الغلاف للفنانة رندى بعيني
**
أشطر امرأة عربية
صديقي تاجر أقمشة وألحفة وما شابه، يمتاز عن باقي التجّار بسرعة التصرّف والبديهة. ذات مرّة، اصطحبني معه لبيع لحاف واحد فقط لسيّدة عربية تعتقد أن اللـه، سبحانه وتعالى، لـم يخلق امرأة ذكيّة مثلها. وبعد أخذ ورد، وفلفشة ثلاثة ألحفة زرقاء وحمراء وذهبيّة، من نوعيّة واحدة، وسعر واحد، قالت :
ـ إن شاء اللـه تكون أسعارك أرخص من السوق..
فتمتم صديقي، وهو يتطلّع بالألحفة:
ـ طبعاً.. طبعاً ..
ـ ما سعر اللحاف الأزرق؟
ـ سبعون دولاراً ..
ـ والأحمر؟
ـ مثله تماماً.. سبعون دولاراً ..
فبدأت أم الذكاء تتأفف، وتنظر إلى اللحافين الأزرق والأحمر وتقول :
ـ أنت تعرف، يا غليظ، أنني أحب الأشياء الغالية الثـمن، فلماذا جئتني بلحافين من نفس الفصيلة، والنوعية، والسعر؟!
ـ الألحفة العربية في أستراليا متشابهة تقريباً، لأن معملاً واحداً يصنعها، يملكه أحد المهاجرين اليونانيين ..
ـ يوناني.. ويشد ألحفة عربية؟.. ليس بإمكانك أن تضحك علي.. أنا أشطر إمرأة في هذه البلاد، أسست جمعية المرأة العربية في أستراليا..
ـ لقد نجحت هذه الجمعية كثيراً.. وفجأة اختفت من الوجود..
ـ لأن كل امرأة فيها تطمع بالرئاسة..
ـ أليس هذا من حقّهن؟
ـ الرئاسة من حقي أنا.. أنا وحدي.. فأين كنّ هؤلاء النساء عندما أسست الجمعية؟
ـ ألا تسمّين هذا استبداداً؟
ـ لو لم تكن في بيتي، لطردتك حالاً.. أنت تاجر وقح..
ـ أنا آسف.. لقد نسيت أننا عرب، وأن العربي لا يتخلى عن رئاسته إلا بانقلاب دموي أو بزيارة عزرائيل له..
ـ عزرائيل.. عزرائيل.. لقد بدأت تخيفني، أرجوك إحمل ألحفتك، وارجع لي مرة ثانية..
ـ أرجوك اسمعيني..
ـ لا أريد أن أسمعك.. أنا أشطر امرأة في هذه البلاد.. أنا أخت الرجال.. أنا أم الذكاء.. أنا ..
ـ يا أخت الرجال.. اللحاف الذهبي بانتظارك.. أتريدينني أن أفلشه أمامك؟
ـ طيّب، طيّب، ما سعر اللحاف الذهبي؟
هنا، تطلّع بي صديقي وهو يبتسم ابتسامة خفيّة، كي لا تنتبه لها أم الذكاء النادر، وقال :
ـ مئة دولار.. لا تنقص ولا تزيد ..
ـ العمى.. إنه أغلى بثلاثين دولاراً من الأزرق والأحمر..
ـ أنت تعرفين، ولا شك، أن أسعار الذهب مرتفعة جداً في هذه الأيّام ..
ـ قصدك البترول؟
ـ البترول ذهب أسود أيضاً، وأسعاره لا تطاق.
فحدّقت أختنا بالألحفة الثلاثة مليّاً، كأنّها تطبع عليها نظرها، وراحت تشتم الذهب الأصفر والأسود والبورصة والأسهم التجاريّة والناريّة، وتقول :
ـ معك حق.. أسعار الذهب لا تطاق في هذه الأيّام.. ومع ذلك سأشتري اللحاف الذهبي.
فتمتم صديقي مرّة ثانية، وهو يبعد اللحافين الآخرين عن الذهبي المختار:
ـ مبروك يا مدام ..
وما أن غادرنا البيت، ودخلنا السيّارة، حتّى انفلشنا من كثرة الضحك، وصديقي يغنّي بأعلى صوته :
الستّ بتفهم يخزي العين
مأَكد في براسا عقلَين
عقل بيسوى جحش كبير
والتاني ما بيسوى بسين
**
حوار ساخن في ساحة الكنيسة
هذا الحوار سمعته أمام باب إحدى الكنائس في سيدني، بينما كنت أقف، منتظراً خروج أخي، بالقرب من سيّدتين لبنانيتين، جاءتا أصلاً للصلاة في الكنيسة، وليس للثرثرة (وطق الحنك) في ساحتها.
قالت الأولى للثانية بصوت كأنه فحيح أفعى:
ـ هل رأيتِ نجوى؟.. لقد شقّرت شعرها، ونتفت شعيرات ذقنها، ولبست كعباً أطول من رقبتها!
فتمتمت الثانيّة، ويدها تغطي فمها، كي لا يسمعها أحد:
ـ لقد جرّصت حالها، وسخر منها الجميع ..
ـ آخ لو رأيتِ زوجها القمّرجي، النسونجي، الطنبرجي.. نعل حذائه مثقوب، أي أنه يمشي على لحم رجليه، ومع ذلك يضع رجلاً فوق رجل، ويعرّم في المجتمعات.
ـ طنبرجي ونصف.. ما زال يرتدي بذلة عرسه، التي تزوّج بها منذ عشرين سنة .
ـ وهذه المرسيدس التي تقودها، من أين جاءت بها؟
ـ البركة بالخواجة يوسف..
ـ يوسف ما غيره؟!.. إنه مهرب مخدرات كبير، عجز البوليس الأسترالي عن ضبط تحركاته.
ـ طنجرة ولقيت غطاءها.. قولي: أللـه .
والظاهر أنهما انتبهتا لوجودي بقربهما، فالتفتتا إلي بقرف، وراحتا تشزرانني من تحت إلى فوق، فأشحت بوجهي عنهما بعد أن وضعت تلفوني المحمول على أذني تمويهاً، وبدلاً من أن تبتعدا عني أكملتا حديثهما بثقة تامة:
ـ يوسف يحب نجوى، وهي ترفض أن تطلق زوجها خوفاً من أهلها في لبنان، ولهذا راح يصاحبه ويمده بالمال ليروي غليله من القمار، ويدفنه الليالي الطوال في كازينو سيدني، وهكذا يخلو له الجو ويحلو مع نجواه ساعة يشاء.
ـ كازينو سيدني ينتظر بفارغ صبر إطلالة زوجها، بينما هي فتنتظر إطلالة يوسف!
ـ جميع مهربي المخدرات باتوا في السجن إلا يوسف!
ـ إنه يدفع.. اللبناني كريم مع البوليس، لا تخافي.
وفجأة، عاودتا التطلع بي، والثرثرة علي شخصياً:
ـ أعتقد أن هذا الرجل الواقف بقربنا من أزلام يوسف..
ـ لا.. إنه من رجال البوليس.. لقد لمحته منذ مدة في مركز بوليس باراماتا..
ـ وماذا كنت تفعلين هناك؟
ـ لقد أوقفوا زوجي بتهمة (شَيْل) العرق اللبناني المثلث..
ـ ومن فسد عليه؟
ـ أخوه!! أجل أخوه..
ـ تحضير العرق ممنوع في أستراليا.. كم غرّموا زوجك؟
ـ عشرة آلاف دولار.. إنني أكره عائلة زوجي..
ـ أف.. نسيت أن أسألك عن حماتك.. ماذا فعلت بها؟
ـ قلت لزوجي: يا أنا يا أمّك ..
ـ وماذا قال لك؟
ـ بالطبع أنا.. ورمى أمّه في مأوى العجزة ..
ـ عقبى لحماتي ان شاء الله..
ـ أدخلي لنصلّي.. قبل أن ينتهي القدّاس، ونطلع بلا قدّاس.
وما أن دخلتا الكنيسة حتى خرجتا منها، فلقد منح الكاهن بركته الأخيرة للناس، فخرجوا ممتلئين بوصايا السيد المسيح: "أحبوا بعضكم بعضاً كما أنا أحببتكم"، ما عدا سيدتين أدارتا ظهرهما للحب من أجل الثرثرة على الآخرين والإيقاع بهم، ولو لم أكن قد تنعمت بحضور قداس الصباح، لما تمكنت من نقل وقائع هذا الحوار الساخن.
**
أمبيلونس.. بوليس.. ليبانيز
أَوقفت سيّارتها بالقرب من سيّارتي، وشزرتني بعينيها الدبّاحتين، ثـم نفضت رماد سيجارتها من الشبّاك، واختفت، أو بالأحرى، انشقّت الأرض وابتلعتها.
تطلّعت ذات اليمين وذات اليسار، فلـم أجد أحداً. حملقت في أعالي الفضاء، يقيناً منّي بأن اللـه تعالى سيعيد عجائبه مرّة ثانية، وينقل سيّدة فاضلة بشحمها ولحمها وسيّارتها إلى السماء، كما نقل نبينا إيليّا، عليه السلام، بمركبة ناريّة في غابر الأزمان.
وفجأة، رأيت آثار (سكربينات) سيّارتها الأربع مطبوعة على جبين الإسفلت المسكين، فأدركت للحال كم كانت مسرعة تلك السيّدة.
وما هي إلا كيلومترات معدودة، حتى وجدت سيّدتي الجمبوجيت متوقّفة على جانب الطريق، والدموع تبلّل خديها، و(ظبط ـ غرامة) البوليس المحظوظ بين يديها، يأخذ طريقه إلى محفظة نقودها، فينتقي منها 500 دولار لا غير، ويشطب من رخصة قيادتها ثلاث علامات قاتلة، لـم تكن تملك غيرها، وصوتها يلعلع بالعربية طبعاً:
ـ يا ألله.. البوليس الأسترالي يكره العرب..
وما أن انتهيت من التحسّر على أموال تلك المسكينة، وعلى تفكيرها الرديء تجاه الشرطة التي تعمل على حمايتها من الموت، حتى التقيت بمسكين آخر كانت سيّارته تسير بسرعة البرق، والغبار يتطاير من تحت دواليبها العريضة، وكأنه يحاول النجاة بنفسه من الهرس، ولولا وجود العلم اللبناني على زجاجها الخلفي، لما حسبت أن هذا (السوبرمان) الطائر رجلٌ لبناني .
وفي نفس الوقت، كانت إحدى سيّارات البوليس تراقب تحرّكاته الجنونيّة لحظة بلحظة، إلى أن ضبطته يتجاوز إشارة المرور الحمراء عند تقاطع بعض الطرق في مدينة سيدني، فأوقفه رجل البوليس على جانب الطريق، وبدأ باستجوابه وأنا أستمع إليهما من الجهة المقابلة:
ـ ما اسمك؟
ـ حنكليس
ـ هجّه لو سمحت..
ـ أنكليز..
ـ مستر أنكليز.. من كم سنة وأنت تقود السيّارة؟
ـ من سبع سنين..
ـ وكم مرّة خسرت دفتر القيادة؟
ـ سبع مرّات..
ـ والآن..
ـ تصبح ثـمانية..
ـ مستر إنكليز..
ـ يس!
ـ هل تعرف قوانين السير في أستراليا؟
ـ يس!
ـ هل بإمكانك أن تقول لي من يحق له تجاوز الإشارة الحمراء عند الضرورة؟
وهنا حكّ الحنكليس رأسه مفكّراً، ومن ثـم تطلّع في عينيّ رجل البوليس، وأجاب بثقة تامة :
ـ ثلاثة فقط يحق لهم تجاوز الضوء الأحمر ..
ـ عظيم جداً.. عدّدهم إذا سمحت..
ـ أولاً.. أمبيلونس
ـ يس..
ـ ثانياً.. بوليس
ـ يس.. يس.
ـ ثالثاً.. ليبانيز
وانفجر البوليس ضاحكاً، بينما أسرع رفيقه إلى إخضاع السيد حنكليس لعملية فحص اللهاث، مخافة أن يكون السكر هو الذي حشر إسم (اللبنانيين) مع الإسعاف والشرطة.
**
عندما يبصقون البحصة
من يقرأ الأخبار المتلاحقة، يجد أن معظم وسائل الإعلام تريد أن تبصق بحصة واحدة في فمها لا غير، ألا وهي موت (البغدادي)، فلم تخلُ واحدة منها، طوال السنوات الماضية من هذا الخبر. ولكن المؤسف والمضحك في الأمر أن البغدادي، رغم التبشير بموته، ورغم الفرحة التي عمت الكون أجمع، وجعلتنا نزغرد، عاد إلى الحياة السوداء، وإلى ممارسة هواياته القاتلة، من تفجير، وتفخيخ، واختطاف، وسحق لكل ما هو إنساني، وخاصة أرواح الأبرياء من الشعب العراقي المسالم، فأضحت حكاية الوسائل الإعلامية، العالمية والعربية، كحكاية أخينا أبي فارس يوم بصق بحصته، وإليكم القصة:
أبو فارس من الناس الذين لا يأتيهم النّوم وفي بطونهم خبر. وذات مرّة علم بوفاة أحد أقرباء زوجته، وكانت المسكينة نائمة حين وصله النبأ المشؤوم، فاحتار كيف يوقظها ليبصق البحصة، ويخلد للنوم.
فكّر لحظة، ثـم خلع ثيابه ونام بقربها، وبدأ يشخّر شخيراً مزعجاً للغاية، كأنه هدير طائرة هليكوبتر، ولكن دون جدوى، فنوم زوجته عميق جداً، ولا شيء يوقظها منه سوى انفجار قنبلة ذريّة، كالتّي فتكت بهروشيما، وذلّت الإنسان إلى الأبد..
فجأة، خطرت على باله فكرة الأحلام المفزعة، فتخيّل نفسه في كابوس، وراح يرفس زوجته برجليه ويصيح بأعلى صوته:
ـ اركضي عليّ يا أم فارس.. إلحقيني بربّك.
فاستيقظت الزوجة مرعوبة القلب، مقطّعة الأوصال، وهي تردّد كالمجنونة:
ـ اسم اللـه عليك يا أبا فارس.. قم يا أبا فارس..
فرح أبو فارس بنجاح خطته، وانطلاء حيلته، فالتفت إلى زوجته وقال:
ـ حلمت حلماً لا يصدّق.. رأيت فيه سامي إبن عمّك..
ـ كيف رأيته.. قل لي؟
ـ مسكين..
ـ مات؟
ـ أللـه يرحـمه..
ـ لقد مات بالحلم.. ولهذا سينكتب له عمر جديد..
ـ قلت لك: أللـه يرحـمه..
ـ يعني مات؟
ـ وشبع موتاً.. تصبحين على خير..
وهنا صرخت أم فارس صرخة هزّت جدران البيت:
ـ يا باطل.. سامي مات..
ـ اسكتي يا امرأة أريد أن أنام..
ـ يا ضيعان شبابك يا إبن عمي..
ـ خفّضي صوتك.. نحن الآن في منتصف الليل..
ـ ماذا أصابك يا ابن العم.. يا شيخ شباب سيدني..
ـ أريد أن أنام.. أرجوكِ..
ـ كان حلمك الوحيد أن تعود إلى وطنك لبنان..
ـ مسألة الموت ليست بيد إبن عمّك سامي.. إنها بيد ربّنا.. أفهمتِ؟
والظاهر أن أم فارس لـم تفهم.. بل راحت تولول وكأنها تهذي:
ـ آخ على شبابك.. آخ على قامتك.. آخ عليك يا إبن عمّي..
فما كان من أبي فارس إلاّ أن لبس ثيابه، وركب سيارته، وراح يعزف على زمّورها موسيقى أغنية ألفها ولحنها وهو يحلش شعر رأسه:
لساني مصدر للتعتير
فراشيخو بدِّي بِيعَا
بركي بِشبعْ نوم كتير
ومَرتي بتسكِّر نيعَا
آمل من كل قلبي أن لا تقفل وسائلنا الإعلامية فمها، بل أن تنقل لنا الخبر الأكيد، الذي لا تغيير أو تبديل بعده، فمن حقنا إذا فرحنا بخبر ما، أن تبقى فرحتنا دائمة، لا أن تتلاشى وتتطاير في مهب الريح، كما حصل ويحصل دائماً.
**
مات.. فأحرقوه.. فقام
جاري إنسان بسيط، تحسّ، وأنت تحادثه، أنّك أمام أحد أقربائك، وأنه أتى للتوّ من إحدى قرى لبنان الريفيّة، لذلك لـم أسأله عن اسم البلد الذي يتحدّر منه، ولا عن الدين الذي يعتنق. وكان يحب عمل الخير كثيراً، لدرجة أصبح معها يجمع براميل القمامة، ويضعها داخل بيوتنا دون أي مقابل.
ولكن، ولسوء حظّنا جميعاً، غزا مرض السرطان كبد هذا الجار المسكين، ووافته المنيّة بسرعة مذهلة، فوجدت أن من واجبي زيارة أرملته، وتعزيتها بمصابها الأليم، فاشتريت باقة من الورد، ومشيت إلى بيتها بخطى بطيئة، لأنني، والحق أقول، لا أعرف كيف أبدأ كلمات التعزية مع الآخرين، فأتلعثم دائماً، وكأن لساني أصيب بضربة شمس، أو بهزة حائط.
قرعت الباب عدّة مرات، ولـم يجبني أحد، فبدأت الظنون تتقاذفني :
ـ أين هي يا ترى؟
ـ أين الأقارب والأصحاب وأبناء الحي الواحد؟
ـ إذا مات (قاشوش) من أبناء جاليتي اللبنانيّة، نرى الناس يدخلون ويخرجون من بيته خروج النمل من وكره أيّام الحصاد، فما بال هؤلاء الجيران يهملون موتاهم؟!!
ولـم يطل تساؤلي كثيراً، لأن أرملة المرحوم انتصبت أمامي بقامتها الهيفاء وقالت :
ـ أنا آسفة جداً، كنت أقضي حاجة ما.
ـ وأنا آسف أيضاً للمصيبة التي حلّت بك، لقد خسرنا جاراً لا يعوّض، ولكن ما علينا سوى الرضوخ لمشيئة اللـه.
ـ كان، رحمه اللـه، رجلاً فاضلاً، وزوجاً مخلصاً، من الصعب أن أحظى بمثله مرّة ثانية، ولهذا سأفتقده كثيراً .
ـ هل بإمكاني اصطحابك لزيارة ضريح المرحوم؟ فلقد اشتريت باقة من الأزهار لهذه الغاية.
ـ أنت لطيف جدّاً، ولكنّ زوجي لـم يقبر في ضريح .
ـ هل لي أن أعرف ماذا فعلتـم بجثمانه؟
ـ كانت رغبته أن يحرق ويذرّ رماده فوق المحيط.
ـ ماذا؟!
ـ نعم.. ولكن ابني الوحيد، حفظه اللـه، رفض تنفيذ رغبة أبيه، مدّعياً أن البحر بعيد جدّاً عن مكان سكني، وهذا ما سيحول بيني وبين زيارتي الأسبوعيّة لرفات المرحوم.
ـ وماذا فعل إذن؟
ـ جمع الرماد في صندوق خشبيّ مذهّب، ووضعه في (كاراج) البيت .
الحقيقة أنني صعقت لدى سماعي هذه القصّة الغريبة البعيدة عن عاداتنا الشرقيّة، بعد السماء عن الأرض. ومع ذلك قرّرت مواصلة استنطاق جارتي حتى النهاية، فقلت :
ـ هل من مانع لديك إذا دخلت (الكاراج)، ووضعت هذه الباقة من الورد قرب صندوق المرحوم؟
ـ لا.. لا.. أبداً، ولكن الصندوق ليس في (الكاراج) .
ـ هل ما زال في بيت ابنك؟
ـ كلاّ ..
ـ أين هو إذن؟!
ـ لقد أتت حفيدتي منذ لحظات، ووضعت الصندوق فوق درّاجتها الناريّة، وانطلقت به صوب المحيط.
ـ لتنفيذ وصيّة جدّها.. أما هكذا؟
ـ كلاّ.. كلاّ.. حفيدتي هذه، لـم تزر جدّها أثناء مرضه، حتّى ولـم تسأل عنه، وقد ندمت بعد وفاته على جفائها له، وها هي تحاول الآن الترفيه عنه، قدر المستطاع، فتأتي كل (ويك ـ أند) لتفسّحه على درّاجتها الناريّة.
وما أن أتمّت عبارتها هذه، حتى بدأ الدوار يسرح ويمرح في جمجمتي، وبدأت ألعن، بلغتي العربيّة طبعاً، هذه الأيام التي تشرذمت بها العائلات، وقلّ اهتمام صغارها بكبارها، لدرجة أن 75 بالمئة من العجائز (مشلوحين)، إن صحّ التعبير، في بيوت للعجزة. وأغتنمها فرصة لأحذّر الجميع من أن المستقبل قاتـم جداً أمام العديد من العائلات العربيّة، التي استهترت بتربيّة أطفالها، وانغمست في مستنقعات المادّة، واللـه وحده يدري كيف ستكون نهاية أفرادها .
وبعد استغراق مؤلـم، سألت الجارة :
ـ هل أنت راضية عن عمل حفيدتك هذا؟
ـ كل الرضى ..
وهنا صرخت كالمجنون الفالت من أحد المصحّات العقليّة:
ـ اسمعي يا مسز (مدري شو)، قولي لحفيدتك: أشرف لها ألف مرّة أن تترك جدّها في (كاراج) البيت من أن (تمشوره) على درّاجة نارية..
ـ ولماذا يا مستر بعيني؟
ـ لأن اللـه خلقنا مرّة واحدة، ويميتنا مرّة واحدة أيضاً.
ـ وما دخل هذا بذاك؟
ـ ماذا سيحدث لو اصطدمت درّاجة حفيدتك بسيّارة شحن مسرعة؟
ـ ستموت بالطبع ..
ـ وماذا سيحدث للمرحوم جدّها؟
ـ سيموت أيضاً!!
ـ وهل سمعت بإنسان يموت مرّتين؟
ـ يا إلهي.. من الآن وصاعداً سأعمل بنصيحتك أيّها الجار العزيز، وسأضعها أمام الأمر الواقع، إمّا أن تترك جدّها في (الكاراج)، وإمّا أن تأخذني معه .
هنا، لـم أعد قادراً على ضبط أعصابي، فانفجرت ضاحكاً، ولسان حالي يردّد:
الواحد منَّا بدُّو يموت
مرَّه.. مرتين.. وأكتر
وصعبه يرتاح بتابوت
أَو بِـصندوق مسكَّر
**
ماذا يقول هذا الحمار؟
كلّما استبدّ بنا ضجر الغربة، نركب السيارة أنا وأخي جوزاف، ونذهب إلى (الماركت)، حيث تباع الأدوات الجديدة والمستعملة، وتعرض جميع أنواع الفاكهة والخضار. وكنا، في كل مرة نذهب إليه، نعود محمّلين بكل ما تصبو إليه نفسانا من أشياء أثريّة وحديثة وفاكهة.. ولكننا منذ أسبوعين عدنا منه ونحن نحمل هذه القصة الطريفة لا غير:
كنّا نقف قرب بائع للخضار، فاقتربت منّا امرأة لبنانية ترافقها ابنتها المراهقة، وسألت البائع بصوتٍ عالٍ وبإنكليزيّة مكسّرة عن سعر صندوق البندورة ـ الطماطم:
ـ هاو ماتش الـبوكس؟
قالتها و(أل) التعريف العربية تتقدّم (البوكس) بكل ثقة!.
فأجابها المسكين بإنكليزيّة سليمة، كونه أستراليّ المولد:
ـ فايف دولار، مدام.
فالتفتت لابنتها وقالت:
ـ ماذا يقول؟.. فسّري لي جيّداً يا بنت، ماذا يقول هذا الحمار؟!
فأحنت البنت رأسها خجلاً وتمتمت:
ـ لـم أسمعه.. كنت أتطلّع بالنّاس .
فدفشتها الأم بكوعها وهي تصيح:
ـ روحي نسأل غيره.. أخونا لا يعرف الإنكليزية.. يجب أن أضربه بقبضتي على حنكه كي يتعلّم كيف يحكي إنكليزي..
فهمست بأذن أخي:
ـ تعال نلحق بها لنرى كم من الحمير ستلتقي..
ـ أرجوك.. دعها وشأنها.. أستراليا ملآنة بأشكالها..
ـ هذا الموضوع يهمني كثيراً، وسأكتب عنه لأبيّن للناس كيف استملكنا أوطاناً استضافتنا، وشوّهنا لغتها بعد أن شوهناها..
ـ إذا كان هذا ما تريد.. فلنلحق بها..
وفجأة توقّفت أمام بائع آخر، وسألته بصوت أعلى من السابق:
ـ هاو ماتش بوكس البندورة؟
والبائع، هذه المرة، لم يكن أحد الأستراليين، بل طبيباً عربياً لجأ إلى بيع الخضار بعد أن منعته الحكومة الأسترالية من ممارسة مهنة الطبابة التي برع بها في بلاده، فأجابها بلغة عربية سليمة، كونه عرفها من أصل عربي من لغتها الإنكليزية المطعمة بكلمات عربية صارخة:
ـ اعطيني أربعة دولارات، وصحتين على قلبك..
فالتفتت إليه، وصاحت بصوت أشبه ما يكون بهدير طائرة الكونكورد المتقاعدة:
ـ تعيش في أستراليا، ولا تتكلم الإنكليزية.. عيب يا رجل!
ـ لقد عرفتك امرأة عربية، فحاولت أن أخفف من معاناتك اللغوية، وبدلاً من أن تشكريني، أراك تسخرين مني.
ـ أشكرك.. أنا أشكرك.. على ماذا؟ على حمرنتك باللغة الإنكليزية؟
ودفشت ابنتها بكوعها مرة ثانية وهي تقول:
ـ اليوم ليس يومي.. لقد ابتليت بحمارين ولا أبشع..
فاحمر وجه ابنتها خجلاً وراحت تتمتم:
ـ هما على حق يا أمي.. وأنت على خطأ..
وهدرت طائرة الكونكورد في أذن ابنتها المسكينة:
ـ سوف لن آتي بك إلى (الماركت) بعد اليوم.. الظاهر أنني لم أخلّف سوى حمير جهلة.
فاقتربت من الطبيب الخضرجي وقلت له:
ـ هل سمعت ما قالت؟
فأجابني بقهقهة عالية:
ـ هذه المرأة أرحم من غيرها، وأفهم من غيرها، فوالله والله لو وقفت مكاني ساعة واحدة لتعرفت على أناس يجبرونك على انكار عروبتك، والتلطي وراء بضعة كلمات فرنسية، كي تنتمي إلى الفرنكفونية رغم أنف نابليون، ونكاية بكل العربان الذين تنكروا للغتهم، دون أن يتقنوا لغة أخرى.
**
البطالة.. ودولة مرياطة
أطلقوها نكتة، ولـم يدركوا كم هي عميقة بمعناها، بعيدة بدلالاتها، وبريئة ببياض كذبتها التي إن دلّت على شيء، فإنها تدل على ذكاء لبناني خارق، يأبى صاحبه أن يعيش عالة على مجتمع احتضنه، وأناس أخلص في حبّه لهم، فأخلصوا في حبّهم له أيضاً، لولا حفنة من الرعاع احترفت التمييز العنصري، وراحت تعرضه على أبواب معاملها بشكل يافطات كتب عليها: (لا عمل للبنانيين)، جاهلة تماماً أن اللبناني أذكى منها وأدهى، لأن الدهاء في ظرف كهذا فضيلة. وإليكم القصة التي يقال إنها حدثت مع أحد أبناء قرية مرياطة في أوائل سبعينيات القرن الماضي.
ضاقت سبل الحياة بوجه أحد العاطلين عن العمل من أبناء قرية مرياطة الشامخة في شمالي لبنان، فشد رحاله وهمّ بالتفتيش عن عمل ما، بغية القيام بواجباته الأبويّة تجاه ثلاثة أطفال صغار.. وزوجة.
تعب أخونا من اللفّ والدوران طوال ساعات النهار، من معمل إلى معمل، دون جدوى، سوى قراءة تلك اليافطات اللعينة أينما وصل (لا عمل للبنانيين).. فيعود أدراجه إلى البيت، وعرق الخيبة يتصبب من جبينه، وفـم زوجته لا يكفّ عن السؤال :
ـ ماذا فعلت اليوم.. هل وجدت عملاً؟
ـ لقد دخت من كثرة التفتيش.
ـ وهل وفّقت في ذلك؟
ـ يا امرأة.. المصانع لا ترغب بتشغيل اللبنانيين.
ـ ولماذا لا ترغب بتشغيلنا.. إنّها حجّة فقط؟
ـ لأن وجع الظهر أصاب معظم أبناء الجالية اللبنانية، حتى أن شركات التأمين أصبحت عاجزة عن الدفع ..
ـ وماذا عن باقي الجوالي.. ألا يصيبها وجع في الظهر؟
ـ للأسف لا.. فاللبنانيون يقعون في الفبارك أكثر من غيرهم.. ولهذا يخافونهم.. حتى أن القواميس العالميّة أصبحت تطلق على وجع الظهر إسم (الظهر اللبناني)!..
ـ هذه الأشياء لا تعنيني.. أولادك بحاجة إلى طعام.. وما عليك إلاّ أن تتصرّف..
ـ غداً.. إن شاء اللـه.
وهكذا دواليك، إلى أن حظي بمعمل كبير لـم يقرأ على بابه يافطة التحذير تلك، فدخله وعقله يشتغل أكثر من عقول جميع علماء الفضاء.
ـ ماذا أقول لهم؟ هل أكذب عليهم؟ أجل.. أجل.. سأكذب من أجل أطفالي فقط ..
وفجأة ناداه مسؤول التوظيف في الشركة قائلاً:
ـ من أي بلاد أنت؟
وبدون تفكير أجاب:
ـ من مرياطة.
ـ أيّة لغة تتكلّمون هناك؟
ـ لغة المرياطيان!
ـ أين تقع دولة مرياطة؟
ـ قرب جزيرة مالطا.
ـ تعال دلّني على الخريطة؟
وبعد تفتيش دام نصف ساعة، تطلّع بوجه الموظف المسؤول وقال:
ـ يظهر أنهم لـم يرسموها على هذه الخريطة!
ـ هل أنت متأكد؟
ـ ولو يا خواجة.. مرياطة بلادي ولا أحد يعرف أين تقع أكثر منّي؟
ـ طيّب.. طيّب.. غداً ستبدأ العمل، ولكننا نأسف لعدم وجود عمال مرياطيين تقدر أن تتكلّم معهم بلغتك الأم.
فخرج من باب المصنع وهو يرقص فرحاً، ويغنّي بصوته العذب:
ع الأَرض اللبنانيِه
خلقت مرياطه هديه
بدولة مالطَا قل الشعب
سكنوها المرياطِيِّي
**
قضيب معلمه بنى قصره
طلب المعلّم من الطفل موسى المعماري أن يرسم قصراً على لوحه الأسود الصغير، وبعد دقائق سلّمه موسى اللوح، بعد أن رسم عليه قصراً كان يحلم به، وما أن رآه المعلم حتى جنّ جنونه وصاح:
ـ أهذا قصر يا حمار؟!
وراح يضربه بقضيب أعده لتعذيب طلاّبه ساعة تدعو الحاجة، ولسان حاله يردد مع ابن سيراخ: إقتنِ لابنكَ حزمةً من القضبان فإذا انكسر واحد أحضر الثاني! "والقضيب لمن يفسّر معناه عكس ما أقصد، هو العصاة الصغيرة".
والظاهر أن قضيب المعلّم لـم ينكسر على جسم موسى الطفل، رغم ردّه للضربات القاتلة بيديه، بل تحوّل مع الزمن إلى مسطرة وبيكار، لتبدأ رحلة بناء القصر الحلم الذي سبّب العلقة الساخنة لموسى.
القصر غاية في الروعة، يقع في بلدة دير القمر اللبنانية، ولست أدري لماذا لـم يعجب ذلك المعلم الجاهل، القليل الذوق؟!
تدخل إليه من باب ضيق، لا يزيد ارتفاعه عن 120 سنتم، وقد صمّمه موسى على هذا الشكل كي يجبر معلّمه الذي ضربه على الانحناء قبل الدخول إلى قصره!
داخل القصر، يدهشك تعب موسى، يسرق بصرك بتماثيله المتحركة والثابتة، وتهتف من كل قلبك:
ـ أليس موسى لبنان والت ديزني أميركا؟!..
بلى، وإلاّ لما كان تمكّن، بمجهود فردي، من الإتيان بقصر كهذا، قد تعجز الدولة عن بنائه.
ولقد ذكّرني تمثال الخوري الذي يركب حماره بنكتة تقول: ركب خوري إحدى القرى الجبلية حماره وذهب للمشاركة بدفن أحد الموتى في قرية مجاورة، ومشت وراء حماره مجموعة من النساء المتشحات بالسواد حزناً على الفقيد الغالي. وبما أن حرّ الصيف كان شديداً في ذلك اليوم، فقد بدأت النسوة بالتذمّر من قلّة ذوق الخوري. فقالت له إحداهن:
ـ هذه قلّة ذوق يا بونا، أنت تركب الحمار ونحن نسير وراءك، دون أن تسألنا الركوب ولو للحظة واحدة؟!
فأجابها الأبونا وذقنه ترتجف:
ـ ولماذا الاحتجاج يا بناتي؟ لقد ماتت الخورية منذ عشرين سنة، ولم تسألني واحدة منكن أن أركب ولو للحظة أيضاً!
وأعتقد أن موسى يعرف النكتة، وإلاّ لما أركب الخوري على الحمار، وكأنه يتأهب للمشاركة في جنازة مسكين آخر.
ومن الاشياء التي أعجبتني كثيراً، تلك المائدة ـ السفرة الممدوة على الارض، تماماً كما كنّا نمدّها أيّام زمان، ونجلس حولها القرفصاء، بعد أن نشكر اللـه على عطاياه الكثيرة.
كما أعجبني جناح (العشاء السري) الذي أقامه المسيح لتلاميذه الإثني عشر، وكأن موسى أراد بهذا الجناح أن يفرك أذن معلمه ويقول له:
ـ أهذا معلّم وأنت معلّم؟!.. المسيح يكرم طلاّبه، ويغسل أرجلهم، وأنت تضربهم بسبب عبقريتهم التي لـم تتمكن من استيعابها!!
ألف شكر يا موسى المعماري، فلقد أعطيتنا، كمعلمين، درساً لن ننساه.
قريباً، سنراك، لننحني لك مجدداً قبل الدخول إلى قصرك.
**
طائرة.. بدون مرحاض
عندما كشفت شركة (إير باص) عن طائرتها العملاقة (إيه ـ 380)، التي اعتبروها علامة مميزة في عالم الأجنحة الحديدية. الهبتنا وسائل الإعلام اشتياقاً إلى الطائرة، وراحت تصفها بأنها أوسع من زميلتها 747 بخمسة عشر متراً، وأعلى بأربعة أمتار، وأثقل بـ 118 طناً، وهي تشبهها كثيراً ولكن طابقها العلوي ممتد حتى الذنب كالطابق السفلي تماماً.
وأخبرتنا أيضاً أن الطائرة الجديدة تضم حجرات للبليارد، وركناً للمشروبات، ومكتبات، وكبائن للإستحمام، ومنطقة مخصصة لنوم طاقم الطائرة، دون أن تأتي على ذكر المسافة بين المقاعد، أو عرض الممرات، أو كم تبعد المراحيض عن مقاعد الركاب، وهل بالإمكان الإستدارة داخلها، أم أنها ما زالت كعلبة السردين، الداخل إليها مفقود، والخارج منها مولود.
أثناء رحلتي الأخيرة إلى الوطن، حصلت مشاجرة بين أحد الركاب الذين أوصلهم سوء طالعهم للجلوس قرب المرحاض، وبين طاقم الطائرة، كادت تتطور إلى الهبوط الاضطراري لولا تدخل الزوجة والأصحاب، واقتناع الراكب، على مضض، بأن لا مكان في الطائرة، حتى يتم نقله إليه.
بعد خمس ساعات من إقلاعنا من مطار سيدني، بدأ الركاب بعبور ممرات الطائرة الضيّقة جداً جداً، بغية الوصول إلى المرحاض، واحد مصاب بالإسهال، وآخر بوجع البطن، وواحدة تعصف الرياح الوسخة ببطنها، لتخرج منها وتلوث الأجواء، خاصة شهيق وزفير ذلك الراكب المسكين الجالس كالناطور على باب المرحاض.
لقد تحمل أخونا كثيراً دون أن يفتح فمه، ولكن ما أن دخل أحدهم المرحاض دون أن يقفل الباب، حتى جن جنونه، وراح يصيح بصوت عالٍ كأنه الرعد والمضيفة تهدىء من روعه دون جدوى:
ـ خفّف صوتك أرجوك.. إنك تزعج الركاب..
ـ تعالي اجلسي في مقعدي وتنعمي بالروائح الكريهة قبل أن أسد (بوزي). لقد دفعت آلاف الدولارات لأتنعم برحلة شيّقة ومريحة إلى الوطن الأم لبنان، فإذا بي أجلس قرب المرحاض وأتنشق الروائح المميتة.. أرجوك انقليني إلى مقعد آخر..
ـ لا يوجد أي مقعد شاغر في الطائرة لأنقلك إليه..
ـ هذه ليست مشكلتي بل مشكلتكم أنتم، ومشكلة شركات الطيران الجشعة التي تصمم طائرات تجارية مزعجة بهذا الشكل.
وما هي إلا لحظات حتى أطل قبطان الطائرة، وبدأ يكلمه بهدوء، دون أن يتزحزح عن مطلبه، ألا وهو نقله من مقعده. ولكن أنى له ذلك والطائرة محشوة بأجساد الركاب، وخالية من المحسنين الذين يستبدلون مقاعدهم الصحية بمقعد موبوء قرب المرحاض، وصدقوني، لو كان مقعدي أفضل من مقعده بكثير لقدمته له على طبق من ذهب، ولكني أصبت بما أصيب، وتنشقت السموم كما تنشق، ومع ذلك كتمت غيظي.
مشاجرة أخرى حصلت بين راكبتين، الأولى أحبت أن ترجع مقعدها إلى الوراء لترتاح أكثر، وهذا من حقها طبعاً، فإذا بالمقعد يرتطم برجل الراكبة الثانية، فصاحت من شدة الألم، وراحت تشتم جارتها بصوت عالٍ:
ـ يا سافلة.. يا منحطة.. رجلي خضعت لعملية جراحية، وأنت ترجعين مقعدك إلى الخلف، لقد ارتطم بها وهي تؤلمني الآن كثيراً..
ـ لم يخبرني أحد بذلك.. ثم هذا من حقي وما عليك سوى الانتقال لمقعد آخر..
المشاجرة الثالثة، حصلت بين راكبين، أرجع أحدهم مقعده إلى الوراء، فإذا به يرتطم بكتاب يحمله الراكب في المقعد الخلفي، فيطير من بين يديه، ويصدمه على صدره، لتطير الشتائم على صاحب المقعد الأمامي، بسبب ضيق أفق مصممي الطائرات، وجشع شركات الطيران اللامحدود.
قبل أن تخبرونا عن ارتفاع الطائرة وطولها وعرضها وسعتها، بشّرونا بأن المسافة بين المقاعد أصبحت أوسع، وأن المراحيض قد تم عزلها وشقت الممرات بينها، ليتمكن الركاب من بلوغ المرحاض الشاغر قبل أن يفرغوا ما في بطونهم من هواء ضار يزكم الأنوف، ويحدث ثورة داخلية يقودها راكب ثائر تنسينا الثورات العربية على مر العصور.. وإلاّ صمموا طائرة بدون مرحاض.. وعلى الله الإتكال.
**
ورقة جوزاف بو ملحم
قد يُفاجأ صديقي جوزاف بو ملحم بقراءة هذا المقال في موقع "الغربة".. لا لأن المقال يحكي نكتة صدرت عنه ومنه بعفويّة ومرح، بل لأنّه نُشِر في زاوية "ستوب"، التي أعلنت وفاتها يوم أعلن جوزاف وفاة جريدته الرائدة "صدى لبنان" وهي في أوج ازدهارها، كي لا يكون شاهد زور في مرحلة كانت وستبقى الأردأ في تاريخ الوطن الحبيب لبنان.
"ستوب" عادت للحياة بفضل تشجيع إبن أمين بو ملحم وباقي المشتركين الشرفاء، ولن أخبركم كيف اشترك صديقي جوزاف بالمجلّة كي لا أجرح تواضعه.
أما النكتة فهي :
قمت بزيارة لمطبعة راليــا برس، التي يديرها "أبو الزوز"، وكان عنده، كالعادة، أكثر من سبعة زبائن، وجوزاف مثل "أم العروس" يروح ويجيء، يرد على أسئلة ذاك، ويبتسم لتـلك، ويفلفـش بيديه آلاف الأوراق البيضاء والمحبّرة، ومع ذلك كلّه يلتفت نحو إحدى النساء الصديقات وينهرها إذا أطلقت سعلة في مطبعته، قائلاً لها:
ـ هون ممنوع القحّ ، بدّك تقحي ، قحّي قبل ما تجي لهون.
فكانت تضحك وتقح نكاية به، وتهمس في أذني:
ـ أللـه يساعدو ..
ـ اسكتي.. هلّق بيسمعك
ـ مش مسموح هيك.. صاحبك عم يتعب كتير.. بكرا بدّي قول لمرتو تراز تشتريلو تاكسي أحسن..
ـ تاكسي!! ليش ما بتقولي جريدة؟
ـ شو.. بدّك يضارب عليك؟
وفجأة سأله أحدهم أن يكتب له السّعر على ورقة صغيرة كي يتشاور بشأنه مع ابنته العروس.. فأخذ جوزاف بو ملحم يركض صوبي والجدية بادية على وجهه ويصيح:
ـ شربل.. شربل.. معك ورقة؟
ـ معي شو..
ـ ورقه.. ورقه..
ـ ولوه.. عندك كل هالورق بالمطبعه.. وبدّك ورقه منّي .. شو مفكّرني POST OFFICE
فضحك جوزاف وقال:
ـ أللـه سترني.. لو كانت "الستوب" بعدا ماشية.. مدري شو كنت عملت فيي.
"الستوب" مشيت يا جوزاف.. كرمالك بس.
**
واسطة
كنت في مركز تسجيل السيّارات في ماريلاندز، وكان عليّ أن انتظر دوري، فجلست بقرب أحد المهاجرين اللبنانيين.. وكان الغضب بادياً على محيّاه لعدم تمكنّه من الحصول على دور له.. فإذا بالموظفّة تناديني لتخليص معاملاتي.. فجن جنون هذا المغترب وأخذ ينكعني بخاصرتي ويقول لي:
ـ شو باك .. أنا صرلي ساعه ناطر.. وانت بتفوت قبلي!
ـ يا خيّي أنا شو دخلني.. هيي نادتني
ـ مأكد لأنك حامل موبيل فون.. شو هالبلد؟.. هربنا من لبنان وقعنا هون!!
ـ يا خيي.. أنا ما خصّني روح سألهن..
ـ إنت شو إسمك؟
ـ حنّا..
ـ حنّا شو؟
ـ حنّا الماشي..
ـ لا تقلّلي إنّو بيّك إسمو ويسكي
ـ لأ .. هيدا إسم أمي .. بيّي إسمو ووكر
ـ في شي غلط .. في واسطة .. مش معقول..
ـ ليك.. انت معك نمره متل هالنمره؟
ـ لأ.. من وين منجيب هالنمره؟
ـ من حد الباب.. من هونيك.. روح سحاب نمره.. وبتصير واسطتك أقوى من واسطة رئيس الوزراء.
ـ معقول..
**
بطحة عرق
أخبرني الصديق طوني سعد هذه الحكاية، قال:
قرر أحد الرجال المغبون حقه أن يقوم بتظاهرة لوحده.. فبدأ يصرخ:
ـ يا حكومه بدنا حقوق..
وما هي إلا لحظات حتى تبعه ألف متظاهر وهم يصيحون صيحته بصوت واحد:
ـ يا حكومه بدنا حقوق..
فوصلت أصداء التظاهرة إلى أسماع الحاكم، يومذاك، فأرسل أحد المسـؤولين للتفاوض، فسـأل عن الرأس المدبّر لهذه التظاهرة، فدلوه على (الخواجة)، فاختلى به وسأله:
ـ ما هي مطاليبكم؟
ـ يا حضرة المسؤول، يدوم عزك ، من كـم يوم رفعتم سعر بطحة العرق من ربع ليرة لنص ليرة.. وأنا بحب مزمز كاس وحالتي ع قدي..
ـ منشان هيك مشيت وراك هالمظاهرة..
ـ ومش رح إتراجع تا آخد حقوقي..
ـ وشو رأيك نوديلك ع البيت كم صندوق من العرق المتلت..
ـ بقول : عاشت حكومتنا..
ـ هلق بتوصلك الصناديق ع البيت.. ودي هالناس ع بيوتن.
وخرج أخونا من الإجتماع المغلق والفرحة بادية على محيّاه وهو يصيح:
ـ خدنا مطاليبنا.. عاشت الحكومة.
وتعالى الهتاف والتصفيق لممثل الشعب (السكرجي) .. الذي باع الجميع ببطحة عرق.
**
البقر الاسرائيلي.. يهاجمنا
رغم المصائب التي تحل بنا جواً وبراً وبحراً، ورغم الصواريخ التي تنهمر علينا كالمطر، لتدمر كل ما بنيناه بعد حرب أهلية استمرت أكثر من عشرين عاماً، أشعر أن الحياة لنا.. وأن الفرح سيغمرنا حد البكاء.. وأن السلام سيعم لبنان من الناقورة حتى نهره الكبير، وستسقط مقولة المتبجحين الحقودين بأن لبنان ما وجد إلا للدمار، وأن الموت والرحيل قد طبعهما عزرائيل على جبين شعبه المسالم إلى أبد الآبدين.
لقد هدمت اسرائيل معظم جسورنا، ما عدا جسر اللوزية، الذي منه ستبدأ مسيرة العمران، وعمال البناء يصدحون مع صوت فيروز الملائكي:
على جسر اللوزية..
تحت وراق الفيي
هب الغربي وطاب النوم
وأخدتني الغفويه
وسألوا كتير عليي
على جسر اللوزية
أما أطفالنا الذين تقطعت أجسادهم، واحترقت أكبادنا عليهم، فلسوف ننجب الآلاف منهم، وسنعطي كل طفل جديد اسم طفل استشهد، حتى تمتلىء الساحات بصراخهم، وتتغنى المدارس والمعاهد والجامعات بتفوقهم، ولسان حالنا يردد مع أبي القاسم الشابي:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة
فلا بد أن يستجيب القدر
بيوتنا التي تهدمت سنعيد بناءها بزنودنا، بعرقنا، بتعبنا، بمالنا، ونحن نصدح مع وديع الصافي:
عمّر يا معلم العمار..
وعلي حارتنا
عمرلي شي أوضه ودار
بتعمر دنيتنا
أهلنا الذين تهجّروا، وحملوا أطفالهم على ظهورهم، ونصبوا خيامهم على مفارق الدروب، سيعودون إلى قراهم، إلى منبتهم، إلى مسقط رؤوس أجدادهم، وستعود سهرياتهم على ضوء القمر كما كانت وأحلى:
القمر بيضوي ع الناس
والناس (بيتسامروا)..
كي لا أقول ما قال الرحابنة: بيتقاتلوا.. لأن القتال سينتهي إلى الأبد، وستدخل الحروب عصر الديناصورات المنقرضة بإذن الله.
ولكن شيئاً واحداً لن يعود إلينا، ألا وهو عشبنا الأخضر، الذي التهمته الأبقار الاسرائيلية، بعد أن هاجمتنا بأعداد كبيرة من خلال فجوة بالشريط الحدودي الفاصل بين لبنان واسرائيل.
يقولون ان الجوع قد دفع هذه الأبقار الاسرائيلية للإحتماء خلف دبابات جنودها بغية قضم أكبر كمية من الأعشاب الجنوبية الطرية، والعودة السريعة إلى مزارعها المحروقة في شمال اسرائيل من جراء القصف الصاروخي المتواصل من قبل حزب الله، كي لا تتهمها الأمم المتحدة باتهامات متعددة هي بغنى عنها. وكي لا تعرقل القرار الدولي المزمع اتخاذه لإيقاف هذه الحرب المدمرة.
منظمات حقوق الحيوان الدولية وضعت يدها على قلبها، وحبست أنفاسها، وتأهبت كما لم يتأهب مجلس الأمن الدولي، وقررت في حال قتلت بقرة واحدة فقط أن تلهب الشوارع بتظاهراتها، لأن لا دخل للحيوان في جرائم الإنسان، كما أنه لا ينتمي إلى بلد معين وإن عاش فيه.
يقولون أن الأبقار اللبنانية رحبت بالأبقار الاسرائيلية الجائعة والمشردة، وقدمت لها المأكل والمشرب، وحملتها رسالة إلى رئيس وزراء بلادها ايهود أولمرت يقول مطلعها:
ـ عيب يا جار.. اترك للصلح مكاناً.
فهزت بقرة اسرائيلية رأسها وتمتمت:
ـ أتمنى أن يزيلوا هذا الشريط الحدودي اللعين، لأن لا شيء مثل السلام يفيد البقر والبشر!
الحكومة اللبنانية لم تعلق على غزو الأبقار الاسرائيلية لجنوبها، كما أن المقاومة اللبنانية لم تنبس ببنت شفة، ولكن أحد الجنوبيين قال بأن المقاومة ترفق بالحيوان.. أياً كان.
صدق من قال:
ـ سيأتي زمان يصبح فيه الحيوان أفضل من بني الانسان..
وها نحن نعيش في هذا الزمان.
**
شعراء الارتجال
كثيرة جداً هي طرائف الشعراء الذين يرتجلون الشعر في المناسبات المختلفة، ولكن أطرفها كانت هذه الخبريّة:
في إحدى السهرات العرمرميّة، دار الكيف، وتناطحت كؤوس العرق المثلّث، ودبّت الحميّة في رأس شاعرين لدودين، فبدأت تتطاير الردّات الزجليّة من فم كل واحد منهما تطاير الاتهامات من أفواه الزعماء اللبنانيين.
وبعد ساعة من التناطح والتبجّح،ّ، تعب الشاعر الأول وبحّ صوته، فألقى ردّة مكسورة، كمشها عليه الشاعر الثاني، فأشعر:
ردّاتَكْ كِلاَّ تِكْسِيرْ
خُودْ مَسِّحْلِي بْهَالْفُوطَه
مْأَكَّدْ بَيَّكْ تَيْس كْبِيرْ
وْإمَّكْ طَبْخِةْ مَخْلُوطَه
فطار صواب الشاعر الأوّل، وهجم عليه، وأمسك برقبته، وأوقعه أرضاً وهو يصيح:
ـ أتقول عن أمي إنها طبخة مخلوطة؟.. أمك أنت طبخة مخلوطة، جدّتك طبخة مخلوطة، عائلتك كلّها مخلوطة في مخلوطة.
وبكل برودة أعصاب، أجابه الشاعر الثاني، وهو ينفض عن ثيابه غبار المباطحة البدنيّة:
ـ أتريدني أن أكسر الردّة، وأقول: أمّك طبخة فاصوليا، لترضى عليّ؟
وبعد تدخّل المستمعين المساكين، حاول الشاعر الثاني ترطيب الجو، فأشعر قائلاً:
أمّك.. ألله يخلّيها
منحبّا.. ومنداريها
عطيتنا شاعر مشعور
متربّى عَ أْياديها
فجنّ جنون الشاعر الأول وراح يحلش شعر رأسه ويصيح:
أمي.. أفضل من أمّك
مسّح عن تمّك سمَّكْ
يخرب بيتك شو مجدوب
شعرَك أتقل من دمّك
وما أن أنهى ردته العرمرمية هذه حتى صاح زميله:
أشعارك.. أبشع أشعار
وسنانك كلاّ شحوار
وإسمك لازملو تغيير
نقّيتلك إسم .. حمار
وما أن نطق بكلمة حمار حتى هجم عليه الشاعر الأول وراح يوسعه رفساً ولكماً وهو يردد:
ـ أنت حمار.. أبوك حمار.. جدك حمار.. وكلكم حمير بحمير.. أفهمت؟
ولأنه لم يفهم أوقف الحاضرون الحفلة الزجلية الارتجالية.. وأقسموا أن لا يحضروا أي حفلة يدعو إليها أحد هذين الشاعرين.. الفاشلين.
بعض المرضى يدّعون الشعر.. والشعر أبعد ما يكون عن مخيلاتهم الجافة.. فارحمونا إذن.
**
الدبلوماسيّ الشاعر
في إِحدى زياراتي المتكرِّرة لمدينة مالبورن، دعتني الأديبــة نجاة فخري مرسي إلى لقاء تعارف في منزلها العامر. ولسوء حظّي، فلقد كانت المرّة الأولى التي أَلتقي بها وبزوجها الدكتور أَنيس مرسي، صاحب الأَيادي البيضاء.
وما أَن وطأَت قدماي عتبة الدار، كما يقولون، حتى فوجئتُ بوجود العديد من الشَّخصيَّات الدبلوماسيَّة والأدبيَّة وأساتذة الجامعات، وفي مقدَّمتهم سعادة قنصل لبنان العــام السابق أو الأسبق في مقاطعة فيكتوريا الشاعر مصطفى مصطفى. وأعتقد أنّك ستعرف، عزيزي القارىء، لماذا أضفيتُ لقبَ شاعر على سعادته، متى انتهيتَ من قراءة هذه الحادثة الطَّريفة.
كان كلُّ شيء جاهزاً في منزل آل مرسي الكرام: النخبة المدعوَّة والضيَّافة العربيّة التي اصطحبناها معنا إِلى أَقاصي الدّنيا. ولكنّي شعرت باتفاقٍ غريبٍ بين كافة المدعوّين، لاستدراجي إلى قَوْلِ الشِّعر، إذ صاحوا بصوت واحدٍ وبدون أَيّ مقدَّماتٍ:
ـ هاتِ أَسْمِعنا قصيدة "لعنة اللـه علينا".
والحقّ الحقّ أقول لكم، إنّ التحدّي الّذي كنتُ أنتظره من الشَّرق قد أتاني من الغرب، فلقد انتفض سعادة القنصل، إثر انتهائي من إلقاء القصيدة، وارتجل ردَّةً زجليَّةً عرمرميَّةً، هذا نصُّها:
سْمعنا شعر .. رح قُولْ يا عيْنِـي
متل الورد مزروع بجْنَيْنِه
مأَكَّد كلامَك مستواه كْبيرْ
ما دام إٍسْمك : شربل بعيـني
وبِما أَنَّ من عادة الشُّعراء، في بلادي، أن لا يتركوا "ردَّةً" كهذه تَمُرُّ دون إجابةٍ، تمتمت في نفسي والعرق يتصبَّبُ من جبينـي:
ـ علقت يا شربل.. أنّك أمام شاعر كبير.
ولكي أتخلَّصَ من الإجابة الفوريَّةِ، كما هي العادة أيضاً، بَدأتُ "بالتَّنْكِيتِ" والإطْراءِ ووو.. إِلَى انتهاء السّهرة.
وفي صباح اليوم التّالي، وَقُبَيلَ صياح الدّيك، بدأَ الإلهام يأتيني، فَطَلَبْت من إبن عمّي حَنّا "توصيلي" حالاً إلى القنصليّة اللبنانية في مالبورن، فَشَهَقَ وصاح:
ـ هل جُننت يا شربل.. لم يُجَهجِه الضؤ بعد؟!
ـ أرجوك يا حنّا.. أريد أن أقول شيئاً للقنصل.
ـ لاحِق.. بعد بَكّير.
ـ أرجوك، القنصل غلبني البارحة، أمّا الآن فَأنا جاهز.
ـ إذا كانت القضيّة هكذا.. عَليهم.
وَكعادته مع كل الناس، إستقبلني سعادته بالتّرحاب،
فبادرته قائلاً:
سْمعتْ شِعرَك .. قلت هَيْدا الْمُصطفى
قنصل بلادي الطَّاهره، ورمز الْوَفَا
يا مصطف .. الغيَّاب فيك تْأهّلوا
شِيل الْجفا مْنِ قْلوبُن وْحطّ الصَّفا
لا تْخاف.. مُرّ العيش آخرتو حلو
وعقول كلّ النّاس إنت بْتعرفا
خَلّيك بدر الحقّ، شامخ بالعُلُو
ولولا عليك تْطاولوا نجوم السَّما
وِحْياة عَيْنَك بالقصايِد بِنْسِفَا
وَهُنا، بانَ اللإعجابُ الشّديدُ على وجه منافسي الحبيب، فشعرتُ بأنَّ جبالاً من الهموم قد أزيحت عن صدري، خاصّة حين بَدَأَ سعادته بالإستفسار عن صحّة الصَّديق بطرس عنداري، وكيف التقاهُ لأوَّلِ مرَّة، مُتجنّباً الخوضَ، تماماً، في بحور الشّعر العميقة.
وبعد شهرين ونيِّف، من مبارزتي الأولى، استلمت رسالة من سعادته، ضمَّنها الوفاء وبعض الأبيات الشّعريّة "الماكنة".. وكأنّي به يدعوني إلى مبارزة شعرية ثانيّة تُنسيني الأولى، فصرخت :
ـ أنا مُشْ قَدّو.. أنا مُشْ قَدّو..
فسألتني أمّي :
ـ شُو باك يا شربل؟
ـ قنصلنا بمالبورن شاعر كبير
ـ أللـه يحميه.. قريلي شو كاتب.
فبدأت أقرأ لها بصوت عالٍ:
أربع مرّات كْتابَكْ
قْريتو قدّام صْحابَكْ
واحد قللّي: شو صابَكْ
الشّعر وضعتو بمحرابَكْ
فيّي أعرف شو انْتابَكْ
وْللشعر فتحت بْوابَكْ؟!
ردَّيت وِلْشربِل قلتْ :
يِرْحَم بطن اللي جابَكْ!
فصاحت أمّي مذعورةً:
ـ سلامة قلبي ألف مرَّة.. بَعدي صبيّة.
فسألتها متعجِّباً:
ـ شُو بِكي.. خُوَّفْتيني؟!
ـ القنصل افتكرني متّ..
ـ يا أمي.. قنصلنا ما قال يرحم أمك.. قال: يرحم بطن اللي جابَكْ.. والظّاهر عارف إنّو بَيّي ماتْ!
فَسَألتني والدَّهشة تعلو وجهها:
ـ وشو دخل بَيَّك ببطني؟!
فأجبتها ضاحكاً :
يا أمّي .. القنصُل مهضومْ
وْما بْيِحْكي غير المعلومْ
الظَّاهِر عارِف "بطنِك" ماتْ
مِن وَقْتِ الْـ مات الْمَرْحُومْ
**
يوسف.. وابنه سامي
نسي يوسف أن يحلق ذقنه في ذلك الصباح البارد، لأنه تأخّر عن موعد استلام سيّارة التاكسي التي يعمل عليها. فصاحب السيّارة لن يرحمه، بل سيسلّمها لسائق آخر، وما عليه سوى الإسراع كي لا يضيع يومه بدون عمل.
ويوسف هذا، مغترب لبناني، هاجر إلى أستراليا منذ عشرين سنة، تزوّج خلالها، ورزقه اللـه ولداً وحيداً، أسمته زوجته على اسم والدها، رغم كونه وحيداً، ومن حقّ أبيه أن يسمّيه على اسم والده، كما جرت العادة، وليس على اسم حميه.
ما هم.. طالما أن الصبي بصحّة جيّدة جداً، جعلته يصارع جميع أولاد الحيّ، ويربح عليهم بالضربة القاضيّة، ممّا سبّب ليوسف مشاكل كثيرة مع الجيران، لا وقت لذكرها.
أكره الأشياء عند يوسف أن يقود التاكسي وذقنه طويلة. لذلك رجع إلى بيته ظهراً، ليأكل ويحلق، فوجد ابنه سامي راكباً الدرّاجة في الشارع، بدلاً من أن يذهب إلى مدرسته، فصاح به:
ـ لماذا لـم تذهب إلى المدرسة يا سامي؟
ـ لأنني مريض..
ـ مريض.. وتركب الدرّاجة في الشارع؟
ـ أنا حرّ..
ـ أنت ماذا؟
ـ حرّ..
ـ ماذا تقول يا صبي.. أنت حرّ؟
ـ أجل.. وأمي هي التي قالت لي: خذ درّاجتك واركبها في الشارع..
ـ تعال معي.. سأوصلك إلى المدرسة.
ـ لا أريد أن أذهب إلى المدرسة.. أفهمت؟
ـ عد إلى هنا يا صبي.. لا تهرب منّي..
ـ حلّ عنّي.. أريد أن ألعب..
ـ إمشِ قدّامي إلى المدرسة..
ـ ماما.. ماما.. اركضي عليّ.. أبي يريد أن يضربني.
ولشدة ما كان صراخه عالياً، أطلّت أمّه من شبّاك الشقّة وصاحت:
ـ ما بك يا سامي؟
ـ أبي يريد أن يضربني.
ـ ولماذا يريد أن يضربك؟
ـ لست أدري..
ـ هكذا بدون سبب؟
ـ أجل يا ماما..
ـ خذ هذه الخمسين سنساً، واتصل بالبوليس، وقل له أن والدي يريد أن يضربني..
لـم يصدّق الوالد ما سمع بأذنيه، فهزّ رأسه بألـم شديد، وركب التاكسي، وقفل عائداً إلى عمله، كي يؤمّن مستقبلاً مشرقاً لابنه الوحيد، الذي كاد هو وأمه أن يدخلاه إلى بيت خالته، كما يسمون السجن.
**
الشوفير الموسيقار
من الخبريات التي لا أنساها تلك التي حدثت معي أثناء تعلّمي قيادة السيارات، على يديّ أحد مطربي الجالية العربية في سيدني، المعروف جداً جداً في سبعينيات القرن الماضي.
فلقد كان أخونا الموسيقار يسمعني طوال الساعة المخصصّة لتلقيني بعض دروس القيادة، آخر ألحانه المبتكرة، متناسياً أنني أدفع له ما فتح ورزق من أجل الحصول على رخصة القيادة. والطامة الكبرى أنه كان يلجأ إلى الغناء عند كل استفسار أطرحه عليه، فإذا سألته مثلاً:
ـ ماذا تعني هذه الإشارة المنصوبة على حافّة الطريق؟
كان يجيبني بكلمات مموسقة وملحنة:
ـ وقفْ.. وقفْ أُوعا تزيحْ
خلي دواليبكْ عَ الزِّيحْ
انْ شافكْ بوليسْ
يا أحلى عريسْ
بظبطو بيزتك بالرِّيحْ
وذات يوم كانت حركة السير في أنحس أوقاتها، فاحترت ماذا أفعل: أأمشي أم أتوقّف؟ أأسرع أم أخفّف السرعة؟ لأن إبرة الحرارة كانت قد تجاوزت الخط الأحمر، وجناب المطرب (الشوفير) غير عابىء بما أعاني منه، فسألته بحدّة:
ـ السيارة حامية، والدخان يتصاعد من الموتور، وأنت تطبّل وتغني، فماذا تريدني أن أفعل؟
فأجابني، كعادته، بأغنية، عزف موسيقاها على زجاج الشبّاك:
أنا عندي سيَّاره
ما بتدخِّن سيكاره
لمِّنْ بتسوقْ
والسِّير معجوقْ
بدَّكْ نتفة شَطَارَه
ولكي يكتمل اللحن ترك العزف على الشبّاك، وانتقل إلى رجلي اليسرى، فخبطني عليها خمس خبطات موجعة، سمعنا بعدها خبطة في السيّارة، كادت تميتنا من شدّة الخوف، فصاح أخونا:
ـ ما هذا.. لقد فقعت السيّارة؟!
عندئذ، أطلقت العنان لحنجرتي، غير عابىء بشماتة محمد عبد الوهّاب، ولا بتهديدات وديع الصافي، ولا باشمئزاز صباح فخري، لأن الكيل قد طفح معي، والحالة لـم تعد تطاق، فغنيت، كما لـم أغنِّ من قبل، وأنا أطبّل على رأس معلّمي الموسيقار:
فقعتْ منْ صوتكْ.. تخمينْ
مشْ عم يعجبْها التّلحينْ
معبَّاها بالحيق وزيقْ
ومفضَّاها مْن البَنزينْ
**
ضلع آدم وبطن حوّاء
تقول الحكاية: في البدء كان آدم، ومن ضلع آدم جاءت حوّاء، ومن بطن حوّاء جئت أنا، وأنت، وهم، وهنّ، إلى آخر نوتة في معزوفة تصريف فعل (جاء) مع الضمائر.
إذن، كلنا أبناء ضلع واحدة، سريعة العطب، وسهلة الإنكسار، لذلك تفرّقنا شيعاً ومذاهب وأحزاباً وعشائر وهلمّ جرّا.
عتبي ليس على الضلع المسكينة، بل على الذين تلاعبوا بها عبر الأجيال، فكسروها هذا التكسير المزري، الذي لـم ولن يقدر نبيّ مهما علا شأنه على تجبيرها، وإرجاعها سليمة كما كانت من قبل:
كسْروني وزادوا عْذابي
وحملوني بْإيدُن طابِه
ونقلوني من دين لْدين
وعَ ذوقن نصّوا كْتابي
**
دون كيشوت
كان صوته يملأ أحد شوارع (بانشبول)، ويداه تدوران في الهواء كطواحين (دون كيشوت) الشهيرة:
ـ خلّوها تذهب.. عمرها ما ترجع..
فخرج أبناء الحي مهرولين من منازلهم ليستطلعوا حقيقة ما يجري، فصاح بهم:
ـ لا أريدكم أن تتدخّلوا بيني وبين زوجتي.. أريد أن أربّيَها..
ـ ربِّها.. ربِّها.. ماذا تنتظر؟
صاحت إحدى النساء المغتربات، وهي تفرك يديها بعصبيّة ظاهرة، وعيناها تحدّقان بدون كيشوت الشارع.
ـ كيف بإمكاني أن أربّيها، وكل القوانين ضدّي. ستحرمني من رؤية بناتي الخمس.
ـ أنت لست خائفاً عليها، بل على بناتك؟
ـ يا أختي.. حريّة هذه البلاد أعمت قلبها. فلقد طبعت على شفتيها عبارة (فري كنتري)، وأبت أن تسمعني غيرها.
ـ أنتم الرجال لا يُستخفّ بكم.. قدر الحملة وبزيادة أيضاً!
ـ واللـه، واللـه، إن الرجل في هذه البلاد بدون قيمة.. ما هو سوى صرصور يدبّ على الأرض.
ـ نحن النساء نعرف كيف نربّي أطفالنا. يوجد عندنا من الحنان أطنان الأطنان، والظاهر أن القانون الأسترالي يحفظ هذه الأشياء عن ظهر قلبه.
ـ أرجوك أن تتوقّفي عن (القطش والشلح)، ثرثرتك مزعجة.. ثـم أنت تعرفين جيّداً أن شارعنا هذا لا يسكنه سوى اللبنانيين، وأن جميع رجال الحي يلبسون (الوزرات)، ويقومون بأعمال الطبخ والجلي والكناسة وتحفيض الصغار، ونساؤهم لا يرجعن إلى بيوتهن إلاّ في ساعات متأخّرة من الليل.
ـ عيب تحكي هكذا.. إلحق زوجتك يا مسكين، فقد تخسر بناتك!
ـ أريد أن أربّيها.. خلّوها تذهب..
ـ إذا راحت زوجتك لعند أمّها.. أنصحك بتوقيف محامٍ.
ـ وسأربّي حماتي أيضاً..
ـ إلحقها.. عجّل.. صحيح أنّك بلا عقل..
ـ أريد.. أريد..
ـ تريد ماذا؟!
ـ أريد أولادي.. أريد زوجتي.. قولوا لها إنّي أحبّها، وأعبد الأرض التي تدوس عليها.
عندئذ، اعترض بعض سكّان الحي سيّارة الزوجة، فأوقفوها وأنزلوها منها مع بناتها، وأعادوهن إلى بيتهنّ، وسط زغاريد مزعجة، كأنها صفّارات سيّارات البوليس والإسعاف، التي ألفوها في شارعهم.
**
أربعون المرحوم
مات (نخلة) إثر مرض عضال أقعده الفراش زهاء سنة تقريباً، تفانت خلالها زوجته في خدمته، حتى أصبحت مضرب مثل في الغربة.
والمضحك حقاً أن الزوجة تمادت كثيراً في تفانيها، لدرجة أصبحت معها تهذي وتصيح:
ـ لماذا تركتني لوحدي يا (نخلة)؟
مَنْ سيغسل رجليك؟
من سيفرك يديك؟
من سيتطلّع عليك.. يا نخلة؟
وما أن تخفّف النسوة حزنها بكلمات حلوة، أو بشربة ماء باردة، حتى تعود إلى سابق عهدها في الندب:
ـ مَنْ سيحضّر زوّادتك؟
مَنْ سينظّف لبّادتك؟
مَن غيري تهمّه سعادتك.. يا نخلة؟
وكانت تشهق وتغيب عن الوعي بعد كلّ نداء (يا نخلة)، فيحسب الجميع أنّها فارقت هذه الدنيا الفانية، مخافة أن (يتبهدل نخلتها) في الآخرة.
ولكي تتوقّف عن صراخها المزعج، اقترب منها خوري الرعيّة، وهمس في أذنها كلمات أضحكتها وأضحكت كل المشاركين في الجنازة، فتمتمت بانشراح:
ـ يخرب ذوقه خورينا.. لقد أضحكني.
وما أن سمعت إحدى جاراتها كلامها هذا حتى غمرتها بحنان بالغ بغية استجوابها، ومعرفة ماذا قال لها الخوري.
ـ ماذا قال لك الأبونا؟..
ـ ابتعدي عنّي.. سيضحك علينا المعزّون.
ـ أريد أن أعرف الآن..
ـ سأخبرك بعد الجنّاز..
ـ أرجوكِ.. أخبريني..
ـ حلّفني أن لا أتكلّم..
ـ ورحمة نخلة.. ماذا قال لك؟
ـ لا تذكري اسم المرحوم..
ـ ماذا قال لك؟
ـ قال لي.. قال لي..
ـ بقّي البحصة.. أسرعي؟
ـ قال لي: توقّفي عن الولولة والبكاء، عندي أحسن من نخلة..
فزغردت الجارة بصوت عال وصاحت:
ـ ألف مبروك..
فتطلّعت بها أرملة المرحوم بخبث زائد وزجرتها قائلة:
ـ عيب.. انتظري حتّى يمرّ أربعون المرحوم!!
الْخُوري بَدُّو يْزَوِّجْنِي
وْزَوْجِي بَعْدُو ما تَخْتَخْ
أَللَّـه ناوِي يِفْرِجْنِي
عَ كَعْبُو الْعَريسْ فَرَّخْ
**
عشرة قضبان للفنان ألبير إسطفان
كان الشاعر السبعلاني المرحوم يوسف روحانا أستاذاً في مدرسة كفرزينا الشهيرة، وكان من بين تلامذته الفنان المهجري ألبير اسطفان.
وذات يوم كتب شاعرنا الكبير رقماً حسابيّاً على اللوح الأسود، ألا وهو (11540)، وطلب من تلامذته الذين لا تزيد أعمارهم عن الثانية عشرة سنة، أن يلحنوا هذا الرقم لحناً يليق به، على حدّ تعبيره، لقاء جائزة هامّة وقيّمة لأجمل لحن.
وكان ألبير معروفاً، يومذاك، بالملحن، لأنه كان يرتّل في كنيسة الضيعة رغم صغر سنّه، فغيّب الرقم عن ذهن قلبه، وأخذ يرندحه باستمرار، إلى أن سمعه الأستاذ المرحوم إسطفان معيط من بان، فنهره قائلاً:
ـ ماذا تفعل يا صبي، أتكتب فرضك أم ترندح أغنية؟
ـ إنّني أكتب فرضي..
ـ فإذن توقّف عن الغناء..
ـ الأغنية التي أرندحها هي فرضي..
ـ ماذا تقول؟
ـ لقد أعطانا الأستاذ يوسف روحانا رقماً، وطلب منّا تلحينه.
ـ هات الرقم لألحّنه لك..
ـ 11540
فغنّاه المرحوم إسطفان على لحن (المعنى) الزجلي، فحفظه ألبير والبهجة تغمر كيانه. وعندما أطلّ الصباح، وانقطعت شهرزاد عن الكلام المباح، دعا الأستاذ يوسف تلامذته للغناء، فلـم يصب أحدٌ منهم اللحن المطلوب، إلى أن وصل الدور إلى ألبير، فوقف كالنمر، وهندس شبوبيّته، ورندح بصوته العـــــــذب (11540)، وبدلاً من أن يعطيه الجائزة، شلفط أستاذه يديه بقضيب رمّان، يولول الهواء من ضرباته:
ـ من لحّن لك الرقم يا ألبير؟
ـ لا أحد..
ـ سأظل أضربك إلى أن تعترف..
ـ أنا لحّنته يا أستاذ..
ـ قلت لك: اعترف..
وبعد عشرة قضبان، اعترف ألبير إسطفان أن الملحّن الحقيقي للرقم هو إسطفان معيط من بلدة بان الشماليّة:
ألبير بْعِدُّو فَنّان
مِتْلُو ما صَدَّرْ لُبْنان
ما بْياخُد إِلاَّ عَشْرَه
حتّى لَوْ كانِتْ قُضْبان
**
مسابح طوني سعد
من الطرائف التي لا أنساها هذه الطُّرفة التي فقعني إيّاها المذيع طوني سعد، والتي حدثت معه أيّام كان يلبس المريول المدرسي، ويحمل شنطة كتبه. قال:
قبيل عيد الفصح المجيد بأيّام، كان أحد الخوارنة يزور مدرسة (الفرير) في طرابلس للإستماع إلى اعترافات طلاّبها. وعندما جاء دور عبدك الحقير طوني، دخلت كرسي الإعتراف، وعرق الإيمان والتقوى يتصبّب من جبيني، وتمتمت بخشوع عفوي:
ـ اغفر لي يا أبتاه لأنني أخطأت..
ـ كم مرّ عليك من الوقت وأنت بدون اعتراف؟
ـ أسبوع واحد فقط..
ـ وهل فحصت ضميرك جيّداً يا بنيّ؟
ـ نعم يا أبانا..
ـ هل تكتب فرضك وتدرس درسك كل ليلة؟
ـ نعم يا أبانا..
ـ هل تطيع أمّك وأباك؟
ـ نعم يا أبانا..
ـ هل تسرق؟
ـ كلاّ يا أبانا..
ـ هل تكذب؟
ـ كلاّ يا أبانا..
ـ هل تسبّ الدين؟
ـ كلاّ يا أبانا..
ـ هل تضرب رفاقك؟
ـ كلاّ يا أبانا..
ـ هل تتلاعب هكذا أو هكذا؟
ـ كلاّ يا أبانا..
ـ هل تثرثر أثناء القدّاس؟
ـ كلاّ يا أبانا..
ـ هل تكره أحداً؟
ـ كلاّ يا أبانا..
ـ فإذن، عليك أن تصلّي ثلاث مسابح كي يغفر اللـه لك خطاياك..
فاحمر وجه طوني وهو يستمع إلى أوامر الكاهن، وراح يحسب على أصابعه مدّة صلاة كل مسبحة، فوجد أن حساب حقله لن ينطبق على حساب بيدر الكاهن، ولا على حساب طاحون مبتكر مسبحة الصلاة القديس عبد الأحد، فصاح كمن لسعته حيّة:
ـ كم مسبحة تريدني أن أصلّي؟
ـ ثلاث مسابح بالتمام والكمال..
ـ وهل أنا مجرم يا أبانا؟.. تلزمني ساعتان على الأقل حتّى أصليها.. أرجوك أن تخفّفها بعض الشيء..
ـ بلا حكي يا صبي.. قلت لك ثلاث مسابح.. يعني ثلاث مسابح..
ـ لن أصلّيها..
ـ وأنا لن أحلّك من خطاياك..
ـ لا توجد عندي خطايا حتّى تحلّني منها.
ـ صلِّها يا صبي..
ـ حلّ عنّي.. حلّ عنّي.. حلّ عنّي..
وبينما كانت يدا الصديق طوني سعد تلوّحان في الهواء، كنت أنا واقعاً على الأرض من شدّة الضحك، غير عابىء بتنبيهاته:
ـ انتبه يا شربل على ثيابك.. كي لا تتّسخ.
**
مازوت زائد مازوت
مثلما تعطّلت لغة الكلام بين أحمد شوقي وعروسة البقاع زحلة، هكذا أيضاً تعطّلت لغة (الحمّام) بيني وبين سخّانة المياه في بيتي.
غير معقول!.. في عزّ دين الحشرة، والطقس عاطل، وأسناني تصطكّ على بعضها البعض من شدّة البرد، توقّفت الستّ (سخّانة) عن تسخين الماء وتصديره إلى جسدي، دون سابق إنذار.
أخي جوزاف يعرف سنكرياً شاطراً، تعامل معه عدّة مرّات، فوجده إبن ناس، على حدّ تعبيره، فرجوته أن يأتيني به حالاً.. حالاً..
وكسوبرمان زمانه، عربش أخونا على السقف، وأجرى فحوصاته الأوليّة على السخّانة المريضة، وصاح:
ـ عندك مازوت؟
ـ عندي!!
ـ إملأ قنينة وناولني إيّاها..
ـ أنا تحت أمرك..
وبعد لحظات من الصمت القاتل، صاح مجدّداً:
ـ بعد عندك مازوت؟
ـ نعم..
ـ ناولني قنينة ثانية بسرعة..
ـ أمرك يا معلّم..
ناولته القنينة الثانية، وأنا أتساءل:
ـ ماذا فعل بقنينتين كبيرتين من المازوت؟
وجاءني جوابه:
ـ محظوظ يا خواجة.. الصدأ يغطّي فوّاشتك، وأفضل دواء له كان المازوت.. ألف مبروك.. إنعم مجدّداً بحمامك.. ونعيماً سلفاً..
ـ وكم ستكلّفني هذه العمليّة المازوتيّة؟
ـ خمسين دولاراً فقط..
ـ لا غير؟
ـ أعطيتك هذا السعر كرمى لشوارب أخيك جوزاف..
ـ تكرم شواربك يا آدمي.. تفضّل..
والظاهر أن جنابه نسي أن يفرغ السخّانة من مياهها المموزتة، لأنني عندما فتحت حنفيّة الماء على جسمي المحظوظ، ما عدت أعرف كيف أتخلّص من رائحة المازوت الكريهة طوال الليل:
لولا من هَـ الفُوّاشِه
كنّا من ساعَه نِمْنَا
صلّحناها.. وعَ الماشي
بالمازوت تحمّمنا
**
ويلي يا ويلي
جلست القرفصاء أمام قصر يتشاوف بجماله وكلفة بنائه على قصور غرناطة، وراحت تندب زعيماً لبنانياً كبيراً، توفّاه اللـه بطريقة (حسب نواياكم ترزقون)، وبيدها محرمة سوداء تلوّح بها في الهواء تارة، وتكشّ بها الذباب الجائع كشعبنا المسكين عن وجهها تارة أخرى، وصراخها يملأ الأرجاء:
وَيْلِي.. وَيْلِي يَا وَيْلِي
فْرَاقَك هَدَّلِّي حَيْلِي
فتصيح باقي النساء مولولات:
ـ يا وَيْلِي..
وبعد أن تلطم خدّيها وجبينها إثر كل صرخة، تعود الحرمة المفجوعة إلى الصراخ الممل:
ـ وَيْلي.. وَيْلي.. يا وَيْلي
فثارت حفيظة سيّدة مثقّفة ثائرة على الزعامات والأحزاب التي تمتص دماء الشعوب، وتقامر بأموالهم لتبني قصوراً كقصر هذا المرحوم الذي لـم يتجاسر مواطن واحد فقط، ويسأله: من أين لك هذا؟، واقتربت منها قائلة:
ـ هل بينك وبين المرحوم قرابة؟
ـ لا واللـه..
ـ هل أسدى إليك خدمة ما؟
ـ لا واللـه..
ـ هل زفّت طريق قريتك؟
ـ لا واللـه..
ـ هل وظّف إبناً من أبنائك؟
ـ لا واللـه..
ـ هل عزّاك بأحد موتاكِ؟
ـ لا واللـه..
ـ فلماذا إذن تتفّجعين عليه هكذا؟
وكالأطرش بالزّفّة، تطلّعت بها عدّة ثوانٍ، عادت بعدها إلى الصراخ المزعج:
ـ ويلي.. ويلي.. يا ويلي
فراقك هدّلي حيلي
فما كان من المرأة المثقفة إلاَّ أن جنّ جنونها، وأَكملت الردّة الناقصة، ويداها تحلشان شعرها:
وليش زِعْلانِه يا خَيْتُو
يِعْمِل إِجْرُو مِعْقَيْلِه!
**
شتائم جوزاف بو ملحم المحبّبة
من الناس الذين تعرّفت عليهم، وأحببتهم، وصاحبتهم، وآخيتهم في أستراليا، كان الصحفي جوزاف أمين بو ملحم.
ولكن مشكلتي الوحيدة مع جوزاف كانت، وما زالت، أنه متى تأخّرت عليه بالزيارة، يراشقني (بالفاكسات) الموجعة، التي يدبّجها بقلمه المبدع الساخر، ويرسلها إليّ إماً شعراً وإما نثراً، لتقضّ مضجعي.. وتجعلني أتقلّب في فراشي طوال الليل، وأنا أحلـم بطلّة غد مشرق، كي أقف أمام باب مطبعته، وابتسامتي تسبق سلامي عليه:
ـ كيف حالك يا أبا أمين؟
فيردّ عليّ بابتسامة أوسع:
ـ الظاهر استلمت الفاكس..
ولكي تعرفوا عن أي نوع من الفاكسات أتكلّم، أخبركم أنني عدت إلى بيتي ذات يوم، فإذا بوالدتي الحبيبة تستقبلني على الباب، وهي تقول:
ـ لقد وصلك فاكس من جوزاف بو ملحم، يشتم فيه أختك..
ـ وهل أنجبتِ لي أختاً كي يشتمها؟!
ـ ولكنه شتمها دون ان أنجبها..
ـ وأين الفاكس؟
ـ على طاولة المكتب..
صعدت الدرج كالسوبرمان، وارتميت على كرسي المكتب، ورحت أقرأ شعراً على وزن أغنية فيروز الشهيرة (أنا وشادي):
من زمان ع أيّام الصدى
كان في شاعر يجي من ماريلاندز
إضحك أنا ويّاه
كان إسمو شربل
أنا وشربل كسدرنا سوا
رحنا ع مكدونالد وع السوفلاكي سوا
وبسيارتو يا ما وياما ع المطبعة رحنا سوا
ويوم من الأيّام ولعت الدني
ناس ضد ناس علقوا بموطني
اللي بعلمك أحبّه صاروا عدا
قرفنا من الجرايد سكّرنا (الصدى)..
بالمطبعه انزربنا
وما عاد شفنا حبايبنا
لكن جوّا قلوبنا حبّن باقي فعل وصدى
وفي الختام يشتم أختي التي لـم تولد ولن تولد، ليسألني: وين هالغيبه؟
وبعد أن انتهيت من القراءة، قلت لأمي:
ـ عجيب أمرك يا أماه، ألـم تحفظي من كل هذه القصيدة الطويلة إلا: (....) إختك، وين هالغيبه؟
فأجابتني وهي تضحك:
ـ لأنها أجمل ما في القصيدة.. كونها آتية من صديق محبّ اسمه جوزاف بو ملحم. أنصحك بزيارته حالاً قبل أن يرسل لك شتيمة أخرى تنسيك الأولى.
فما كان منّي إلاّ أن عملت بنصيحتها، ولسان حالي يردّد:
جوزافْ بُو ملْحِمْ بِيسِبّ
مَعْ هَيْدَا وْكِلُّو بْيِنْحَبّ
مِتْلُو ما بْيُوجَدْ إِنْسَان
لا بِالشَّرْق وْلا بِالْغَرْب
**
كلب الآنسة
سائق تاكسي لبناني، كان يهمّ بالرجوع إلى مسكنه، بعد أن انتهت فترة عمله الليلي، فإذا به يسمع صوت فتاة اللاسلكي يعلن عن وجود زبونة تحتاج إلى سيارة تاكسي تنقلها إلى المستشفى حالاً.
وكمعظم اللبنانيين، فقد دبّت الحميّة في عروق السائق المسكين، وتوجّه إلى العنوان المذكور، والنعاس يفتك بعينيه، ليجد صبيّة شقراء، لـم تناهز بعد السادسة عشرة من عمرها، تحضن طفلاً صغيراً على صدرها، لا يظهر منه شيء، وهي تبكي وتقول:
ـ يا حبيب قلبي.. لا تخف، بعد دقائق سنصل إلى المستشفى.
ـ لا تخافي ـ قال السائق اللبناني ـ الموسم موسم إنفلونزا.. غداً سيصبح بخير.
ـ آه يا حبيبي آه..
ـ غطّه جيّداً.. الدنيا برد..
ـ أرجوك أسرع.. أسرع أكثر..
ـ يا ستّ.. كم كأس حجامة، ويمشي الحال..
ـ ماذا تقول؟
ـ صحيح.. أنتم لـم تسمعوا بعد بالحجامة..
ـ لم أسمع أبداً بهذا الدواء!
ـ المحجمة كأس زجاجية نضع بداخلها ورقة شاعلة، ثم نلصقها على ظهر المريض، فتمتص البرودة، ويتعافى بسرعة البرق..
ـ يا إلهي.. وهل هذا مسموح بأستراليا؟
ـ لا.. ولكنهم يتداوون بها في الشرق.. كما أنني جربتها بوالدتي العجوز هنا، ولكن تجربتي لم تنجح معها، فنقلتها إلى المستشفى، وعندما عاينوا النتؤات الحمراء على ظهرها، خافوا كثيراً، حتى كادوا أن يدخلوني السجن.
ـ معهم ألف حق..
ـ يجب أن تحترموا عاداتنا الشرقية في هذه البلاد..
ـ قبل أن نحترم عاداتكم، عليكم أن تحترموا قوانيننا، وهذا للأسف لم يحصل بعد.
ـ قصدك.. نحن أبناء الفوضى؟
ـ أنا لم أقلها.. أنت قلتها..
ـ كل شعب له عاداته، فأين العجب إذا مارسنا عاداتنا؟
ـ أين المستشفى؟ أرجوك أسرع..
ـ سنصل.. لا تخافي.
ـ شكراً..
ـ كم عمر المحروس؟
ـ سنتان..
ـ أراك صغيرة جداً للزواج.. هل هو طفلك الأوّل؟
ـ أنا لست متزوّجة..
ـ إنّها موضة العصر.. البارحة ركبت معي بنت من عمرك، تحمل طفلاً من عمر ابنك، ولـم تكن متزوّجة أيضاً!
ـ هذا ليس إبني يا أستاذ..
ـ إبن من إذن؟
ـ إنّه كلبي (راكس)..
ـ كلبك؟!.. لقد طيّرت النوم من عينيّ خوفاً على كلب. أأنت مجنونة؟
ولكن، حرصاً منه على سلامة الكلب المريض، وعلى مراعاة حقوق الحيوان في أستراليا، لـم يتوقّف، بل توجّه بها إلى مستشفى الكلاب، بعد أن كان متوجّهاً بها إلى المستشفى المختص بنا نحن أبناء آدم، ولسان حاله يردد:
في ناس بتتمنى تكون
كلب مدلل بالأَحضان
ولا تبقى بعالـم مجنون
الإنسان بيقتل إِنسان
**
نحن شعب نحب الصراخ
نحن شعب نحب الصراخ، ونطرب له، فإذا أطل (رئيسنا المفدى) هتفنا له حتى نفقد أصواتنا، وينعم حضرة جنابه بنوم عميق، بينما نحن فيجرنا القلق من رموش أعيننا خوفاً على مستقبلنا، ومستقبل فلذ أكبادنا، ويحرمنا من دقيقة نوم هادئة.
وإذا ثأثأ زعيم عشائري، ورث الزعامة عن أبيه، تتعالى زغاريدنا، وتتلوى هتافاتنا: بالدم، بالروح، نفديك يا زعيم، بينما هو يعاني من ثأثأته ورجرجة لسانه، وتلعثم الكلمات في فمه.
وإذا نادى أحد رجال الدين بموت أعداء الدين، وبسحق كل من لا يؤمن إيمانه، نردد كالببغاوات: آمين.. آمين.. آمين. وكأن الكون ما وجد إلا لنا، ولبنينا بعدنا، أما غيرنا فله البحر.
وإذا كتب أحدهم مقالاً عبر به عن رأيه بحرية وثقة، علت احتجاجاتنا، وتتطاير غبار صراخنا، غير عابئين بما سيصيب طبلات آذاننا من انتفاخ وانفجار، قد يوصف بالإرهابي أيضاً. المهم أن نصرخ، ومن لا يصرخ مثلنا، فهو ليس منا، ولا نريد أن نتعرّف عليه، أو أن نعترف به.
أخاف أن يستعملوا معنا آلات تنظيف السجاد، كما استعملها (مبارك) مع ابنه الباكي، علنا نتنعّم بلذة النوم، ونعطي لأفواهنا استراحة أطول، قد تجلب الخير لنا، وللمجتمعات التي نعيش بها. وإليكم القصة:
صاحت الزوجة بصوت مزعج كأنه دويّ طائرة نفّاثة، اخترقت جدار الصوت، وحطّمت زجاج المنازل:
ـ أسرع يا مبارك.. إبنك فحّم من كثرة البكاء.
ومع ذلك لـم يسمع مبارك زعيق زوجته، لأنه كان منهمكاً بتنظيف سجّاد بيته بآلة الـ (هوفر ـ ماتيك)، التي اشتراها منذ أسبوع بمبلغ يفكّ مشنقة، على حدّ تعبيره. فاقتربت منه زوجته وصاحت في أذنه:
ـ لماذا لا تردّ عليّ؟.. لقد نشّف الصراخ بلعومي..
فأجفل، كمن لسعته أفعى، لدى سماع صراخها، وقال:
ـ لـم أسمعك.. صوت (الهوفر) أعلى من صوتك..
ـ إبنك يبكي منذ نصف ساعة، ولا أدري ماذا أفعل..
ـ بسيطة..
ـ قلت لك: إبنك فحّم من كثرة البكاء.. فتقول لي: بسيطة!
ـ تعالي معي ولا تخافي.. سأجعله ينام كالمومياء، ويشخّر كالخنزير.
فما كان منه إلاّ أن جرّ آلة تنظيف السجّاد حتّى باب الغرفة التي يوجد فيها الطفل، ثـم قفل راجعاً إلى الصالون ليكمل تنظيفه. فإذا بالطفل يهدأ تماماً، ويغطّ في نوم عميق هانىء. عندئذ طار عقل الزوجة، وراحت تلطم على وجهها وتصيح:
ـ ماذا فعلت يا مبارك؟.. لقد قتلت إبنك..
ـ إنه نائـم.. لا تخافي.. إبننا يحب أن ينام على صوت (الهوفر).
ـ هل هذا معقول؟
ـ معقول ونصف..
ـ وهل تعرف أحداً ينام على صوت (الهوفر) المزعج؟
ـ ولـمَ لا.. أنا مثلاً كنت أنام على صوت (بابور) الكاز، وكان أبي يحقنه بالكاز، ويتلاعب بموسيقاه الناريّة إلى أن يسمع شخيري.
ـ بارك اللـه فيك.. يا مبارك.
فتنحنح مبارك، وقال وهو ينفخ صدره كالطاووس، وابتسامة النصر تعلو شفتيه:
ـ أفضل أن تقولي: بارك اللـه (بالهوفر ماتيك)..
إذا علا صراخ زوجك داوِه بالهوفر ماتيك، وإذا صاحت زوجتك بأذنك أسمعها صوت الهوفر ماتيك، وإذا أزعجك جارك بزفيره وشهيقه صوّب على شبّاكه الهوفر ماتيك، أما إذا حضرت مهرجاناً سياسياً وتعبت من ثرثرات زعمائك، إياك أن تلجأ إلى الهوفر ماتيك، لأنهم سيصادرونها، وستخسر أهم أسلحة الصمت في عصرنا هذا.
**
خوري وخورية واللذة الإلهية
أكثر المسائل التي تزعجني هي تحويل الدين إلى مقصلة، أو غرفة للتعذيب والموت، وتقمص رجال الدين دور الجلادين ورجال المباحث، فمن يخالفهم الرأي كان الله في عونه، فتحت ألسنتهم ألف فتوى قاتلة قد يرمونه بها، وتحت أصابعهم ألف مؤمن جاهز لتنفيذ أوامرهم، دون أدنى تفكير.
ورجل الدين، مهما علا شأنه، بشر مثلنا، يحب، يتزوج، يخون، يغار، يثور، يتدلل، يكذب، يتسلط كالطاغوت، ويسخر الله لملذاته، وغيرته، ودلاله، وكذبه، وتسلطه، وما من أحد يقدر على تكذيبه، دون أن ينال عقابه، كيف لا، والمغرر بهم يصدقون كل كلمة تخرج من فمه الذهبي (المقدس).
آن الأوان كي نكشف زيف رجال ديننا، وأن نفنّد أباطيلهم، لا كرهاً فيهم، بل حباً بإنقاذهم من براثن الخطايا التي يتقلبون على نارها، قبل أن يتقلبوا على نيران جهنم، فهم وجدوا أصلاً لإنقاذ أنفس الناس وحمايتها من الرذائل، فإذا بهم يتحولون إلى رذيلة مضحكة تخجل منها الكلمات.
هذا يبرر موت الأبرياء، وذاك يهدد بتدمير وطنه إذا لم يلبوا رغباته، وذلك يسبح في مستنقع السياسة حتى أذنيه، وينسى مهمته الدينية، لا بل يغرقها معه في المستنقع، ويغرق كل من يستمع إليه.
ولكي لا أتهم بالطائفية، تهمة العصر بدون منازع، سأدعم قولي بحادثة حصلت في إحدى القرى اللبنانية مع أحد الخوارنة وأبناء رعيته، ولأن النكتة تفسّر نفسها، وتؤدي المهمة في توجيه اللوم إلى كافة رجال الدين، من أي دين كانوا، أترككم مع القصة:
تزوج أحد الخوارنة الشباب فتاة جميلة للغاية، وما أن ذاق طعم الذي لا أحد يشبع منه، على حدّ تعبير أحد القرويين الدراويش، حتى بدأ يغار عليها، ويراقبها مراقبة أنست أهل القرية الحكم العثماني وعملاءه.
وذات يوم ضاقت بوجهه الدنيا، فألقى عظة (قاتوليّة)، انهزّت لها ذقون أبناء رعيّته:
ـ يا أولادي.. لقد أصبح لي مدّة طويلة لـم أعرّف بها امرأة. هل لي أن أعرف السبب؟ إذا كنتم تعتقدون أن النساء لا يرتكبنَ خطايا، فأنتم، واللـه، على خطأ. إذ أن المرأة التي تنام مع زوجها تكون قد ارتكبت خطيئة، ومن واجبها الديني أن تعترف بها للخوري، ومن واجبي أنا أن أحلّها منها. هل فهمتم؟.. أذني بئر عميقة، ما يدخلها لا يخرج منها أبداً.. ثـم لا تنسوا أن الخوري يحمل سرّ الإعتراف، وما تعترفون له به، لن يدري به غير اللـه تعالى. فلتتحرّك النساء، قبل أن يتحرّك عزرائيل ويخطف أرواحهنّ، ويرميهن في نار جهنم، حيث البكاء وصريف الأسنان. بعد القداس مباشرة سأكون بانتظاركن يا بناتي في كرسي الإعتراف، فلا تتأخرّن. آمين.
أحد الحاضرين لـم يعجبه كلام الخوري، فرفع صوته قائلاً:
ـ يا أبانا، عندي سؤال وجيه..
ـ تفضّل..
ـ هل ستعترف الخوريّة أيضاً؟
ـ طبعاً، طبعاً.. الخوريّة قبل الجميع.
ـ أنسيت أنكما في شهر العسل؟
ـ ما همّ، كل خطيئة ترتكبها الخوريّة في شهر العسل، سأحلّها منها أنا.
عندئذ ضجّ جمهور المصلّين بالضحك، بينما كان أحد الزجّالين يردّد:
خوري عَ المدبح صلاَّ
دوَّخنا ودوَّخ أَللَّـه
عندو خوريِّه يا ناسْ
بِيخطِّيها وبيحِلاَّ
**
روميو العروبة والشيخ إسبر
كانت تجلس على شرفة منزلها، ويدها الناعمة تسند خدّها الناضج كتفاحة حمراء، قطفها لتوّه فلاح لبناني، ما تعوّد يوماً إلاّ على الرزق الحلال.
وكان أخونا يوسف مارّاً بطريق الصدفة من أمام منزلها في إحدى مناطق سيدني، المكتظّة بأبناء الجالية اللبنانيّة، فسحرته بجمالها الفتّان، ونفذت إلى حنايا قلبه نظراتها الخلاّبة. كما أثّر به كثيراً حزنها المرسوم على قسمات وجهها الطفولي، وكأنها (موناليزا) جديدة من لحم ودم.
حاول أن يلفت انتباهها بشتّى الطرق والأساليب، فتنحنح أوّلاً، وسعل ثانياً، وزحط ثالثاً، حتى كاد يفكّ رقبته، وحضرة جنابها ما زالت شاردة في عالـم غير هذا العالـم، تأرجح نظرها على أراجيح أفق لا يحدّه نظر.
وفجأة، خطرت على باله فكرة اعتبرها رائدة في عالـم اصطياد الصبايا. ألا وهي فكرة الغناء تحت الشرفات، فوقف قبالتها رافعاً يديه، كما كان يفعل زميله روميو مع حبيبته جولييت، وصاح بصوت عالٍ كأنه دوي طائرة نفّاثة اخترقت جدار الصوت:
ـ أنا الأم الحزينة..
وقبل أن يكمل المقطع الثاني من الترنيمة الشهيرة، أجابته بصوت أعلى من صوته وأبشع:
ـ ليت أمّك هي التي تحزن عليك..
فصعد إلى سيارته، وأطلق لدواليبها العنان، وأنا ألاحقه دون أن ينتبه لي، وكم كانت دهشتي عظيمة عندما وجدته في شارع آخر، يطارد فتاة أسترالية، هي تسير على الرصيف، وهو يلاحقها، تارة يتغزّل بقوامها المياس، وطوراً بشعرها الذهبي الناعم، دون أن تأبه به، أو تلتفت إليه، ومع ذلك أصرّ على ملاحقتها غير عابىء بثقل دمه، أو بلغته الإنكليزية المكسرة، أو باقترابها من مكان سكنها، فصاحت به:
ـ أرجوك.. اتركني بحالي
ـ لا أقدر.. لقد أحببتك من النظرة الأولى..
ـ من غير المجنون يحب من النظرة الأولى فتاة لا يعرفها؟
ـ نحن العرب نحب هكذا؟ قيس أحب ليلى من النظرة الأولى، وعنتر أحب عبلى، وروميو أحب جولييت، وأنا أحببتك..
ـ روميو وجولييت ليسا عربيين؟
ـ صحيح، ولكن كاتب قصتهما عربي.
ـ هل لي أن أعرف اسمه؟
ـ إنه الشيخ إسبر
ـ أتقول عن شيكسبير هكذا؟ أنت إرهابي!
ـ أنا.. أنا..
ـ أهرب.. أحسن لك..
ـ لا لن أهرب.. لقد أحببتك، وسأحارب من أجل الحصول عليك.
ـ قلت لك أهرب.. وإلاّ
ـ وإلاّ ماذا؟!
ـ سأنده زوجي لتأديبك يا روميو العروبة.
فانشقت الأرض وابتلعته.
ذكرتني هذه الحادثة بيوم وصولي إلى أستراليا عام 1971، فلقد عملت ليلاً ونهاراً من أجل شراء مسكن يأويني في غربتي، دون أن أتعرض للطرد من قبل المالك، أو دون أن أنتقل من بيت لآخر كالمنبوذين، وبعد تسعة أشهر فقط حققت حلمي، وما زلت أعيش حيث حققت الحلم. أما اليوم فأجد، وللأسف، شبابنا المهاجر يعيش عالة على المجتمع، يستدين المال من هذا، ليسدده لذاك، همه فقط إرضاء نزواته وإطفاء شهواته، وإذا أسديت له النصح، دون أن تأخذ منه جملاً، يهزأ منك، لا بل يزدريك، ويصيح:
ـ سأعيش مرة واحدة، ومن بعدي الطوفان.
أجل، سنعيش مرة واحدة، ولك علينا أن نعيش كباراً، وأن نموت كباراً، وإلا ما نفع مجيئنا إلى هذه الفانية؟
**
البوكار ماشين وأبناء العروبة
(البوكار ماشين) آلة تشبه التلفزيون، ولكن الفرق بينهما هو أن شاشة الأولى ذات دواليب متحرّكة، تحمل صوراً مختلفة، متى اجتمعت على خطّ مستقيم واحد، تهبط الثروة من جارورها المعدني الصغير، وتبدأ بعزف أجمل المقطوعات الموسيقيّة، فيتجمهر الحاضرون حول صاحب الحظّ وضحكاتهم مشبعة بالحسد والأمل.
وكما يعلم الجميع، فتلك الآلة تسير وفق برنامج إلكتروني معيّن، أي أنها لا تدفع إلا ما توافق عليه إدارة النادي، منها ما يدفع ثلاثين بالمئة من الأرباح، ومنها ما يدفع خمسين بالمئة، وهذا من النادر، أي أن المقامر لا يسترجع من دولاره، إذا ضحك له الحظ، إلا ثلاثين سنتاً لا غير، وينسى خسارة سبعين سنتاً من كل دولار يقامر به.
وقد لا أذيع سراً إذا قلت: إن تسعين في المئة من رواد النوادي في سيدني، هم من أبناء الجالية العربية، لدرجة أن البعض منهم قد منعوا من دخولها بسبب إدمانهم الشديد على (البوكار ماشين)، فعلقت صورهم على المداخل تحسباً لوصولهم المفاجىء، وهذا أشد ما يأمر به القانون الأسترالي، بغية تأهيل المقامر المدمن، وإعادة تفكيره إليه، بعد أن فقده تماماً. وقد يعتقد البعض أنني أبالغ بنسبة التسعين بالمئة، ولكنهم لو زاروا النوادي في المناطق المكتظة بأبناء العروبة، لذهلوا من كثرتهم.
وصدّقوني أن ما من نادٍ في ولاية نيو ساوث ويلز، إلاّ ويملك المئات من هذه الآلات الخبيثة، التي كانت السبب في تفكّك الكثير من العائلات العربية المهاجرة.
قديماً، كانت حكومة ولاية فيكتوريا تحذّر المواطنين من اقتناء البوكار ماشين، تحت طائلة العقوبة الشديدة، عكس اليوم تماماً، ولهذا كنّا نجد أن الكثيرين من أبناء الجالية هناك، يؤمون سيدني للتمتع بملاعبة (البوكار ماشين)، وإيداعها كل ما يحملون من أموال.
سامي مثلاً.. عندما زارني منذ 20 سنة، لـم أرَ له وجهاً، لا في النهار ولا في الليل. فما أن يستيقظ عند الصباح، ويرشف قهوته، حتى يستأذن بالذهاب إلى (الكلوب) النادي، ولا يعود منه إلاّ والسهرة في آخرها، فيستأذن مرّة أخرى بالذهاب إلى فراشه:
ـ صباح الخير.. مساء الخير.. لقد نسيت الوقت، ولـم أعد أدري أصبّحتك أم مسّيتك قبل الذهاب إلى (الكلوب)؟..
ـ أخبرني.. هل ربحت اليوم؟
ـ لقد نتفوا ريشي..
ـ والبارحة؟
ـ جزّوا شعر رأسي..
ـ وغداً..
ـ لست أدري.. إن شاء اللـه سأربح..
ـ يا رجل.. ألا تضجر من رنّة دواليب الآلات؟
ـ لقد أتيت من مالبورن إلى سيدني لأتنعّم بهذه الرنّة. صدّقني إنها عندي أجمل من سمفونيّات بيتهوفن.
وهكذا دواليك.. إلى أن خسر كل ما يملك من دولارات، فجلس قبالتي والحسرة بادية على وجهه، ليس لأنه خسر ماله، بل لأنه لـم يعد قادراً على مداعبة عشيقته الست (بوكار) كعادته يومياً. فما كان مني إلا أن هجمت عليه، وأمسكت بيديه، وأنزلته إلى الدبكة، وأنا أغني بصوت مخنوق:
يا سامي وقتْ الْـ بتموتْ
ما منرضى عَ القبر تْفوتْ
إلاّ ما نركِّب بُوكَارْ
ماشين.. بقلب التابوتْ
**
أنحس من الأوّل
كان المطران عبده خليفة، رحمه اللـه، صاحب نكتة من الطراز الأول، تحسّ، وأنت تسمعه، أنّك أمام لاهوتي فيلسوف يتسلّح بالدعابة من أجل الوصول إلى أعماق زائره. وكان، في كل مرّة أزوره بها، يسمعني الكثير من الطرائف التي تنسيك غربتك الطويلة.
من نكاته الكثيرة، أنقل إليكم هاتين النكتتين:
كان الأستاذ شكري القرداحي من كبار المتشرّعين في لبنان، كتب كتاب (الإيمان تحت قبّة الأكاديميّة الفرنسيّة)، وطلب من إبنه بيار أن يهديه لجريدة اللوموند، بغية إبداء الرأي به. فما كان من الجريدة إلاّ أن عرّفت بالاستاذ قرداحي، رئيس محكمة التمييز، على أنه (مسلم عظيم) من لبنان، فثار غضبه، وطلب من إبنه بيار الإتصال حالاً بالجريدة لتصحيح الخطأ، كيف لا، وهو من طائفة الروم الأورثوذكس.
وفي اليوم التالي صدرت الجريدة، وقد صحّحت خطأها بأن وصفته (بالماروني الكبير)، فصاح بأعلى صوته:
ـ أنحس من الأوّل يا لوموند.. أنحس من الأوّل.
أمّا النكتة الثانية فتقول:
أراد الأب شعيا الأسمر، رئيس الرهبانيّة الأنطونيّة، أن يزور أحد الزعماء اللبنانيين في مدينة زحلة. والظاهر أن الزعيم كان غائباً وقتئذ عن البيت، وكانت أمّه تخاف من زيارات الرهبان، خوفها من التجاعيد الكثيرة التي بدأت تغزو وجهها البشع جداً جداً.
وما أن قرع الأب شعيا الباب، حتّى فتحته الأم وهي تصرخ بأعلى صوتها:
ـ إسـم الصّليب يا بونا.. إسم الصّليب.
فصاح الأب شعيا وهو يتراجع إلى الوراء:
ـ خلّيها علينا يا بنتي.. خلّيها علينا.
**
إضحك.. ببلاش
عندما تتكلّم عن الدكتور عصام حدّاد، صاحب ومدير معهد الأبجدية في مدينة جبيل اللبنانية، يعرف الجميع أنك تتكلّم عن الكرم اللبناني الأصيل النادر، المعتّق في إحدى خوابي عين كفاع الغارقة في القدم..
ومجنون من يفكّر أن هناك من يضاهيه بحبّه، بإخلاصه، باندفاعه وبعطائه اللامحدود.. إنه أفضل نحلة في قفير وطننا لبنان.
سعادته تكمن في سعادتك، وراحته لا تكتمل إلا إذا اكتملت راحتك.. إنه يسير عكس التيّار المادي الكاسح الماسح، يفرك أنفه وأذنيه ويضحك.. وإنك لتتعجّب من جرأته وتلقائيته.. وحماسه للبنان.
يحبّ النكتة، ويتفنن بإلقائها وبفبركتها، وبالاستمتاع بها.. وإليكم بعضها:
طلب أحدهم من الدكتور عصام حداد أن يساعده بالتفتيش عن شقة تقع على شفير أحد الوديان.. فأخذه الدكتور إلى بلدة (مستيتا) قضاء جبيل، حيث الوادي الأخضر المضمخ بلؤلؤ نهر الفيدار، فأعجب بالمنظر كثيراً.. ولكنه اكتشف ان المنطقة لا تصلها مياه الشفة، فغيّر رأيه وطلب من عصام أن يأخذه إلى وادٍ آخر، فما كان منه إلاّ أن التفت إليه وقال:
ـ ضروري تحطّ مصرياتك ع الوادي، ما لبنان كلّو وديان، وين ما بدّك وقاف وتفرّج ببلاش.
ومن النكات التي يخبرها عصام لأصدقائه واحدة حصلت في سيدني يوم زارنا لاستلام جائزة جبران العالمية، وفي حفل توزيع الجائزة قال رئيس رابطة إحياء التراث العربي الاستاذ كامل المر: إني أرحّب بكم فرداً فرداً.. فما كان مني، وكنت سكرتير الرابطة، إلا أن قلت:
ـ شو يا إستاذ كامل.. الظاهر ما شفت إنّو في نسوان بالحفلة حتى تقول: إني أرحب بكم فرداً فرداً..
فأجابني والدهشة بادية على محياه:
ـ وشو بدك ياني قول؟!
فأجبته بجدية ظاهرة:
ـ لازم تقول: إني أرحب بكم فرداً وفردةً.
فضحك الاستاذ كامل المر، وحمل الدكتور عصام حداد النكتة إلى الأثير اللبناني لتصبح نكتة الموسم.
ومنذ عدة أشهر، كنّا في ضيافة الدكتور عصام حداد، فأولـم على شرفنا وليمة حضرها رئيس تحرير مجلة (الامن) اللواء الشاعر محمد ياسر الايوبي. ومن جملة المأكولات التي أعدتّها أخته سلوى (حبشة) محشية بالأرز، تبدّل على تقطيعها جميع المدعوّين نظراً لحجمها الكبير.
وفجأة دخل أحد اصدقائه، وطلب التحدّث معه، فما كان منه إلا أن دعاه لتناول الطعام معنا.. ولمّا لـم يقبل وهمّ بالانصراف، لحقه الدكتور عصام وصوته يسبقه:
ـ سلملي ع بيك.. سلّملي ع إمك.. سلملي ع جدك.. ع ستك.. ع عمك.. أللـه معك.
وعندما رجع إلى الطاولة قلت له بصوت عالٍ:
ـ شو باك يا عصام.. هيئتك صرت بخيل كتير!
ـ ليش شو عملت؟
ـ بدل ما تحمّل صديقك كل هالسلامات لأمو ولبيّو.. كان الافضل تحمّلو فخدين من هالحبشة تا يتعشّوا عليهن.
لقاء الدكتور عصام حداد صعب، ووداعه أصعب.. والويل ثـم الويل لمن يتعرّف على كامل العائلة (الحدادية).. فلسوف يسرقون قلبه وعقله.. ودمعته.. ويتركونه ضائعاً.. حائراً، لا يطيب له عيش إلا بالقرب منهم.
**
حب الكلاب.. فرّق الأصحاب
عند أحد أصدقائي المقربين كلب رائع أسماه "سيزر"، أي "قيصر" باللغة العربية، وعند جارتي كلبة جميلة اسمها "دوللي"، وذات يوم أحبّت جارتي، المغرمة جداً جداً بالكلاب، أكثر من بريجيت باردو بألف مرة، أن تعرّف كلبتها الوحيدة الغالية، التي لم يرزقها الله وريثاً غيرها، على كلب "إبن أوادم".
وقد تتعجبون إذا أخبرتكم ان بلدية المنطقة التي تعيش بها رفضت أن تسجّلها في ملفاتها القانونية إن لم تحمل اسم عائلتها.. فأصبحت، منذ ذلك الحين، معروفة بالدوائر الحكومية، وعيادات الأطباء البيطريين، باسم الآنسة "دوللي طومسون"، هكذا والله.
ولكي أبيّض وجهي، كما يقولون، اتصلت بصديقي لأخبره بقرار جارتي استضافة كلبه المدلّل، وتقديمه كصديق "بوي فرند" لكلبتها، فأجابني قائلاً:
ـ جارتك، كما أخبرتني، كثيرة السفر، وأنا كذلك، فما رأيك لو تبادلنا استضافة كلبينا عند سفر أحدنا، وهكذا نعرف أنهما في مأمن. هي تأخذ "سيزر" عندما أسافر، وأنا آخذ "دوللي" عندما تسافر، فهل لك أن تسألها؟.
وبدون أدني تفكير وافقت الجارة، شرط أن نعدّ لقاءً جانبياً بين كلبه وكلبتها، من أجل جسّ نبضيهما قبل اتخاذ القرارات الصعبة، التي قد تزيد عدد الحيوانات في أستراليا أربعة أو خمسة كلاب، فأبدى تأييده للفكرة، وأضاف:
ـ تعال خذه الآن، فأنا سأسافر بعد أسبوع.
وكانت جارتي تضع أذنها على سمّاعة الهاتف التي أتكلم منها، كي لا يفوتها شيء من الصفقة، فصاحت كالمذعورة:
ـ بعد أسبوع؟! إذن سآخذ "دوللي" إلى الطبيب كي يجري لها عملية منع الحمل، وإلا قتلتها.. "فسيزر" كلب يافع قوي، "ودوللي" ناهزت التاسعة من عمرها، أي أنها أصبحت عجوزاً حسب أعمار الكلاب، وهذا ما سيشكل خطراً على حياتها إذا حبلت وأنجبت.
عملية منع الحمل كانت مكلفة جداً، أكثر من كلفة عملية نسائية تصب في الخانة ذاتها، ومع ذلك كانت مقتنعة مئة بالمئة بصحة قرارها، كيف لا، و"سيزر" سيصبح صهر العائلة المدلل، وإن كانت ستقطع نسله.
وبينما كانت "دوللي" تعاني من جرحها الثخين، كانت الجارة تفتّش عن بيت جديد من البلاستيك، تستضيف به العريس الغالي، وصدقوني إذا قلت: ان أسعار بيوت الكلاب ستبزّ بعد سنوات أسعار بيوت بني آدم، هذا إذا تمكنّتم من الحصول عليها لندرتها في السوق، بسبب حب الغربيين للكلاب، واعتنائهم بها.
كل ما أريد أن أخبركم به، هو أنها تكلّفت على استضافة "سيزر"، ما فتح ورزق، دون أن تعلم أن حساب حقلها لن ينطبق على حساب بيدر صديقي العزيز ، الذي ألغى السفر فجأة، وألغيت زيارة مستر "سيزر" قبل لحظات من وصوله إلى شارعنا. فجنّ جنون جارتي وصاحت:
ـ قم اتصل بصديقك هذا، وقل له أن يأتي بكلبه حالاً، لأن كلبتي موعودة به، وحرام أن يكسر بخاطرها.
وجاء "سيزر"، وبدأت المعارك بينه وبين "دوللي"، هو يريدها وهي تصده، هو يلاحقها وهي تهرب منه، وصار يرافقها كظلها، إذا أكلت أكل، وإذا شربت شرب، وإذا بالت بال. ولم يخطر ببال أحد أن العملية التي أجريت لها ستحولها إلى صخرة صماء لا إحساس فيها. فباءت كل محاولات "سيزر" بالفشل، رغم جماله، وشبابه، وفحولته. إنه، وبصريح العبارة، بيّض وجه صديقي، عكس "دوللي" التي سوّدت وجه جارتي، وجعلتنا نصدّق أن الحبّ العذري ما زال ساري المفعول في هذا العصر المجنون.
أربعة أيام فقط، قضاها "سيزر" بصحبة "دوللي"، كانت كافية للقضاء عليه نفسياً. فلقد أخبرني صديقي أن كلبه عندما عاد إلى دياره سالماً، أضرب عن المأكل والمشرب، وراح ينبح نباحاً مموسقاً، وكأنه يناجي "جولياته" الغائبة عن عينيه.
أنا أعرف أن "دوللي" جميلة ومثيرة، ولكنني لم أكن أدري أن "سيزر" سيصبح "روميو" عصره من اللقاء الأول. وهذا ما أغضب صديقي، وحذّرني من الاتصال به بغية جمع العشيقين، لأنه لن يسمح لا "لدوللي" ولا لأم "دوللي" بالتلاعب بعواطف كلبه، كما أنه لن يستضيفها في بيته، ولو كلّفه الأمر محو صداقتنا من الأساس، وتناسى حضرته أنها استضافت كلبه ضيافة قصمت ظهر بعيرها، وأفرغت محفظتها من مئات الدولارات.
الشيء الوحيد الذي يحزنني هو أن الإتصالات التي كانت جارية، على أحسن ما يرام، بيني وبين صديقي، أصبحت مقطوعة كلياً، وقد نحتاج إلى مبعوث دولي لحل مشكلتنا العاطفية العالقة، حتى أن مثلاً شعبياً جديداً بدأ يتراقص على ألسنة الجيران: "حب الكلاب، فرّق الأصحاب"، وهذا ما حصل تماماً.
من يدري، فقد تتحوّل قصّة حب "سيزر" لـ "دوللي" إلى فيلم سينمائي، تنتجه شركة "ديزني لاند"، ينسي العالم ما حصل في "التايتانيك" من مغامرات عاطفية بشرية، ما زالت تطفو على سطح الماء.
**
زواج الدوطة.. أكلة مخلوطة
كلما قرأت خبراً عن الزواج، أتذكر، وأنا أضحك، ما كتبته مراسلة وكالة (رويترز) الصحفية ناريانان مدهفان عن رجل الاعمال السريلنكي البوذي الذي نشر إعلاناً في صحيفة (صنداي أوبزرفر) منذ سنوات، يطلب به زوجاً لابنته الجميلة المتعلمة البالغة من العمر 21 سنة، لقاء (دوطة) قيمتها 400 ألف دولار.
ولا يعتقدن أحد منكم أن بإمكانه أن يتقدم لطلب يد هذه البنت (الدوطة)، إذا لـم يكن من فئة الاطباء أو المهندسين أو الجامعيين. باختصار، أنا، مثلاً، لا أصلح للفوز بنصف مليون دولار.. قد أصلح فقط للمشاركة بعرس جماعي، كالذي أقيم في سوريا مؤخراً، أو كالذي أقيم عند سفح أهرامات الجيزة في مصر، بمناسبة مرور ربع قرن على حرب تشرين/أوكتوبر 1973، وشهد الجد الفرعوني الاكبر السيد (أبو الهول) على الزواج الجماعي المصري وباركه، إذ أن العرس أقيم في الساحة المقابلة لتمثاله الضخم.
لو أن كل والد عروس أعطى عريس ابنته (دوطة) كما وعد رجل الاعمال السريلنكي، لقبر شباب مصر وسوريا وغيرهم الفقر، ولصاحوا بصوت واحد: فليعش الزواج.
والزواج بـ (دوطة) أمر شائع في سريلنكا، تماماً كما كان شائعاً في الهند قبل أن يلغيه القانون، وقد آن الأوان أن تغيّر جزيرة سريلنكا هذه العادة الاجتماعية السيئة، التي تسيء الى فتياتها وتحوّل الزواج الى سلعة، خاصة وأن معظم بناتها يعملن كأجيرات في لبنان ومصر ومعظم دول العالـم، وهنّ دون مستوى الفقر.
أصوات نسائية عديدة في سريلنكا تعارض زواج (الدوطة)، وها هي سكرتيرة جمعية علماء الاجتماع السيدة كوماري جيواردينا تهزأ من المسؤولين السريلنكيين حين تقول: (الجميع ضد هذا النظام وفي نفس الوقت يؤيدونه سراً. تجري مناقشته في الصحف ثـم يموت)، وأضافت تقول: (أيام الحكم البريطاني حاول مجلس الدولة الغاء نظام الدوطة، فجاءت نسبة التصويت متساوية، فما كان من رئيس المجلس إلاّ ان صوّت لصالح الدوطة)!!
مسكين من يعتقد أن (الدوطة) مقتصرة على الهندوس فقط، إذ أن معظم أبناء الطوائف التي يتألف منها المجتمع السريلنكي يمارسونها. إنها عادة اجتماعية متفشيّة بشكل رهيب. فإذا لـم يمنعها القانون فلسوف تمنعها الجريمة! تماماً كما حصل في الهند، فلقد كانت (الدوطة) السبب الرئيسي في انتحار الزوجة أو قتلها من قبل زوجها وأقاربه لعدم تأمين (الدوطة) المتفق عليها.
(والدوطة) في سريلنكا إما أن تكون مزرعة أو نقوداً أو مجوهرات أو بيتاً أو ما شابه، وعلى أهل الفتاة تأمين كل هذا، وإلاّ ستبقى ابنتهم بدون زواج!.. ولكي أزيدكم استغراباً اسمحوا لي أن أخبركم ان هذه العادة كانت سائدة، وما زالت، في العديد من الدول العربية، فمن منكم لـم يسمع سمسارة الزواج تقول: هذه البنت معها (دوطة)، كي ترغّب الشباب بها. أوَ لـم تزل (الدوطة) سائدة في جزيرة قبرص؟! فالبنت هناك هي التي تؤمن المسكن والمأكل والمشرب، وما على الشاب القبرصي إلاّ أن يقول: نعم يا أبانا!!
قد تضحكون وتقولون: مسكينات هنّ الزوجات، فلقد وقعن ضحيّة كذب أزواجهن، قبل الزواج وبعده!!.. فأجيبكم بأن معظم الزوجات اللواتي يشترين رجالهن بالدوطة، قد يشترين جهازاً ثـمنه 140 دولاراً يكشف كذب أزواجهن. والجهاز من إنتاج شركة (بيكوك) الألمانية، وهو قادر على اكتشاف أكبر الكذابين المحترفين، ويعتمد على ذبذبة الصوت والمسافات الفاصلة بين الكلمات ومقدار التوتر أثناء الكلام، وكي لا ترتعد فرائص الرجال أخبرهم أن العالـمين إيمو كوريو ورالف أوت قد استطاعا تضليل الجهاز وأثبتا عدم فعاليته بنسبة 85 بالمئة.
شكراً للعالـمين الفاضلين، فلقد أثلجا قلوبنا بإعلانهما فشل جهاز (كشّاف الكذب) بكشف الكذب، حتى لا نخضع كل ليلة لعملية استجواب قد تقضي علينا وعلى (دوطتنا) أيضاً، ونردد بألم بالغ: زواج الدوطة.. أكلة مخلوطة.
إذا أردت أن تقبر الفقر إذهب إلى سريلنكا، فالزوجة لك، والثروة لك، وما عليك إلا إتمام الواجبات الزوجية.. وفهمك يكفي.
**
سليم الشدياق والبوسات الخمس
ما التقيت إنساناً في مغتربنا هذا، إلا وأشاد بمناكب رجل الأعمال المعروف سليم الشدياق.
فجأة، التقيته في حفلة جمعية بقرقاشا الخيرية التي كانت تحتفل بيوبيلها الذهبي. فلقد تقدّم مني رجل وسيم وسلّم علي، وقال:
ـ هل عرفتني؟
ـ لا..
ـ أنا.. وقال اسماً غريباً لم أعد أذكره..
ـ آسف.. ما زلت لا أعرفك..
ـ أنا سليم الشدياق
هنا، هجمت عليه ورحت أمطره تبويساً: بوسة اثنين ثلاثة أربعة..
فصاح سليم:
ـ خلص.. خلص.. شبّعتني تبويس
ـ لن أتركك إلى أن أقبلك البوسة الخامسة.. ألست تصلّب بالخمسة؟
ـ بلى.. ولكن صديقنا عصام ملكي يصلّب بالثلاثة وقد يزعل..
ـ لا تخف.. عصام اليوم جميع أصابعه مريضة أو مكسورة، وقد يصلّب بالعشرة.
وبعد أن انتهيت من تقبيله، شكرته على خدمة كان قدّمها لي الأسبوع الماضي، فلقد انكسر زجاج مرآة عزيزة على قلبي، عمرها أكثر من 35 سنة، كان قد أهداني إياها أخي جورج، يوم بنيت منزلي، وعلّقها في مكانها المرحوم والدي، وإذا بي أخسرها، فحزنت كثيراً، لولا همة أخي عصام ملكي، فلقد جاء من بيته الذي يبعد عني مسافة ساعة بالسيارة، ليحملها الى مصنع حبيب القلب سليم الشدياق الذي يبعد عن بيتي مسافة ساعة أيضاً، ليعيدها لي بعد أسبوعين اجمل مما كانت..
المرة الثانية إذا التقيت أخي سليم سأقبّله على عدد أصابع عصام ملكي، وسأطلب من عصام أن ينتبه لأصابعه هذه المرة.
سليم البوسه عندو
متل الشمس المضويه
طبعت الخمسه ع خدّو
يا ريت طبعت الميّه
**
شعراء عصبة الزجل اللبناني والعرق المثلّث
زار الشاعر عصام ملكي طبيب العيون كعادته كل سنة بغية الاطمئنان على صحة عينيه، فوصف له الطبيب قطرة، وطلب منه أن يقطر في عينيه مرتين في اليوم، فما كان من عصام إلا أن ارتجل هذه الردة:
زياره لحكيم العين لمّا عملت
بالآخ قلت تطلّع بعيني
ووقت اللي قللي حط قطره، قلت
ما بحط إلا شربل بعيني
ولحسن الحظ كان الطبيب من أصل لبناني ويعشق الزجل، وخاصة أشعار عصام ملكي.
القصة لم تنتهِ بعد.. فما أن سمع الشاعر جورج منصور قصة عصام مع الطبيب حتى قال له بصوته الرنان:
خلف الحرف ودّيت يا عيني
تا شوف وينو بالدني وويني
قللي لعندك ما بجي مشوار
إلا بإذن من شربل بعيني
وبدلاً من أن أفرح بالردتين الرائعتين، وأشكرهما عليهما، قلت:
ما بدّي تقولوا أشعار
وكاسي فاضي يا شعّار
بدّي من دْموع العنقودْ
قنّينه.. متلّتها الجودْ
تا إشكركن ليل نهار
فوصلتني من الشاعر عصام ملكي قنينة عرق مكتوب عليها "عرق من تحت باطي"، فاشرأب الطمع اللعين في داخلي، وحدثتني نفسي أن أحصل على قنينة ثانية، طالما أن عصام "كرم على درب"، فاتصلت به محتجاً على نوع العرق الذي أرسله لي، وطالبته بقنينة عرق ممتاز وليس من تحت "الباط"، فأجابني وهو يضحك:
يا شربل بعيني إلك مني سلام
نتفة عرق ممتاز ما عندي بقا
قايل أنا من زمان وبعيد الكلام
عا طعمة الودّيت لا توجّه ملام
عرقات متلن تحت باطك ما التقى
أما الشاعر جورج منصور فقد اتصل بي ووعدني بقنينة عرق مثلث، لم يشرب مثلها زميلنا أبو النوّاس، والمثل يقول وعد الحر دين.
والظاهر أن هذا المقال لن يكتمل إلا إذا اكتملت السكرة، وها هو الشاعر حنا الشالوحي يضم "عرقاته" الى خابية الزجل المهجري النادر، ويفرّح العين بردة جميلة، والقلب ببطحة عرق إذا شربتُ منها كأسين فقط سأصبح مثل شمشوم الجبار، أبطح أقوى الرجال، فتنعّموا بما أجاد:
يا شربل بعيني بعد ما حكيت
ع الجود قلنا طارت الكلمه
بطحة عرق رح ابعت ترانزيت
بكاسين منها بتبطح الزلمي
وإلى أن تصلني "البطحة" الشمشومية.. أترككم مع هذه الردة التي وصلتني عبر الفايس بوك من الشاعر طوني حنا النسر، وفيها يخبرني عن جنس العرق الذي سيرسله لي، فإذا كان عرق عصام ملكي "من تحت الباط" سيصلني، ولله الحمد، عرق "نسراوي" له وجهان ولسانان، المهم أن يكون مثلثاً:
ما زال وعد الحر عندك دين
يا شربل ال ما في حدا متلك
عندي عرق وجهين ولسانين
ايّا جنس بتحبّ أبعتلكّ
إلى هنا.. انتهت قصتي مع أربعة شعراء من عصبة الزجل اللبناني في أستراليا، دونتها كي أسكركم بالشعر المرح، وبنهفات شعراء كبار.. انتم تضحكون.. وأنا أشرب..
ولكن خوفاً من ان يخلف الشعراء بوعودهم، سأرهبهم بهذه الابيات:
وعدتوني بعرقات مناح
إسمي كتبتو ع الكركه
وبالغربه زرعتو الأفراح
وزدتو بالشعر البركه
لكن.. لولا شاعر زاح
حسابو مع ابن الملكي
... وكاسكم شباب
**
شوقي مسلماني
وطرائف أهل قريته الجنوبية كونين
رفاق غربتي الطويلة بإمكاني أن أعدهم على أصابعي، إذ ليس كل من تعرّفت عليه أو التقيته، أو تعاملت معه، أو كتب عني، أو كتبت عنه، يكون من رفاق دربي، ولهذا أجدهم أقل من رغبتي بهم. وبين هذه القلّة تشعّ ابتسامة أخي شوقي مسلماني.
وها هو شوقي يرمي بين يدي مخطوطة كتاب جديد يجمع به نوادر وطرائف أهل قريته الجنوبية "كونين"، ويطلب مني الاطلاع عليه وإبداء رأيي به، قبل أن يعانق الورق، ورغم محبتي الغامرة له، وجدت نفسي في موقف حرج، إذ كيف لي أن أقرأ كتاباً كاملاً في أيام قليلة، ومجلة "الغربة" مثقلة بعشرات المقالات يومياً التي من واجبي الاطلاع عليها قبل نشرها، وبالتالي، من غير المسموح بتاتاً أن أرفض طلب رفيق غربتي شوقي مسلماني.
لذا قررت، بيني وبين نفسي، أن أقرأ كل يوم طرفة واحدة فقط.. هذا كل ما بإمكاني أن افعله كي لا أرفض طلب من لم يرفض لي طلباً طوال ثلاثين سنة وأكثر من المعرفة. وما أن بدأت بالقراءة، حتى وقع ما لم يكن في الحسبان، إذ أنني نسيت "الغربة" وتجديد أخبار "الغربة" ورحت ألتهم نوادر الكتاب وطرائفه بشراهة بالغة، وضحكاتي الصاخبة تملأ المكان، ولسان حالي يردد: ألله عليك يا شوقي.. ماذا فعلت بي؟
ولتدركوا صحة ما أقول، سأطلعكم على القليل القليل من نوادر أهل "كونين" الرائعة، مثلاً:
"كان هناك شخص من بنت جبيل، له شعر أشقر، يأتي إلى كونين ويشتري زبل غنم وبقر، ويأخذه محمّلاً على حمار. وبعد انقطاع استمرّ سنوات رأته يوماً، الحاجّة أمينة مهنّا حمّود "أم ناصيف" يرتدي بذلة عسكريّة، فقالت له مازحة: "مْن الدابّةْ للدبّابةْ"؟"
وأم ناصيف هذه امرأة عادية جداً أدخلها شوقي التاريخ دون معرفة منها. وإليكم هذه:
"في سنة 1969 كنّا في الصفّ الرابع إبتدائي، وكانت في صفّنا مريم الشيخ علي، وكان حسن طعّان متزوّجاً من أختها سعاد، وكان يسكن فوقهم مقابل المسجد، وكان عندنا في كتاب القراءة استظهار عنوانه "هُناكَ" وفي الصورة راعي وغنم، وأوّل الغروب كان عدد من الشبّان واقفين تحت شجرة الزنزرخت بجانب الأساطل السود بالقرب من بيت شبلي ومن بينهم الأساتذة: عبّاس الدبق، سامي ديراني وعلي عبد الكريم مسلماني، وجاء حسن طعّان منهمكاً كأنّه يحمل "البلاغ رقم واحد" ويقول: "بكْتابْ مريم بنت عمّي مكتوب: "هُناكَ"!. وراح يروي، حيث طلب من مريم أن تعيد ما تقرأ وكلّه عجب من هذا اللفظ البذيء في كتاب للأطفال!."
صحيح أن كتاب "كونين.. لطائف وطرائف" يحتوي على بعض الكلمات "البذيئة" كما يحلو للبعض أن يسميها، ولكنها كلمات تجري على ألسنتنا كما تجري المياه في الينابيع والأنهر، ومن المستحيل، لا بل من الإجرام أن لا يذكرها شوقي في كتابه هذا.. هكذا قيلت وهكذا يجب أن تبقى.. وإلا سيصدر الكتاب مشوهاً وممقوتاً ومقرفاً.. وهذا ما لا يريده شوقي.
ومن هذه الطرائف "البذيئة ـ الجميلة" اخترت:
"خديجة الحاج حسين، كانت حمارتها مربوطة بحبل في الجبّانة مقابل بيتها، وكان هناك جحش مربوط أيضاً، ولكنّ حبله كان طويلاً، وأطول من اللازم، رأى الحمارة واقترب منها لكي يرعى بالقرب منها، ثمّ حاول أن يقفز عليها، ولأنّه جحش تعربس بالحبل ووقع، وحاول المرحوم رفيق عناني، الذي كلّه نخوة، وقد كان في الجوار، أن يساعد الجحش، وكانت خديجة الحاج حسين تراقب الوضع من مدخل بيتها، فخافت أن تحبل الحمارة إذا نهض الجحش، ولا يعود بإمكانها أن تحمل عليها صناديق الدخان الثقيلة، فصرخت قائلة له: "يا رفيق! بلا ما تْديرْ الحماره للجحش، درْ لهْ طيزك"!.
بربكم قولوا: ماذا سيتبقى من القصة الفكاهية لو حذف شوقي كلمة "طيزك"؟ بالطبع لا شيء، ولهذا يجب أن تبقى، لأنها هي أساس الطرفة. وبالتالي، من منّا لم يقل هذه الكلمة مئات المرات في حياته؟ إنها موجودة في الجسم البشري وفي القاموس اللغوي وعلى ألسنة البشر كافة، فلا فض فوكِ يا خديجة الحاج حسين.
ومن القصص التاريخية التي يسجلها الكتاب قصة الجد المرحوم أبي خليل الذي: "كان يعمل عتّالاً في سوق السمك في بيروت، وكانت جدّتي في الضيعة. وقرّر، ومعه الحاج محمّد جنيدي، أن يذهبا إلى "السوق العمومي" ـ "سوق الشراميط" وحدّدوا ساعة الصفر بعد المغرب عندما يحلّ الليل، حتى لا يراهما أحد من المعارف. وكان جدّي يلبس ثياباً بالية وسبّاطاً "بهدلة" ولا بنود له. ودخلوا السوق. وبدأ الشجار بينهما. جدّي يريد أن "يركب" مِن "تبع النصف ليرة" باعتبارها أصغر سنّاً، والحاج جنيدي يريد أن يذهب لعند "تبع الربع" أي الأكبر سنّاً وكلّ واحد منهما متنتر بضاعته أمامه. وبينما الشجار مستمرّ لم ينتبها أن وراءهما أحد الشرطة يحمل كرباجاً ويسمع كلّ شىء، فقال لهما: "بدلْ ما تدفعوا كلْ واحد نصف ليرة أو ربع ليرة للشراميط روحوا اشتروا ثياب وسبابيط"!. ورفع عليهما الكرباج، وتمكّنا من الهرب أخيراً. وكما تعلم، كانت هناك عادة عند أجدادنا عندما يتحمّمون، حيث تأتي الزوجة وتفرك ظهر زوجها وسط الإسطبل. ورأت جدّتي أثر الكرباج، فسألته عنه، فقال لها أنه من أثر العتالة والحبل!. ولكن بعد سنوات كثيرة اعترف بالواقعة وهو يضحك".
شوقي.. بجمعه لهذه النوادر كان جريئاً وصادقاً لأبعد حدّ، كونه يعيش في بلاد تخطت ثقافتها المحجوب من الكلام، وأصبح كل شيء عندها حلال، ولهذا شدني أسلوبه السلس المرح الى قراءة الكتاب عدة مرات.. وأتمنى أن يحذو البعض حذو شوقي مسلماني ويحفظوا نوادر وطرائف أهالي قراهم كما حفظها هو، فلقد كان السبّاق الى ذلك، وما علينا سوى التشبّه به.
حماكم الله يا أبناء "كونين" كم أنتم لطفاء وظرفاء.. وشرفاء. وألف شكر لك يا أخي شوقي فلقد أسعدتني بكتابك.
**
عرق وشعر مهضوم
قديماً كنت أسمع جدي، رحمه الله، يقول: الشعراء أكرم مخلوقات الله وأذكاها، ولم أكتشف ذكاء وكرم مخلوقات الله هذه إلا الأسبوع الماضي، عندما تلاعب بأعصابي أربعة شعراء مهجريين ومحبّ واحد للشعر، وكأنهم اتفقوا فيما بينهم على ترويضي شعرياً. فلقد جاؤوني بقنينات العرق التي وعدوني بها بطريقة لا يصدقها عقل.
أول الداخلين الى مكتبي كان الشاعر جورج منصور وبيده قنينة عرق مكتوب عليها ردّة زجلية ما أن قرأتها حتى اكتشفت أنني ضحية مؤامرة شعرية حاك خيوطها عصام ملكي وجورج منصور وحنا الشالوحي وطوني حنا النسر وانضم اليهم صديق الشعراء الياس نخّول، والردة تقول:
قنينة ل عرقاتها بعدُن جداد
لو جيت يا شربل تحلّ رموزها
ما فيك تقشع صورة حباب البعاد
إلاّ بعد ما تطبها ع بوزها
وقبل أن أطبّها على بوزها غادر جورج مكتبي ليدخله الصديق الياس نخّول وبيده قنينة عرق "مخمّسة وليست مثلثة" على حدّ قوله، مكتوب عليها أيضاً ردة زجلية تقول:
يا شربل دقّ الناقوس
ما زالو دينك ديني
نعمة تالوت القدّوس
باعتلك بالقنينه
فصحت بأعلى صوتي:
ـ حتّى أنت يا الياس؟
فما كان منه إلاّ أن باسني وقال:
ـ يحق للياس نخول ما لا يحقّ لغيره.
وبعد ساعات فقط وصلتني من الشاعر طوني حنا النسر قنينة عرق ذات "وجهين ولسانين" كتب عليها هذه الردة النسراوية، التي ما زلت أغوص فيها لأفهم معانيها وبأي الأصابع يجب أن أبارك عرقاتها، قال، لا فض فوه:
يا شربلنا عا المكفول
باعت عرقات زماني
بإيدك أهلا وسهلا قول
وباركهم بالنصّاني
وما أن انتهيت من قراءة الردة "النسراوية" حتى وصلتني قنينة عرق رابعة من الشاعر حنا الشالوحي، فلم أرَ من بعيد أية كتابة على القنينة، فشكرت الله على تعاطف صديقي حنّا معي، وعدم إحراجي أمام القراء، ولكني ما أن حملت القنينة حتى رأيت ورقة صغيرة مكتوب عليها:
عرقاتي كلّن ينسون
وكل الفضل لديّاتي
ان كنّو عنهم مش ممنون
بيطلع موّال خواتي
وقبل أن يطلع موّال "خوات" حنا، طلع موّال "خواتي" أنا، فلقد أنهيت نهاري بزيارة مفاجئة خصّني بها الشاعر عصام ملكي، بدون موعد سابق، وكأنه يريد أن يفهمني أن اللعبة الشعرية لن تنتهي إلا إذا أنهاها هو، فما أن سلّم علي باليد اليمنى حتى ناولني باليد اليسرى قنينة عرق صنع "مالطا" مكتوب عليها ما يلي:
عرقات يا شربل بدون مراوغه
من "مالطي" بالفعل عا قلبي عزيز
انشمّيت ريحتهم بدون مبالغه
بلمح البصر بتصير تحكي "مالطيز"
وبدلاً من أن أتكلم "المالطيزية" أو أن أفرح بكل هذه القنينات التي وصلتني رحت أحلش بشعري وأردد:
كيف بدّي ردّ الأشعار
وقدّامي شعّار كبار
غمروني بقناني كتير
وقالولي: فتّح.. وسكار
بعد هذا المقلب الشعري المفرح ألا تقولون قول جدي: ان الشعراء من أهضم وأكرم مخلوقات الله، فألف شكر يا شباب.. واجعلوها عادة.
**
محبّة الآخرين هي أثمن ما أملك
أعترف، أمام الله والناس، أنني كنت محظوظاً جداً خلال رحلتي مع الكلمة، فلقد غمرني الأدباء والشعراء بآلاف المقالات والقصائد التي تشيد بي وبأدبي، وهذا ما لم يحدث مع غيري بتاتاً، كما همس كبيرنا نزار قبّاني في أذني خلال إحدى مكالماتنا التلفونية بين سيدني ولندن قبل أن يتوفّاه الله، ويرحل عن عالم اشتاق طلته ورنة صوته ووهج أشعاره: أنت محظوظ يا شربل بمحبة الآخرين لك.
ومحبة الآخرين هذه، قد ترميك في كثير من الأوقات في دوّامة من الخوف تقضي عليك تماماً، إذ أن من واجبك رفع سقف عطائك كي لا تنحدر الى الأسفل، وتنحدر معك "محبة" جمعتها برموش عينيك، وحضتنتها داخل قلبك، فكيف تفرّط بها؟
ذات يوم، أقام الشاعر عصام ملكي مأدبة عشاء دعا إليها الشعراء والادباء وغيرهم، ولأنني لم أتمكن من مشاركتهم اللقمة الطيبة، والسهرة الأطيب، فتح هاتفه النقّال لينقل إلي ما يحدث، وليهديني هذه الأبيات التي أوحت إليّ بعنوان المقال:
شربل بعيني بكلّنا موصول
وما في حدا ما قال يا عيني
محبّة العالم حضرتو بيقول
أثمن ما يملك شربل بعيني
بعدها، كلمني الأديب عباس علي مراد، وأغدق علي من محبته الشيء الكثير، ثم تبعه الشاعر جورج منصور بهذه الردة المنصورية الرائعة:
يا شربل انت الزهره
العم منشمّ معانيها
قللي شو نفع السهره
وانت مش حاضر فيها
وكان "المنصور" قد أنعم عليّ بردة زجلية رائعة إثر نشري الحلقة الثانية من برنامج "عظيم من بلادي" الخاصة بابن بلدته "متريت" المرحوم رامز عبيد.. فقال:
يا شربل اللي الحب بيقلبك قَطَنْ
الشعّار ما كرّمت لو منَّك كريم
قاعد تفتّش ع عظيم من الوطن
وعند الحقيقه إنت شاعرنا العظيم
أما الشاعر الحبيب مارون طراد فقال:
بتدلق يا شربل شعر صافي منوحي
خالد على مرّ الزمن ما بينمحي
مع كل طلّه في إلك موقف عظيم
شاعر خيالي وإرتجالي ومسرحي
وما ان انتهى مارون حتى أطلت الدموع من عينيّ، وصوت كل من كان في السهرة يصيح:
ـ كاس شربل بعيني
ألا توافقون معي لو قلت: محبّة الآخرين هي أثمن ما أملك.. بلى والله.
**
إطمئنوا.. أنا بخير
وصلتني رسالة إلكترونية من الاعلامي الصديق أكرم برجس المغوّش طيّرت النوم من عينيّ، وجعلتني أخضع لفحوصات طبية لها أول وليس لها آخر. والرسالة تقول:
اخي الحبيب استاذ شربل الغالي..
انت بالطليعة وفيك مسحة قداسة، وقد جاء اسمك على مسمى، متقاربا ً مع القديس العظيم شربل، مباركا ً ذكره، حفظك الله، واطال بعمرك، واعماركم جميعا ً اخوة أعزاء، ورحم الله الاهل والحبيب مرسال.
اطيب السلام..
اقول لك ذلك من كل قلبي لانني في كل يوم اكتشف فيك الأشياء الاجمل، وليلة امس شاهدتك بمنامي الى جانب السيد المسيح والنور يشع منك. وعلى الفور استيقظت الساعة الرابعة الا ربع صباحاً، بعد ان رأيت النور في غرفتي، ولم أعد الى النوم، وانا بغاية السرور.
مبارك اخي الحبيب شربل من الله والسيد المسيح وأمه العذراء العظيمة والقديس العظيم شربل، ولو كان بإمكاني تصوير ما شاهدت لعملت أعجوبة، وما زلت بغاية سروري وبهجتي اخي الحبيب شربل، انت مبارك من الله، اطيب التحيات والسلام.
الى هنا انتهت الرسالة ليبدأ وجع الرأس، والتكهنات المخيفة التي لا نهاية لها.
ـ اذا كان أكرم قد بصرني بنومه الى جانب السيد المسيح، فهذا يعني أن نهايتي قد قربت. أكيد سأموت.
ورحت أتصل بأفراد عائلتي، فرداً فرداً، وأسمعهم أجمل كلمات الوداع، واطلب منهم أن يترحّموا علي، ويسامحوني اذا أخطأت بحقهم.
وما كنت أسمع منهم سوى جملة واحدة تقول:
ـ أكيد جنيت..
أما الأطباء الاخصائيين الذين زرتهم فلا حصر لهم، فلقد كنت أتنقّل كالمجنون من عيادة طبيب القلب، الى عيادة اخصائي السرطان، الى مختبر فحص الدم، وكانت النتائج تأتي سليمة، وكان الكل يربّت على كتفي ويقول:
ـ أنت كالحصان.. ستعيش مئة سنة.
وما كنت أصدقهم، وكيف أصدّقهم، وأخي أكرم المغوّش شاهدني برفقة السيد المسيح، الذي جاء ليأخذني من عالم الفناء الى عالم البقاء.
والعجيب بالأمر، أن معظم الذين أخبرتهم عن الحلم الذي شاهده أكرم، هزّوا رؤوسهم تعجباً وصاحوا:
ـ درزي! ويظهر عليه السيد المسيح الذي لم يظهر علينا نحن المسيحيين، هناك ألف سين وجيم يا شربل.
وعندما أخبرتهم بعجائب مار شربل الكثيرة مع إخواننا الدروز، لفّهم الصمت وبانت على وجوههم علامات التعجّب والخوف.
إذن، أنا بخطر، وبما أن الأطباء لم يجدوا بجسمي مرضاً، قررت أن لا أركب السيارة، ولا الطائرة، وأن لا أمشي على أرصفة الطرقات، وأن لا أستقبل غريباً لوحدي مخافة اغتيالي.
وأخيراً، قررت أن أنام باكراً، علني أحلم أن أخي أكرم برفقة القديس شربل، كي أتخلص منه ومن أحلامه ورسائله المخيفة.
يقول أكرم، أنه بغاية البهجة والسرور لأنه شاهدني برفقة السيد المسيح، فهذا يعني أن لا خطر عليّ، وإلا لاسودت الدنيا في عينيه نظراً للصداقة القوية التي تربطني به.
إطمئنوا.. أنا بخير.
**
درزي منذور من مار شربل
منذ عدة أيام، جاءني الزميل أكرم المغوّش، وشرارات الغضب تتطاير من عينيه، فخفت منه للوهلة الأولى، ولكنني، وبسبب معرفتي الحميمة به، تجرأت وسألته:
ـ ما بك يا أكرم؟
فتطلّع بي ملياً وقال:
ـ الجالية بدأت تتعبني..
ـ كيف؟
ـ ليس بإمكان أحد أن يرضيها.
ـ ألهذا أنت زعلان؟
ـ ما هذا؟!.. ألا يوجد غيري في الواجهة؟
ـ أخبرني.. ماذا حصل؟
ـ لأنّي كتبت عن المطرب راغب علامة.. قالوا: راغب درزي!
ـ بسيطة..
ـ ولأني كتبت عن احسان منذر.. قالوا: إحسان درزي!
ـ ولا يهمك..
ـ كيف ولا يهمني؟.. بحياتك لا تكهربني.
ـ طيب.. راغب وإحسان ليسا من الدروز.. أليس كذلك؟
ـ ولكن فيهم شرش درزي..
ـ يعني دروز..
ـ قلت لك: لا تكهربني..
ـ هات.. أكمل..
ـ قالوا: أكرم لا يكتب إلا عن شخصيات درزية.
ـ لأنك درزي أصيل..
ـ يا أخي، أنا أكتب عن الجميع.. أنا لست طائفياً، ولا يمكنني أن أكون طائفياً، لماذا؟ لأنني لا أدري، بعد موتي، إلى أية طائفة سأنتسب. بعد التقمص قد أصبح "مارونياً"، جائز والله. ولمعلوماتك.. البارحة أجريت مقابلة مع فؤاد نمّور.
ـ لا تقل لي انهم قالوا عن فؤاد نمّور درزي.
ـ لا.. قالوا عنك أنت..
ـ أنا؟!!
ـ عندما اتهموني بالكتابة عن الدروز، ذكرت اسمك أنت..
ـ وماذا قلت؟
ـ قلت لهم: كي تتأكدوا انني غير متعصّب، أكثر انسان كتبت عنه كان شربل بعيني.
ـ عظيم..
ـ بلا عظيم بلا بلّوط.. آه لو تدري ماذا قالوا.
ـ وماذا قالوا؟
ـ قالوا: شربل بعيني درزي ونصف..
ـ قل لهم: اسمه شربل.. ولا أحد يسمّي أطفاله بهذا الاسم سوى الموارنة.
ـ يا أخي.. قلت لهم: اسمك شربل..
ـ عال..
ـ قالوا: قد يكون أهله الدروز نذروه من مار شربل!
هنا، انفجرت ضاحكاً ورحت أردد:
يا أكرم مش حرزانه
نرجع نخلق من تاني
رح اعمل درزي ع شرط
تعمل انت "موراني".
**
شاعر السوشي والكدّوشة
دخل الى مكتبي شخص لم أره من قبل، فصاح حين شاهدني:
ـ الحمد لله لقد وجدتك!
فقلت وأنا أتفحصّه من فوق الى تحت كي أتذكر من يكون، خاصة وقد بدأت ذاكرتي تخونني في خريف العمر. ولكنه، والحمد لله، لم يدعني أفكّر كثيراً، بل قال:
ـ أنت لا تعرفني، ولكنني أعرفك من خلال كتاباتك، لذلك جئت أطلب مساعدتك.
ـ تفضل، قل لي ما تريد.
ـ لقد كتبت مطلع أغنية أكثر من رائع، صدقني سيعجبك، ولكنني لم أتمكن من كتابة باقي المقاطع. هل لك أن تساعدني؟
هنا، بدأت الفرحة تجتاحني، كيف لا، وأنا أقف قبالة شاعر جديد لم أسمع باسمه من قبل، وقد أكون أول من يكتشفه، فقلت له:
ـ تفضل، أسمعني.
فصاح بأعلى صوته، ويداه تجوبان الفضاء بحثاً عن الموجات الصوتية:
ع السوشي السوشي السوشي
أنا بحبّك مطووشه
بوّست بنات الجيران
وما لحقني طرطوشه
وراح يشرح لي أن "السوشي" أكلة يابانية يتناولها الجميع في كافة بقاع الأرض. أما كلمة "طرطوشة" فتعني أنها لم تحصل منه على قبلة ترطب شفتيها الظامئتين. وفجأة ذبّل عينيه، ومطّ شفتيه وقال:
ـ أتمنى لو أضفت مقطعين للأغنية كي نهديها الى الفنان اسماعيل فاضل، فلقد أعجبتني أغنيته الأخيرة "بغداد أنت حبيبتي" وخاصة حين يقول:
قسماً بحبّك إن تكحّل موطنٌ
إلاّ بدمع العين لن تتكحلي
وقبلها رائعته "يا مصر"، التي أعجبني فيها هذا البيت:
لو باحت الأهرام بالحب النقي
لعلمت أن القلب لم يرحلْ معي
ومن يدري فقد تلاقي أغنيتي الرواج أيضاً. آه لو تعلم يا أستاذ كم أخذني من الوقت حتى آتي بهذا البيت الذي قد يضاهي جميع أبياتك الشعرية:
بوّست بنات الجيران
وما لحقني طرطوشه
بربك، هل سمعت من قبل شعراً رائعاً كهذا، كل ما ينقصني مقطعين فقط وسألهب الأرض بأغنيتي.
ومن دون أن أنظر إليه كي لا تفضحني ابتسامتي الساخرة، قلت:
ـ خذ المقطع الثاني:
أنا بنيّه مغشوشه
فردّي بدّو خرطوشه
حابّه قدّام الجيران
قوّص إبن المحلوشه
وما أن انتهيت من القاء المقطع حتى حملني وراح يدور بي في أرجاء المكتب وهو يصيح:
ـ عظيم، عظيم، هذه هي عاداتنا الشرقية، نطلق النار على كل من يرمينا بنار الغيرة، والله والله أنت شاعر كبير. ليتك تتحفني بالمقطع الثالث كي تكتمل الأغنية.
ـ أنا تحت أمرك. خذ المقطع الثالث:
شعرك متل المنقوشه
أو شي أكلة مرشوشه
كل ما يكدش منّو حمار
بيتشردق بالكدّوشه
ومن دون أن يتلفظ بحرف واحد، فتح باب المكتب وولّى هارباً، وأنا أركض خلفه وأصيح:
ـ لم تخبرني ما اسمك.. ألا تريد أن تسمع المقطع الرابع؟
ع السوشي السوشي السوشي
شعرك طبله مبخوشه
كل ما تطبل فيها قول:
طوشي يا دنيي طوشي
**
الجواهري والوفاق ومأزقي بينهما
رنّ جرس التلفون، ولا أقول الهاتف، لأن هذه الكلمة أصبحت غير مفهومة عند البعض من أبناء الجالية الذين شدّوا أحناكهم الرخوة بمسامير جديدة مأنكلزة، ومطلية بماء الذهب. وكان على الخط الصحفي فرناندو فرنسيس الذي هتف لدى سماع صوتي:
ـ أين أنت يا أخي؟ أسرع نحن بانتظارك.
فأجبت:
ـ أنا آتٍ حالاً.
أقفلت باب بيتي بعجلة ظاهرة ولسان حالي يردد:
ع وجّو بلاقي الاخلاص
الما في قبلو ولا بعدو
قنديل عمري لولا ناص
ضوّوا ضحكة فرناندو
وما أن جلست وراء مقود السيارة حتى عاد جرس التلفون الى الرنين مرة ثانية، جعلتني أنطلق الى داخل البيت كمركبة الفضاء الاميركية السيئة الطالع "تشالينجر".
ـ ألو..
ـ هذا أنت؟ الحقني الى المطبعة.
ـ من.. الاستاذ كامل المر؟.
ـ أيوه، كامل.. أنا أكلمك الآن من البيت. أرجوك أن تسبقني الى المطبعة. فرناندو ينتظرك هناك أيضاً.
ـ خير إن شاء الله.. ماذا يحدث؟ هات أخبرني.
ـ هناك تحدٍ بينك وبين أحد الشعراء لاختيار أجمل تعليق شعري على صورة غلاف مجلة "الوفاق" التي ستصدر هذا الاسبوع.
ـ ومن هو هذا الشاعر؟
ـ انت تعال، وبعدها نتكلّم.
ـ حاضر..
ولست أدري كم كنت محظوظاً، يومذاك، لعدم التقائي ببوليس سير، لأن السرعة التي قدت بها سيارتي لا تصدّق. ناهيك عن الهواجس الكثيرة التي بدأت تراودني طوال الطريق:
ـ من يكون هذا الشاعر الذي سأتحداه؟ هل هو نعيم خوري؟ معاذ الله، فنعيم أستاذ الجميع وشاعر فذ. هل التحدي سيكون باللغة الفصحى أم باللهجة العامية؟.
أنوار مطبعة دار الثقافة ـ غرانفيل مشعة على غير عادتها أثناء الليل.
ـ من يوجد بالداخل؟ بإمكاني أن أرى فرناندو فرنسيس، فأين الشاعر اذن؟
صرت أتساءل وأنا ألف وأدور بسيارتي حول البناء، بشكل تجسسي قل مثيله في الدول العربية جمعاء، وبعدما وصل كامل لوحده، اطمأن قلبي قليلاً، فدخلت.
ـ مساء الخير يا جماعة..
ـ أهلا، أهلا..
ـ عجيب والله أمركما.. ماذا تريدان مني؟
ـ نريدك أن تعلّق على صورة هذه الفتاة الصغيرة ببيتين من الشعر، ونحن سنختار الأفضل.
ـ وكيف ستختاران ولا منافس لي؟
ـ لا يا شيخ، هناك منافس كبير. إقرأ.
إني ليخنقني الأسى ويهزني
ما لاح طفل يحتبي وغلام
علماً بأن دماءهم ليست لهم
وبأنها للطامعين طعام
ـ يا ساتر!
ورميت الورقة المعطاة لي أرضاً، ورحت أعدو خارجاً، وأنا أصيح:
ـ أنت مجرم يا فرناندو.. أتريدني أن أتحدّى الجواهري؟ أتجرني من بيتي ليلاً لتطلب مني المستحيل؟. أما انت يا كامل، فيا ضيعان الشعر الذي قلته فيك:
انت احلى من الحلو يا مر
يا كامل العقل الرزين الحر
يللي اذا خرطشت كلمه ع الورق
بيغار من رهجة حلاها الدر
وأعتقد أنهما شعرا بنوبة الجنون التي انتابتني، فبقيا مبتعدين عني قدر المستطاع، الى أن وصلت الى سيارتي، فناداني كامل قائلاً:
ـ لولا ثقتنا بك ما طلبناك.
وأردف فرناندو:
ـ جرّب يا شربل جرّب. فنحن معك، والله معك.
بلّعت بريقي عدة مرات قبل أن أجيب، ومسحت العرق المتصبب من جبيني وقلت:
ـ طيب، ولكن لي رجاء..
ـ وما هو؟ صاحا بصوت واحد.
ـ أن تحضرا لي كبّاية ليموناضة.
وضعت صورة الغلاف أمامي، ورحت أحدّق بالطفلة البريئة التي تغمر رجليها مياه البحر، وترفع يديها في الهواء، كطائر صغير هبط من السماء، ليبلل جناحيه بعدما تطاولت عليهما أشعة الشمس وأحرقت ريشهما بشدة.
ـ ماذا تريد أن تقول هذه الفتاة؟ ربّاه أنقذني.
وما هي إلا دقائق معدودة حتى بدأ الالهام يأتيني، والنعمة تحل علي، والقلم الخائف يتراقص بين أصابعي، ليخط هذين البيتين:
البحر يندهني، فهل من مانعٍ
أن يرتميْ الاطفالُ بالأحضانِ؟
قد حوّلوا الدنيا جحيماً حارقاً
والطفل لا ينمو بغير حنانِ
وصدقني، قارئي، لو قلت كلمة السر "يوحنا" التي نطق بها "زكريا" والتي أعتقت لسانه من قيود الخرس، ما كانت لتلاقي التجاوب والارتياح عند محبيه، كما لاقت أبياتي هذه. فصاح كامل:
ـ رائع، رائع..
وصاح فرناندو:
ـ عجّل اكتبها..
وصحت أنا:
ـ أريد أن أنام.. أريد أن أنام.
**
زوجة الرئيس علي بزي
عندما زرت الدكتور علي بزّي في المستشفى، للإطمئنان عن (قلبه) الكبير.. وجدت المئات من باقات الأزهار التي تحيط به من كل جانب.. ووجدت الناس يقفون بالصفّ للدخول إلى غرفته، ومحظوظ من يلمس يده مصافحاً.
دقيقة واحدة فقط، بقيت في غرفته. أحسست بعدها أن عليّ الخروج كي يدخل الآخرون.. وما أكثرهـم. إنهم أحبابه، ثروته، جنى عمره.. إنهم أغلى الغوالي.. زرعهم بمحبته، وحصدهم بمرضه. لذلك لـم يتركوه لحظة، إنهم حوله ليل نهار.. أزهارهم بأيديهم، وابتساماتهم على وجوههم.. فكيف لا يبرأ بسرعة متناهية من تجمّعت حوله ملائكة الأرض والسماء.
كنت أعتبر نفسي مغالياً في حبّي للدكتور علي.. فإذا بي أجد أن حبّي لا يساوي قطرة من بحر حب الناس، كل الناس، له.. فتطلّعت به وأنا أتمتم:
يا علي.. محبّة هَـ النّاس
هيّي المجد.. وهيّي النّورْ
قلبك، عَ شكلك، حسّاس
سلامة قلبك يا دكتُورْ
هذا كان من سنوات، أما الآن فالدكتور علي جاري، بين شقتي وشقته عشر درجات وباب مفتوح على مصراعيه.
وبما أننا جيران البحر، فلقد تحوّل الجار من طبيب أسنان إلى صياد سمك، وبدأ يحمل بدل الصنارة صنانير، وبدأت رائحة السمك المقلي تعطّر البناية، وبدأت أنا بالتأفف، كيف لا والصيد يسرق جاري مني دون أن أبل ريقي بسمكة واحدة. فقلت له:
ـ لم أكن أدري يا دكتور أنك عدو للبيئة.
ـ خير إن شاء الله.. ماذا فعلت؟
ـ إنك تصطاد السمك.. وتشوّه البيئة.
ـ ما رأيك لو دعوتك الليلة إلى عشاء بحري طازج.
ـ موافق..
ـ والبيئة..
ـ بعد أكلة السمك نتكلم عنها..
ولا أذيع سراً إذا قلت إن دكتورنا العزيز ترأس مجلس الجالية اللبنانية في أستراليا، ومتزوج من سيدة سورية ولا أنعم، ضحكتها لا تفارق ثغرها، اسمها "اسمهان"، صوتها جميل حقاً، لا ينقصه سوى "فريد أطرش" جديد ليطلقه في عالم الطرب.
السيدة "أسمهان"، والحق أقول، كانت ضد ترشّح دكتورها لرئاسة المجلس، ولقد أخبرتني بذلك بينما كنا نتمشّى على شاطىء بحيرة "تاغرا"، فالتفت إليها وقلت:
ـ لماذا أنت ضد الرئاسة؟
ـ لأن زوجي ليس بحاجة لمركز.. إنه دائماً وأبداً العظيم بين قومه.
ـ ولكن مربحك سيكون كبيراً متى انتخب رئيساً.
ـ وما هو مربحي؟
ـ ستكونين أول زوجة سورية لرئيس لبناني في عالم الاغتراب.
هنا، أطلق الدكتور علي لضحكاته العنان، وراح يردد:
ـ شربل معه حق.. سأترشح وسأنجح بإذن الله.
وبعد الرئاسة، رحت أضرب السلامات العسكرية، كلما التقيت " برئيستنا" السورية، احتراماً وإجلالاً لمركزها الجديد، وكانت ترد سلاماتي بالمثل، حتى خلتها قد خضعت لتدريبات عسكرية صحيحة.
أسمهان لم تتغيّر، المركز لا يعني لها شيئاً، كانت عكس امرأة أخرى عرفتها، ما أن انتخب زوجها "رئيساً" لتجمّع من خمسة أشخاص، حتى انقلبت رأساً على عقب، وأصبحت ترفض أن نناديها إلا " بزوجة الرئيس".
فإلى أسمهان الصديقة أقول:
مَرْت الريِّسْ سُورِيِّه
رح قَدِّمْلا غِنِّيِّه
تْغنِّيها بْغابات الأرزْ
أَرْزِتْنا اللبْنانِيِّه
**
سرقوا صخرة الروشة
جن جنوني عندما وقفت لآخذ صورة تذكارية عند صخرة الروشة ولـم أجدها!.. بل وجدت أبنية تنكيّة كريهة كوجوه مستثمريها، تحجب الرؤية وتشوّه أجمل منظر منحه اللـه لمدينة الحقوق والحكمة بيروت.. فطلبت من ربي أن يمنح المسؤولين الحكمة، كي يردوا لبيروت حقوقها الجمالية؟
وكمجنون فالت من مستشفى العصفورية صحت بصوت عالٍ:
ـ أين صخرة الروشة؟
فما كان من إبن خالتي جوزاف زخور إلاّ أن ربّت على كتفي قائلاً:
ـ خفّف عنك، الصخرة موجودة ولن يقتلعها أحد من مكانها غير الله.
ـ وأين هي؟
ـ خلف هذه السطوح التنكية..
الدول الحضارية في العالـم أجمع تحمي الجمال العام بكل قوّتها، وخاصة البحري منه، فنجدها تمنع البناء كلياً بالقرب من الشواطىء كي يتمكن المواطن العادي، كمحسوبكم، من التمتع بمنظر طبيعي خلاّب.. كصخرة الروشة مثلاً.
أنا لا يهمني المكان الذي بإمكاني أن أرى منه الصخرة، بل يهمني أن أراها من كل مكان أقف به لتكحيل عينيّ بمنظرها الرائع الجميل.
قبل القضاء على الفساد الإداري، يجب القضاء على الفساد (التعميري) الذي يقضي قضاء مبرماً على جمال الطبيعة اللبنانية.. ولا عجب إذا سمعنا، في يوم من الأيام، أحد المطربين يصيح:
تنكات ع مد النظر
عم ينوجع منها النظر
بدلاً من:
جنّات ع مد النظر
ما بينشبع منها نظر
أتمنى أن أعود إلى لبنان وأجد صخرة الروشة عارية تماماً، كما خلقها اللـه، لأحضنها بناظريّ.. وأرحل.
**
مسيلمة العصر الحديث
عندما قرأت أنني سأكون الثاني على قائمة ردوده العملاقة، كطائرات الجامبو ـ جيت الحديثة، حتى بدأت أدخل الحمّام وأخرج منه ألف مرة بالدقيقة، فاستدعيت أحد الأطباء الأصدقاء، وبعد الفحص الدقيق، أخبرني بأنني أعاني من نوبة خوف شديدة، وأن حالتي تدعو للشفقة، فلا قلبي ينبض، ولا حواسي تتحرك أو تشعر، وأن عليّ أن أبتعد عن كل ما يمت إلى الدين بنسب، ولو كان كاذباً، كوني أهذي كالمجنون. ومنعني أيضاً من التهام الفستق، وخاصة الحلبي منه، إلى أن أتخلص من مرض الإسهال الذي أصابني من جراء الخوف. كما نصحني بعدم ترديد المثل القائل: من طلب العلى سهر الليالي، إذ أن العلاء، في هذه الأيام التعيسة، أصبح من الخرافات، وأن عليّ أن أخلد للراحة وأمتنع عن الكتابة.
وكيف أمتنع عن الكتابة؟! ومسيلمة العصر الحديث، يدق على بابي، يسدي إلي النصح، ويتعب قلمه ويفرغ عقله من أجل الرد علي، أفلا يحق لي أن أرحب بوحيد قرنه، وسابق زمانه، وعظيم أمته؟ أفلا يحق لي أن أفتح له الباب وأصرخ بأذنيه المأرنبتين لالتقاط الإشارات الإلحادية والجنسية، بغية الرد عليها بأدب، ما بعده، ولا قبله، ولا فوقه، ولا تحته أدب. إنه الأدب المتدين، المتمسكن والمتمكن من كل شيء.. ما عدا الحقيقة.
لست أدري لماذا تذكرت تلك القصة التي أخبرنا إياها الشاعر اليمني محمد الشرفي، عندما زارنا في أستراليا، فلقد قال في بداية الأمسية الشعرية التي أقمتها له في منزلي: أن داعية دين كان يأتي إلى قريته من أجل تأديب الأطفال الصغار، وتعليمهم الحشمة ومكارم الأخلاق، وكان عند الإنتهاء من دروس التقى والزهد، يمر على حظيرة ربط بها صاحبها دابته (جحشته ـ حمارته)، فكان يمارس معها الجنس، ويكمل طريقه إلى قرية ثانية من أجل نشر الإيمان والتقوى والفضيلة والبعد عن المنكر. وصدقوني أنني ما زلت أحتفظ بتسجيل صوتي عن تلك الأمسية، كما أن صاحب القصة ما زال حياً يرزق.
ولست أدري لماذا تذكرت قول السيّد المسيح: اسمعوا كلامهم ولا تفعلوا أفعالهم، لأن معظم رجال الدين أو المتمسحين به، مسلمين ومسيحيين، يفعلون، دائماً وأبداً، عكس ما يتقولون ويكرزون، وإلا لما طردت الدول المشايخ، وامتلأت بطون السجون بقلنسوات الأساقفة والكهنة الذين ارتكبوا الفحشاء مع أطفال صغار.
كيف لا أخاف، ومسيلمة العصر الجديد بدأ يتنبأ، وينوب عن الله بالكلام، ويعرف من أنطق ومن لم ينطق، فهللي أيتها الأمة العربية هللي، ها هو يتلقى الوحي من جبريل، ويعلن للناس أن الله أنطقني، بدون معرفة أو إدراك مني: أن الحرية حشمة وفضيلة وأخلاق وتربية واحترام وعبادة، لماذا؟ كي يأتي مشاكس (مثله) ويقول (للذكور) وليس (للأناث)، لأنه لا يكلم أنثى، ولا يتطلع إليها أو يصافحها، كأنها مصابة بالجرب: أن ما أنطقني الله به هو (معنى الحرية الحقيقية، ومن فمكم أدينكم). الآن.. أصبت بهزة حائط، وبقشعريرة خوف قوية، لأن (مسيلمة) سيدينني قبل أن يدينني الله، وما من كاتب أدين على أيدي المتدينين، منذ القرون الوسطى إلى القرون الحاضرة، إلا وكان مصيره الموت. فلا لقب (مفتينا الجليل) الذي أغدقه علي سيقذني، ولا (القول الحسن). لقد أدانني (ديّان العصر)، وانتهى أمري. ومن شدة خوفي رحت أضحك وأضحك من هذا المشهد الفكاهي المرعب.
كيف لا أخاف، ومتلقي الوحي لا يميّز بين وقوفي الصارم ضد إظهار الأعضاء التناسلية، وبين دعوتي لحجبها (بالبكيني) المدرجة تحت اسم ثياب البحر، والتي ترتديها الراقصات العربيات في الجاهلية والإسلام والعصر الحديث، وندعوهن لزفّة أعراسنا، وندفع لهن المال الحلال، دون أن ينعتهن جاهل بنعوت يخجل القلم من تردادها.
عندما نشرت ديواني البكر (مراهقة) عام 1968، قامت قيامة رجال الدين علي، واتهمني البعض منهم بالزندقة، وطالبوا بمنع الكتاب، حتى أن صاحب مجلة (الساخر)، وكان مستشاراً للرئيس الياس سركيس، دعاني لإلقاء قصائدي في مسرح فاروق (الفاجر)، ومع ذلك لم أخف.
وعندما نشرت ديواني الثاني (قصائد مبعثرة عن لبنان والثورة) عام 1970، هددت، وضربت، وسالت دمائي، واختبأت، وسافرت أو بالأحرى سُفّرت، ومع ذلك لم أخف.
وعندما أصدرت (مناجاة علي)، هددت أكثر من مرة، واتهمت بديني، وأرجعت إلي نسخات كثيرة، لأن أصحابها يعتبرونني خارج الإيمان المسيحي، ومع ذلك لم أخف.
وعندما أصدرت ديواني (قرف)، قامت القيامة علي، وحاولوا طردي من عملي، لأن من يكتب شعراً كهذا غير جدير برسالة التعليم، ومع ذلك لم أخف.
لقد كُتب عن أدبي أكثر من ألف مقال، وأكثر من دزينة كتب، وهاجمني البعض بقسوة ما بعدها قسوة، ومع ذلك لم أخف.
أما الآن فأنا خائف، لأن من يهاجمني يتكلم باسم الله، ويعرف أسرار الله، ومتى يوحي الله، ولمن يوحي الله، فوالله، وتالله، وبالله إننا نعيش بعصر النبوة الكاذبة.. وعصر الفتاوى الضاحكة، بالإذن من (البقرة الضاحكة)، وعصر سحق المرأة تحت أقدام الرجل، لأنها أجمل وأذكى مخلوقات الله.
**
الكورونا اللعين
سأشكر الله الف مرة كوني أعيش لوحدي في سيدني أستراليا في زمن وباء "كورونا" اللعين.
فإذا كنت انا صاحب الفم الواحد، والبطن الواحد، والقفا الواحدة، ليس بإمكاني أن أحصل على كل ما يلزمني من المحلات التجارية، فكم بالحري رب العائلة الذي يعيل زوجة وعدة أطفال.
حرب "الكورونا" أطلقوا عليها حرب "تنظيف القفا" أو "ورق التواليت"، ولكنهم تناسوا أن "الملح" الذي نبّه السيد المسيح منه حين قال"إذا فسد الملح فبماذا يملّح"، لم يعد موجوداً كي يفسد، فبعد زيارة عدة محلات تجارية في منطقتي لشراء كمية قليلة من الملح، لم أجد غير الاسم على الرفوف، وعبارة "آسف" تنطلق مسرعة من أفواه أصحاب المحلات التجارية، فصرخت بأعلى صوتي:
ـ اسمح لي يا يسوع أن أتلاعب بعبارتك وأقول "إذا فقد الملح فبماذا يملّح".
فبعد أن وحّد وباء "الكورونا" البشرية بالموت والخوف والجشع، وجب على جميع الشعوب أن تقف بوجه حكامها الفاشلين المجرمين وتطالبهم بتحويل ميزانيات شراء الأسلحة الفتاكة الى بناء المختبرات والمستوصفات والمستشفيات وما شابه بغية محاربة ما قد يستجد من أوبئة قد يقفون عاجزين عن محاربتها كما يحصل الآن.
إذا كان بإمكان القنبلة الذرية أن تخلصنا من هذا الوباء أنا أوافق على ضربها.
إذا كانت الصواريخ الباليستية وغيرها قادرة على تدمير "الكورونا" أنا أرحب باطلاقها حالاً.
جميع أسلحتكم المدمرة أيها الحكام الجهلاء وقفت عاجزة أمام وباء واحد.. رغم انها فتكت بملايين الرجال والنساء والاطفال حول العالم.. تماماً كالأوبئة وما زلتم تتباهون بها.
لعنكم الله.. ولعن كل شعب سيقف صامتاً من الآن فصاعداً أمام إجرامكم.
**