيران، تعمل في حانوت صغير لبيع الخضار، وكانت راضية عن معيشتها كل الرضى، يكفيها فخراً أنها ابنة مدينة القدس، المدينة التي غزل السيد المسيح دروبها بقدميه، وعطّر سماءها بعبير كلماته الإلهية. المدينة التي جبل الرسول محمد تربتها بعرق جبينه ألأسمر.
قالت ذات يوم لأمها:
ـ ثقي يا أماه أن حانوتي هذا، ولو أتانا العدو بكافة آلياته وجنوده، فسوف لن أتخلّى عن شبر واحد منه، وسأحرسه بسكين وفأس.
فأجابتها أمها والدموع تنساب على وجنتيها بكبرياء الصامد رغم فقدان الأمل:
ـ سأصلي لأجلك.. لا تخافي.
ومضت الأيام مسرعة، تجر وراءها الحرب والدمار، وترسم لآلاف من الناس طريق الرحيل عن الديار المهدمة.
الأم تحمل طفلها الصغير وتركض بوجل، وكأنها تخاف عليه من الضياع.
والشيخ يتكىء على عصاه، ويمشي متثاقلاً، والغبار يعشّش في لحيته البيضاء، عكس البيوت المطلية بدخان البارود الأسود.
ونزحت هي أيضاً مع النازحين، بعد أن ماتت الأم، وتهدّم الحانوت، وانكسرت السكين، وضاعت الفأس.
ما هم، طالما أنها حافظت على طهارتها، وخيّبت فأل ذلك الجندي المرعب. فلقد انقضّ عليها انقضاض النسر على الطريدة ليمتص رحيقها البكر، ولينفخ مكانه بعضاً من سم ريقه الزعاف.
ولكن أنّى للثرى الوصول إلى الثريا، وأنّى للمجرم نيل المجد، فشفتاها هما الثريّا والمجد.
ولكي تتخلّص منه صفعته صفعة مؤلمة، فأجفل، وارتدّ عنها مذعوراً، ورحل.
كانت، وهي تسير، تتذكر كل هذه الذكريات وتبكي. تبكي ماضيها الجميل، وحاضرها الأليم، ومستقبلها الضائع.
وفجأة، سمعت صوت طفل مشوّه الوجه، فاقد السمات، عاري الجسم، يقول لها:
ـ هل مررت بوجه مغبّر؟ هل رأيت امرأة تصرخ وتركض، وتصيح: أريد ولدي.. ولدي؟
وضاع الصوت في حلقه، وأبى الخروج.
ـ أجل لقد رأيتها. أوَليست هي من وقفت في ساحة المعركة وقالت للجنود: اصمدوا، فصدورنا دروع، وصلاتنا أمل؟
ـ بلى..
ـ أوَليست هي من سهرت الليالي تحوك الصوف قمصاناً، وتخيط الأغطية للأبطال؟
ـ بلى.. بلى..
ـ أوَليست هي من زحفت في الخنادق وضمّدت جراح المصابين بنيران العدو؟
ـ هي بذاتها..
ـ أوَليست هي أيضاً من حاولوا اغتصابها، ففرت هاربة من وجههم وعلى ظهرها طفل صغير؟
ـ قولي، بربّك، أين هي؟ فالبرد ينخر عظامي، والجوع يشدّني نحو الموت.
ـ أنظر إلى هؤلاء النسوة، حدّق في وجوههن، علّك تتعرّف إلى أمّك، فجميعهن يا حبيبي لهنّ ذات القصة التي لوالدتك.
فتمتم بصوت منخفض: إذن، خذيني معك.
الدبور البيروتية، العدد 2305، أيلول 1969
**
من كل ذقن شعرة
.. ولعنت أم كلثوم
أجل، لعنتها.
وأعرف أن عشّاق صوتها سيلعنونني مئات بل آلاف الأضعاف من المرات، عندما يقرأون عنوان مقالي هذا، ولكنهم لو تابعوا القراءة، لأشفقوا عليّ، ووقفوا إلى جانبي، وقالوا بصوت واحد، مثل فهيم ونعيم:
ـ يا حرام.. كم هو مسكين!
وإليك، عزيزي القارىء، حكايتي مع أم كلثوم.
أصبت إثر حادث غريب بكسرين، الأول في يدي اليمنى، والثاني في رجلي اليسرى، فلزمت الفراش مدّة عشرين يوماً، وأنا أتبرّم من الحالة التي وصلت إليها، وأتأفف من الضجر.
وذات يوم، زارني صديق عزيز عليّ، فأقام في ضيافتي يومين، أذاقني خلالهما مر العلقم.
وصديقي هذا يعلم تماماً مدى شغفي بصوت أم كلثوم، وانني أذهب إليها ولو أقامت حفلاتها على سطح المرّيخ، فأراد أن يمتحنّي بعد غياب طويل، فدخل إلى غرفتي هائجاً مائجاً وصاح:
ـ ولو يا أستاذ، أم كلثوم تغنّي في التلفزيون وأنت نائم؟ قم.. قم.. أسرع..
وغاب عن بالي أن الجفصين يكسوني، والوجع يتغلغل في شراييني، فنفضت عني الغطاء، ونهضت مسرعاً للغاية، كي لا يفوتني مقطع واحد من أغنيتها، ولكن ما أن وطأت قدماي أرض الغرفة حتى صرخت من الألم، وانبطحت على بطني وأنا أستغيث به، وهو يضحك ملء شدقيه ويقول:
ـ إي حرّك حالك يا جبان، يا حيف على الشباب.
وهنا تملّكني الغضب، ولم أعد قادراً على ضبط أعصابي، فلعنت أم كلثوم، والتلفزيون، بحضوره طبعاً، وعندما تركنا، زوّدته بقنطار من الفلفل والبهار.
**
محاضر آخر زمان
دعيت مؤخّراً للإستماع إلى محاضرة يلقيها كاتب شاب بعنوان "فلسطين اليوم".
وما أن استتب بي الجلوس على مقعد مزعج للغاية، حتى أطل علينا أخونا وسط تصفيق حاد، مما يدل على كثرة أزلامه ومحاسيبه.
وبعد التحيّة والسلام والسؤال عن غالي صحته وصحتنا، قال:
ـ تعرفون، ولا ريب، مدى الانتفاضات العالمية التي أحدثها التدخل الأميركي في كمبوديا، وهذا دليل وعي تقدمي، حضاري، بإمكاننا أن نعتز به نحن الشرقيين للصلة الأخوية، الدموية، الاستعمارية والامبريالية التي تربطنا بكمبوديا.. عاشت كمبوديا.
وعلا الهتاف والصياح من كل جانب، مما أزعج بعض الحضور، فخرجوا من القاعة وهم "يطبطبون على السكّيت" كلمات ضاعت بين شفاههم.
وعاد حضرته إلى الكلام، بعد ابتسامة مصطنعة قائلاً:
ـ سلوني بماذا أفكّر؟
ولما لم يجبه أحد، تنهّد وقال:
ـ آه، لكم هم رجعيون أولئك الذين انسحبوا. قولوا معي: فلتسقط الرجعية.
وإذ بأصوات كأنها هدير طائرة هليكوبتر تردد:
ـ فلتسقط الرجعيّة.. فلتسقط الرجعيّة.
وهنا، تعود عملية الانسحاب من جديد، ولكن بكميّة أوفر، حتى لم يبقَ في القاعة غير أربعين شخصاً من بينهم أنا بالطبع.
عندئذ، وقف المحاضر، وأخذ يحدّق بوجوهنا، وعندما اطمأنّ إلى عدم وجود أي غريب بيننا، والظاهر أنه لم ينتبه لوجودي، قال:
ـ هيئتهم أخذوها عن جد، ولذلك أرجو منكم كشف كل ما يهدّد وحدة الصف العربي، وتصبحون على خير.
**
توني الساخر
هو "توني سابا" الناقد المعروف في مجلة "الساخر"، وكان قد تناول بأسلوبه اللاذع، ديواني البكر "مراهقة"، ودعاني لإلقاء أشعاري في "مسرح فاروق"، ويقال أن هذا الاسم مستعار، كونه يعمل مستشاراً لأحد الرؤساء اللبنانيين".
أتسخر مني يا ابن الضحكة الساحرة، المنشقة من قلب الملل، الطالعة كالفجر من وادي القرف العميق؟
ساخر.. وفي سخريتك بوح عندليب غارق حتى أذنيه في كروم الثقافة والأدب.
ناقد.. وفي نقدك مديح ورفعة لكل من تتلفظ باسمه، وتبثّه من رأس يراعك على ورقة بيضاء جذلى، كونها تلامس أناملك وباطن كفّك.
كن كالرعد، لنشعر بالسكينة والهدوء.
كن جارحاً، كن دامياً، ولا تخشَ شيئاً، لأن أشواكك ورود، وجراحك ثغور فتيات رائعات الحسن والجمال.
ما رأيت إنساناً مثلك، يذهب إلى مسرح فاروق، ويعود منه وهو في كامل قواه العقلية.
أنت نادر يا أخي "توني"، لأنك تجمع بين الصحو والمطر، بين الخريف والربيع، ولأنك قادر أيضاً على إضحاك الشخص من كل قلبه، حتى ولو كنت تغمز من قناته في سخريتك الجارحة بغنج ودلال.
الدبور البيروتية، العدد 2347، تموز 1970
**
عنتر زماني
دلّني على "زلمة بك" وخذ مئة ليرة لبنانية، وحبّة مسك، وقبلة بين عينيك. وثق، قارئي، بأنني لست أمزح، لأن الحالة النفسية التي وصلت إليها بعد أن استلمت تأشيرة للدخول إلى أستراليا، باتت تجبرني على اتخاذ مثل هذا القرار النيابي العاجل.
كنت أجلس مرتاح البال على شرفة منزلي، وبيدي مجلة أتصفّحها، وإذا بصديق عزيز علي، يناديني بصوت مرتفع ويقول:
ـ تعال بسرعة.. أريد أن أعرّفك بيوسف التك زلمة فلان الفلاني.
ـ ماذا تقول؟ اتركني.. أرجوك.
ـ إذا كنت خائفاً من المشاكل، فاعلم أنه ليس من أربابها.
ـ أف ما أثقلك، تجيئني بالمصيبة من تحت الأرض.
ـ هيّا تحرّك، سوف يعجبك كثيراً.
والحقّ أقول إنني ما أن مددت يدي لحضرة الأفندي يوسف، حتى أخذ قياسي بالطول والعرض، وقلّب شفتيه عدة مرات، وعضّ إصبعه علامة التفكير العميق، ثم تنحنح وشخر وقال:
ـ الظاهر إني أعرفك.. قل معي: طنّوس؟.
ـ لا..
ـ رستم؟..
ـ لا.. لا..
ـ حنتور بن زيدان؟
ـ حتى ولا جبّور بن ساعور.
ـ ها ها ها.. أنت مسعود، يا تلبيس كيف حالك؟
ـ يا أخي غلطان..
ـ صحيح والله، فمسعود مثل الفيل، وأنت مثل أبي الحن النقّار.
ـ لا بأس، محسوبك اسمه..
ـ وهيب.. أليس كذلك؟
ـ بلى، وهيب بن شربل بن سركيس البعيني، زوج بترونلّه مارون من مجدليّا الزاوية، الواقعة شرقي طرابلس، والمشهورة..
ـ فهمت..
ـ بزيتونها، وصفصافها..
ـ يا عمي فهمت..
ـ والتي تصدّركل عام إلى بلاد الكومنولث أفخر منتوجاتها الانسانية..
ـ بسّ..
ـ مثلها مثل باقي القرى اللبنانية..
ـ بسّ.. بسّ..
ـ المحرومة من الطرقات المعبّدة، لأن الإسفلت عندنا يكاد لا يسد "نيع" بعض الزعماء الجشعين أمثال زعيمك..
ـ خلصنا جعدنة..
ـ النائم على حرير..
ـ أكلتها يا مسكين..
ـ بينما أبناء الشعب ينامون على خوازيق مسنونة كأنياب الذي يعيلك..
ـ ستندم..
ـ ويدفع لك، لتصفّق له كلما عطس أو تحوزق..
ـ أين مسدسي؟
ـ ولهذا أقول: غداً، عندما تجيء الانتخابات النيابية، سأنتخب كل من لا يقتني في حظيرته أزلاماً، أو قصوراً، أو أموالاً مكدّسة في الصناديق ومطمورة تحت الأرض..
ـ سأقتلك..
ـ وسأنتخب أيضاً كل من لا يطمع بوزارة، أو بسفارة، أو بتجارة..
ـ ألله يرحمك سلفاً..
ـ وسأبتعد قدر المستطاع عن الحربائيين المتلونين كل ساعة بلون، حتى وإن كانوا شرفاء تهمّهم مصلحة هذا البلد البليد..
ـ إذا قلت كلمة بعد سأسلبك روحك..
ـ العبد لا يسلب روح سيّد..
ـ أنا عبد، يا وهيب بن شربل؟
ـ أجل.. أجل..
ـ اتركوني.. اتركوني..
ـ اتركوه، لنرى ماذا سيفعل؟
ـ لا شيء، أردت فقط أن أصافحك، وأهنئك على هذه الأخلاق الرفيعة، وأعتذر منك.. ووو.. وإلى اللقاء.
وهنا لم أعد قادراً على ضبط أعصابي، فانفجرت ضاحكاً من هذه القوة العنترية التي تملكتني، وعدت أدراجي إلى البيت، بينما كان صديقي يردد:
نشكر ألله اللي علقتو
مع زلمي فرخ
فردو مصدّى مع مرتو
ولازملو جلخ
الدبور البيروتية، العدد 2413، تشرين الأول 1971
**
أستراليا الحوت ونحن النبي يونان
قليلون هم الذين سيحتجّون على ما سأذكر من حقائق في مقالي هذا والمقالات التي ستليه، مدّعين أن المبالغة تعشّش في كل حرف من حروفي.
وكثيرون هم الذين سيرفعون أصواتهم قائلين: انقذونا، انقذونا يا حكام وطننا الحبيب.
**
الفبركة:
ما من لبناني هاجر إلى أستراليا، إلا واشتغل في الفبركة، مستودع الآليات والبشر، ومأوى معظم سكان أستراليا. فيها يتعارف اللبنانيون، ومنها يستمدّون عمولة جيوبهم التوّاقة دوماً إلى الانتفاخ اللامحدود.
ولكن رغم قذارة العمل، ورغم كثرة ساعاته اليومية ـ 12 ساعة ـ فإن أجر العامل لا يتعدّى السبعين دولاراً في الاسبوع، ناهيك عن الضريبة التي تأخذها الحكومة من العامل، والتي تزيد كلما ازداد دخله.
كما أن حالة الفبارك هنا مثل حالة لبنان بالذات، فربّ العمل يحاول المستحيل كي يتخلّص من عامله قبل مجيء العطلة السنوية.
والأنكى من هذا كله، أن لا تعويض للعامل حتى وإن أمضى أربعين سنة في الفبركة الواحدة، وهذا ما يدل على أن حقوق العامل مهضومة تماماً في أستراليا.
**
الغلاء:
سألني أحد المغتربين القدامى:
ـ لماذا أتيت إلى هنا؟
فأجبت:
ـ هرباً من الغلاء.
ضحك وقال:
ـ إذن عجّل واهرب قبل فوات الأوان، لأن ما عانيته في لبنان، ستعاني ضعفيه الآن.
قلت:
ـ مستحيل!
قال:
ـ هيّا معي إلى السوق..
قلت:
ـ لا داعي لذلك، فأنا، والله، أصدّقك.
قال:
ـ تصوّر أن أجر العامل العادي 50 دولاراً، ومع ذلك يتحتّم عليه أن يعيش مثل باقي الناس، وإلا نبذه الجميع.
قلت:
ـ ما هم، طالما أنه يوفّر بعض الدراهم.
قال:
ـ مغشوش أنت. افتح أصابع يديك وعدّ معي: 25 دولاراً للإيجار، 14 دولاراً للأكل والخضار، 7 دولارات مصروف سيارة أو تنقلات، ناهيك عن قسطها البالغ 92 دولاراً في الشهر، وميكانيكها البالغ 84 دولاراً في السنة، وتأمينها البالغ 120 دولاراً في السنة، لأن السيارات في أستراليا يجب أن تكون مؤمّنة. 3 دولارات للملابس، 6 دولارات مصاريف شتّى.. وأخيراً، رحمة الله على راتبه الاسبوعي، وفائدة البنك الذي يستدين منه.
**
حسد اللبنانيين:
من يصدّق؟ فمعظم اللبنانيين هنا، يعيشون في حالة يرثى لها من الضغينة والحسد، ولولا صرامة القانون لما توانوا دقيقة واحدة عن الاشتباك، ونقل حزازاتهم القروية والسياسية الى دنيا الاغتراب.
يقول المثل اللبناني المقيم على سفح جبل صنين: الأخ جناح. ويقول المثل اللبناني المشتّت خلف البحار: الأخ عقرب. ولهذا ترى أن من النادر جداً أن تجد أخاً متفّقاً مع أخيه.
وصدقوني إذا قلت إن إحدى الفبارك قررت طرد عامل لبناني بسبب تغيّبه الكثير عن العمل، فما كان منه إلا أن احتج قائلاً: ألم يتغيّب أخي؟ فلماذا لم تطردوه؟.
**
الصحف العربية:
أصعب اختراع في أستراليا هو إيجاد صحيفة عربية مستقلّة، تعبّر عن آراء المغتربين، وتعرّفهم بوطنهم الأم، وذلك باتباع طريقة حديثة، دون اللجوء إلى تصوير معظم الصحف الصادرة في لبنان، حتى وإن كتبت هذه الصحيفة باللغة اللبنانية الدارجة، هذا إذا عجز صاحبها عن كتابتها بلغة عربية سليمة.
وخير شاهد على صحة ما أقول، هو إلقاء نظرة مستعجلة على تاريخ الصحافة العربية في أستراليا.
ففي سنة 1957، حاول السيد شكرالله صقر رئيس جمعية أصدقاء الارزة ـ الكتائب ـ إصدار أول عدد من جريدة "الوطن والمهجر"، مكتوب بخط يده، مما دفع القراء للاستهتار بها، وعدم شرائها، فتوقفت عن الصدور.
وفي أوائل سنة 1963، أصدرت الفتاتان فضة الشدياق وتريز خوري، زوجة السيد حميد بشارة حالياً، جريدة "القمر" بطريقة الأوفست، فأخرجتاها إخراجاً فنياً أنيقاً، مما دفع أصحاب الأقلام الرفيعة لتشجيعها ومساندتها، إلى أن عملت الخلافات العائلية على خنقها في المهد، يضاف إليها زواج إحدى الفتاتين وتركها الصحافة.
أما الخطوة الثالثة، فقد خطاها بعزم وشجاعة السيد غسّان معلوف، رئيس الرابطة الزحلية حالياً، إذ استقدم أحرفاً عربية، واشترى آلات طابعة، وفتح مكتباً، وأصدر جريدة "الهدف"، التي رغم أساسها المتين، لم تتمكن من الصمود أمام اللامبالاة سوى خمسة أشهر ونيّف.
أما مجلة "النور" الشهرية، التي أصدرها في ملبورن، الاستاذ رودولف أبو خاطر، فقد عاشت حوالي الأربع سنوات متتالية، إلى أن عشّش الكسل في عقول المشرفين عليها، فعملوا على توقيفها، رغم مبيعها الجيد، وحصولها على إعلانات هامة.
وفي العام 1968، صدرت في ملبورن أيضاً صحيفة "النهار الأسترالي"، وفي سيدني صحيفة صوت المغترب، وقد صدرتا بادىء ذي بدء بطريقة متقطعة، إلى أن احتجبت "النهار" وبقي "الصوت" مدوياً حتى هذا التاريخ، رغم لجوء ناشره الاستاذ جان سمعان الى الاستعانة بمقالات وأخبار الجرائد والمجلات اللبنانية، كالبيرق والدبور والحوادث، فيلصقها قرب بعضها البعض ويصورها، ويعمل على طباعتها حرفياً مع ما يتوفّر لديه من مقالات كتبت أو حدثت في أستراليا.
ويظهر أن السادة وسيم حمدان، طوني قزي وعلي سنديان، لم يدعوا سنة 1969 تمر دون تجربة صحفية، فأصدروا مجلة "الشرق" الاسبوعية، التي توقّفت بعد أشهر من صدورها.
أما جريدة "التلغراف" الصادرة أوائل سنة 1970، والباقية الى يومنا هذا، فبإمكاننا القول إنها مثل زميلتها اللدودة "صوت المغترب" تعيش على نقل وتصوير جريدة " النهار" البيروتية، بالاضافة إلى بعض ما يكتبه محررها من مقالات عنترية تهاجم النواب والحكام في لبنان، باسلوب ركيك مفكك، لا يمت إلى اللغة العربية بصلة، وهذا ليس عيباً، لأن معظم العاملين بالكتابة هنا، لا يعرفون أن تاء الفعل طويلة، والمفعول به ينصب إجمالاً.
وبناء على المثل القائل: ما في حدا أحسن من حدا. فقد أصدر السيد فؤاد موراني جريدة "نداء الوطن" التي، لولا قدرة القادر، لأرجعته إلى الوطن.
ونظراً لفشل اللبنانيين المتواصل في حقل الاعلام، فقد دبّت الحمية في قلب أحد أبناء الجالية المصرية، فأصدر صحيفة "الأخبار" مدة 6 أشهر غير متتالية، ذاق خلالها مر العلقم، وأصيب بعدها باليأس والجفاف المادي.
وبما أنني أعرّف أبناء الوطن الأم عن المنشورات التي صدرت، وما زالت تصدر في أستراليا، وجب علي أن أذكر جريدة "الحياة" التي عاشت يوماً واحداً فقط، والنشرة الدورية التي تصدرها الجمعية الكفرصغابية، باللغتين العربية والانكليزية، عن شؤون وأحوال أبناء كفرصغاب المقيمين والمغتربين.
**
القمار في استراليا:
إذا سألت أحد القادمين من أستراليا إلى لبنان عن أكثر الأشياء رواجاً في بلاد الصيف الممطر، لأجابك بدون تردد: القمار، وسباق الخيل والكلاب.
ففي سيدني وحدها أكثر من عشرين ألف مكتب مختصّ في استقبال المراهنين وتسجيل رهوناتهم. فكيف الحال لو أحصينا جميع مكاتب الـ TAB الموجودة في أستراليا كلها.
أما الروليت، فلها أماكن خاصة يقصدها المدمنون على ألعاب القمار، فيربحون مرة، ويخسرون مئات المرات، ومع هذا ترى الواحد منهم مثل الهر الذي يتلذذ بلعق دمه.
**
القنصلية اللبنانية:
يوجد في أستراليا، حسب ما ورد في حديث أجرته مجلة الـ (ويمنز داي) مع الآنسة سميرة الضاهر، قنصل لبنان العام في سيدني، حوالي سبعين ألف لبناني، يشرف عليهم ويديرهم سعادة السفير شفيق غرزالدين الذي وطأت قدماه أرض أول بيت لبناني في العاصمة كانبرا.
وصدقوني إذا قلت إن معظم اللبنانيين يفضّلون الانتساب إلى أية قنصلية غريبة، نظراً للإهمال الكثير الذي يعانونه من المشرفين على قنصليتنا العامة في سيدني، وخير شاهد على صحة ما أقول هذه الحادثة التي ضجّت بها الصحف المهجرية في أستراليا، والتي أنقلها حرفياً رغم ركاكة أسلوبها، وأخطائها النحوية والإملائية:
"نزلت زوجة عمي لدار القنصلية العامة، نهار الاربعاء 29/12/71، لإجراء وكالة رسمية لذويها بلبنان، وهناك التقت بالسكرتيرة التي طالعتها بالانكليزية لجهلها العربية، مع العلم أن زوجة عمي لا تفهم الانكليزية بالسهولة، وهكذا لم تستطع أن تهديها لطريق الصواب، عندها خرج السيد خليفة وقال لها: ما معي وقت الآن لأن الساعة هي الثانية عشرة والربع، عودي نهار الجمعة. وهكذا نزلنا معها زهاء سبعة أشخاص، ولم يكن هناك سوى السكرتيرة، التي تزرعت بأن السيد خليفة ذهب إلى البنك، وأن نهار الجمعة 31/12/71 هو شبه عطلة رسمية، وليس من أحد يعمل سوى نصف نهار، مع العلم انه كتب على الباب الدوام من التاسعة صباحاً إلى الواحدة، فعارضناها بذلك، وجرت مناقشات مما دعا أحدنا ليقول لها: الأجدر أن يضعوا إنسانة تجيد العربية لتقوم بالمعاملات في حال غياب المسؤول عن القنصلية، وخاصة أن أغلب المهاجرين يصعب عليها إملاء الطلبات باللغة الانكليزية.
وهكذا انتظرنا حتى عاد المستر خليفة، الذي لم يزعج نفسه بإلقاء السلام، بل عاد إلينا يرقص من الغضب ليقول: لماذا شتمتم السكرتيرة؟ اذهبوا من هنا وعودوا نهار الثلاثاء، أنا ما معي وقت، وغير مستعد لأن أبقى معكم أكثر من الواحدة.
وهنا جرت المناقشات بيننا، فلم يكن من أحدنا إلا أن قال له: لو ذهبنا لأي سفارة أخرى لوجدنا معاملة أفضل من قنصلية بلدنا.
فتركنا القنصلية، لتعود زوجة عمي وتظهر جواز سفرها أمام السيّد فيليب خليفة، وعندها أقام لها المعاملة، بعد أن قال لها: شو رأيك لو هذه السيدة طلبت الشرطة وطلبت إيقافكم؟
هذه هي القصة، وهناك قصص كثيرة من هذا النوع، فنحن لا ندري لماذا أوجدت القنصلية: هل للتسلّط، أم لخدمة المواطنين؟ أم كما تشرف المستر خليفة، لإحضار الشرطة وتحقير أبناء جاليتها كما زعم؟
لذلك نرجوكم كتابة هذه الحادثة على صفحات جريدتكم ـ صوت المغترب ـ لأنها السبيل الوحيد لنا في غربتنا لإسماع صوتنا للإخوان اللبنانيين، ويعرفوا الصورة الحقيقية عن القنصلية والقائمين بأعمالها، بأنهم وجدوا لحضور حفلات التكريم لا لخدمة المواطنين، ثم ليأخذ الحق مجراه ويتسلّم مهام القنصلية من هو أهلاً لمثل هذا العمل النبيل، كما نقوم بتوقيع عريضة من اللبنانيين وإرسالها للمسؤولين بالخارجية اللبنانية".
طبق الأصل.
الامضاء: فوزية معرباني، هدية معرباني، رشيد دوعر، اعتدال دوعر، مصطفى الحسيني، حميد علوش، وفاء الحسيني، نهاد صافتلي، محمد علي معرباني، محمد علي الأيوبي.
**
الأغاني العربية:
إذا سئلت، قارئي، عن أشهر الأغنيات العربية في أستراليا، فلا تقل: حبيتك بالصيف، ع الله تعود، دقي يا ربابة، أو آه يا أم حمادة. بل عد بذاكرتك سنوات إلى الوراء، وقل: ع اللوما، فوق جبالنا، قلبي نازل دق، والطوفان، التي ما زالت حتى الآن تدمي قلوب بعض المهاجرين الطرابلسيين المفجوعين بأعز أبنائهم وأقربائهم وجيرانهم.
ولقد حاولت مراراً معرفة السبب في عدم تجاوب اللبنانيين مع الأغنيات العربية الحديثة، التي تبثها الإذاعات العربية مساء كل سبت وأحد، فيجيئني الجواب بأن معظم هذه الأغنيات منقولة عن الحان غربية، فلو كنا نحب هذا النوع من الأغاني، لتجاوبنا كلياً مع أحدث الأغنيات الانكليزية، التي تصم الآذان لكثرة إذاعتها.
وهذا بالطبع جواب مقنع.
**
البطالة:
تقول الاحصاءات الأخيرة التي يبثها التلفزيون الأسترالي مساء كل يوم، إن عدد العاطلين عن العمل قد تجاوز النصف مليون نسمة، وذلك بسبب تزايد السكان، وتدفّق المهاجرين من جميع أقطار العالم، وتخفيض العمل في بعض الشركات الكبيرة أو التوقّف عنه، نظراً للغلاء الفاحش القابض على رقاب الجميع، والذي يعمل بصورة تلقائية على كساد بضاعتها.
وقد صرّح رئيس حزب العمال، بأن الحالة التجارية السيئة التي وصلت إليها أستراليا، مردّها عدم إحساس حزب الأحرار الحاكم بآلام الشعب، ووعد الجميع بحياة أفضل إن هم ساندوا حزبه في الانتخابات القادمة.
كما صرّح أحد وجهاء الجالية الايطالية، في مقابلة أجراها معه أحد مندوبي التلفزيون الاسترالي: بأن على الحكومة الأسترالية إما أن تساعد المستوطنين الجدد، وتجد لهم عملاً، وإما أن ترجعهم إلى بلادهم على نفقتها الخاصة.
**
الجمعيات اللبنانية:
إن ما يثلج الصدور حقاً، هو تكاتف أبناء القرية الواحدة، وإنشاء جمعية تحمل اسم قريتهم، وتضمّ معظم الشبّان والشابات، وتشدّهم نحو وطنهم الأم لبنان.
ولكن لو اكتفينا بهذا فقط، لكنّا ساهمنا مساهمة فعّالة في رفع شأن الجالية، وجعلها مفخرة ومثالاً يقتدى به، ولكن الحزازات المحليّة التي نصطحبها معنا، أنّى اتجهنا، تحول دون تقدّمنا.
فمثلاً، أبناء القرية الفلانية، لا يمكن أن يرضوا عن أي شخص من أبناء القرية المجاورة لهم، أو أن يساعدوه في محنته، وذلك لاشتباك قديم دامٍ، حصل بين القريتين على سقي الماء.
كما انه من المستحيل أن تتكاتف وتتضامن كافة الجمعيات اللبنانية في أستراليا، ما دام حب الترؤس والاستزلام يعششان في قلوب المشرفين عليها.
وخير دليل على ذلك، تلك الضجّة التي صمّت الآذان، إثر مغادرة رئيس الجامعة اللبنانية في العالم السيد أنو الخليل، أرض أستراليا، حول عدم الاتفاق بين الجامعة والجالية اللبنانية هنا، رغم الوساطات وتبويس اللحى.
**
القتل والتهديد:
يؤسفني حقاً أن أكتب عن موضوع كهذا، خصوصاً إذا كان يتناول أبناء الوطن الواحد.
والحادثة المؤسفة التي حصلت مع السيد عفيف ناصر الدين وزوجته، وتهديدهما بالقتل، من قبل أشخاص معروفين، لا داعي لذكر أسمائهم، جعلت الناس يشمئزون لدى ذكر كلمة "لبناني".
وخوفاً من تنفيذ ما أقسموا عليه، فقد استنجد السيد عفيف ناصر الدين، رئيس تحرير "صوت فيكتوريا" التابع لجريدة "صوت المغترب" بكبار الشخصيات هنا، وعمل على إرسال رسالة مطولة إلى كل من رئيس الجمهورية اللبنانية ووزير الخارجية والمغتربين، وسفير لبنان في أستراليا، ورئيس الجامعة اللبنانية في العالم وغيرهم.
وهذا هو نص الرسالة، أنقله حرفياً رغم ركاكة الاسلوب:
"حضرة..
للجالية اللبنانية هنا، جمعية لها من العمر ما يقارب "20 عام"، ولا شك انها تملك الحسنات لمصلحة الجالية، وبالمقابل إذا وصلت رئاستها الى من يستغلها لمصلحته الخاصة، سوف يعكس الانتاج، وسوف نجد الكثير من المتاعب التي نحن بغنى عنها.
لهذا، وبعد اطلاعي على مجمل القضايا، وعلى التحالف الحزبي الذي يبعد عن المفهوم الدستوري للجامعة اللبنانية الثقافية في العالم، وللجمعية اللبنانية في فيكتوريا.
بدأت كمسؤول صحفي في ايضاح بعض الحقائق التي أملكها على صفحات جريدتنا، الذي حصل ان السيد "..." رئيس اللجنة التحضيرية المؤقتة، وصاحب مكتب استشاري، قد أرسل ثلاثة من أزلامه، في يوم الأحد الموافق 23/1/1972، الساعة الثالثة والنصف من بعد الظهر.
كلمني هاتفياً المدعو "ج.ف"، أحد الثلاثة، واستدرجني إلى خارج المنزل، بحجّة أنه أضاع الطريق، ولا يعلم كيفية الوصول إلى مسكني.
وبعد وصولي إلى المكان المحدد، وبرفقة زوجتي، أفشل مشروعهم كون زوجتي قد بقيت بالسيارة، إنما اكتفى المدعو "ج.ف" بقوله الآتي:
هذه المرة قد شفقت على زوجتك وابنتك، إنما إذا عدت الكرة وتكلمت عن "...." لسوف أقتلك، وتستطيع أن تخبر المونسنيور بولس الخوري "رئيس الجالية المارونية هنا"، انني سوف ألغم الكنيسة، لأن "....." قد ذكر لي بأنك رجل درزي، ولست على خلاف معه، إنما الذي يدفع لك المال من أجل فضحه سياسياً وتجارياً هما المونسنيور المذكور والقنصل فليفل.
علماً أن علاقتي هنا كصحفي ممتازة للغاية مع جميع أفراد الجالية العربية، ولقد كان ردي للمهدد المذكور سابقاً، ويبقى ردي وإيماني على طريق التهديد والقتل وعصابات شيكاغو.
لذا قد اتصلت بالمباحث العامة في مدينة "بريتون"، وأرسلت تحقيقاً مفصّلاً إلى رئيس المباحث العامة في "فيكتوريا" أعلمه حقيقة الأمر.
وكلمتي إليكم الآن لانقاذ الجالية من المجرمين وأداة الاجرام التي تكاثرت هنا في الآونة الأخيرة، والتي تسبب باضطهاد واستغلال أبناء الجالية، وتحقير اسم لبنان أمام الدوائر المختصة".
وتعليقاً على هذه الرسالة، لا يمكنني إلا أن اهز رأسي أسفاً، وأردد هذا البيت من الشعر الزجلي:
اللبنانيي يا بو العيس
نزعوا الطبخه بالمره
هون اللبناني تلبيس
وأزعر عقلاتو مشرّه
**
البث العربي:
مساء كل سبت وأحد كان ينساب إلى آذاننا صوت ناعم، حملته موجات الأثير عبر محطتي "2CH" و2KY"" الإذاعيتين، ليزرع في نفوس اللبنانيين عبارة طالما تشوّقوا لسماعها، ألا وهي: سافروا إلى لبنان.
ومثلما توقفت من قبل جريدة الهدى النيويوركية عن الصدور إثر جفاف مادي، هكذا توقف برنامج السيدة تريز أبي خطار الاذاعي، فأحدث بذلك فراغاً قاتلاً لا يمكننا التخلّص منه إلا بالرجوع إلى لبنان.
فمن هي هذه السيدة السفيرة، التي عمل طيش حكامنا واستهتارهم، وعدم تفقدهم الجاليات اللبنانية، على طرد صوتها الخالد من أقوى المحطات الإذاعية، وقتل اسم لبنان المغروس في قلوب اللبنانيين والأشقاء العرب، إن لم نقل معظم الأستراليين أيضاً؟
جواباً على هذا السؤال، سندع أحد المغتربين القدامى يروي قصة هذه السيّدة:
"إذا عدت بالماضي إلى ست عشرة سنة خلت، تتمثّل أمامي صورة صبية حلوة في التاسعة عشر من عمرها، يبعثر شعرها الهواء، وهي تجتاز مطار سيدني مع الوافدين إلى أستراليا، واثقة النظرة، شامخة الرأس، مشرقة الوجه، وكأنها أرزة خضراء انتقلت من جبل لبنان الأشم، لتزرع موسم الوعود الطيبة في هذه القارة الشاسعة.
وتمر الأيام، حاملة معها حقيقة ما تصورت، فبرزت معالمها، وأعطت من شبابها وحماسها أطيب الثمار الوطنية، وأحلى مكارم الأخلاق، فلقد أصبحت هذه الصبية، وبعد قليل من الزمن، قبلة أنظار المجتمع عامة، وذلك لما أبدته من تفهّم لرسالتها، وتخطيط لعزيمتها، فانطلقت لتبني مجتمعاً لبنانياً، واضح المعالم، رسالته المحبة والثقافة والسلام.
لقد كان عملها أكبر من عمرها بكثير، وأثقل من أن يحمله عودها الرخص الناعم.
من هذا الإيمان، وهذا الإخلاص، اللذين انفعلت بتفاعلهما، انطلق صوتها على موجات الأثير، ليدخل كل بيت أجنبي، ويعلمه، ويفرض عليه تحسس وجودنا، واحترام رسالتنا المهجرية والعلمية والانسانية، وليدعو الجالية اللبنانية المشتتة إلى التفاهم، والعمل البناء، والحياة الهادئة.
بدأت الصحف الأسترالية الكبرى تبرز أخبار السيدة اللبنانية النشيطة وتتناقلها، فقلبت بذلك موازين ومفهوميّات الأستراليين عن الجالية اللبنانية وكيانها، وقدمت لهم البراهين في حفلاتها السنوية الكبرى، التي كانت تضم بين حدائق قصرها الفخم، وأجنحته، حوالي ألف مدعو، وكانت تحرص على تقديم الطعام اللبناني اللذيذ، والفلكلور الألذ، لتعطيهم الصورة الواضحة عن المجتمع اللبناني.
ومع هذا كله، لم يعجبها مطلقاً ما تكتبه الصحف عنها وعن حفلاتها، لأن ما تبتغيه هو الإشادة بلبنان، وليس بها شخصياً، حتى كان لها ما أرادت، إذ صدرت ذات يوم صحيفة (الصانداي ميرر) حاملة ضمن أربع صفحات كبرى، صور لبنان السياحية، مفصلة أماكنه الأثرية، مشيدة بطبيعته الخلابة، ومبينة أثره الاقتصادي في الشرق الأوسط.
كان لهذا العمل الكبير، الذي لا تقوم به إلا الحكومات المستفيدة منه، ضجة كبرى على الصعيدين اللبناني والاسترالي، فوجهت لها الحكومة اللبنانية، وقتئذ، كتاب شكر على خدماتها الدعائية للبنان".
واليوم أتساءل، بعد أن أنهى المغترب الكريم كلامه، ماذا فعلت الحكومة اللبنانية الحالية إثر تلقيها نبأ توقّف برنامج السيدة تريز بي خطار الإذاعي، عن إتمام رسالته السياحية؟ بالطبع، وبمطلق الصراحة أقول: لا شيء. لأن أنانية الحكم في لبنان، تمنع الحكام أياً كانوا، من الرؤية أبعد من أنوفهم، ورحم الله القائل، وإن كان لا يستأهل: من بعدي الطوفان.
**
ارجموا الغريب:
إذا أردتم تكوين صورة واضحة عن عمليات القتل والسلب والتشويه في أستراليا، ما عليكم إلا أن تتذكروا ماذا حدث في أواخر عهد فخامة الرئيس شارل الحلو وتضربوه بمئة.
وسبب ذلك يعود إلى نفسية الجيل الأسترالي الصاعد، الذي يكره، أشد الكره، وجود أي غريب في بلاده.
وتعبيراً عن قرفه واستيائه، بدأ ينظّم صفوفه بشكل عصابات، ويعمل على الانتقام من كل غريب يصادفه، وخصوصاً إذا كان صاحب شعر أسود وملامح مختلفة، وخير دليل على صحة ما أقول، مقتل الشاب الزغرتاوي طانيوس نعوم، على يد زمرة من (البودجية) أي الزعران.
تتساءلون ولا شك: لماذا لا تحرّك الحكومة الأسترالية ساكناً، طالما أنها تعمل جاهدة على جلب أكبر عدد من المهاجرين الجدد، وترغيبهم بالإستيطان في أستراليا.
على هذا السؤال أجيب: الحكومة، يا أعزائي، عاجزة عن ضبط الأمن بسبب مساحة البلاد الشاسعة، وتعدّد الجنسيات، وعدم الإتيان بدليل واحد يكشف هوية المجرم، لأن القتل يحدث ليلاً وبصورة مفاجئة ومبهمة.
وهذا ما دفع الكثير الكثير من العائلات اللبنانية لضبط مصاريفها، وتحسين أمورها، حباً بالرجوع إلى الوطن، وتأهباً لكل حادث طارىء.
**
حدائق الصغار:
الشيء الوحيد الذي استرعى انتباهي أكثر من اللازم، هو كثرة الحدائق العامة في أستراليا، فما أن تقطع مئة متر حتى تجد حديقة ملآنة بالآباء والأبناء، ومجهزة بكل ما يلزم من وسائل التسلية واللعب والراحة.
أتساءل، أنا المغترب الطازج الذي لم تريّش جوانحه بعد: لماذا لا تعمل الحكومة اللبنانية على إصدار مرسوم يجبر البلديات الضائعة الكسلانة، على إنشاء حدائق للأطفال في جميع القرى اللبنانية.
عفواً، لقد نسيت أن الحكومة اللبنانية مشغولة جداً بحك جلدها، وأن ميزانيات بلدياتنا كافة، مخصصة فقط لرواتب الموظفين والعمال، وكل قرش يبقى، يذهب تلقائياً إلى الجيوب التي لم تنتفخ بعد.
**
الحزازات الانتخابية:
قبيل البدء بالعمل، يجلس العشرات من العمال اللبنانيين أمام باب فبركتهم، فيتحادثون بشتى الأحاديث، ويتبادلون الرأي، ويتجادلون جدال الطرشان، فترتفع أصواتهم حيناً، ويتعاركون أحياناً، وخاصة إذا كان الموضوع يتناول الانتخابات النيابية في الوطن.
فالذي مع رشيد أفندي يعادي الذي مع الدكتور عبد المجيد الرافعي، والذي مع كمال جنبلاط، لا يطيق بأي حال من الأحوال التطلع بوجه الذي مع كميل شمعون. أما الذي مع ريمون إده، فاقتله ولا تقل له: أنا كتائبي.
وليس هذا فحسب ما يضحك، بل أن الجرائد والمجلات العربية الصادرة في أستراليا، بدأت تنشر صور المرشحين للانتخابات، وتدعو المهاجرين للذهاب إلى لبنان، والاقتراع لفلان وفليتان من أصدقائها النواب.
أقترح إجراء انتخابات نيابية كل سنة، لعل الأموال المدفونة في الأرض تتحرك من قمقمها، وتأفرخ في جيوب العمال والفقراء أوراقاً زرقاء من فئة المئة ليرة.
**
العائلة السعيدة:
الدولار، الدولار، الدولار، هو المعبود الاول الذي يتطلع اليه الجميع في هذه الجزيرة المعلّقة بكعب الأرض. فحباً به تشرّدوا، وتعبوا، وسهروا، وتنابذوا، واقتتلوا، لدرجة تمكنني من القول: إن من النادر جداً إيجاد عائلة سعيدة في هذه البلاد.
أما الأسباب فهي:
أولاً: القانون يدين كل أب وأم يحاولان، بداعي التهذيب، ضرب أولادهما، حتى وإن كانوا لا يقوون على السير لوحدهم. لذلك ترى الابن والابنة يهددان والديهما كلما حاولا ردعهما عن أشياء منافية للحشمة، باللجوء الى القضاء وتسليمهما للشرطة. وهذا بالطبع سبب كافٍ يمنع الأب اللبناني صاحب الأخلاق الفاضلة، ووارث العادات اللبنانية الرفيعة، من فرض سيطرته على البيت، وتنفيذ كلمته ساعة يريد.
ثانياً: "شو عم بتقول؟ بدك تكفّي علمك؟ روح انقبر اشتغل وجمّعلك قرشين. أنا مش متكفّل عيشك وعلمك بنفس الوقت".
إذا أحصينا عدد الذين سمعوا هذه الكلمات القاتلة من آبائهم، لانعقدت ألسنتنا من الذهول، فمعظم الآباء، إن لم أقل كلهم، تراهم ينتظرون بفارغ صبر بلوغ أبنائهم سن الخامسة عشر، لزجهم في الفبارك، والحصول على راتبهم الأسبوعي، الذي، كما يقولون، يفك رقبة مشنوق، وهذا مما يساعد على انتشار الأمية بين صفوف جيلنا المغترب الصاعد.
ثالثاً: الأقرباء جميعهم أعداء، مثل يشمل الجميع دون استثناء، لأن مبدأ الدولار يساوي ثلاث ليرات ونصف، يعمي القلوب ويحجرها، ويعمل تلقائياً على إشعال نار الغيرة والحسد بين الزوج وزوجته، والأب وابنه، والأخ وأخيه، ضاربين عرض الحائط باقتتال النسيب والنسيب، وأبناء القرية الواحدة خاصة، والبلد عامة.
رابعاً: الوالد يعمل في الليل، والأم في النهار، والأولاد بعد الظهر، يعني أنهم لا يجتمعون إلا يومي السبت والأحد، فيبدأ كل واحد منهم بعرض شريط مشاكله على الآخرين، فيتعكّر الجو، وتتعالى الأصوات، فينسحب الأبناء والزوجة، ويبقى رب العائلة المسكين يرغي ويزبد، ويلعن ساعة مجيئه إلى أستراليا.
خامساً: الشك، هذا المرض الذي عجز أطباء هذه البلاد عن استئصاله من النفوس، وتطهير العقول من جراثيمه الفتاكة. فالزوج يشك بزوجته إذا تنفسّت أو نظرت إليه أكثر من مرة. والأخ بأخيه إذا زاره واستطاب الجلوس عنده أكثر من ساعتين متتاليتين.
والمضحك المبكي حقاً هو أن جميع الاتهامات بما فيها الثرثرة، ولعب الكشاتبين، وتلفيق الكلام ونقله، تتراكم على رأس كل من يريد أن تكون علاقته حسنة مع الجميع.
أخيراً، وبعد الأسباب الخمسة التي ذكرت، ولمست لمس اليد، وعانيت الكثير منها، لا يسعني إلا أن أردد هذا البيت من الشعر الزجلي:
يا محلى عيشة لبنان
ويا محلى الزعتر بالزيت
بالقليله كيف ما كان
الواحد منّا عندو بيت
الدبور البيروتية، الأعداد 2429، 2430، 2431، 2434، 2435، 2439، 2440، سنة 1972
**
من هنا وهناك
لا تخف يا رجل
العيون تنظر الى الجيل الصاعد، جيل الشباب المثقف الثائر، على التقاليد البالية، والعادات المهترئة.
العيون تنظر، والقلوب حيرى!
قلوب آبائنا الذين درجوا على تقاليد اجدادهم، فنشأوا عليها، وارادوا ان نحذو حذوهم، فنسير نحن ايضاً على الطريق التي ساروا عليها.
ولكن لا.. واشدد على هذه الكلمة، لأن شباب اليوم قد ملّ تلك السخافات التي تحرّم على الشاب محادثة الفتاة حتى ولو كانت اقرب الناس اليه.
السخافات التي تمنع الفتاة من مغادرة منزلها الا برفقة الطابور الخامس: امها وابيها وجميع اخوتها واخواتها، وعمومتها وعماتها الى آخر المعزوفة. ومن يدري فقد تعجز ساحة التلّ في طرابلس من استيعاب هذا الحشد الهائل من الاقارب.
شباب اليوم، خلقوا لمؤازرة بعضهم البعض، ولتشبك الفتاة يدها بيد الشاب وتقول له: لا تخف يا رجل ما دمت بجانبك.
**
اليأس خطيئة
كلما مررت في مكان ما، أرى الناس تحدّق بي بأعين ملؤها الحقد والكراهية، فأحتار في أمري وأتساءل:
ـ ترى، ماذا فعلت لهؤلاء الناس؟
هل قتلت آباءهم؟
هل سلبتهم نعمة أتتهم من عند الله؟
كلاّ.. وألف كلاّ، فانا ارفع من هذه السخافات الدنيئة! ولكن لماذا؟ لماذا.. كنت اصرخ كلما اختليت بنفسي.
وذات يوم، وبعد أن ضيّقت عليّ أعين هؤلاء المتسكعين صرح الحياة، وجعلتني احس بشيء من النفور والتخاذل واليأس، لجأت الى أمي، واستشرتها بأمري، وكيف يمكنني التخلص مما أنا فيه، فقالت:
ـ لا بأس يا ولدي، فالانسان الذي يصبح عرضة لحقد الآخرين يكون قد اكتمل كلياً. لذا وجب عليك أن تتباهى، وأن تسعد وتهنأ، وأن لا تدع اليأس يتسرّب الى نفسك، فاليأس، يا ولدي، خطيئة.
**
أحبك..
كانت كلما التقيتها، تنفر مني، وتشيح بوجهها عنّي،.
ـ ما بها هذه الفتاة؟ كنت أتساءل دائماً.
وذات يوم، وبينما هي مارة من أمامي، وقفت في طريقها، وقلت:
ـ إسمعي يا فتاتي.. فلقد حيّرت امري، وشغلت بالي، بربك ماذا فعلت معك لتعامليني هذه المعاملة السيئة، وكانني عبد حقير فرّ من جور سيده؟
فأجابت وعيناها متجهتان نحو الأرض:
ـ لا أدري، أرجوك، دعني أكمل سيري.
ـ لا لن أدعك تكملين سيرك ما لم تخبريني كل شيء.
فتمتمت بصوت منخفض:
ـ إني أحبك..
ـ ماذا؟!
ـ أجل أحبك.. وأخاف أن تعاملني كجارية مكبلة بسلاسل أنانيتك..
ـ ولماذا لم تخبريني؟
ـ لأني أخاف منك، من سطوة رجولتك، فأنتم معشر الرجال ما أن تقع الفتاة بحبكم حتى تعاملوها بقسوة، وتستبدوا بها، وتسخروا منها ومن عواطفها، لذلك تراني أهرب منك. أهرب.. وطيفك لا يفارقني لحظة واحدة.
**
جرأة أدبية
عندما يمسك الكاتب قلمه ليخط مقالاً، أو أقصوصة، أو قصيدة شعرية، تتملكه جرأة غريبة نقدر أن نسميها سيطرة شبه قابضة، أو وحياً انتقالياً، مرده عدم التفكير الا بالشيء الذي يجول بخياله.
بالطبع، هناك كتّاب كثر، يتجاهلون، لا بل يخافون هذه الظاهرة العجيبة، فيبيعون افكارهم بالسوق، كما تباع الأواني الزجاجية، وحاجيات المنزل، وهؤلاء هم الطفيليون في الادب.
مجال العلم والادب ساحة وغى، تدور في ارجائها معارك عنيفة، سيكون الأشجع هو الفائز المنتصر عند انقشاع الغبار.
فالكاتب الذي يرى بلاده تسرق، وتحرق، وتنقاد انقياد النعجة الى المقصلة، دون ان يحرك ساكناً، يكون قد شارك في ذبحها. لذا، وجب عليه ان يتحلى بالجرأة، ليكتب مستنجداً الضمائر الحية على التعنت، والارادات القوية على التخنث، وليمتشق قلمه كالسيف، ملوحاً به، كالفارس، أمام أعين الجميع، وليصرخ غير عابىء:
ـ أنتم سرقتم.. أنتم لصوص.
فالبلاد تدعوه لأن يضحي بنفسه، كي تسلم هي من الخراب، ويهنأ الشعب.
الكاتب، جندي ميدانه القلم، فالويل، الويل لجندي رعديد خائف، والنصر لمن يتحلى بالشجاعة.
الجرأة الأدبية، هي البطولة بحد ذاتها، وإن لم تصدقوني، سلوا عبر الأزل محمد المحمصاني، وعمر حمد، وسعيد عقل.. وباقي شهداء الوطن.
**
آيات وصور
أهداني صديقٌ كتاب "آيات وصور" للأديب اللبناني سعيد عقل، ولمّا فتحته، وقلّبت صفحاته، سألت صديقي:
ـ بأية لغة كتب؟ يظهر أنها لغة غريبة عنّا.
فأجاب:
ـ لا.. لا.. انها لغتنا، لغة العالم.
ـ لم أفهم..
ـ كتب باللغة الفينيقية. ألله على عصر الجدود الأقدمين.. ركبوا البحار، وجابهوا الأخطار، ليتلمذوا الأمم، واليوم، وبعد انقراض لغتهم الأممية، جاء سعيد عقل لينفض عنها الغبار، ويعيد الى عروقها دم الحياة.
ـ وهل سيتم هذا؟ هل سيتمكن من تحقيق حلمه؟
ـ من يدري؟ فاللبنانيون قادرون على فعل كل شيء، حتى على بعث فينيقيا من جديد.
ـ لاتخف.. سأكتب عنه لا محالة.
ـ وبأيّة لغة؟
ـ باللغة التي كتب فيها سعيد عقل أجمل كتبه. العربية طبعاً.
وما أن نطقت كلمة "العربية"، حتى طار صديقي، وطار الكتاب معه.
الدبور ومعظم الصحف والمجلات اللبنانية، 1969
**
اللامبالاة
مسرحية صامتة من فصل واحد
المشهد الأول:
يدخل حمّال وبيده سلة فارغة، يضعها على الرصيف. يجلس بجانبها. يتناول من جيبه سيجارة. يضعها في فمه. يفتّش عن علبة كبريت فلا يجدها. يعيد السيجارة الى جيبه. يحاول الوقوف ولكنه يعود ويستلقي على الارض. ينام.
المشهد الثاني:
تمرّ سيدة ومعها طفلها. تتفركش برجل الحمّال الممدودة على الرصيف. تنظر اليه بسخرية. يحاول الطفل الوصول الى السلة. يجرّها خلفه. يتوقف. يفكر. يصعد اليها. يقع بداخلها. تحمله أمه. تعيد السلة الى مكانها. يبكي الطفل. تتفركش برجل الحمّال من جديد. تبصق عليه. يشخّر الحمّال. يضحك الطفل. تبتسم وتتابع سيرها.
المشهد الثالث:
بائع علكة. يقترب من مكان الحمّال. ينادي على بضاعته. يقف. ينظر الى الحمّال. يقترب منه. يصيح. يقترب أكثر. يصيح. الحمّال لا يزال نائماً. يهزه البائع بلطف. يحدق بوجهه. يضع أذنه على صدره. يقطع الحمّال أنفاسه. يفكر البائع. يركض هارباً.
المشهد الرابع:
تغط ذبابة على انف الحمّال. يشمر لها أنفه. تطير. تعود وتغط. يعطس. تطير. تغط على خده. يضحك بصوت مرتفع. تطير. تغط على أذنه. يهز رأسه. تطير الى جبهته. يضربها بكفه. تطير ومن ثم تعود الى مكانها. يضربها بقوة. يصيح من شدة الألم. تطير. يتناول السلة ويضعها فوق رأسه. يشخّر.
المشهد الخامس:
يدخل بائع العلكة ومعه شرطيان. يشير ناحية الحمّال. يقترب الشرطيان من الحمّال. يحملانه ويخرجان. يمسح البائع دموعه. ينظر نحو السماء. يرفع ذراعيه. يسجد. يقف. ينفض الغبار العالق بركبتيه. يتجه نحو السلة. يحملها. يفكر. يلقيها على الأرض. ينام في مكان الحمّال. يغمض عينيه. يسمع ضجيجاً. يفتحهما. يتطلع حواليه. الضجيج يزداد. ينهض. يترك السلة. يخرج مهرولاً.
المشهد السادس:
تهبّ عاصفة. تتدحرج السلة. يدخل الحمّال مسرعاً وغاضباً. يتلفت في أرجاء الشارع. يرى السلة. يركض محاولاً الامساك بها. تتدحرج. يقذف بجسمه لالتقاطها. تتدحرج بعيدة عنه عدة اقدام وتتوقف. يدبدب رويداً رويداً. يمد يده. يكاد يمسك بها. تهب العاصفة فجأة. تتدحرج السلة من أمامه. ينظر اليها شذراً. يجلس القرفصاء. يفكر. يقف. يحاول الابتعاد عنها. تتدحرج السلة وراءه. يقف. يلتفت اليها. تقف هي بدورها. يتصنّع المشي. تهتز في مكانها. يمشي. تتدحرج وراءه. يلتفت اليها. يبتسم. يتابع سيره. السلة تتابع تدحرجها. تصطدم برجليه. ينحني بلا مبالاة ويلتقطها. يضعها فوق ظهره. يخرج.
الدبور ومعظم الصحف والمجلات اللبنانية 1969
**
السرقة الأدبيّة في أستراليا
قصائد ومقالات كثيرة، نقرأها في الصحف والمجلاّت، ونسمعها في المناسبات، مسروقة من كتاب ما، ومسجلّة بأسماء لصوصها. والمؤسف أن الجالية تطبّل وتزمّر لسارقي مؤلّفات الآخرين، دون أن تتعب نفسها في التفتيش عن أصحابها الحقيقيين. وهذا ليس إساءة للجالية بل لسارقي عبقريات الغير وتطويبها بأسمائهم الفاشلة.
وأذكر حادثة طريفة حدثت معي، عندما زرت مطبعة راليا برس، لصاحبها جوزاف بو ملحم، وكان يطبع ديواناً (لشاعر) مهجري، فبدأت أتصفحه بشكل سريع، ولكن عينيّ تسمرتا على قصيدة كانت تغنيّها لي المرحومة والدتي أيّام طفولتي.. أي قبل أن يرى، (شاعرنا) هذا، نور الشمس.
فصحت بأعلى صوتي:
ـ هذه القصيدة مسروقة يا جوزاف!
فأجابني والإبتسامة على شفتيه:
ـ أنا قلت، في نفسي، إنني قرأت هذه القصيدة من قبل!
ـ إنّها للشاعر السبعلاني يوسف روحانا.
ـ العمى.. هذا شيء لا يصدّقه عقل!
وعندما زار الشاعر يوسف روحانا سيدني، قرأت القصيدة في ديوانه الروحانيّات الصادر عام 1994، فهمست في أذنه مازحاً:
ـ ما بك يا يوسف، لقد (لطشت) إحدى قصائدنا المهجريّة، ونشرتها في ديوانك؟
ـ معاذ اللـه، سمِّ لي القصيدة الملطوشة!
ـ قصيدة (جوعان إبني).. إنّها (لفلان الفلاني)، وقد نشرها في ديوانه الأخير..
ـ إنّك تمزح معي.. أليس كذلك؟
ـ لا.. تفضّل هذا هو الديوان.
وراح يقرأ بجشع ظاهر، إلى أن وصل إلى المقطع الأخير الذي يقول:
هَيْك الأمومه وهيك حالِة كلّ أمّ
انْجَاع إِبْنَا بْتشتِري رغِيفُو بدَمّ
والعَقْرَبِه الْبِتْكُون عَمْ بِتْبِقّ سَمّ
شِي تصير أم.. بْتعْصُر لإبنا العسل
وبِتْرَجِّع السمّات ع دمّاتْها
فتمتم والحسرة بادية على محيّاه:
ـ يقصف رقبته.. عملها معي.
ومن كثرة غضبه إتصل حالاً بأخينا (الشاعر)، الذي أقسم مليون مرّة، أن القصيدة دخلت ديوانه دون علمه، هكذا واللـه!
بقي أن أذكر أن الزميل شوقي مسلماني صالحني، منذ سنوات، مع أحد الذين سرقوا قصائدي ونشروها باسمهم.. فأتى به إلى منزلي عند منتصف الليل، ليبدي أسفه أمامي. والمضحك في القصّة، أن والدتي، رحمها اللـه، طلبت منّي عدم فتح الباب، لأن الحالة الأمنيّة في لبنان كانت متوترة، ومن يدري فقد أتعرّض للإغتيال!! فصحت وأنا أمترس خلف الحائط:
ـ من هذا؟
ـ شوقي..
ـ شوقي مَنْ؟
ـ شوقي مسلماني.
فضحكت، وضحكت والدتي، التي كانت تحمل بيدها عصاة المكنسة، واستقبلنا شوقي وصحبه أجمل استقبال، وأرجلنا ما زالت ترتجف من الفزع.
الشهرة الأدبيّة لا تأتي عن طريق السرقة، فالأشرف لكم أن تنشروا صوركم في باب التعارف، من أن تنشروها تحت مقال أو قصيدة أو نكتة ليست من إبداعكم. فالتاريخ يعرف كيف يغربل الناس، هذا إذا لـم يغربلهم القانون ويخرب بيوتهم، كون السرقات الأدبيّة ممنوعة في كافة دول العالـم. فاتّعظوا.
**
قلعة أثرية لم يسمع بها أحد
لولا ابن عين عكرين المحامي ميشال جرجس لـم نتمكن من زيارة (قصر الناووس)، تلك القلعة الرومانية الاثرية المشرفة على معظم قرى ودساكر قضاء الكورة في شمال لبنان. فلقد ألغى جميع مواعيده، وهو المحامي في الاستئناف، ليأخذنا إلى بلدته الرابضة في آخر قضاء الكورة، على ارتفاع 700 متر عن سطح البحر.
مدير معهد الابجدية في مدينة جبيل، الدكتور عصام حداد، الذي رافقنا بتلك الرحلة، لـم يصدّق عينيه وهو يتطلع بالآثار الشامخة على مر التاريخ، وقال والحسرة تعصر قلبه:
ـ صدقوني.. أنا لـم أسمع بقصر الناووس من قبل، وهذا تقصير من الدولة التي لـم تسلّط الضوء على هذا الأثر التاريخي الرائع.. وسأعمل المستحيل كي يأخذ القصر حقّه من الشهرة.
وكيف يأخذ حقّه من الشهرة وكتاب (إعرف لبنان ـ 9 مجلدات) لعفيف مرهج، لـم يعرف أن هناك قصراً أثرياً ضخماً في عين عكرين؟.. بل تجاهله تجاهلاً تاماً، واكتفى بتعريف اسم البلدة، على انه بالسريانية (العين الثخينة)، وفي الارامية (العمود الطويل الضخم الذي يستعملونه في معاصر الزيت قديماً).. ومن يدري فقد يكون الاسم مشتقاً من العمود الطويل الضخم الباقي على باب قلعتها. كما أن الكتاب لـم يخبرنا عن كنيسة عين عكرين الاثرية المشيدة بالقرب من قصر الناووس، وكأنهما جاران لـم يفرّق بينهما الزمن، رغم قساوته وتقلباته.
المحامي ميشال جرجس قال ان أبناء القرية يأتون إلى القلعة يومي السبت والأحد من أجل التنزه بها والتنعّم بجمالها.. وكم سنكون سعداء لو يجيء شعب لبنان كله، والأشقاء العرب، وكافة السيّاح، من أجل تمضية بعض الوقت في رحاب (قصر الناووس).. وأخبرنا أنه كان يمضي أوقات دراسته كلها معربشاً على أسوار القصر، ومتنعماً بمنظر الكورة الخضراء.
ناطور القلعة كان يفرط بالشبّيط أكواز الصنوبر، وعندما رآنا عرض علينا المساعدة، وزوّدنا بكيس من الصنوبر تركناه في لبنان حتى لا نغضب الجمرك الاسترالي، الذي يمنع إدخال المأكولات على أنواعها، وخاصة النباتات والعسل.
وعلى مدخل القلعة نصب الشاعر جورج خوري خيمته الدكان، وراح يعرض علينا جميع أنواع المشروبات المبرّدة، وعندما لـم نشرب، تطلّع بنا وقال:
ـ لن تغادروا هذا المكان وأنتم فارغي الأيدي، سأسمعكم هذه الردة الزجلية:
قصر الناووس حْجارو
من عمر بعلبك صاروا
شامخ تا كل الاجيال
تتفرجّلو ع أْثارو
وما أن رأى الانشراح يغزو قسمات وجوهنا حتى قال:
قصر الناووس روماني
رح إنظم مرّه تاني
وإعمل حفله بعين عكرين
لحد السما علقاني
فما كان مني، وقد أطربتني زجليّاته، إلاّ أن صحت:
قصر الناووس.. خْبارو
مقطوعه.. يا شحّارو
انشالله، بكرا، المسؤولين
بْيِمضوا كلّن عَ عْمارو
فتطلع بي مندهشاً وصاح:
ـ حضرتك شاعر؟! يا أهلا بالشعراء.. آمل أن يسمع المسؤولون اللبنانيون دعاءك، وينفضوا الغبار عن أحجار هذه القلعة الرائعة، وأن يبدأوا بترميمها، عندئذ ندعو الكون كله إلى حفلة عامرة في بلدتنا المنسية هذه.
ولكي لا تفوتنا حفلة عين عكرين، تواعدنا على اللقاء مجدداً في قصر الناووس، بعد أن يكون قد أخذ حصّته من الشهرة واهتمام المسؤولين.
ملاحظة سريعة: بعد نشر هذا المقال بعدة سنوات، لفتني أحدهم الى أن "قصر الناووس" لا يتبع جغرافياً بلدة عين عكرين، بل هو من أملاك بلدة رشدبين، وقد يكون عفيف مرهج ذكره هناك. لذلك اقتضى التنويه.
**
جوقة المسرح الزجلية تلهب المسرح الاغترابي
الزجل اللبناني هو أقرب الفنون الزجلية العربية الى الشعر الفصيح المقفى، ولكنه يمتاز عنه بملامسة شعور مستمعيه، وبتثوير طاقاتهم الوطنية والاجتماعية، وباقترابه أكثر، لا بل بالتصاقه، بأفواه الأمهات.
من منا لم يسمع أمه طفلاً وهي تغني له كي ينام:
يللا ينام يللا ينام
بدبحلو طير الحمام
روح يا حمام لا تصدّق
بضحك ع "شربل" تا ينام
ولقد استشهدت باسمي هنا، كي لا أنتقي اسماً آخر، كما تفعل كل أم حين تغني لابنها، فهي تستعمل اسمه كي يتأكّد من أنه هو المقصود.
وهذا ما فعلت بنا جوقة المسرح الزجلية المؤلفة من الشعراء السادة: أنطوان سعادة والياس خليل وبسّام حرب. لقد غنّت لكل واحد منّا بمفرده.. ولقد أثلجت صدورنا مسلمين ومسيحيين وهمست في آذاننا: لبنان لكم.. وليس لأحد سواكم.
المواضيع التي اختارها الشعراء للمبارزة، جعلتنا، نحن المستمعين، نتبارز معهم بدلاً من أن يتبارزوا مع بعضهم البعض، فلقد أدخلونا معركة الكلمة الرائعة والصورة الشعرية المشرقة، والتحدي الراقي دون أي إدراك منا. كانوا يجبروننا على الصراخ استهجاناً، وعلى التصفيق استحساناً، وعلى المطالبة بإعادة الردة الزجلية إعجاباً، ساعة يشاؤون، وكأننا في حلم جميل رفضنا حتى الآن أن نستيقظ منه.
جوقة المسرح حققت، من حيث لا تدري، أمنية شحرور الوادي، وأثبتت له أن الفرق الزجلية الشامخة، لن تنقرض، وأن الزجل اللبناني سيعم الكون أجمع.. وهذا ما حصل في كعب الأرض.
عندما قررت أن أحضر حفلة جوقة المسرح، ونادراً ما أحضر حفلات في هذه الأيام كما الكل يعلم، قلت في سرّي: ماذا سيقدم أنطوان سعادة والياس خليل وبسّام حرب لعشاق الزجل في أستراليا، وقد سبقهم الى هذه الغربة شعراء عمالقة، منهم والد بسّام الشاعر المرحوم إدوار حرب. ولكنهم ما أن بدأوا برمي دررهم على أسماع الحاضرين الذين غصّت بهم قاعة "وادي العرايش"، حتى أدركت أن العمالقة الذين سبقوهم ومرّوا من هنا ليسوا آخر العنقود، وأن رحم الزجل اللبناني قادر على إنجاب الفطاحل، وأن أنطوان والياس وبسّام عمالقة فطاحل، قادرون على التفاعل مع جمهورهم بشكل مدهش، وكأنهم يملكون عصا سحرية يرفعونها عالياً فيرتفع التصفيق، ويرمونها أرضاً فتتساقط الدموع والآهات..
صحيح أنني دخلت الحفلة قسراً، ولكنني خرجت منها قسراً أيضاً، وهنا يكمن وجعي.
أجل.. ليلة الخامس عشر من شهر آذار، كانت حلماً تمنيت أن لا أستيقظ منه، ورغم كثرة الدواوين الشعرية التي طبعتها، وجدت نفسي تلميذاً أمام أساتذة كبار.
فإلى أساتذتي الكبار أهدي هذه الأبيات التي لا تتطابق إلا مع أوزان شجّعني أن أتمسّك بها أخي الشاعر المرحوم جان رعد حين قال: شربل بعيني يجب أن لا يكون إلا شربل بعيني، وأنشد، رحمه الله: زمانك طفل يا سابق زماني:
عَ الغربه لمّن طلّيتو
زرعتو الفرحه بْدون حساب
شو منعمل.. لولا فلّيتو؟
منسكّر كل الأبواب
وكاس "الأوف" اللي ملّيتو
نشرب وتدوخ الأنخاب
وبيوت الشعر الـ علّيتو
نحبسها جوّات كتاب
تا نصلّي الشعر الـ صلّيتو
وهيك منعرف يا أحباب
فلّيتو.. لكن ضلّيتو:
أنطون، الياس وبسّام
فرحه.. بقلوب الغيّاب
سيدني 2014
**
الثرثرة في الندوات الأدبية
لا أحد يكشف الثرثارين في الندوات الأدبية مثل المتكلّم على المنبر، فهو يراهم واحداً واحداً وهم "يتوشوشون" بخبث أثناء إلقاء كلمته، ومع ذلك لا يفاتشهم احتراماً لهم، في حين لم يحترموه هم، وللأسف.
هناك عدة أنواع من الثرثارين أخطرهم صاحب الدعوة، الذي يتنقل من طاولة الى طاولة مرحباً بضيوفه، بينما أنت تلقي كلمتك مادحاً إياه، وكأنك تمدح حائطاً لا يسمع، فإن لفتّ نظره الى ذلك، أجابك بكل وقاحة:
ـ لا تهتم، سأسمعك على الفيديو.
هكذا والله.
وهناك الثرثار المشارك في الندوة، فما أن ينتهي من إلقاء كلمته، حتى يبدأ بالتشويش على من سيتكلّم بعده، كي لا ينجح أكثر منه، وينال تصفيق الحضور.
أما المثقف الثرثار، فهو الأكثر فتكاً في جاليتنا، إذ ما أن يخطىء أحدهم لغوياً، فينصب الفاعل، أو يرفع المفعول به، الى آخره، حتى يبدأ حضرة جنابه بوشوشة جاره بغية فضح المتكلّم، منهياً ثرثرته بابتسامة خبيثة.
وإن أنسى لا أنسى يومَ توجّه نحوي أحد المتكلمين وصاح:
ـ يا استاذ شربل، هل رأيت ذلك المعاق الحقود، وهو ينمّر عليّ وأنا أتكلم.. لعنه الله ما أرذله.
وهناك أيضاً الجمهور الثرثار الذي يأتي الى الندوة من أجل تمضية الوقت، وملاقاة أصحابه، فينزوي في ركن ما، ويبدأ بالصهيل والنباح، وكأن المتكلّم على المنبر خيال صحراء، كما يقول المثل، غير عابىء بوجوده، أو بكلامه. وقد حدث مثل هذا الأمر في إحدى المناسبات، إذ بدأ بعض المدعوين بالتنكيت والضحك بصوتٍ عالٍ أثناء إلقائي لقصيدتي، فما كان من صاحب الدعوة، وكان اسمه روحانا رحمه، رحمه الله، إلا أن طلب مني التوقف عن الكلام، وأخذ من يدي الميكرفون وصاح:
ـ لقد احترمتكم حين دعوتكم الى حفلتي، فما عليكم سوى احترامي والاصغاء أثناء الكلام، فإن لم تحترموا رغبتي هذه، أرجوكم مغادرة القاعة.
عندها ساد صمت قاتل، فإن رميتم الإبرة تسمعون رنّتها، ليتضح بعدها أن الجوقة الثرثارة لا تفهم العربية إطلاقاً، ولو لم يترجم أحدهم كلام "أبو أنطوني" لها، لطردت دون رحمة.
نعم، هناك بعض المتكلمين المصابين بالاسهال الخطابي، أو بمرض الميكرفون، الذين يدفعون المستمعين الى التململ والضجر. وهناك أيضاً عريف الاحتفال الذي ما أن يمسك بالميكرفون حتى يتطاير لعابه فوق رؤوسنا لساعات وساعات، وكأن لا أحد غيره سيتكلم، مما يدفعهم الى الثرثرة بغية التخلص منه، وهذا حقّهم.
لذلك، وجب علينا التعاون من أجل إنجاح جميع ندواتنا، فالشاعر أو الأديب، أو الاعلامي، الذي يمضي الليالي الطوال من أجل تحضير ما سيتحفنا به من أدب راقٍ، أقل ما يجب فعله هو الاصغاء إليه.
وفقكم الله.
**