كيف أينعت السنابل؟

 
قصائد ديوان "كيف أينعت السنابل؟" بصوت الشاعر شربل بعيني
الغلاف للفنانة رندى بعيني
**
مقدَّمة
بقلم الدكتورة سمر العطّار

ـ1ـ
لوحة ناقصة لمهاجر لبناني
   تخيَّلتُ شربل البعيني، شاباً في العشرين من عمره يترك قريته مجدليا في شرقي طرابلس تحت جنح الليل متوجهاً نحو بيروت في ليلة باردة من ليالي كانون الأول عام 1971، وفي يده حقيبة سفر، وتحت إبطه علبة بيضاء فيها حذاء جديد لـم يلبس. كان يشعر بمزيج من الرهبة والفرح. لن يطوله أحد في آخر العالـم، فكَّر لبرهة، وأراد أن يضحك بصوت عال، لكنَّه ما أن تخيَّل خوري القرية وهو يطرق الباب على بيته ليلاً ويهمس شيئاً في أذن أمِّه حتى تملَّكه الخوف من جديد.."سيرمونه في البئر" قال الخوري محذّراً.
وعذَّبته أشباحُ مطارديه، لا لشيء، إلاّ لأنَّه لـم يفهم ماذا فعل. فهو لـم يقتل ولـم يسرق احداً.... "سد بوزك" قالوا في رسالة شفويَّة أرسلوها له مع الخوري.. هذا "البوز" اللعين لكم سبَّب له وللشعراء في بلاده متاعب لا أوَّل لها ولا آخر.
لماذا يموت وهو في ريعان شبابه؟. تساءل ألفَ مرَّة. لـم يكن قد أتمَّ البكالوريا بعد في مدينة طرابلس. وكان حلمه بأن يدرس الحقوق في الجامعة.. وبأن يصبح محامياً الى جانب كونه شاعراً. فالمحاماة والشعر كانا في نظره متقاربين: كلاهما يدافعان عن الانسان المغلوب، وكلاهما يهاجمان الظلم ويطالبان بالعدالة، تلك التي افتدها كثيراً في بلاده.
قبَّلته أمُّه على وجنتيه ألف مرَّة. توسَّلَت إليه بأن يهرب، بان يهاجر. أعادت على مسامعه ما قاله الخوري لها.. "لا فائدة يا ابني" شدَّدت على الحروف "لا فائدة".
وهرب مؤقتاً إلى ضيعة في الجبل.. لـم يرَ أحداً هناك، ولـم يتكلَّم مع أحد.. وتـذكَّر تلك الليلة التي أتى فيها الخوري الى أمِّه . لَكَم كانت نصراً أدبياً له . دعته حركة طلاّبيَّة في طرابلس لإلقاء الشعر .. (وكان قد نشر كتابين "مراهقة" وهو باللغة العاميَّة ، وآخـر "قصائد مبعثرة عن لبنان والثورة " باللغة الفصحى). وقبل الدعوة، وكشاب وسيم في العشرين، وقف أمام حشد كبير من مـحبِّي الأدب ومتعاطي السياســة، وألقى عـدَّة قصــائد بعنـوان "يوميات مراسل أجنبي في الشرق الأوسط" هاجم فيها زعماء لبنان الإقطاعيين. وقوبلت القصائد، لا بالتصفيق فقط، وإنَّما بإطلاق الرصاص.. هذا الرصاص، الذي يطلقونه في لبنان إذا أحبُّوا أحداً أو كرهوه، إذا عبَّروا عن فرحهم أو غضبهم، وكأنَّهم يتسلُّون بدمية.. لـم يفكِّر كثيراً بهذا الأمر تلك الليلة. صحيح أنَّه ارتجف عندما سمع طلقات الرصاص. لكنَّ الفرح كان طاغياً عليه. لقد صار، هو القروي من مجدليّا، محطَّ الأنظار في عاصمة الشمال طرابلس، صار مشهوراً ولـم يتعدَّ العشرين.
لكنّ كلّ شيء تغيَّر عندما طرق الخوري على باب بيته ليلاً، وهمس في أذن أمّه:
ـ سَيَرمونه في البئر، ولن يعثر عليه أحد.
لَكَم بكت أمّه تلك الليلة.. لَكَم أَلحّت عليه بأن يهاجر إلى أستراليا، بأن يلحق بأخيه في سيدني. لا لَـم يعد هناك فائدة من البقاء في لبنان، قالت له، فلا شيء له قيمة.
في تلك الضَّيعة الجبليَّة، التي هرب إليها، ظلّ يفكِّر طويلاً بحياته وبمستقبله. ماذا يفعل الآن؟ وهل للإنتماء جدوى؟ كلّهم يؤمنون بحلول العنف: الّذين صفّقوا له، والّذين عادوه.
كان في بيته بنادق ومسدسات، ككلّ بيت قروي في لبنان. وكان أبوه يستخدم السّلاح في الصَّيد. لكنّه هو لـم يجرؤ بأن يلمس مسدّساً أو بندقيَّة. ولـم يكن يهمّه بأن يعيِّره الآخرون بالجبن أو بالخوف، فالحياة البشريّة، في عرفه، لا يمكن أن تقدَّر بثمن.
لـم يكن اتخاذ قرار بشأن الهجرة من لبنان بالشيء السَّهل. كان يودّ أن يبقى في بلده، أن يُتْرَكَ وحيداً في سلام. لكن أولئك الذين أحبّوه، وأولئك الذين كرهوه، أرسلوا له رسائل متضاربة. وشعر بأنهم لم يفكّروا به كإنسان. كان مجرَّد كرة بين أيديهم. أرادوا استغلال مواهبه أو خنقها. الّذين أحبّوه وضعوا اسمه في برنامج أمسية أدبيّة جديدة. وعندما رفض الإشتراك عيَّروه بالجبن، وقالوا له بأن ليس له مبدأ. والّذين كرهوه ظلّوا يرسلون له التهديد تلوَ التهديد.
وفكّر بأن يترك المدرسة في طرابلس إلى الأبد ، وأن يعمل في التّدريس الابتدائي. سيعيش منسيّاً في قرية ما، ولن يطارده الأحبّاء والأعداء. لكنّ الحصول، حتّى على وظيفة بسيطة في مدرسة ما، كان لا يتمّ إلاّ بتوصيّة من أحد زعماء المنطقة. ولأنّه لـم يشأ أن يهاجر من لبنان، فلقد حاول عبثاً أن يجد وظيفة في التعليم. وعندما قبلته مدرسة ما، قيل له بأنّه بحاجة إلى توصيَّة من زعيم. فذهب إلى أحدهم. ويبدو أن الزعيم قد فوجىء بسماعه للشاغر الموجود في المدرسة. كان من المفروض ـ في نظره ـ أن يعرف عن كل الشّواغر في منطقته!! ووعد الشّاعر بالمساعدة. ولكن في اليوم التّالي أُعطِيَت الوظيفة لأحد أزلام الزَّعيم.
لا مدرسة، ولا وظيفة، وأحبّاء وأعداء يطاردونه من كلّ جانب، والخوريّ يطرق الباب على أمّه ويقول لها بأنَّهم سيرمونه في البئر، وأمّه تقبّله ألف مرّة وتتوسّل إليه بأن يهرب. ماذا يفعل الآن هذا القروي من مِجْدَلَيَّا؟ لَكَم كان تعيساً لأنّه وُلِد في بلد إقطاعيٍّ، يحتلّ فيه الناس درجات معيّنة على السّلّم الإجتماعي. وأحلامه عن العدالة ، وعن دراسة القانون، لـم تكن إلاّ أحلاماً غَبِيَّة.
عندها فقط، بدأ يفكِّرُ جدّياً بأستراليا وبالرّحيل عن لبنان. وكانت أستراليا ـ على الأقل في أحلامه ـ بديلاً عن عالم الإقطاع والعنف.
وتقدَّم بطلب للهجرة ، وادَّعى بأنّه خيّاط. فأستراليا لـم تكن بحاجة إلاّ للعمّال المهرة. وكان أوّل سؤال سأله موظّف الهجرة الأسترالي أثناء المقابلة الّتي أجراها معه في بيروت:
ـ هل ستحارب في فيتنام إذا ما اضطرّت الحاجة؟
ولـم يتردد عندما أجاب بنعم. لا لأنّه كان يؤيّد الأمريكيين في حربهم القذرة، بل لأنّه كان يعرف أن الحرب موشكة على الإنتهاء، وبأن الفيتناميين سينتصرون في النهاية.
ـ ماذا تريد أن تفعل في أستراليا؟ سأله الموظّف بفضول.
ـ أريد أن أعمل وأن أبدأ حياة جديدة. قال له.
ـ وإذا ما جمعت ثروة، هل ستعود بها إلى لبنان؟ سأله الموظَّف وهو يتصنّع الإبتسام.
ـ لا، لا، قال "الخيَّاط" المهاجر: سأبقى في أستراليا.. سأصرف ثروتي هناك.
كان أخوه في سيدني قد كتب له كلّ شيء، قد لقَّنه الأجوبة. هذا "البوز" اللعين لـم يكن حرّاً، لا في لبنان ولا في غير لبنان. على المرء أن يقول دائماً ما يحبّ الآخرون أن يسمعوه. لكنّه، مع ذلك، تخيَّل في تلك اللحظة أنّه صار غنيّاً وحرّاً.
في مطار بيروت، وقبل أن يتّجه إلى الطائرة، خلع حذاءه القديم أمام موظِّف الهجرة الأسترالي، وأخرج الحذاء الجديد من العلبــة البيضاء التي كان يحملها تحت إبطه. لبســـه بســرعة.. (وكذلك فعل مئات المهاجرين اللبنانيين) ولـم يسأل أحدٌ عن السبب، ولا ما حلّ بمئات الأحذية القديمة في مطار بيروت. هل كان هنـاك قانون أستـرالي يحتِّم على القادمين الجدد من بلاد العالـم، أو من بلاد معيَّنة فقط، بأن يتركوا أحذيتهم القديمة في بلادهم، حتّى لا ينقلوا جراثيم بعينها للعالـم الجديد؟.
كان على عجلة. ولـم يشأ أن يستفسر عن شيء. أخوه كتب له منذ أشهر: "إشترِ حذاء ولا تلبسه حتّى يراك موظّف الهجرة الأسترالي في مطار بيروت." وسمع نفس القصّة من السّفارة الأستراليّة عندما تقدَّم بطلب للهجرة. كان يفكِّر بالثلاثين ساعة التي سيقضيها بين الجو والأرض، قبل أن يصل إلى سيدني. لَكَم اختار بلداً بعيداً عن العالـم! وانتابه الخوف فجأة.
وفي مطار سيدني بخّوه كما تُبَخُّ الحشرات. لـم يكن وحده في ذلك، بل بخّوا جميع المسافرين. وهكذا بدأت حياته الجديدة. كان عيد الميلاد على الأبواب. ولـم يكن قد رأى أخاه ولا عمّه المهاجرَيْنِ منذ زمن طويل. أقام بادىء الأمر عند أخيه. وكان قد تزوّج من أستراليّة ذات أصل لبناني، ورزق منها بطفلة. وخلال إقامته مع أسرة أخيه تعلّم الإنكليزيّة لمدّة ثَمانية أشهر، في مركز مخصص للمهاجرين، ووجد عملاً في معمل للحياكة DRI GLO   في FIVE DOCK  ـ سيدني. ولتسعة أشهر عمل من الثالثة بعد الظهر وحتى الحادية عشرة والنصف ليلاً. وابتدأت صورته كشاعر يقف أمام حشد من الناس تختفي تدريجيّاً من مخيّلته. وبالرغم من أنه كتب لمجلّة الدبّور اللبنانيّة، بادىء الأمر، شيئاً عن البلد الجديد الذي هاجر اليه، إلا أن وقته لـم يعد يسمح له بالكتابة الجادة. بالإضافة إلى أنّه وجد نفسه في مجتمع غريب، لا يتكلّم الناس فيه العربيّة ولا يفهمونها. ولـم يكن سعيداً في عمله. وذات يوم أوحت له زوجة أخيه الأستراليّة المولد بفكرة. كانت تستمع ليلاً نهاراً إلى أغنيّة واحدة لفيروز. وعندما سألها عن السّبب، قالت بأنّه لا يوجد غيرها في المدينة. كان في جيبه خمســون دولاراً فقط عنـدما ذهب إلى متجر WALTON في المدينة ، واشترى آلة صغيرة للتسجيل . ومن لبنان وصلته أغانٍ جديدة . فبدأ يسجّلها على أشرطة بطريقة بدائيّة، ويبيعها في الدكاكين العربيّة في منطقة  CAMPSIEومن هذه البداية المتواضعة نمت شركته "صوت الأرز". ونتيجة لذلك صار المغتربون العرب، لا في أستراليا وحدها، بل في المهاجر الأخرى يستمعون إلى أحدث الأغاني اللبنانيّة.
ولكنّ الشاعر فيه لـم يكن سعيداً دائماً. فالشِّعرُ والتجارة لا يجتمعان، وان كانت التجارة قد علَّمته كيف يصبح ناشراً وموزِّعاً لكتبه فيما بعد في المهجر. وعندما اندلعت الحرب الأهليّة في لبنان عام 1976، عاد للكتابة وأصدر ديوانه مجانين باللغة العاميّة. وأشرف هو بنفسه على تصوير الكتاب وبيعه في الدكاكين العربيّة التي تشتري أشرطته.
ولو لـم يكن متفائلاً لترك الكتابة إلى الأبد. لكنّه لـم يرَ نفسه كشبح دون ظلّ في المنفى. كان يعرف أنّه يعيش على هامش المجتمع الأسترالي كمهاجر عربي، وبأنّه يكتب لفئة قليلة جداً من النَّاس، بعضها لا يعرف القراءة والكتابة . ومع ذلك فلقد صمَّم بأن يكتب بالعربيَّة. كان يريد أن يصل صوته من المهجر إلى لبنان، إلى أولئك الذين أطلقوا الرصاص فرحاً في طرابلس، عندما وقف أمامهم كشاب في العشرين، وإلى أولئك الذين توعَّدوه وحلفوا بأن يرموه في بئر القرية. ولـم يشأ أن يكتب لطائفة أو لفئة ما. لـم يشأ أن يؤيّد حزباً ضدَّ حزب. فالإنسان، في عرفه، هو فوق كل شيء: فوق الأديان وفوق الأحزاب.
وتتالت كتبه في المهجر. ودفع هو من جيبه حتّى تطبع على الآلة الكاتبة، ثمّ تُصَوَّر. إذ ليس في سيدني مطبعة عربيّة تصفّ الأحرف. وظلَّ يسوِّق كتبه ويوزِّعها على الدّكاكين العربيّة القليلة في سيدني وملبورن، حتّى أَلِفَ المغتربون اسمه، وصارت الجرائد العربيّة في أستراليا تكتب عنه، وتجري معه المقابلات.
ولـم يعد أحد يطارده في المنفى: لا الذين صفّقوا له في طرابلس، ولا الذين توعّدوا بأن يرموه في البئر. ولكنّ شبح البقاء: البقاء في بلد ليس ببلده، وبين أهل ليسوا بأهله، ظلَّ يتبعه ليل نهار. ولـم يخف هذه المرّة، بل صمد في مكانه مصمِّماً بأن يكتب حتّى ولو للأقليّة.
عندما زارني شربل البعيني مؤخّراً في بيتي، ضحكت معه طويلاً، وأنا لـم أعد أعرف كيف أضحك منذ زمن بعيد. وفي سرّي تعجّبت منه، وأحببتُ براءته الطفوليّة. كان يثرثر بخفّة وطلاقة عن أولئك الذين أرسلوا الخوري لأمّه. كنت أنا أرى أشباحهم السّوداء، وكأنّهم خارجون من توّهم للجحيم، بينما كان هو يرى فيهم دمى ملوّنة من مسرح العرائس، أو خيالات مضحكة على شاشة كراكوز. وضحكت تلك الليلة لضحكه. لكنّ رؤيتنا للأشياء كانت تختلف اختلافاً جذريّاً. كنت أنا أرى العالـم جحيماً لا يطاق، بينما كان هو يرى العالـم مكاناً مشرقاً يمكن أن يعيش فيه الأطفال.
عندما ودّعته وأغلقت الباب أحسست بأن شربل قد منحني بصيصاً من أمل.
6  آذار 1987
**
ـ2ـ
المرأة والحرب في المجتمع الأبوي:
ملاحظات عن أعمال شربل بعيني

   عندما رسم الشَّاعرُ العربي في الجاهليّة ـ باستثناء زهير بن أبي سلمى ـ صورة الحرب بين قبيلة وأخرى، لـم يكن غرضه، في ذلك، إظهار وحشيّة الحرب وأهوالها، ففكرة القتل لـم تروّع الإنسان الجاهــلي. ما روَّعه حقاً هو قتـل أقربائه، وأحبابه، وبني عشيرته. أمّا قتلُ الآخرين فلـم يكن إلاّ مدعاة للتفاخر. وقلَّما نجد وصفاً لإنسان يبكي على أخيه الإنسان. فامرؤ القيس رثى أجداده عندما تذكَّرَ ما فعله المنذر بن ماء السّماء بهم، والخنساء رثت أخويها، ودختنوس رثت أباها، وليلى الأخيليّة رثت حبيبها. ولـم يبكِ أحد لأجداد الآخرين، أو إخوتهم، أو آبائهم، أو أحبابهم. بل على العكس فإنّ بعض الشّعراء قد حضَّ على مزيد من القتل. فدختنوس إبنة لقيط بن زرارة سيد تميم، وقـد قتـله بنو عبس، حثَّت قبيلتها على الإنتقام، وقالت مخاطبة أعداء أبيها:
لنجزيكم بالقتلِ قتلاً مضعَّفا!! "1"
والخنساء  ـ سيّدة الرثاء! كما ندعوها في شعرنا العربيّ ـ لا تبكي لإخوة الآخرين، بل لأخيها فقط. فهي لا تعتقد أن للآخرين أخاً يساوي أخاها. تقول:
فلولا كثرة الباكين حولي
على إخوانهم لقتلتُ نفسي
ولكنْ لا أزال أرى عجولاً
ونائحة تنوح ليومِ نحسِ
هما كلتاهما تبكي أخاها
عشِيَّةَ رزئِه أو غبّ أمسِ
وما يبكين مثل أخي ولكنْ
أسلّي النفس عنه بالتّأسّي.. "2"
وتأبّط شرّاً، الشّاعر الصعلوك، يجعل الضبع يضحك، والطَّيْر يشبع لكثرة القتلى من هذيل:
تضحك الضبع لقتلى هذيلاً
وترى الذّئب لها يستهلُّ
وعتاق الطّير تغدو بِطاناً
تتخطّاهم فما تستقلُّ "3"
لا، لـم يعترضْ أحدٌ على الحرب، ولـم يناقش أحد مفهوم الحرب. كان من الطّبيعي أيضاً أن يرثي الشّاعر أحبّاءه، وأن يفرح لمقتل أعدائه. ولـم يشذَّ عن هذه القاعدة سوى زهير بن أبي سلمى. كان صوته فريداً في جزيرة غارقة بالدّماء. فزهير الّذي عاش ثَمانين عاماً، أدرك بأنّ الحرب شيء مرعب، وبأنّ إهراق الدّماء لا يمكن أن يفيد أحداً. ولـم يبكِ زهير لفقد أبيه، أو أخيه، أو قريبه، بل بكى لغباوة الإنسان الذي يوقد نار الحرب، جالباً الضّرر على نفسه وعلى أبنائه:
وما الحرب إلاّ ما علمتم وذقتم
وما هو عنها بالحديث المرجّم
متى تبعثوها تبعثوها ذميمة
وتضر إذا ضريتموها فتضرم "4"
الحرب لا تلد إلاّ الحرب، وهي الرّحى التي تعرك الإنسان وتفنيه. والعاقل وحده هو الذي يؤمن بذلك. ولكن العاقلين نادرون، لا في زمن زهير فحسب، بل عبر التّاريخ الإنساني. ولقد مدح زهير أحد هؤلاء العقلاء "الحارث بن عوف" لأنّه أصلح بين عبس وذبيان، واحتمل ديّات القتلى في ماله، وكان من الأحرى بالشّاعر لو مدح بُهَيْسَةَ بنت أوس زوجة الحارث، والسـبب الرئيسي في إيقاف الحرب الدَّاميّة كما تقول لنا الروايات.
وإذا كان الشّعراء الآخرون في الجاهليّة ضيِّقي الأفق في محبَّتِهِم وتعاطفهم مع الإنسان كإنسان، فإنّ زهير لـم يكن أوسع أفقاً منهم بالرّغم من أنّه ندَّد بالحرب وأهوالها. فلقد خصَّ زهير الرجُلَ بمديحه، ونسيَ أو تناسى المرأة التي قالت له: أتفرغ [يا حارث بـن عـوف] لنكاح النّسـاء والعـرب تقتل بعضـها؟!!
(وذلك في أيّام عبس وذُبْيان).
فقال الحارث: فَيَكونُ ماذا؟
قالت: أخرج إلى هؤلاء القوم فأصلح بينهم، ثم إرجع إلى أهلك فلن يفوتك! "5"
وكانت بهيسة هذه قد قبلت الزواج مؤخّراً من الحارث، لكنّها رفضت أن تنام معه، وأن تمكِّنَه من روحها وجسدها قبل أن يفعل شيئاً لإيقاف الحرب بين عبس وذُبيان.
واليوم بعد أربعة عشر قرناً يأتي شربل البعيني، لا كناطق باسم قبيلة، كما يفعل الشّاعر الجاهليّ، بل كصوت متفرّد ليرسم لوحة مرعبة عن الحرب القبليّة في لبنان، وليبعث بهيسة حيّة في أذهاننا: بهيسة الّتي لـم يكتب عنها الشّعراء العرب، قدماء أم محدثون، بالرّغم من أنّها كانت مفتاح السّلام.
الحرب شيء مرعب عند البعيني، تماماً كما كانت عند زهير إبن أبي سلمى، وقتل الإنسان للإنسان لا يجلب إلاّ مزيداً من القتل، وليس هناك من فارق بين مقتل حبيب أو عدو، وليس هناك من داع لرثاء فلان، أو للتفاخر بقتل فلان. فالبعينـي رفض دور الشّاعر القبلي ـ ذاك الدّور الذي يفرض عليه أن يبكي لقتل أقربائه، وأحبابه، وبني عشيرته، وأن يفرح لقتل أعدائه ـ واختار أن يكون إنساناً يخدم مصالح الإنسان. ولقد دفعته رغبته بتغيير المفاهيم القبليّة التي تحضّ على الغزو والانتقام، إلى استخدام لهجة "القبائل" اللبنانية المتحاربة في وصف أهوال الحرب، وضرورة إيقافها. فاللهجة العاميّة قد تصيب الهدف أكثر من اللغة الكلاسيكيّة، وقد تنتشر انتشار النّار بين فئات المتقاتلين، ففيها ـ قبل كلّ شيء ـ يتكلَّمون، وفيها يحبّون ويكرهون، وفيها يَقْتُلون ويُقْتَلون.
في قطعة بعنوان "يمين يسار" يؤكّد البعينـي على ضرورة إيقاف الحرب:
أنا ما بِفْهَمْ يَمِينْ
أنا ما بِفْهَمْ يَسَارْ
أنا بِفْهَمْ إِنو النّار
لازم تُوقَفْ مَهْما صَارْ "6"
ولكن أنّى للحرب اللبنانيّة أن تتوقّف والزّعماء ـ في عرف شربل البعينـي ـ يقدِّمون لها الوقود!
إذا أردنا أن نحلّل عالم البعينـي من خلال كتابه "مجانين" نرى أن لبنان يتشكّل ـ بعرف الشّاعر ـ من عشائر مختلفة، ولكن هذه العشائر لا تختار ما تريد، بل تختار ما يريد لها زعماؤها. فالإنسان عند البعينـي مسلوب الحرّيَّة والإرادة، ولكنّه أيضاً لا يفقه ما يجري حوله، ولا يدرك أن الزّعماء يقودون البلاد إلى الدّمار:
حلَّك بَقَى تفهم شو عم قِلَّكْ
بلادَك اختربِت من زعامِتْها
..........................
فِيق دَخْلَك فِيق من جهلَكْ
..........................
..........................
إنت وأنا.. يا نور عِينيّي
لازم نحارِب هالزّعامه كْتِيرْ
وِنْشك سَيْف حْقُوقْنا.. بْقَلْبَا "7"
والطّريف في الأمر أن عشائر البعيني وزعماءه كلّهم من الرّجـال، فهـم الذيـن يقتلـون النّســاء والأطفال، وهم الّذيــن "يخزّقون" وجه لبنان ويحرقونه. في قطعة بعنوان "المغول" يقول البعينـي:
بَسّْ
بَسّْ
هَيْدَا كذب مُشْ مَعْقُولْ
بِنْت قَتْلوها وْصَاروا
يِتْبَادْلُوا عْلَيْها الْمَغُولْ
...................
شِي بالعرض وْشِي بالطّولْ
وْشِي من تحت وشِي من فَوْقْ
وْشِي.. يَا أَللّـه كْفَرْنا بَسّْ
رِجْعُوا قَصُّوها بالنّصّْ "8"
هؤلاء الرّجال المغول هم نفسهم الّذين خطفوا الأطفال الصّغار في قطعة "مجانين":
.. وْكلّ ما انْخَطَف طفل زْغِيرْ
نِسْمَع وْنِقْرَا بَكّيرْ:
بِـ بَلَد إسمو لبنان
عَم بيصير إجرام كْتِيرْ
جِهَّه .. قَتْلُوا إبن فْلانْ
والظّاهر زَعيم كْبيرْ
رجعوا تاني جِهَّه كْمانْ
رَبْطُوا ولَقْطُوا طفل زْغِيرْ
وْعَ كَعِبْ أحْلَى أرزِه
دَبْحُوه مِتْلِ الْعَنْزِه "9"
الرجل في عالـم البعيني مجنون وقاتل (باستثناء خالد كحول الجندي الّذي رفض أن يسلّم رفقاءه المسحيين للدوريّة المسلّحة الّـتي استوقفتهم وهم في طريقهم إلى مقر القيادة العسكريّة، وقال: نحن جنود لبنان. وليس بيننا مسلم أو مسيحي، فإذا أردتم قتلهم فاقتلونا جميعاً) "10". خالد كحّول هو صوت متفرّد كصوت الشّاعر في مجانين. أمّا الرّجال الآخرون الّذين نلقاهم فهم "دياب الشّعب" كما يسمّيهم البعينِي، ولقد صمّموا على أن يحرقوا كلّ شيء، وأن يقتلوا كلّ مَنْ يقف في طريقهم.
نستنتج من هذا كلّه، أنّ الشّاعر قد بدأ يشكّ بهذا النظام الأبـوي، الّـذي يجعل للرجل القاتل مكانة هامّة في الهرم الإنساني. فالمرأة، على ما يبدو، لـم تلعب أيّ دور فعّال في تربية هؤلاء الرّجال القتلة. ولـم يسألها البعيني عنهم شيئاً، بل سأل المسيح ومحمّد (وكلاهما رجلان) عن سبب تقصيرهما في خلق رجال أصحّاء العقول:
يا يسوع الْمَصْلُوب
وْيا رسُول المؤمنين
ما عْرِفتُوا ربَّيْتُوا شْعوب
عْرِفْتُوا ربَّيْتُوا مْجانينْ "11"
حتّى "اللـه" الّذي يكمّلُ صورة النّظام الأبوي في مجتمعنا لـم يبدُ رحيماً. صحيح أنّ شربل البعيني قد كتب في مقدّمة كتابه مجانين: "بؤْمِن بِأَللّـه.. وْعَيْب أَكِّد هَالإِيمان.." إلاّ أنّ صورته للّـه "المذَكّر" ذي الجزمة الّتي تسحق الإنسان الصرصور في كتابِه الغربة الطّويلة تطغى على كلِّ الصُّور. "12"
ما هو البديل إذن لهذا النّظام الأبوي الّذي يرسمه لنا شربل البعيني؟ أللّـه في أعلى الهرم: كالأب الطّاغية، أو كالعسكري ذي الجزمة، أو كالعجوز ـ لايسمع شكوى، أو لا يهتم بشكوى، يليه المسيح ومحمّد ـ وكلاهما تحدَّثا للرجال بدرجات متفاوتة، لكنّهما فشلا في خلق عُقلاء. وبعد المسيح ومحمّد يأتي الزّعماء ورجال الدّين، ثمّ قطعان الماشية من الرجال الذين ينفّذون ما يؤمرون به. وفي أسفل الهرم تبدو النّساء المقتولات والمغتصبات إلى جانب الأطفال والعجّز.
من الواضح أن البعيني يريد أن يغيّر هذا النّظام الأبوي، لكنّه لا يثـور عليـه ثورة كاملة، فهو عنـدما يخاطب اللّـه فـي قطعـة "قلبي وطن" يقول بلهجة المحبّ:
لَيْش دخلَك لَيْش يا ربّي
تركت قلبي يولَع ويِسْودّ
وْغَيْرَك يا ربّي ما سَكَن قلبي
ولا يوم جرّحتو بْشَوك البغض "13"
ما يهم البعيني، ليس أولئك الّذين يحتلّون الدّرجات العُلْيا من الهرم في النّظام الأبوي، بل الرّجال الّذين ينصبون أنفسهم زعماء على بقيّة الرّجال. هؤلاء هم الّذين يحملون المسؤوليّة، مسؤوليّة دمار لبنان في عرف الشّاعر.
وبالرّغم من أنّ النّماذج النسويّة، الّتي ظهرت في كتابات البعيني، كانت بمعظمها إيجابيّة كصورة الأم "14"، والحبيبة البعيدة "15"، وفيروز التي يسمّيها الشّاعر "بنقطة الماء الوحيدة في غياهب الصّحراء " 16"، وتمينَة التي يعتبرها رمزاً لنساء لبنان في قطعته كيف أينعت السّنابل " 17"، إلاّ أَنَّ هذه النّماذج لـم تكُن تصلح لأن تلعب دور المنقذ، ولا أن تكون بديلاً للرّجال الّذين جلبوا الدّمار. ويبدو أن شربل البعيني قد سمع مؤخّراً ببًهَيْسَة، خلال محاضرة ألقاها كامل المرّ في سيدني عن المرأة العربيّة في الأدب والشّعر، فكتب قطعة بعنوان "صدّيقيني يا بهيسة"، جاعلاً من هذه المرأة، الّتي عاشت قبل الإسـلام، نـموذجاً حيّاً للمنقذة الّتي امتلكت مفاتيح السّلام بِيَدِها:
نَحنُ أفلسنا من الأبطال
من "عَوْف" الرّجال
...................
كيف تأتين إلينا مرَّتين
وتعيدين الوفاق مرّتين
وبطون العربيّات عَلِيلَه
والرّجولَة مِن نوادرنا القليلَه "18"
مِـن هـذا نسـتنتج أنّ المرأة هي الأساس في عالـم شربل البعيني، فالحلّ يكمن فيها. وقد تنجح في إيقاف الحرب الأهليّة إذا ما حاولت.
وفكرة امتناع بهيسة عن زوجها جنسيّاً حتّى يحقن دماء المتقاتلين من عبس وذُبيان، ليست بالفكرة الجديدة. فأَريستوفانيس، كاتب الكوميديا اليوناني، كتب مسرحيّة ساخرة بعنوان ليزيزتراتا Lysistrata في القرن الخامس قبل الميلاد، وجعل بطلتها ليزيزتراتا رمزاً للثّورة والتّنظيم النّسائي. تبدأ المسرحيّة بدعوة ليزيزتراتا النساء اليونيّات إلى عقد اجتماع طارىء، تعرض فيه عليهن الإمتناع كلّياً عن إقامة علاقات جنسيّة مع الرّجال، حتّى يقبل هؤلاء إيقاف الحرب، وإحلال السّلام. وبعد أخذ وردّ تقبل النّسوة الإقتراح، ولكنّ بدون حماسة ظاهرة. ويضطرّ الرّجال في نهاية المسرحيّة، تحت ضغط التّجويع الجنسي، إلى توقيع اتفاقيّة سلام فيما بينهم. "19"
وبالرّغم من الفروق الواضحة بين ليزيزتراتا اليونانيّة وبُهيسة العربية، ومن اختلاف طريقة عرض الشَّخصيّتين في مسرحيّة أرستوفانيس وقطعة البعيني "صدّقيني يا بُهَيْسَة" (فبهيسة العربيّة هي نموذج أقرب إلى القداسة منه إلى السّخرية)، أقول بالرّغم من هذه الفروق الواضحة، إلاّ أن جهود المرأتين قد كلِّلتا بالنّجاح في نهاية المطاف. فليزيزتراتا تمكّنت بتنظيمها الثَّوري للنسوة من إيقاف الحرب الأهليّة في اليونان، وفرض السَّلام، بينما نجحت بُهَيْسَة بشكل غير مباشر في حقن دماء عبس وذبيان، وإنهاء حرب دامية بين القبيلتين المتحاربتين في الجزيرة العربية.
صـرخة شربل بعيني لبهيسة بأن تنبعث من قبرها من جديد، لَتأْكيـدٌ علـى أنّ المرأة هي أساس المجتمع في عرف الشّاعر، وتعبيرٌ ضمني على رغبته الملحَّة بأن يصبح النّموذج الجاهلي نموذجاً معاصراً حقيقيّاً.
ملاحظات :
1) نقل أبيات دختنوس محمود حسن أبو ناجي في كتابه الرثاء في الشّعر العربي: أو جراحات القلوب (بيروت: منشورات دار مكتبة الحياة، 1402 هـ)، ص 24 عن كتاب أيام العرب في الجاهليّة لمحمد جاد الملى وآخرين (بيروت: دار إحياء التراث العربي، دون تاريخ) ص 361.
2)  نقلها محمود حسن أبو ناجي في كتابه الرثاء في الشعر العربي، ص 55 عن شاعرات العرب لعبد البديع صقر (دمشق: منشورات المكتب الإسلامي، دون تاريخ)، ص 104 ـ باعتقادي أن أبيات الخنساء المنقولة عن صقر أفضل من الأبيات الواردة في ديوان الخنساء (بيروت: دار صـادر  1963) ص ص 84-85.
3) نقلها محمود حسن أبو ناجي في كتابه الرثاء في الشعر العربي ص 46 عن حماسة أبي تمام دون أن يعطي معلومات عن محقّقها أو طبعتها.
4) معلّقة زهير بن أبي سلمى" في كتاب شرح المعلّقات السّبع، للإمام أبي عبد الـله الحسين بن الحسين الزوزني (القاهرة: مطبعة السَّعادة 1921) ص 86.
5) نسب زهير وأخباره"، في الأغاني، الجزء العاشر، لأبي الفرج الأصفهاني (القاهرة: مطبعة دار الكتب المصريّة 1938) ص ص 296 ـ 297.
6) شربل بعيني، مجانين، طبعة 2 (سيدني: دار الثَّقافة 1986) ص 94.
7) دياب الشّعب"، مجانين ، ص 16، ص 18.
8) مجانين، ص ص 44-54.
9) مجانين ، ص 39.
10) مجانين ، ص ص 58-88 .
11) مجانين ، ص ص 39-40 .
12) شربل بعيني، "جزمة أللـه "، الغربة الطّويلة (سيدني: دار الثَّقافة، 1985) ص ص 68-70.
13) مجانين، ص 57.
14) راجع صورة الأم في "أمّي"، من خزانة شربل بعيني (سيدني: دار الثَّقافة، 1985) ص؟ دون ترقيم
15) راجع صورة الحبيبة كملهمة في "ليش حبّيتِك" الغربة الطّويلة، ص ص 21-24، "وأعيديني إلى ذاتي"، من خزانة شربل بعيني ص؟ دون ترقيم..
16) فيروز يا فيروز كوني أمّنا"، من خزانة شربل بعيني، ص؟ دون ترقيم .
17) راجع ما قاله البعيني عن "تمينة" في مقابلة أجرتها معه جريدة "صوت المغترب" ، ونشرت فيما بعد في كتاب شربل بعيني بأقلامهم لكلارك بعيني (سيدني: دار الثّقافة 1987) ص 130.
18) الوفاق، العددان الخامس والسادس، حزيران وتمّوز، 1986، ص ص 63-73.
19) أريستوفانيس "ليزيزتراتا"، في إحدى عشرة مسرحيّة لكتّاب يونانيين (نيويورك : يونيفرسال لايبراري 1946)، ص ص 271-295.
Aristophanes,"Lysistrata," in Eleven Plays of the Greek Dramatists (New York: The Universal Library, Grosset & Dunlap, 1946), pp. 271-295


**

جلجلتي

.. وَيَحْسُبونَ أَ نَّني سَأتْعَبْ
مِنْ حِمْلِكِ الثَّقِيلِ..
يا مَدينَتي
بَيروتُ..
يا صَلِيبِيَ الْمُذهَّبْ
أَنَّى وُجِدْتُ..
تُوجَدُ جُلْجُلَتِي
**
حنان

الْبَحْرُ يَنْدَهُنِي،
فَهَلْ مِنْ مانِعٍ
أَنْ يَرْتَمِيْ الأَطْفالُ
في الأحْضانِ
قَدْ حَوَّلوا الدُّنْيا جَحيماً حاقِداً
وَالطِّفْلُ لا يَنْمُو
بِغَيْرِ حَنَانِ!
**
لقاء

أَتَيْتَ؟..
فَكَيْفَ يَكُونُ اللِّقاءُ
وَكُلُّ الدُّروبِ حَواجِزْ
وَفي زَغْرَداتِ الشُّعوبِ أَنِينٌ
وَفَوْقَ العُيونِ مَخارِزْ
وَأَصْغَرُ غِرٍّ يَجِيءُ إِلَيْنا
وَيَفْرُضُ حَظْراً عَلَيْنا
وَعَنْتَرُ قَوْمي بَتَرْنا يَدَيْهِ
لِكَيْ لا يُبَارِزْ؟!
**
كيف أينعت السنابل؟

ـ1ـ
لا تَسَلْنِي يا حَبيبـي،
كَيفَ أَيْنَعَتِ السَّنابِلْ؟!
رَغْمَ رَحيلِ الشَّمسِ عَنْ أَرْضي،
وَأنَّاتِ البَلابِلْ..
رَغْمَ الْحَرائقِ والتَّشرُّدِ،
رَغْمَ صَيْحاتِ الأَرامِلْ..
فَبِلادي، يا حبيبـي ، لَمْ تَعُدْ رَفَّ حَمامٍ
يَنْقُرُ الضَّوءَ تِباعاً
كَي يَصيرَ الضَّوْءُ سائِلْ..
يَسْقي الْحُقولَ وَالتِّلالَ الخُضْرَ،
يَجْري في شَرايينِ الْجَداوِلْ..
فَبِلادي، يا حَبيبـي،
أسرَتْها زُمرَةٌ
لا فَرْقَ عِنْدَها بَيْنَ مَقْتُولٍ وَقَاتِلْ
سَرَقَتْها..
سَرَقَتْ خاتَمَ إِصْبَعِها وَصَبَّتْهُ سَلاسِلْ
وَدَعَتْ أَطْفالَها السُّمْرَ
إلى التَّحْقيقِ في كُلِّ الْوَسَائِلْ..
عَذَّبَتْهُمْ..
عَلَّقَتْهُمْ فَوْقَ أَعْوَادِ الْمَشَانِقِ
خَوْفُها..
أن تَسْتَحيلَ الأَيْدي أقْلاماً 
وَبارودَ قَنابِلْ..
خَوْفُها..
أَنَّ الرَّضيعَ في بِلادي 
يَعْرِفُ كَيْفَ يُقاتِلْ!
ـ2ـ
أَوْقَفُوني، ذَاتَ يَوْمٍ،
عِنْدَ أَبْوابِ الْمَدِينَهْ
سَأَلُوني: ما اسْمُكِ؟
قُلْتُ: تَمِينَهْ
فَأَدَارُوا وَجْهَهُم عَنِّي وَقَالوا:
عُودِي مِنْ حَيْثُ أتَيْتِ..
فَصَرَخْتُ مِلْءَ صَوْتِي:
أُتْرُكوني..
اُتْرُكوني..
فَهُنَاكَ خَلْفَ أَسْوَارِ الضَّغِينَه
وَالْحِكاياتِ اللَّعِينَه
لِيَ بَيْتٌ.. فَدَعُوني
إنَّ مِنْ حَقِّيَ أَنْ أَسْكُنَ بَيْتِي!
ـ3ـ
كَمْ أَنا مُشْتاقَةٌ لِلزَّهْرِ يَنْمُو في الْحَديقَه،
لِلْكَرْمِ..
لِلْعُنْقُودِ فَوْقَ الدَّالِيَه
لِدَجَاجَاتي وَقِنِّي،
وَإِناءِ الزَّيْتِ قُرْبَ الْخَابِيَه،
لِجِرارِ النَّحْلِ فَوْقَ الْمَزْهَرِيَّاتِ الْعَتيقَه..
كَمْ أنا مُشْتاقَةٌ بَعْدَ الْفِرارِ وَالرَّحيلِ
لِشِفاهٍ مِنْ بِلادي،
تُخْبِرُ الأَجْيَالَ ما مَعْنَى الْحَقِيقَه..
صَرْحُنا انْهارَ..
وَحُوتُ الْكِذْبِ في أَجْوافِنا
ما زالَ يَبْتَلِعُ الْحَقِيقَه.
ـ4ـ
أَرْضَعُوني ـ كُلُّهُمْ ـ سُمَّ الْكَلامْ..
أَرْضَعُوني الْكِذْبَ أَعْواماً 
تَجُرُّ خَلْفَها أَعْوامْ
فَعَضَضْتُ حَلْمَةَ الثَّدْيِ الَّذي 
وَسَّخَهُ الجِنْسُ بِلَيْلاتِ الْغَرامْ.
صَرَخوا..
خِلْتُ الصُّراخَ بَدَّدَ عَهْدَ الظَّلامْ
وَاشْرَأبُّوا، دونَ وَعْيٍ، 
يُزْهِقُونَ الرُّوحَ فِيَّ
بِالْحَلالِ وَبِالْحَرامْ..
أمْسَكُوني..
ضَرَبوني..
فَكَّكُوا كُلَّ العِظامْ
وَرَمَوْني، يا حَبيبـي، بَيْنَ أَحْضَانِ السَّقامْ
ثُمَّ قَالوا، وَالْكَلامُ عِنْدَنا مِنْ طِينَةِ الحُكَّامْ:
"إبْنَةٌ كَسْلَى.. جَريئَه
سَوَّدَتْ وَجْهَ اليَتامَى
قَدْ حَسِبْناها بَريئَه
فَوَهَبْناها السَّلامَه
هذه البنتُ الدَّنيئَه
أكَلَتْ ثَدْيَ الزَّعامَه.."
ـ5ـ
 ..إِنَّ الَّذِي صَارَ وما سَوْفَ يَصِيرْ
خِطَّةٌ مَدْروسَةٌ هَنْدَسَها عَقْلٌ كَبيرْ
أَشْرَكَ فِيها الْيَهودَ وَشَرْقَنا الْعَرَبِيَّ كُلَّه
وَسَخَّرَ ، لِنَجاحِها ، التِّلْفَازَ وَالْجَرائِدَ
وَكُلَّ مِنْ يَكْتُبُ حَرْفاً في مَجَلَّه..
لكنَّني ما زِلْتُ لا أَدْرِي:
لِمَاذا شَوَّهوا الطِّفْلَ الصَّغيرْ؟
وَلِمَاذا شَرَّدُوني، يا حبيبـي،
دُونَ عَوْنٍ أو مُجيرْ؟
وَلِماذا أَيْبَسوا الأَزْهارَ وَالأَشْجارَ
ثُمَّ صادَروا ماءَ الغَديرْ؟
وَلِماذا قَتَلوا في ساحَةِ الأَرْقامِ
مَلْيُونَ شَهيدْ؟!
كُلُّ هذا كيْ يَصيرَ الْمَوْتُ دَوْلَه
تَرْتَمِي، كَالْعارِ ، في حِضْنِ أَمِيرْ؟!
عَيْبٌ عَلَيْكُمْ ـ سادَتي ـ
أَنْ تَخْلُقوا مِنْ رَحْمِ طِفْلَه
قصراً..
وَجَيشاً مِنْ عَبيدْ
وَنِساءً لِلسَّريرْ!..
ـ6ـ
شَعْبُنا.. شَاؤوا لَهُ أن يَتَعَذَّبْ!
وَأَنْ يَتُوهَ في بِقَاعِ الأَرْضِ مَنْبُوذاً مُغَرَّبْ!
أَوْ أَنْ يَموتَ وَاقِفاً،
أَوْ جَالِساً،
أَوْ نائِماً عَلى خَشَبْ!
لَيتَني أَدْري، وَلَوْ بِالحُلْم، مَنْ كانَ السَّبَبْ؟
لأَجْمَعَ اللَّعَناتِ والدُّموعَ والآهاتِ
في قَماقِمِ العَجَبْ..
وَأَشْتَري لِكُلِّ مَنْ قالَ أَنا بَرِيءٌ
خِنْجَراً مِنَ الغَضَبْ
وَسُيوفاً مِنْ لَهَبْ
لَيْتَني أَدْري، وَلَوْ بِالْحُلْمِ، مَنْ كانَ السَّبَبْ؟
لأُضْرِمَ النَّارَ بِهِمْ.
فَكُلُّهُمْ، بَعْدَ الَّذي صارَ، حَطَبْ!
ـ7ـ
تَأْخُذُني الذِّكْرَى إلى دُنْيا حَبيبَه
يَوْمَ كُنتُ أَزْرَعُ السَّاحاتِ أَلْعاباً
وَأشْياءَ عَجيبَه..
وَأَلُمُّ الزَّهْرَ في عيدِ الأُمُومَه..
أَيْنَ أُمّي؟؟!
صَلَبُوها..
هَلْ أَضاعَ الْخالِقُ الْعَالي صَليبَه؟!
هُوَ عِنْدي، لا تَخَفْ،
خَبَّأتُهُ خَلْفَ الزَّريبَه
حَيْثُ قَبْرُ الْوَالِدِ الفَلاَّحِ
إِبْنِ الشَّمْسِ وَالأَرْضِ الْخَصيبَه..
لا تَلُمْني، يا حبيبـي ، إِنْ أَنا قُلْتُ،
بِأَنَّ الأَرْضَ وَالشَّعبَ وَأَبْوابَ الْعُبورِ
كُلَّها صَارَت غَريبَه..
بَعْدَ أَنْ أَضْحَتْ بِلادي،
رَغْمَ إِيماني،
.. سَلِيبَه!
ـ8ـ
خَبِّئينـي يا بِلادي تَحْتَ شالِكْ
وَاسْكُبينـي ضَوْءَ شَمْسْ
كَيْ أَشِيلَ اللَّيْلَ مِنْ قَلْبِ رِجَالِكْ
وَأُقِيمَ، كُلَّ يَوْمٍ، حَفْلَةً
فَوْقَ الْحَوَاجِزِ وَالْمَعَابِرْ
وَأَمَامَ كُلِّ حَبْسْ
وَعَلَى وَجْهِ الطُّفولَه
أَرْسُمُ الْحُلْمَ الْمُسافِرْ
وَرْدَةَ حُبٍّ خَجُولَه
وَأَناشِيدَ وَهَيْصاتٍ وعُرْسْ.
ـ9ـ
غَمَرتْني هَبَّةُ الرِّيحِ وَذَرَّتْني رِمَالْ
في عُيُونِ الإِحْتِلالْ
أَفْزَعَتْهُمْ بِرِمالي
هَبَّةُ الرِّيحِ الَّتِي لا تَهْضِمُ ثِقْلَ اللَّيالي..
عَمَّمُوا إِسْمي وَلَوْني
وَعَناوينَ خِصَالي:
"هذِهِ الْبِنْتُ تَمينَه
بُؤْرَةُ شَرٍّ.. وَتَحْريضٌ لِسُكَّانِ الْمَدينَه
ضِمْنَ عيْنَيْها سُؤَالْ
وَأَنينٌ وَصُمودٌ وَابْتِهالْ
وَلَها عَزْمُ الرِّجالْ..
هذِهِ الْبِنْتُ تَمينَه:
"...."
صَفِّدوها،
كَبِّلوها بِالْحِبالْ
وَادْفُنوها في قُبورِ "الإعْتِقالْ"..
ـ10ـ
..  هذهِ البنتُ تَمينَه،
يَتَّموها، شَرَّدوها ، يا حبيبـي،
وَرَمَوْها في الْحِكاياتِ اللَّعينَه
بَيْتُها اللَّيْلُ وَأَوْهامُ السَّكينَه
قُوتُها.. خُبْزٌ وَتِينٌ
"حَمَّروا الصُّلْبَانَ
كَيْ تُطْعِمَها خُبْزاً وَتِينَا!"
..  هذِهِ الْبِنْتُ تَمينَه،
لَمْ تَعُدْ أُنْشُودَةَ حُبٍّ حَنُونَه..
أَصْبَحَتْ رَمْزَ التَّشَرُّدِ وَالتَّذابُحِ والضَّغينَه
أَصْبَحَتْ صَوْتَ الشُّعوبِ
ضِدَّ أَذْنابِ العُفونَه
أَصْبَحَتْ، مَنْ حَيْثُ لا تَدْرِي، نِسَاءً..
وَرِجالاً.. وَعُيُونَا
أَصْبَحَتْ، مِنْ حَيْثُ لا تَدْرِي.. مَدينَه.
ـ11ـ
خُذْني إِلَيْكَ يا حبيبـي،
قَبْلَ أَنْ يَأْتيْ الْمَطَرْ
عُمْرِي اضْمَحَلَّ وَتَلاشى خَلْفَ أيَّامِ السَّفَرْ
خُذْنِي إِلَيْكَ..
كَيْ أَكُونَ السَّيْفَ فِي وَجْهِ الْخَطَرْ
إِنِّي يَئِسْتُ منْ هُتافاتِ السُّكوتِ
وَمِنْ دَناءاتِ الْبَشَرْ..
فَافْتَحْ يَدَيْكَ وَضُمَّني
فَرَحيلُكَ كانَ قَدَرْ
وَعَذابِي حَوَّلَني قَدَرْ..
فَكَتبْتُ فَوقَ الصَّخْرِ،
فَوْقَ الرَّمْلِ،
فَوْقَ أَوْراقِ الشَّجَرْ
إِنَّ الْقُبورَ وَحْدَها، في عَصْرِنا الْمَنْكودِ،
تَعرِفُ كَيْفَ تحْتَضِنُ الكِبَرْ.
ـ12ـ
دَوَائِرُ التَّجَسُّسِ تَنْتَشِرُ كَما الْهَواءْ
في مَسَامِ الأَرْضِ،
في تَنَفُّسِ الْمِياهِ،
وَاحْتِراقِ الضَّوْءِ في الْفَضاءْ
سَمَكُ الْبَحْرِ عَميلْ
طائِرُ الْجَوِّ عَميلْ
حتَّى النُّجومُ في السَّماءْ
آذانُها مَسنُونَةٌ.. كآلَةِ التَّسْجيلْ
تَسْتَلْهِمُ الْغَيْبَ وَتَجْنِي الْمُسْتَحيلْ
كَيْ تَنْسُجَ مِنْ عالَمِ الأَوْهامِ أَكْفانَ قَتيلْ.
ـ13ـ
قَسَماً..
بِأَحْرُفِ القُرآنِ وَالإنْجيلْ
لَنْ أَموتَ قَبْلَ أَنْ أَفْضَحَ مَلْيونَ عَميلْ
وَزَّعوا شَعْبِي غَنائِمْ..
قَسَماً بالأَرْزِ
وَالثَّلْجِ
وَأَوْراقِ النَّخيلْ
لَنْ أَمُوتَ قَبْلَ أَنْ أَحْمِلَ جُرْحي وَأُقَاوِمْ
حَتَّى، عَنْ أَرْضِ بِلادي،
يَرْحَلَ الْغازي الدَّخيلْ
وَتَعودَ، يا حبيبـي، بَعْدَ غَيْبَتِها الْحَمائِمْ
كُلُّ السَّاحاتِ تَأَهَّبَتْ
لِهُبوطِ أسْرابِ الْحَمائِمْ.
**
عرسُنا استقلال

ـ1ـ
في زَمَنٍ..
كُتَّابُهُ أَنْصَافُ أَغْبِياءْ
يُعَيِّرونَ بَعْضَهُمْ
ويَحْسُدونَ بَعْضَهُمْ
وَيَحْسِبونَ الشِّعْرَ "دُونْ كِيشوتَ" كِبْرِيَاءْ
فَيَمْدَحُونَ كُلَّ مَنْ يَحْلُو بِهِمْ فَنُّ الْهِجاءْ
ويَنثُرُونَ الْوَرْدَ أَكْوَاماً عَلَى دَرْبِ الرِّيَاءْ.
في زَمَنٍ..
تَطَاوَلَ فيهِ الثَّرَى عَلَى السَّماءْ
فَأَصْبَحَ الزَّعيمُ وَالْغَنِيُّ وَالْعَميلُ أَنْبِيَاءْ
وَالْقاتِلُ الْمَغْرورُ مِنْ أَبْرارِهِ وَخَيْرِ الأَوْلِياءْ.
في زَمَنٍ..
تَخْجَلُ مِنْ أَسْمائِها الأَسْمَاءْ
أُهْدِيكِ يا حَبيبتي قَصِيدَتي "الْعَصْمَاءْ"..
ـ2ـ
أَنْتِ الَّتي أَوْدَعْتُ في عَيْنَيكِ أَسْراري
وَكَتَبْتُ فَوْقَ الصَّدرِ آيَاتِي وَأَسْفاري
أَنْتِ الَّتي أَوْصَيْتِني ونَهَيْتِني
عَنْ مَسْحِ جُوخِ الذُّلِّ وَالْعَارِ
أَوِ ابْتِيَاعِ الْحَقِّ مِنْ أَشْدَاقِ سِمْسَارِ
أَنْتِ الَّتي عَلَّمْتِني
كَيْفَ أُحَوِّلُ أَحْرُفي زَخَّاتِ أَمْطَارِ
عَسَى الأَرْضُ الَّتي مِنْ وَهْجِها نَارِي
تَغُبُّ رُضابَ ثَوْرَتِها
وَتُطْفِيءُ نارَ مِحْنَتِها
مِنَ النَّبْعِ الَّذي يَجْرِي غَزِيراً 
بَيْنَ أَشْعاري.
ـ3ـ
سَأُفَجِّرُ الْكَلِمَاتِ بُرْكاناً
يُزَلْزِلُ أَضْلُعَ الْمِحَنِ
إنِّي سَئِمْتُ مِنَ الرُّقادِ الْقاتِلِ 
في غَيْهَبِ الزَّمَنِ.
إنِّي سَئِمْتُ مِنَ الزَّعامَةِ وَالتَّشَرْذُمِ النَّتِنِ
وَمِنْ حِيَاكَةِ الأَحْدَاثِ وَالْفِتَنِ
خَوْفِي اضْمَحَلَّ.. فَمَا أَبْهَاكَ يَا كَفَنِي
أَنْتَ الْخُلُودُ لِكُلِّ حُرٍّ شَامِخٍ.. لَمْ يَنْثَنِ
أَعْطَى الدِّماءَ عَزيمَةً لِلأَرْضِ
كَيْ لا تَنْحَني.
ـ4ـ
مِنْ حُزْنِيَ الطَّويلِ، يا حبيبتِي،
أَوْجَدْتُ للدَّاءِ دَواءْ
أَلْحُزْنُ أَعْطَاني انْدِفاعاً وَصُمُوداً وَإِباءْ
عَلَّمَنِي أَنَّ الشُّعُوبَ الْحُرَّةَ لَمْ تَعْرِفِ البُكاءْ
وَلَمْ تُمَارِسِ السِّحْرَ بِسَاعَاتِ الْقُنوطِ
أَوْ تَسْتَلْهمِ السَّماءْ
عَلَّمَني أَنَّ الشُّعوبَ الْحُرَّةَ أَقْوَى مِنَ الذُّلِّ
وَمِنْ شَيَاطِينِ الْفَناءْ
وَأَنَّها كَيْ تَبْلُغَ الْمُرادَ، يا حبيبتِي،
تُفَجِّرُ الأَجْسادَ بِالأَعْداءْ
وَتَكْتُبُ فَوْقَ الثَّرَى، وَالْحِبْرُ مِنْ دِمَاءْ،
إِنَّ الْمَمَاتَ، عِنْدَها، يُشَكِّلُ ابْتِدَاءْ.
ـ5ـ
مِنْ حُزْنِيَ الطَّوِيلِ، يا حبيبتِي،
وَمِنْ نُمُوِّ الذُّكْرَيَاتِ الْعَالِقَه بِالْبَالْ
تَفَتَّقَتْ آمالْ..
كَبُرْعُمِ الأَشْجَارِ،
كَالنَّبْعِ الَّذِي يُكَوِّنُ الشَّلاَّلْ
ألحزنُ مشَّاني خطىً تقودُ للكَمالْ
صَيَّرَني الْبَيادِرَ وَالْحَقْلَ وَالْغِلالْ
صيَّرَني الدَّيمومَةَ المعدومةَ الزَّوالْ
صَيَّرَني السَّيْفَ الَّذي لا يرْحَمُ
وَالْقَوْسَ وَالنِّبالْ
صَيَّرَني الشِّهادَةَ وَالنَّصْرَ وَالأَبْطَالْ
وَزَفَّةً شَعْبِيَّةً..
وَالْعُرْسُ إِسْتِقْلالْ.
ـ6ـ
قَرَّرْتُ أَنْ أُحارِبَ الْقُبُورَ وَالأَكْفَانْ
وَأَطْعَنَ الْمَوْتَ الَّذي يَجْتَرُّنا 
في رِحْلَةِ الأَزْمَانْ
قَرَّرْتُ أَنْ أُجَرِّدَ الزَّعِيمَ مِنْ أَلْقَابِهِ
وَأَرْفَعَ الإِنْسانْ
إِنْسانُنا الْفَقِيرُ، يا حبيبتِي، يُباعُ في الدُّكَّانْ
كَسِلْعَةٍ بَسيطَةٍ زَهيدَةِ الأَثْمانْ
يُعَلِّبونَ لَحْمَهُ
ويَشْرَبونَ دَمَهُ
ويَكتُبونَ إسْمَهُ
في دفْتَرِ النِّسيانْ..
إِنْسانُنا الْفَقيرُ، يا حبيبتِي،
لَيْسَ الَّذي بِالأَمْسِ كانْ
تَمَخَّضتْ فيهِ الْحُروبْ
وتعِبَتْ منهُ الدُّروبْ
وَزَوَّدَتْ آلامَهُ الأَحْزَانْ
فَأَصْبَحَ الثَّأْرَ الَّذي يُخيفُهُمْ
وَالسَّيْلَ والبُرْكانْ.
ـ7ـ
لَنْ أَدَعَ الْحُروبَ، يا حبيبتِي، تَقْوَى علَيّْ
فَلَقَدْ زَرَعْتُ الْحُبَّ وَالإِيمانَ في عَيْنَيّْ
وَرَسَمْتُ أَحْلامَ الطُّفُولَةِ
فَوْقَ صَدْرِي وَوَجْنَتَيّْ
ثُمَّ سَكَبْتُ مِنْ دِمائِي قَطْرَةً سِحْرِيَّةً
أَحْيَيْتُ فيها كُلَّ شَيّْ..
أَلأَرْضَ وَالْمِحْراثَ وَالْمُزارِعَ
وَكُلَّ مَنْ ماتَ بَرِيئاً كَيْ وَ..كَيْ
إنِّي سَكَبْتُ مِنْ دِمائِي قَطْرَةً سِحْرِيَّةً،
لكِنَّها بَعْدَ الْعَطاءِ الشَّامِلِ، عادَتْ إِلَيّْ!
ـ8ـ
لَنْ أَدَعَ الْحُرُوبَ تَجْتاحُ الْمَرَاعِي وَالأَزَاهِرْ
وَتَنْشُرُ الْغَشَاوَةَ فَوْقَ الْقُلُوبِ وَالضَّمَائِرْ
وَتَسْرُقُ بَيْتَ الْوِلادَةِ مِنْ بِلادِي
كَيْ يَصِيرَ الشَّعْب عاقِرْ..
لَنْ أَدَعْهَا تُنْزِلُ الرَّاياتِ مِنْ أَعْلَى الْمَنائِرْ
أَوْ تَدُوسُ الْحُلْمَ في اللَّيْلِ الْمُسافِرْ
لَنْ أدَعْهَا تُرْجِعُ الإنْسَانَ أَجْيَالاً 
إِلى عَصْرِ الْمَغَاوِرْ..
إِنِّي وُجِدْتُ، مُذْ خُلِقْتُ،
كَيْ أَكونَ النُّورَ في عُرْسِ الدَّفَاتِرْ
إِنِّي وُجِدْتُ، مُذْ خُلِقْتُ،
كَيْ أَكُونَ الثَّائِرَ المُتَخَفِّيَ في زِيِّ شاعِرْ.
ـ9ـ
يَحْسُبونَ أنَّني أُفتِّشُ عَنْ إسْمِيَ المَخْطوطِ 
قُرْبَ الصُّورَةِ..
وَعَنْ دِيكُورٍ رائِعٍ،
وَعَنْ مَديحٍ عابِرٍ يُخْمِدُ نَارَ الشَّهْوَةِ..
يَعْتَقِدونَ أَنَّنِي أُمارِسُ التَّدْجيلَ
كَيْ أَحْظَى بِعَطْفِ النُّخْبَةِ..
وَكَيْ أَصِيرَ الشَّاعِرَ الْمُخْتالَ 
ذاتَ اليَمْنَةِ واليَسْرَةِ..
أَنا ما كَتَبْتُ الشِّعْرَ مِنْ أَجْلِ التَّشاوُفِ 
وَامْتِلاكِ السَّطْوَةِ..
أَنا ما كَتَبْتُ الشِّعْرَ
مِنْ أَجْلِ الْخُلُودِ الزَّائِفِ وَالشُّهْرَةِ..
فَلَقَدْ كَتَبْتُ ما كَتَبْتُ وَحَسبِيَ
أَنِّي بَصَمْتُ بَصْمَتَيْنِ في سِجِلِّ أُمِّتِي.
**
الثأر بيني وبينكم

ـ1ـ
أَلثَّأْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ
أَلثَّاْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ
يا مَنْ ذَبَحْتُمْ أَرْضَنا..
بِشِقاقِكُمْ
يا مَنْ قَتَلتُمْ طِفْلَنا..
بِنِفاقِكُمْ
فَتَأَهَّبُوا..
إنِّي بِسَيْفِ الشَّعبِ جِئْتُ أضْرِبُ
وَسَأَحْصُدُ كَالنَّارِ قَشَّ رِقابِكُمْ
وَرِقابِ مَنْ لا يَرْهَبُ
.............
"كَمْ أَنْتَنَتْ دماؤكُمْ
فَالْكَلْبُ لَيْسَ يَشْرَبُ"
ـ2ـ
كُنَّا النَّعِيمَ،
وَكانَتِ الأَرْضُ لَنا
وَالكَوْنُ يَحْسُدُنا عَلَى عِرْزالِنا
حَتَّى أتَيْتُمْ
وَالجَراثيمُ بِكُمْ
وَالدَّاءُ يَخْشَى داءَكُمْ
فَتَهَيَّبَ الأحْبابُ.. كَيْفَ تَهَيَّبوا؟!
إنِّي أتَيْتُ باسْمِهِمْ.. فَتَأَهَّبوا
أَلسَّيْفُ مِنْ صُنْعِ يَدي
والثَّأْرُ نورٌ لِغَدي
وَالمَوْتُ مَجْدي.. سُؤْدَدي
وَالمَذْهَبُ..
لُبنانُ عِنْدي الْمَذْهَبُ
فَتَأَهَّبوا..
وَلْيَنْتَبِهْ أزْلامُكُمْ
الرِّيحُ ريحي.. والخِيامُ خِيامُكُمْ
.. وَسَأَلْعَبُ!
ـ3ـ
آتٍ إلَيْكُمْ..
مِنْ دُموعِ الأُمَّهاتْ
مِنْ رُجولَةِ كُلِّ فَرْدٍ جابَهَ الحِقْدَ وَماتْ
مِنْ حروفٍ أبْجَدِيَّه
تَرْفُضُ حُكْمَ الطُّغاةْ
فَاسْتَعِدُّوا لِلْبَراكينِ القَوِيَّه
لِسِياطِ النَّارِ تضْرِبُكُمْ
وَأنْتُمْ ، تَحْتَ أقْدامي، عُراةْ.
ـ4ـ
آتٍ إلَيْكُمْ..
فوقَ أجنِحةِ الرُّعودِ
يا مَنْ تَقاسَمْتُمْ بِلادي، وَتَناتَشْتُمْ حُدودي
وَتَكالَبْتُمْ عَلى جاهٍ حقيرٍ
وَتَناسَيْتُمْ خُلودي
تُرْبَةُ الأرضِ أَنا!
أقْسَمْتُ مِن عَهْدِ الْجُدودِ
أَلاَّ أُهادِنَ حاكِماً يَغْتالُ شَعْبي بِالْوُعودِ
تُرْبَةُ الأَرْضِ أَنا!
أَزَلٌ يُعَشِّشُ في وُجودي
سَهْلِيَ حَضَنَ الزَّمانَ
وَتاهَ مَجْدِيَ في الجُرودِ.
ـ5ـ
آتٍ إلَيْكُمْ..
مِنْ لَيالي الْجوعِ.. والفُقَراءْ
مِنْ شَوادِرِ بُؤْسِهِمْ،
مِنْ حُزْنِهِمْ،
مِن كلِّ أنَّاتِ العَناءْ.
أَلرَّبُّ أَعْطاني الشَّجاعَةَ ثُمَّ حَوَّلَني قَضاءْ..
فَتَأَهَّبوا..
يا مَنْ تَطاوَلْتُمْ عَلَيْنا وشَكْلُكُمْ.. عَجَبُ
وَحَكْيُكُمْ..
كَذِبُ
وَعَقْلُكُمْ..
حَطَبُ
صَوْتُ الْبِلادِ.. صَرْخَتِي
وِسْعُ الْمَطارِحِ.. قَبْضَتي
فَأَيْنَ.. أيْنَ المَهْرَبُ؟!
**
وريقات من دفتر الغربة

ـ1ـ
غُرْبَتي..
صارَتْ كَطَعمِ الْمَوْتِ صَعْبَه
أَوْجَعَتْها زَفْرَةُ الرّيحِ،
وَأنَّاتُ اليَنابيعِ،
وَآهاتُ الْحَصى والرَّمْلِ والتُّرْبَه
وَدُموعُ ذلكَ الطِّفْلِ
الَّذي أَضاعَ بِالزَّحْمَةِ رَبَّهْ
فاسْتَغاثَ كالشُّعاعِ التَّائِهِ
الْمَطْرودِ مِنْ شَمْسِ المَحَبَّهْ..
أينَ أَهْلُ الْخَيْرِ يا أمَّاهُ ـ قولي ـ
أَيْنَ جيراني الأَحِبَّهْ؟!
أيْنَ يسوعي الصَّغيرُ..؟!
فَإنَّنِي قَدْ ذُقْتُ صَلْبَهْ..
أَيْنَ الرَّسُولُ مُحَمَّدٌ..؟!
أَيْنَ الْحُسَيْنُ وَالْحَسَنْ؟!
أَيْنَ الصَّحابَهْ..؟!
قَدْ هَجَرْتُ الدَّارَ مِثْلَكَ يا رَسولي
وَلَمْ أجِدْ تِلْكَ الْمَدينَهْ..
غَيَّروها..
غَيَّروا الأَسْماءَ في أَرضي الْحَزينَهْ
فَأُزيلَتْ "يَثْرِبُ"..
لِتَحُلَّ في الأَرْجاءِ "غُرْبَهْ"
كُلُّ الْمَدائِنِ في بِلادي
تَوَحَّدَتْ بِحُروفِ "غُرْبَهْ"
.. وَأَنينِ "غُرْبَهْ".
ـ2ـ
قَسَّموها،
قَسَّموا أَرْضي مَزارِعْ
مَلأُوها..
بِالخَفافيشِ وَأَصْنافِ الضَّفادِعْ
شَوَّهوا الإِنْسانَ فِيها
غَيَّروا لَوْنَ بَنِيها
جَعَلوها، بَعْدَ عَلْيَاءٍ، سَفيهَه
تَحمِلُ وَشْمَ العَمالَهْ
وَتَبيعُ الغِشَّ في سوقِ الأَصَالَهْ
وَتُضاجِعُ، لا تُبالي، كُلَّ مِنْ يَرْغَبُ فيها.
ـ3ـ
قَسَّموها..
قَسَّموا أَرْضي الَّتي تَخْتالُ تِيهَا
مَمْلَكاتٍ، رَثَّةَ الفِكرِ،
كَريهَه
صادَروا الأقلامَ مِنْها
مَنَعوا الأَوراقَ عَنْها
قَتَّلوا كُتَّابَها الأحرارَ ثُمَّ أخرَسوها
وأغاظتْهُمْ بِبُنيانٍ يُضاهي الْكَوْنَ عُمْراناً
فَصَبُّوا فَوقَها زيتَ الضَّلالِ وأَحْرَقوها..
     فَاهْتَزَّ قلبُ الرَّبِّ من هَوْلِ الْجَريمَه
وَيْحَكُمْ ـ صاحَ ـ فَهذي أمُّكُمْ لا تَقْتُلوها
فَأَجابوهُ "بِأَخْلاقٍ عَظيمَه":
ـ لا تَخَفْ مَهْما قَسَوْنا
نحنُ، بعدُ، ما نَسَيْنا
أنَّنا، يا خالِقَ الدُّنيا.. بَنُوها!
ـ4ـ
قَدْ تَساءَلْتُ مَلِياً:
أينَ إخواني العَرَبْ؟!
أينَ الَّذينَ شارَكوني المَنَّ والسَّلوى
بِلَيْلاتِ الطَّرَبْ؟!
أينَ الَّذينَ غامَروا..
وقامَروا..
وساهَروا الإفْرَنجَ في "العِلَبْ"؟
أينَ الَّذينَ هَجَّروا الأقلامَ
ثُمَّ أحرَقوا الأدَبْ؟!
تَمَزَّقَتْ أرضي ولَمْ يدرِ بِمَوتاها العَرَبْ!
ـ5ـ
تَرَكوكِ ـ كلُّهُمْ ـ أسيرَةَ العذابْ
طريدَةً بَريئَةً تَنهَشُها الذِّئابْ
ودَفنوا رُؤوسَهمْ بِالرَّملِ والتُّرابْ
لأنَّهُمْ أَعْداءُ كُلِّ زهرةٍ تَفَتَّحَتْ بِآبْ
وَكُلِّ عُصفورٍ شَدا للصُّبحِ وَالْغِيابْ
أَوْ بَلَّلَ جِنْحَيْهِ مِنْ تَبَخُّرِ الضَّبابْ
لأنَّهُمْ لَمْ يَفهَموكِ جَيِّداً يا أحرُفَ الكِتابْ
ظَنُّوكِ لَحْماً فاسِداً يُباعُ للكِلابْ...
ـ6ـ
إيهِ يا أرضَ بلادي
كَمْ تحمَّلْتُ الشَّقاءَ في مَتاهاتِ بُعادي..
كَمْ عَجَنتُكِ، والطَّحينُ صَبابَتي، خُبزاً
يَحِنُّ إلَيْهِ زادي..
ثُمَّ سَكَبْتُكِ في فَمي أُنشودَةً
مشهورةَ التَّلحينِ والإنشادِ
جَمَّعْتُ أَمْجادَ الخَليقَةِ كُلَّها
فَتَبَعْثَرَتْ مِن ريحِ أمْجادي
وَزَرَعْتُكِ ، مثلَ النُّجومِ ، عَلَى يَدي
كَيْ يَهتَدِيْ بِشُعاعِكِ أَوْلادي.
ـ7ـ
إيهِ يا أرضَ بلادي..
يا عَذاباتي الأَلِيمَه
يا صُراخاً شقَّ صدرَ الليلِ أثناءَ الْجَريمَه
يا ابْتِهالاً جَرَّحَ الحُلْمَ المُغَبَّرَ
فَوقَ أحداقٍ يَتيمَه
يا عُيوناً نائحَهْ
وعُقولاً سابِحَهْ
في فَضاءِ اليَأْسِ وَاللُّغَةِ العَقيمَه.
خَلِّصيني يا بلادي مِنْ تَفاهاتٍ سَقيمَه
مِنْ لُواطِ الزُّعماءِ
الغارقينَ في الدَّساتيرِ القديمَه
وسُحاقِ النِّسْوَةِ المُسْتَرْجِلاتِ
الرَّاكِضاتِ وَراءَ لَذَّاتٍ عَديمَهْ..
خَلِّصيني مِنْ عَشائِرِكِ
ومِنْ عَساكِرِكِ
ومِنْ شِعاراتٍ لَئيمَهْ
هَزَّني شَوقُ الرُّجوعِ إلَيْكِ
يا أرضي الرَّحيمَهْ
فَغُرْبَتي.. صارَتْ كَسَحبِ اليانَصيبِ
وَصَيَّرَتْني، بَعْدَ إغْراءٍ، قَسيمَهْ!
ـ8ـ
أغمَضتُ عَيْنَيَّ وَطِرْتُ في فضاءٍ
أزرقِ الحُلْمِ.. جَميلْ
فَتراءَتْ قِرْنَةٌ مَسْحورَةٌ
تَحْسُبُها الجَفْنَ الكَحيلْ
لِعُيونٍ.. زَيَّنَ الـلهُ بِها وَجْهَ أميرَهْ
لَم تَلِدْها امْرَأَةٌ،
وَلَمْ تَدُسْ أرضَ عَشيرَهْ
وَلَيْسَ مِنْ صِنْوٍ لَها أو مِنْ بَديلْ..
ثُمَّ بانَتْ تَحْتَها أودِيَّةُ الطُّهرِ العَميقَهْ
عُمْقَ الصَّلاةِ والقداسَةِ في معابِدِنا العَتيقَهْ..
عُمْقَ الأَصالَةِ في تعامُلِنا مَعَ النَّاسِ،
وفي عاداتِ أجدادي العريقَهْ.
إيهِ يا أرضي الغَريقَهْ..
لَيْسَتِ الأحلامُ ما أَبغي..
أنا التَّواقُ دَوماً للحقيقَهْ
ليسَتِ الأحلامُ ما أَبغي
وَإن كانت سلاماً..!
يَقْلُبُ النّارَ زُهوراً
وَالخُطوطَ الحُمرَ أسوارَ حَديقَهْ!
ـ9ـ
إنِّي أريدُكِ يا بلادي.. قُبَّرَهْ
عُمرُها عُمرُ الرَّبيعِ الضَّاحِكِ
فَوقَ الحقولِ المُزهِرَهْ
تَنقُرُ الحَبَّ،
وَتَبْني عُشَّها حَيْثُ تُريدُ..
تَحتَ كُلِّ شَجَرَه
لا تَخافُ من سُهولٍ
أو وِهادٍ
أو جِبالٍ مُقفَرَهْ
لا ولا قَصفَ الرِّياحِ في اللَّيالي المُمْطِرَه.
إنّي أريدُكِ ، يا بلادي ، قائداً مُتَقَدِّماً
كَيْ يُرجِعَ مَجْدَ العصورِ الغابِرَهْ
أو نَبِيّاً يَتَمشّى فَوقَ أمواجِ البحورِ الهادِرَهْ
يُطْعِمُ الجوعانَ خُبْزاً
يَصفَعُ الموتَ
ويَمحو عَنْ شِفاهِ الشَّعبِ إسمَ المَقْبَرَهْ
كُلُّ الدُّروبِ تَقَطَّعَتْ إلاَّ طَريقُ المَقْبَرَهْ!
ـ10ـ
إنّي أريدُكِ يا بلادي،
رَغْمَ أنفِ الكونِ حُرَّهْ
تَشمَخينَ على الشُّموسِ
عَلى النُّجومِ
وَكُلِّ أقمارِ الْمَجَرَّهْ
وتَحلُمينَ..
أيا مُنى الأطفالِ في حِضنِ الأسِرَّهْ!
إنّي أُريدُكِ مِهرَجاناً هازِجاً مُتَلأْلِئاً
لِيَكونَ للنَّاسِ مَسَرَّهْ
كوني كما أَبغيكِ يا أرْضي
لِكَيْ أسْقِيْ تَعيسَ الهَجْرِ مِنْ كَفَّيْكِ خَمرَهْ
إِنَّا يَئِسنا مِنَ الرَّحيلِ.. فَحسْبُكِ
أن تَجْمَعِي،
كَالأُمِّ،
شَمْلَ الشَّعبِ..
أُسْرَهْ!
**
إسمعوني .. جيِّداً

ـ1ـ
أَوْقَفوني خَلْفَ عَتْماتِ اللَّيالي
سارِقينَ الضَّوءَ مِنِّي
تُهمَتي العُظْمى.. بِأَنّي
بِعْتُ أشعاري وَفَنِّي
واشْتَرَيْتُ الخُبْزَ للشَّعْبِ الفقيرِ
ذلكَ المَصْلوبِ في عُرْضِ الْمَجالِ
ذلكَ المَسْحوبِ من جُرْحٍ خَطيرِ.
ـ2ـ
ـ قُلْ لَنا.. إيَّاك أَنْ تَزْدادَ كِذْبَا..
كيفَ بِعتَ سِلْعَةَ الشِّعْرِ
وَهَلْ فِي الأمْرِ لُعْبَهْ؟!
مَنْ مِنَ الزُّعَماءِ خَلْفَكَ.. يا عَديمَ الفَهْمِ
يا "مَقْصوفَ رَقْبَهْ؟!
فَالنِّظامُ الحاكِمُ مثل الثُرَيَّا ..
هَلْ أطاحَتْ بالنِّظامِ الْمُنْزَلِ حَبَّاتُ تُربَهْ؟!
عَدِّدِ الأسْماءَ.. إنْ رُمْتَ خَلاصاً
كَمْ مِنَ النَّاسِ اشْتَرَيْتَ؟
نَحْنُ نَدري أنَّكَ للشِّعْرِ قَدْ أسَّسْتَ.. حِزْبَا
ـ3ـ
إسْمَعوني جَيِّداً يا سادَتي "المُحَقِّقينْ":
بِعْتُ أشْعاري.. وَلكِنْ
لأناسٍ يَحْرُثونَ الأرضَ..
يَجْنونَ الْمَواسِمَ قَانِعينْ
لِصغارٍ يَكبُرونَ وَسْطَ آلامِ السِّنينْ
وَسْطَ الحروبِ الطَّائِفِيَّه
والزَّعاماتِ الغَبِيَّه
وَغُبارِ النَّازِحينْ.
بِعْتُ أشْعاري..
لِكَي أرُدَّ عَنْ بُيوتِهِمْ جَحافِلَ الجوعِ
وصَرْخاتِ اليَتامَى الضَّائعينْ..
بِعتُ أشْعاري.. وَلكنْ
صارَتِ الأشعارُ خُبْزاً
صارتِ الأشْعارُ صَوتاً
صارَتِ الأشْعارُ ضَوْءاً
في حَياةِ البائسينْ..!
ـ4ـ
إسْمَعوني جَيِّداً يا سادَتي "المُحَقِّقينْ"
يا مَنْ ذَبَحْتُمْ إبْنَكُمْ
مِن أجْلِ دولارٍ لَعينْ
واعْتَقَلْتُمْ دَرْدَشاتِ النَّاسِ
هَيْصاتِ الصِّغارِ الآمنينَ الطَّيِّبينْ
يا مَنْ سَحَقْتُمْ بالنِّعالِ رايةَ الحقِّ الْمُبينْ
وتَبِعْتُمْ وَشْوَشاتِ المُخْبرينَ السَّافِلينْ
إسْمَعوني جَيِّداً..
يا سادَتي "المُحَقِّقينْ":
لَسْتُ أخافُ سَوْطَكُمْ
أو بُغْيَكُمْ
فَأنا يومَ سُجِنْتُ
صِرْتُ نَجْماً في سَماءِ الخالِدينْ.
ـ5ـ
إسمعوني جيِّداً..
يا لَعْنَةَ المَظلومِ
يا..... وَيا افْتِخارَ الظَّالِمينْ
أنا الَّذي قَوَّضْتُ بالشِّعْرِ
رموزَ الحقدِ
والضَّغينَه
وطردْتُ الفِتْنَةَ من كلِّ أرجاءِ المَدينَه
أنا الَّذي قَطَّعتُ أورِدَتَكُمْ
وأحرُفي.. السِّكَّينْ
أنا الَّذي فَجَّرْتُ فوقَ رؤوسِكُمْ
زِنْزانتي
وَسِجْنِيَ اللَّعينْ
أنا.. أنا..
يا سادَتي المُحَقِّقينْ
مَهما قَسَوتُمْ
أو فَعَلْتُمْ
قَسَماً بِأمَّتي وَحَقِّها الثَّمينْ
لَن ألينْ
لَن ألينْ...
**
فيروز .. كوني أمَّنا

ـ1ـ
كَمْ نَحْنُ مُشْتاقُونْ
كَمْ نَحْنُ مُشْتاقونْ
لِرَفَّةِ الْعَبيرِ وَانْتِفاضِ اللَّيلِ 
في وَجْهِ السُّكونْ
للأُوفِ.. تَنْفَجِرُ ابْتِهالاً في الْعُيونْ
إنَّا كَرِهْنا الْمَوتْ
لا شيءَ غَيْر الْموتْ!
نَنتَظِرُ الرَّسائِلَ..
نُفاجَأُ بِالْمَوتْ
ونَقْرَأُ الجَرائِدَ..
فَتُنْبِىءُ بِالْمَوتْ
نُعَمِّدُ الخُدودَ ثُمَّ نَصْرُخُ:
"إنَّا إلى الـلهِ لَراجِعونْ".
ـ2ـ
تَتثاقَلُ السُّنونَ في مِشْيَتِها..
وَنَحْنُ مَنْسيُّونْ
قُلوبُنا دِيسَتْ..
وَنَحْنُ مَنْسِيُّونْ
تخَدَّرَتْ عُقولُنا..
وَلَمْ نُعاقِرِ الخَمْرَةَ والأفْيُونْ
تَغَيَّرَتْ سَماؤنا
واخْتَنقَ هَواؤنا
وَضاعَ في خُبْثِ الدُّجَى ضِياؤنا
لكنَّنا مُنْتَظِرونْ ..
سَفيرَةً..
تُنْقِذُنا مِنْ الجُنونْ
سَفيرَةً..
تَنْقُلُنا إلى النَّعيمْ
حَيْثُ الظِّلالُ والتِّلالُ الخُضرُ والزَّيْتونْ .
سَفيرَةً..
تَحْمُلُنا إلى النُّجُومْ
حَيْثُ الهَناءُ والصَّفاءُ والسُّكونْ
لِنَسْكُنَ التَّارِيخَ..
نَبْني قَلْبَهُ الحَنونْ.
ـ3ـ
ما بِها تَأَخَّرَتْ طائِرَةُ الأَماني والأَمَلْ؟!
ما بِها تَأَخَّرَتْ فَيْروزُ؟!..
إنّي في وَجَلْ.
لَقَدْ تَعَطَّرْتُ بِماءِ الوَرْدْ
وَلَبِسْتُ الْمشْلَحَ
المَغْزولَ في أقْصى أعالي الْجُردْ
وَنَفَضتُ الْحُزْنَ عَنْ وَجْهي
وَصَرْخاتِ الخَجَلْ..
يا كُلَّ هذا الإنْتِظارِ الْمُرِّ أَسْرِعْ..
فَإنَّني عَلَى عَجَلْ.
ـ4ـ
فَيْروزُ..
يا فَيْروزُ كُوني أُمَّنا
غَدَرَ الزَّمانُ بأُمَّهاتِ أُمِّنا
وَافْتَرَقْنا في بِدايَةِ حُلْمِنا
نَلْعَقُ السَّاعاتِ..
نَنْحَرُ يَوْمَنا
مَنْ غَيْرُكِ؟!..
يُرْجِعُنا إلى الوَراءْ
إلى طَرابُلْسَ
وَبَيْروتَ
وَبَعْلَبَّكِنا الشَّمَّاءْ
إلى الجَنوبِ
والشِّمالِ حَيْثُ الأَرْزَةُ الخَضْراءْ
إلى رُبُوعِ الوطَنِ
المَسْكوبِ في قَوالِبِ الْمَساءْ
مَنْ غَيْرُكِ؟!..
يَزْرَعُنا أَزْهارَ حُبٍّ وَوَفاءْ
في مُروجِ الخُلْدِ..
في أَزِّقَّةِ السَّماءْ
مَنْ غَيْرُكِ؟!..
يا نُقطَةَ الماءِ الوحيدَةَ في غَياهِبِ الصَّحْراءْ
يَشْفي غَليلَ الشَّعبِ أثْناءَ الرَّحيلِ..
والْفَناءْ
ـ5ـ
نُحبُّكِ..
مَحَبَّةَ الْجِبالِ والسُّهولْ
وَميجانا الفلاَّحِ..
يَزْرَعُها تُراثاً في الْحُقولْ
والأُوفِ.. مِنْ منجَيْرَةِ الرّاعي
تَئِنُّ بِاقْتِرابِ الشَّمْسِ لِلأُفُولْ.
نُحِبُّكِ..
يا عُرْسَنا الْمَمْلُوءَ هَيْصاتٍ وَدَقَّاتِ طُبُولْ
يا كِتاباً..
حِبْرُهُ وَهْجُ الضِّياءْ
أَنْزَلوهُ..
رَغْمَ وَحْيِ الأَنْبِياءْ
لِيُنيرَ الْكَوْنَ أَحْلاماً..
وَيَحْيا في العُقولْ.
ـ6ـ
هَتَفَتْ أَلْسُنُنا مِنْ كَثْرَةِ السُّرورْ:
عاشتِ الأسْماءُ يا فَيْروزُ
يا لُؤلُؤَةَ الْبُحورْ
يا مَنْ عَبَرْتِ الْحاجِزَ المُرْتَفِعَ كالسُّورْ
وَدُسْتِ،
رَغْمَ العُنْفِ،
أَنْفَ الْقاتِلِ الْمَغْرورْ
ها أَمْطَرَتْ أَنْفُسُنا أَنْجُمَ نورْ
وَسَقَتْ كُلَّ الدَّياجيرِ
وَأَبْوابَ العُبورْ
لِمْ سَمِعْنا أَنَّ في الأُفْقِ ضِياءْ
لِقُدومٍ يَبْعَثُ فينا الرَّجاءْ..
فَتَعالَيْ مِثْلَ حُلْمٍ
لا يَخافُ وِحْشَةَ الدَّيْجورْ
نَحْنُ شَعْبٌ واحِدٌ
مَهْما سَمِعْنا
قَدْ شَرِبْنا القَهْرَ
والحُبَّ رَضِعْنا
وابْتَلَعْنا هَجْرَنا حَتَّى شَبِعْنا
وَتَواعَدْنا بِأَنَّا سَنثُورْ..
يا دِرْعَنا الَّتي بِها نَصُدُّ ضَرْباتِ الدُّهورْ
يا جِسْرَنا الباقي إلى اتِّحادِنا
وقَدْ تَهَدَّمَتْ كُلُّ الجُسورْ.
ـ7ـ
صَوْتُكِ الآتي إلَيْنا
مِنْ سَماءِ الحُزْنِ..
مِنْ لُبْنانْ
يا ميناءَ الحُبِّ،
يا مَنارَةَ السَّلامِ
والأمانْ
يا سَفيرَةً إلى نُجومِ العِشْقِ
والحَنانْ
يا بَحَّةَ الرِّياحِ في تَعَرُّجِ الجبالِ
والوِدْيانْ
صَوْتُكِ الآتي سَيَنْشُلُنا "كَجِرْجِسَ"
مِن بَراثِنِ التِّنِّينِ
والنِّسْيانْ
بَعْدَما ضِعْنا..
كَفَرْنا..
وَحَقَنَّا الكِذْبَ في الشِّرْيانْ
وَنَسَيْنا أنَّنا ضُعَفاءُ
لا نَقْوَى عَلَى الْهَذَيانْ
صَوْتُكِ الآتي سَيُنْهي العَيْبَ فينا
وَيَدْفَعُنا لِكَيْ نَبْتَدِىءَ..
الآنْ.
**
صدِّقيني يا بُهَيسَة

ـ1ـ
أَيْنَ ضَريحُكِ يا بُهَيْسَهْ
أَلْثُمُ الْيَومَ تُرابَه..
وَأُزيحُ ، بَعدَ أجْيالٍ، غُباراً
شَوَّهَ لَونَ الكِتابَه؟!
أينَ ضَريحُكِ..
كَيْ أَبُثَّهُ ما في قَلبي مِنْ صَبابَه؟!
إِنَّ ذِكراكِ أعادتني إلى مَجْدٍ
أَحَلْناهُ خَرابا..
إلى تاريخِ أُنْثَى،
أَحْسَنَتْ فَنَّ الإجابَه
وَأَبَتْ أن تَسْكُبَ الطُّهرَ
وَتَسْقِيْ مِنْ دواليها شَرابا
قَبْلَ أَن تَسْتَلْهِمَ اللّهَ
وَتَفْدي بِانْتِفاضَتِها شَبابا
ـ "يا عَوْفُ.. صُنْ عُروبَتي
وَاحْقُنْ دِماءَ فِتْيَتي
وَارْفَعْ لِواءَ أُمَّتي
ثُمَّ تَعالَ.. خَيْمَتي"
أَوَّاهُ.. إِنَّ الحُلْمَ قَد أَضْحَى سَرابا!
ـ2ـ
صَدِّقيني يا "بُهَيْسَه".. صَدِّقي الأنْباءْ
إِنَّا لَبِسْنا عارَنا
ثُمَّ انْتَفَخْنا كِبْرِياءْ
نِبْراسُنا الزَّعامَةُ والكِذْبُ وَالرِّياءْ
وَفَنُّنا الشَّتائِمُ وَالقَتْلُ والدِّماءْ
عُقولُنا مَمْلؤَةٌ بِالغِشِّ والغَباءْ
أَخْدارُنا مُباحَةٌ، والوَيْلُ للنِّساءْ
أَوْطانُنا مَسْبِيَّةٌ بِعِنادِنا
وَنُجومُنا مَطْلِيَّةٌ بِسَوادِنا
حَتَّى السَّماءُ عِنْدَنا لَيْسَتْ سَماءْ!
ـ3ـ
صَدِّقي الأنباءَ.. يا بِنتَ الكِبَرْ
يا زَهْرَةً تَفَتَّحَتْ عَلَى حَجَرْ
يا عُنفُوانَ أُمَّةٍ ضائعَةٍ دونَ أَثَرْ
وَاللَّيْلُ يَحجُبُ شَمْسَها
ويُبَدِّدُ نورَ القَمَرْ..
يا مَنْ رَفَضْتِ الحُبَّ جِنْساً
أَو مَلَذَّاتِ بَشَرْ
نَحنُ أَفْلَسْنا مِنَ الأبطالِ
مِنْ "عَوفِ" الرِّجالِ
وابْتَدَأْنا "نَزْحَفُ" مِثلَ البَقَرْ
أَلبَحرُ مِنْ أَمامِنا
والغَدْرُ مِن ورائِنا
وَلَيْسَ مِنْ مَفَرّ..!
ـ4ـ
صَدِّقيني يا بُهَيْسَه..
صَدِّقي قَلبي الْجريحْ
أنتِ الَّتي طوَّرْتِ مَفْهومي الصَّحيحْ
أنتِ الَّتي أعطَيْتِني حَقِّي الصَّريحْ
أنتِ الَّتي صَيَّرْتِني القَصائِدَ الثَّوْرِيَّةَ الأوزانْ
صَيَّرتِني العزيمَةَ والصَّوتَ والوِجْدانْ
أنتِ الَّتي عَلَّمْتِني كَيْفَ يَكونُ الأقْوِياءْ
أفْهَمْتِني أنَّ الرُّجولَةَ مِن تَصاويرِ النِّساءْ
وأنَّنـي كيْ أرسُمَ الخريطَةَ
لا بُدَّ مِنْ ألوانْ
وكَيْ أصيرَ الأرضَ والْمَدائِنَ
لا بُدَّ مِنْ إنْسانْ .
ـ5ـ
كُرْمَى لِعَيْنَيْكِ اللَّتَيْنِ أعطَتا وَهْجَ الأُنوثَه
كُرْمَى لِوَرْدِ الشَّفَتَيْنِ
واحْمِرارِهِ يا "بُهَيْثَه"
سَوفَ أُناضِلُ حَتَّى أَقْطَعَ كُلَّ أَذْنابِ الخَباثَه
سَوفَ أناضِلُ حتَّى أهدِمَ كُلَّ قَصرٍ
سَرَقوا مِنِّي أَثاثَه
آهِ يا أُختاهُ لَو تَدرِينَ كَم داءٍ وداءْ
يَنْخُرُ الأجسادَ.. يَمتَصُّ الدِّماءْ
داؤنا.. أنَّ الجَميعَ أغبِياءْ!
يَحْسِبونَ الْمَجْدَ يَأْتي بِالوراثَه
صَدِّقيني..
أصعَبُ الأمراضِ في الشَّرقِ.. الوِراثَه
فَالمَضارِبُ تُضرَبُ عَبرَ الوِراثَه
والقبائلُ تُؤخَذُ عَبرَ الوِراثَه
والزَّعامَةُ تُنقَلُ عَبرَ الوِراثَه
للبَنينِ الأردِياءْ
والرُّعاعِ الجُبَناءْ
"وَفَدادينِ الحِراثَه"...
ـ6ـ
صدِّقيني يا بُهَيسَه،
أَصبَحَ العُقمُ فَضيلَه
والتَّخَنُّثُ من مَلامِحِنا الجَميلَه
فَسَقى اللّهُ زَماناً سَيْطَرَتْ فيهِ القَبيلَه
كُنَّا الرُّجولَةَ: إنْ مَحَوْا إسمَ الرُّجولَه
كُنَّا الأُنوثَةَ: تُنجِبُ جيلَ البُطولَه
كَيفَ تأتينَ إلَينا مَرَّتَينْ
وَتُعيدينَ الوِفاقَ مَرَّتَيْنْ
وَبُطونُ الْعَرَبِيَّاتِ عَليلَه
والرُّجولَةُ من نوادِرِنا القَليلَه!..
**
رايات الوفاق

ـ1ـ
هَلُمِّي يا حَبيبَتي نَسْتَقبِل الوِفاقْ
بِزَغرداتٍ حُلوَةٍ لا تَعرِفُ النِّفاقْ
وَتَرْنيماتِ صِبْيَةٍ
لَمْ يَرْضَعوا الحِقدَ
ولَمْ يُحَبِّذوا انْشِقاقْ
فَأَرضُنا تَتوقُ، يا حبيبتي،
لِلَحْظَةِ انْعِتاقْ
فَصُبحُها اخْتِناقْ
وَظُهرُها اخْتِناقْ
وَلَيلُها اختِناقْ
إلى متى نَظلُّ، يا حَبيبَتي،
كَالرِّيحِ تائِهينْ
نُوَدِّعُ الأَحبابَ ثُمَّ نَقبُرُ الرِّفاقْ؟!
إلى متى نَظلُّ صابِرينْ
وَحَولَنا الحرائِقُ
والدَّمعُ
والفِراقْ؟!
إلى مَتى.. إلى مَتى نَظلُّ ساكتينْ؟!
وكُلُّ عِرقٍ يَنبُضُ:
وِفاقْ..
وكُلُّ ثَغرٍ يَهتِفُ:
وِفاقْ..
ـ2ـ
هَلُّمِّي يا حَبيبتي نُبَشِّر الصِّغارْ
بِعيدِنا الآتي عَلى أجنِحَةِ الطُّيورْ
مُحَمَّلاً بِالزِّينَةِ..
مُكَلَّلاً بِالغارْ
وَمُثْقَلاً "بِأُوفِنا" وَدَبكَةِ الجُمهورْ
نَحْنُ رَبِحْنا "حَربَهُمْ"
فَلْيَفْهَمِ الكِبارْ
بِأَنَّنا صَمَّمْنا أن نُحَطِّمَ الفُجورْ
وَنَعْتُقَ البِلادَ مِن قَماقِمِ الدَّمارْ
وَنَسطَعَ كَالأنجُمِ في وَحْشَةِ الدَّيجورْ
لأنَّنا أصبَحنا، يا حبيبتي،
نَمتَلِكُ القَرارْ
وَنُصدِرُ القَرارْ
قَرَّرنا أن نُحاكِمَ الحُكَّامَ في بِلادِنا
وَنَسحَقَ الغُرورْ
قَرَّرنا أن نُخَلِّصَ الإنسانَ والأديانَ
من تَناسُلِ الشُّرورْ
قَرَّرنا أن نَثورْ
قَرَّرنا أن نَثورْ..
ـ3ـ
لَم نَعُدْ نَرضى بِأن يُقَسِّموا البِلادَ
إثرَ كُلِّ فِتنَةٍ.. غَنائِمْ
أو أن يُقيموا
فَوقَ أشلاءِ الَّذينَ استَشْهَدوا ولائمْ
لَم نَعُدْ نَرضى بِأن تُزَغرِدَ الأَعراسُ
في قُصورِهِمْ
وَتَنْتَشِي في حَيِّنا المَآتِمْ
لَم نَعُد نَرضى بِأن يَعيشوا رَغْدَهُم
والشَّعبُ..
كُلُّ الشَّعبِ بِاللُّقْمَةِ حالِمْ
لَم نَعُد نَرضى بِأن نُضَمِّدَ الجِراح
أو نَبتَلِعَ المَظالِمْ
أو أن نُبَوِّسَ الذُّقونَ.. أو نُصَفِّقَ لِحاكِمْ
لأَنَّنا بَعدَ الفَناءِ والرَّحيلِ
نَرفُضُ أن نَقِفَ فَوقَ القُبورِ.. وَنُساوِمْ.
ـ4ـ
لا لَن يَعودَ الماضي.. فَالشَّعبُ يَعِي
كَمْ تاجَروا بِأَمنِهِ، وَأَحرَقوا مِنْ أَدمُعِ
وكَمْ أَباحوا دَمَهُ
وَفَجَّروا آلامَهُ
كَي يُفرِحوا قَلبَ العَدُوِّ المُدَّعي..
لا.. لَن تلوحَ فَوقَ أرضي إلاّ راياتُ الوِفاقْ
ضاحِكاتٍ.. هازِئاتٍ بِالتَّماثيلِ "العِتاقْ"
فَهَلُمِّي، يا حَياتي، بَعدَ أن عَمَّ الوَعي
نُشعِلُ الآمالَ نوراً في الآفاقْ
ثُمَّ نَسقي في حَنايا الأضلُعِ
حُبَّنا التَّوَّاقَ دَوماً.. لِلعِناقْ.
**
لعنة اللّه علينا

ـ1ـ
مِن أَينَ يَأْتي النُّورُ
وَالدُّنيا ظَلامْ؟!
من أيْنَ يَأْتينا السَّلامْ
والحِكاياتُ الحزينَه
أَرهَقَتْ ثَغرَ المَدينَه
والأنامْ..
تَستَطيبُ الغَدرَ والمَوتَ الحَرامْ؟!
ـ2ـ
لَم يَعُدْ فينا شُجاعْ
كُلُّنا باعَ الضَّميرْ
وَتَدَثَّرنا بِأَثوابِ الخِداعْ..
عَمرو بنُ كُلثومٍ سَقانا العِزَّ
خَدَّرَنا بِأَبياتٍ جَميلَه
لَعنَةُ اللّهِ عَلَينا..
قَد خُلِقنا والجَبانةُ تَوأَمَيْنِ..
هِيَ خَرساءٌ.. وَنَحْنُ
تَسبُقُ الأَقدامَ أَلسِنَةٌ طَويلَه!
ـ3ـ
لَعنَةُ اللّهِ عَلَينا ..
إن أَكَلنا أو شَرِبنا أو حَكَيْنا
طالَما أنَّ "يَدَيْنا"
تَحرُسُ وَكرَ الزَّعامَه
طالَما أَنَّا نُصَفِّقُ
أو نُرَدِّدُ
كُلَّ حَرفٍ قالَهُ تَيْسُ الزَّعامَه
لَيْتَنا ضِعنا.. انْتَهَينا
لَيْتَنا مُتْنا.. وَلَم نَسْمَعْ كَلامَه.
ـ4ـ
كَيْفَ نُصْبِحُ أُمَّةً..
وَالكُلُّ يَرْغَبُ بِالتَّسَلُّطِ والسِّيادَه؟!
كَيْفَ نُصْبِحُ أُمَّةً..
والدِّينُ سِلْعَةُ تاجِرٍ
مَعْروضَةٌ للبَيْعِ في دورِ العِبادَه؟!
نَحْنُ مَنْ باعَ الإلهَ وَالتَّعاليمَ 
بِساحاتِ المَزادِ
نَحْنُ مَنْ أعطى الغَريبَ
كُلَّ أَسْرارِ البِلادِ
ثُمَّ ثُرْنا..
كَيْ يُقالَ: ثاروا يوماً وَتنادوا لِلْجِهادِ..
لَعْنَةُ اللّه عَلَيْنا
كَمْ شَرِبْنا وَاحْتَسَيْنا
خَمْرَةَ الكِذْبِ وَأَفْيونَ الفَسادِ!
ـ5ـ
أَلْخَيْلُ لا..
واللَّيْلُ لا..
حَتَّى ولا الْبَيْداءُ تَعْرِفُنا!
نَحْنُ.. الْخَساسَةُ والتَّزَلُّمُ والتَّمَلُّقُ
مِنْ مَعارِفِنا
أَقْلامُنا مَغْرورَةٌ
وَرِماحُنا مَكْسورَةٌ
وَرِقابُنا مَنْحورَةٌ..
.. بِسُيوفِنا
فَتَأَمَّلوا.. كَيْفَ تَوَحَّدَ نيرُهُمْ
وَتَبَدَّدَتْ مِثلَ الغُبارِ صُفوفُنا!
ـ6ـ
كَمْ تَآخَيْنا خِداعاً
وَتَحَزَّبْنا خِداعاً
وَتَمَلَّقْنا النِّظامْ..
وَتَناتَشْنا الغَنائِمَ وَالمَراكِزَ والْمَقامْ
كَكِلابٍ أَسْكَتوها بِالْعِظامْ!
كَمْ تَباكَيْنا عَلَى نَهدٍ جَميلٍ
حينَ وافانا الفِطامْ!
كَمْ تَجادَلْنا هُراءً
وَتَخاصَمْنا غَباءً
وَتَقاذَفْنا الْكَلامْ
وَتَباهَيْنا بِجَيْشٍ سَئِمَتْ مِنْهُ الخِيامْ
جَيْشُنا، وَالْكُلُّ يَعْلَمُ،
لا يَسيرُ إلى الأَمامْ!
لَعْنَةُ اللّهِ عَلَيْنا
لَمْ يَعُدْ شَيءٌ لَدَيْنا
غَيْرُ أَضرِحَةِ الرُّخامْ!
ـ7ـ
أَيْنَ العَساكِرُ..؟! وَالْعَدُوُّ مُدَجَّجٌ،
يَأْتِي إِلَيْنا كُلَّما شَاءَ الْمَجيءْ
يَغْتالُ فينا بَريئَةً.. وَيَدوسُ أَنفاسَ بَريءْ
أَينَ القِياداتُ؟.. وَأَينَ الشَّعبُ؟..
أَوَّاهُ.. عَلى شَعبٍ جَريءْ
يُلْغي الْمَقاييسَ وَيُنْهي سَطوَةَ الحُكْمِ الرَّديءْ!
ـ8ـ
لَعْنَةُ اللّهِ عَلَينا.. 
دائِماً قولوا إذا شِئْتُمْ بُلوغَا
إنَّا حَفِظْنا مِنَ الْمَديحِ مُعَلَّقاتٍ
وَتَناسَيْنا النُّبوغَا
نَحنُ شَعْبٌ.. مارسَ التَّدجيلَ أَجْيالاً طِوالا
وَادَّعى حُبَّ الفَضيلَةِ والتَّبَتُّلِ
والنِّساءُ يَتَبَخْتَرْنَ حَبالى!
آنَ الأوانُ كَيْ نَصيرَ أُمَّةً تَمشي..
فَيَتَّسِعُ الْمَجالْ
آنَ الأوانُ كَي نَصيرَ أُمَّةً تومي..
فَتَنْتَزِعُ المُحالْ
آنَ الأَوانُ.. أُمَّتي
أو قَد أَقولُ مَرَّةً ثانِيَةً.. ما لا يُقالْ.
**
عاش الملك

وَقَفْتُمْ بَيْنَ مَوْتٍ أَو حَياةٍ
فَإنْ رُمْتُم نَعيمَ الدَّهْرِ فَاشْقوا
ولِلأَوْطانِ في دَمِ كُلِّ حُرٍّ
يَدٌ سَلَفَتْ وَدَيْنٌ مُسْتَحَقُّ
وَلِلْحُرِّيَةِ الْحَمْراءِ بابٌ
بِكُلِّ يَدٍ مُضَرَّجَةٍ يُدَقُّ
أحمد شوقي
ـــــــــ
ـ1ـ
سَمِعْتُكَ شَوْقي.. وَرَبِّ السَّماءْ
فَهِمْتُ الْمُرادَ.. حَفِظْتُ النِّداءْ
وَرُحْتُ أَدُقُّ
أَدُقُّ
أَدُقُّ
وَما مِنْ مُجيبْ..!
فَكَلَّتْ يَدايَ
وَخارَتْ قِوايَ
وَصِرْتُ أَهيمُ بِأَرْضي غَريبْ
أَرى الأُمَّ ثَكْلَى،
أَرَى الْحُزْنَ فَوْقَ وُجوهِ الْيَتامَى
وَشَعْبي يَسيرُ كَجَدْيٍ صَغيرٍ
يَقودُهُ راعٍ بِطَرْفِ قَضيبْ.
ـ2ـ
سَمِعْتُكَ شَوقي.. وَمِثْلي الْمِئاتُ
وَمِثْلي الأُلوفُ.. وَمِثْلي الشُّعوبْ،
فَثُرْنا عَلَى الْجَهْلِ،
دُسْنا أُنوفَ الْفَوارِقِ،
حَطَّمْنا قَيْدَ الْعُيوبْ.
مَشَيْنا عَلَى الْماءِ مَشْيَ الْمَسيحِ،
وَكُنَّا نُؤَذِّنُ عِنْدَ الْغُروبْ.
حَمَلْنا السُّيوفَ،
الْتَقَيْنا الخُطُوبَ، وَخُضْنا الْحُروبْ.
صَمَدنا كَسَدٍّ بِوَجْهِ السُّيُولِ،
وَفَأْرُهُ ماتَ وَما مِنْ ثُقوبْ!
فَيا لَيْتَنا لَمْ نُدارِ عُيُوبا
وَيا لَيْتَنا لَمْ نُداوِ ثُقوبا
وَيا لَيْتَنا لَمْ نُكَوِّنْ شُعوبا
وَشَيْخُ الْعَشيرَةِ يَحْكُمُ أَرْضي
وَمِنْ مِنْخَرَيْهِ تَسيلُ الذُّنوبْ!
فَقُمْ ناجِ جِلَّقَ..
قُمْ ناجِ قُدْسَنا..
قُمْ ناجِ جُولانَنا والْجَنوبْ.
ـ3ـ
هَجَرْتُ بِلادي وَقَرْعُ الطُّبولِ
يُثيرُ اهْتِياجي بِلَيْلَةِ عُرْسي
فَما عُدْتُ أَدْري..
أَجاءَ نَهاري
أَمِ انْقَضى لَيلي وَهَرْوَلَ أَمْسي
وَمَجْرَى الدُّموعِ تَخالُهُ جُرْحاً
غَزَتْهُ دِماءٌ.. غَزاها التَّأَسِّي
فَأَحْسَسْتُ شَوْقي، وَأَنْتَ بَعيدٌ،
بِأَنَّكَ مِنِّيَ تَسْرُقُ حِسِّي،
لِتَنْقُشَ فَوْقَ الرُّخامِ بُيوتاً
سَيَزْدَهي فيها رُفاتي وَرَمْسي..
فَطُفْتُ أُرَدِّدُ شِعْراً عَظيماً:
أَيا وَطَناً زَيَّنَتْكَ زُهوري
وَكانَتْ سُهولُكَ مَلْعَبَ شَمْسي
أَنْتَ الَّذي.. كُلُّ مَجْدٍ أَتَيتُهُ.. مِنْهُ
أنْتَ الَّذي.."لَو شُغِلْتُ بِالْخُلْدِ عَنْهُ
نازَعَتْني إلَيْهِ في الْخُلْدِ نَفْسي".
ـ4ـ
اَيا صَوْتاً يُجَسِّدُ صَوْتَ مَنْ غابوا
أَيا حَرْفاً يُفاخِرُ فيهِ أَعرابُ
أَيا قَلْباً بِصَدْرِ الشَّرْقِ
هَلْ أَوْدَعْتُكَ سِرِّي؟!..:
رَأَيْتُ الْكِذْبَ شَيْطاناً
يُهَدِّدُ جَنَّةَ الشِّعْرِ
وكُتَّاباً أَناخوا الضَّادَ كَيْ يَرْكَبْها أَغْرابُ
بِرَبِّكَ قُل لي يا شَوْقي:
أَلِلآدابِ أَذْنابُ ؟!
ـ5ـ
أَميرٌ..
وَهَلْ غَيْرُكَ مِنْ أَميرْ؟!
وَزَحْلَةُ تَذْكُرُ زَيْنَ الشَّبابِ
يَجيءُ إِلَيْها كَطِفْلٍ صَغيرْ
يُداعِبُ وَجْهَها،
يَنْثُرُ شَعْرَها،
يَسْكُبُ فَوقَ أَصابِعِ رِجْلَيْها ماءَ الْغَديرْ
وَيَرْحَلُ عَنْها.. وَفي الْعَيْنِ دَمْعٌ
وَفي الْقَلْبِ شَوْقٌ..
وَحُبٌ كَبيرْ.
ـ6ـ
أَميرٌ..
وَهَلْ غَيْرُكَ مِنْ أَميرْ؟!
وَأَنْتَ بَنَيْتَ لِسُلْطانِ باشا
قُصوراً مِنَ الشِّعْرِ،
فيها التَّواضُعُ ، فيها النِّضالُ،
وَفيها الضَّميرْ..
وَثَوْرَةُ شَعْبٍ أَرادَ الْحياةَ
فَأَعْطى الدِّماءَ وَضَحَّى الْكَثيرْ.
ـ7ـ
مِصْرُ الْبُطولَةِ.. تِلْكَ الحَبيبَةُ
مَنْ مِنْ بَنيها وَلَمْ يَمْتَلِكْ
مَجْداً..
يُضاهي النُّجومَ سُطوعاً بِلَيْلٍ حَلِكْ؟
وَحَسْبُكَ شَوْقي.. بِأَنَّكَ أَنْتَ
غَزَلْتَ لَها الْمَجْدَ في مِغْزَلِكْ
فَمَهْما كَبُرْنا بِرَوْضِ الْقَوافي
نَظَلُّ نَحِنُّ إلى مَشْتَلِكْ
وَتَبْقَى الْحُروفُ تَجيءُ إِلَيْكَ
لِتَنْهَلَ ماءَها مِنْ مَنْهَلِكْ
وَكُلُّ القُلوبِ تَعوفُ الصُّدورَ
لِتَسْكُنَ يَوْماً حِمَى مَنْزِلِكْ
فَكَيْفَ ارْتَضَيْتَ بِلَقْبِ أَميرٍ
وَشَعْبُكَ يَهْتِفُ: "عاشَ الْمَلِكْ"؟!
**
دَعوة إلى الجنون

ـ1ـ
سَئِمْتُ الْهَجْرَ يا أَرضي
فَهَلْ في حِضنِكِ الواسِعْ
مكانٌ.. أَسْنُدُ الرَّأْسَا
إِلَيْهِ، وَالْصَّدَى الدامِعْ
يُعِيدُ الرُّوحَ والأَمْسَا:
شَباباً يَنْثُرُ الْعِرْسَا
عَلَى ذَاكَ الثَّرَى الرَّائِعْ؟!
ـ2ـ
عَبَرْتُ الْبَحرَ.. لَـمْ أَدْرِ
بِأَنْ، في الْبَحرِ، نيرانَا
وَزِلْزالاً، وبُرْكانَا
فَما أَقْساكَ يا بَحْرِي
أَهِيمُ الْعُمْرَ كَالضَّائِعْ
شَتيتَ الحُلْمِ والقَبْرِ
أُغَنِّي الأَرْضَ في شِعْرِي
وأُدْمِي دَمْعَةَ الهَجْرِ
وأَنْعِي وَهْجَهُ الخَادِعْ..
ـ3ـ
أنا إنْ مُتُّ في الغُرْبَهْ
فَشَوْقِي الْجامِحُ الْقاهِرْ
سَيُلْغِي الْمَوْتَ وَالتُّرْبَهْ
وَأَغْدُو الْفَارِسَ الظَّافِرْ:
... إلى إِشراقَةِ الشَّمسِ
عَلَى أَحْجارِ إِلْماسِكْ
وصَيفٍ زادَهُ تِيهاً
صَفاءُ الخمْرِ في كاسِكْ
... إلى مَأْذُونِكِ الْشَّادِي
عَلَى تَرْنيمِ قُدَّاسِكْ
وَتَأْذِينٍ يُناجِيهِ
هُياماً، صَوْتُ أجراسِكْ
... إلى زيناتِ أطفالٍ
أَقاموها بِأَعْراسِكْ
وَدَبْكاتٍ وَهَيْصاتٍ
تُزيحُ الْهَمَّ عَنْ راسِكْ
.. إلى ثَلْجاتِكِ البَيْضاءِ
تَكْسُو وَجْهَكِ العامِرْ
وَنَبْعٍ دائِماً يَحْنو
عَلى شلاَّلِكِ الهادِرْ
وفَلاَّحٍ تُسَلِّيهِ
حَكايا رَوْضِكِ الزَّاهِرْ
وتَلاَّتٍ أَنِيقاتٍ
يُعانِي دونَها الطَّائِرْ
.. إِلَى مَلْقاكِ يا مَجْدِي
ويَكفينِي عَنِ البُعدِ
ثَراءً.. حُبُّكِ الطَّاهِرْ.
ـ4ـ
أَعِينينِي إِذَا جاءَتْ
عَذَارَى طَيْفِكِ الغالي
وَشَاءَتْ أَنْ تُواسينِي
فَهَلْ أَشْكُو لَها حالي؟:
أنا صَوتٌ.. وَلكِنِّي
أُدارِي وَقْعِيَ العالي
وأحلامٌ.. أخَافَتْهَا
تَحَدِّيَّاتُ أَطْفالي
وأَنَّاتٌ كَئيباتٌ
أُغَنِّيها بِمَوَّالي
أنا بِالهَجْرِ مَسْجُونٌ
طَويلٌ ذَيْلُ أسْمالي
فَهَلْ أَلْهَمتِنِي صَبْراً
لأُلْغِي قَيْدَ أقْفالي
وأَشْدُو حُبَّكِ الْمَدْفونَ
يا أَرْضي.. بِأَوْصالي
ـ5ـ
أنا مَنْ عاشَ مَصْلوباً
عَلَى مَوْجاتِ إحْساسِهْ
وَجُرْحِي نازِفٌ سَمّاً
ولا جُرْحَ بِمِقْياسِهْ
أنا مَنْ عَضَّهُ شَوقٌ
وَلَحْمِي بَيْنَ أضْراسِهْ
وَدَهْرِي دائِماً يَقْسو
عَلَى الأَخْيارِ مِنْ ناسِهْ.
ـ6ـ
أنا مَنْ هامَ لا يَلْوِي
وَغَطَّى وَجْهَهُ الطِّينُ
وقالَ النَّاسُ: مَجنونٌ
فَيا نِعْمَ المَجانينُ
لَهُمْ صَيْحاتُ أطْفالٍ
بِها تَزْهو الْبَساتينُ
وَهُمْ للشَّرْعِ إدراكٌ
وَلِلْحَقِّ قَوانينُ
وَلَمْ تَلْعَبْ بِدُنْيَاهُمْ
سِياساتٌ وَلا دينُ
فَجُنُّوا، الْيَوْمَ، لا تَخْشَوْا
إذا هاجَتْ مَلايينُ
جُنونُ الحقِّ لا يَعْلوهُ
تاجٌ أو سَلاطينُ
وَنَصْرُ الشَّعْبِ.. يا أَرضي
بِمَسِّ الشَّعبِ مَرْهونُ!.
ـ7ـ
فَجُنُّوا، الْيَوْمَ، إِنْ شِئتُمْ
هَلاكاً فيهِ تَخْليدُ
وَأَمْجادُ حِكاياتٍ
تُغَنِّيها الأناشيدُ
وَذِكرى تُرْجِعُ الْماضِي
وَتُهْديها الْمَواعيدُ
إلى أفْواهِ أجْيالٍ
أدارَتْها العَناقيدُ
كحَبَّاتٍ مُضِيئاتٍ
يُناغِي ضَوْءَها العيدُ.
ـ8ـ
فَجُنُّوا يا أَحِبَّائِي
وَصيحوا صَيْحَةَ النَّصْرِ
فَلا القُوّادُ صاحوها
ولا الْحُكّامُ في القَصْرِ
لأنَّ الْكُلَّ مَخْمورٌ
أماتَ الحِسَّ بالخَمْرِ
هَلُّموا نَحْفُرِ الْمَدْفَنْ
وَنوسِعْ رُقْعَةَ الحَفْرِ
وَنُرْدِ الْخَائِنَ الأَرْعَنْ
وَنُنْهِ الأَمْرَ بِالأَمْرِ
فَإنْ بَقَّتْ أراضينا
فُلولَ الكِذْبِ والْغَدْرِ
نُشَمِّرْ عَنْ أيادينا
ونَرْمِ الْكُلَّ في الْبَحْرِ..
**
بلاد الرسالات

ـ1ـ
عُيونٌ تُصَلِّي
لِفَجْرٍ مُطِلِّ
وقَلْبٌ يُناجِي بُزوغَ الأَمَلْ
وَأَيْدٍ كَفاها
خُلوداً وَجاهَا
بِأَنْ مِنْ جَناها بَقاءَ الأَزَلْ
ـ2ـ
دَخَلْنا الزَّمانا
بِعِزٍّ.. وَكانَا
لَنا الْمَجْدُ مِنْ مُعْطَياتِ الْجُدودْ
شَبَكْنا الأَيادي
وَرُحْنا نُنادي:
بِلادَ الرِّسَالاتِ صُنْ يا خُلودْ
ـ3ـ
سَلُوا الْكَوْنَ عَنَّا
فَيَرْوِي بِأَنَّا
شَبابٌ.. أَتَيْنا لِنَشْرِ السَّلامْ
وَأَيْضاً صَواعِقْ
إذا جاءَ سارِقْ
حَقُودٌ، لَئيمُ، يُبيتُ الْخِصامْ.
**
أَرض العراق.. أتيتك

ـ1ـ
أَرضَ الْعِراقِ.. أَتَيْتُكِ
وَالْهَجْرُ يَغْتالُ البَنينْ
عُمْري انْتَهى،
وَصَبابَتي
تَحْكي حَكايا غُرْبَتي:
كَيْفَ احْتَبَسْتُ القَهْرَ أَعْواماً
وَعارَكْتُ الحَنينْ
كَيْفَ احْتَرَفْتُ الْقَفْزَ مِنْ شَكٍّ إلى شَكٍّ
لأَحْظَى بِالْيَقينْ..
ـ2ـ
أَرْضَ الْعِراقِ.. أَتَيْتُكِ
مُدِّي الْيَدَيْنِ إلى الْحَبيبْ
إنّي سَكَبْتُكِ مِنْ عُيونِيَ "دِجْلَةً"
أوّاهُ.. كَمْ يَبْكِي الْغَريبْ
وَرَسَمْتُ وَجْهَكِ ساطِعاً
كالشَّمسِ.. لا يَخْشَى الْمَغيبْ
جَدَّلْتُ شَعْرَكِ بالْوُرودِ، كَأَنَّما،
تَنْسابُ عِنْدَ سُفوحِهِ أَنْهارُ طيبْ
زَيَّنْتُ ثَغْرَكِ بِالْكَواكِبِ،
وانْتَشى الْخَدَّانِ حينَ تَسامَرَتْ،
بِالْقُرْبِ مِنْ أُذُنَيْكِ،
أَقْلامُ أَديبْ..
ـ3ـ
أَرْضَ الْبُطولَةِ
والرُّجولَةِ
والصَّبايا الْباسِلاتْ
هَلْ تَذْكُرينَ مُهاجِراً
ضاقَتْ بِهِ الأَوطانُ ، فَاغْتَرَبَ.. وَماتْ؟!
وَبِعَيْنِهِ لَهَبُ الدُّموعِ
بِقَلْبِهِ فَيْضُ الرُّجوعِ
بِعُمْقِ .. عُمْقِ الصَّدْرِ وَخْزُ الذُّكْرَياتْ
مَنْ غَيْرُكِ؟!..
تَلْتاعُ فَوقَ ضَريحِهِ نَسَماتُها
تَحْنو عَلَيْهِ بِغَمْرَةٍ
وَبِهَمْسَةٍ
وَبِقُبْلَةٍ ..
وَاللّهِ لَولا المِرْبَدُ
لا شَيْءَ يُعْطيهِ الْحَياةْ.
ـ4ـ
حينَ الْتَقَيْتُكِ ..
شَالَني الفَجْرُ عَلَى أَكْتافِ يَقْظَتِهِ
فَماتَتْ فِيَّ أَوْهامي،
وَصِرْتُ أَعْشَقُ الظِّلَّ..
أَنا الْهَرْبانُ مِنْ ظِلٍّ ثَقيلِ الوَقْعِ قُدَّامي.
وَصِرْتُ أَحْرُثُ اللَّيْلَ لأَبْذُرَ فيهِ أَنْغامي،
وَأَرْكُضُ في شَوارِعِكِ
لأُرْجِعَ زَهْوَةَ الْماضي
وَأُمْسِكَ بَعضَ أحْلامي..
هُنا اللَّحَظاتُ، يا أَرْضي،
تُساوي كُلَّ أَيَّامي.
ـ5ـ
هَلْ جَنَّةٌ في الأرْضِ، إِلاّكِ،
تُسَيِّجُها الضُّلوعْ؟؟
أَوْ يَسْتَحيلُ الشِّعْرُ في أَحْيائِها سَمَكاً
لإِطْعامِ الجُموعْ؟!
وَالأُمَّهاتُ الطَّاهِراتُ الْحالِماتُ
بِزَغْرَداتِ الْحُضْنِ.. ساعاتِ الرُّجوعْ
يَغْزِلْنَ مِنْ أَشْواقِهِنَّ مَعاطِفاً
لِشَبابِهِنَّ السَّاهِرينَ اللَّيْلَ كَيْ تَغْفُوْ الرُّبوعْ
لِبَناتِهِنَّ الطَّالِعاتِ مِنَ الْجِراحِ،
كَثَوْرَةٍ،
تَأْبَى الْخِداعَ أَوِ الْخُضوعْ!
ـ6ـ
هَلْ يُحْسِنُ الإِنْسانُ، لَوْلاكِ،
اخْتِزالَ الْعُمْرِ في أُسْبوعْ؟!
أوِ انْتِظارَ الْقَمْحِ مِنْ سَنَةٍ إلى سَنَةٍ
عَلَى بَيادِرِ جُوعْ؟!
هَلْ يَحصُدُ الإنْسانُ أَعْراساً وَأَفْراحاً
وَفي الْحَقلِ دُموعْ؟!
أَنْتِ، يا أَرْضَ الْعِراقِ، حِكايَةٌ
فاحَتْ بِها الأَمْجادُ
واخْضَرَّ الْخُشوعْ.
ـ7ـ
قَد تَضْحَكينَ، وَأَنْتِ الضَّادُ،
مِنْ نُطْقي، وَمِنْ لُغَتي..
وَمِنْ شِعْرٍ غَريبِ السَّبْكِ
يَحْمِلُ وَشْمَ مَحْبَسَتي.
قَدْ تَضْحَكينَ.. وَلكِنْ، ضِحْكَةَ الأُمِّ
الَّتي ابْتَهَجَتْ بِطِفْلٍ تَمْتَمَ:
يَمَّا..
فَيا أُمِّي..
بِغَرْبٍ ضَمَّني طِفلاً
تَرَكْتُكِ أَنْتِ "سَيِّدَتي"
وَنَشْرَ الضَّادِ أُمْنِيَتي
وَفَوْقَ شِراعِ أَسْفاري
كَتَبْتُ كَلامَ أُغْنِيَتي:
"هَيْهاتْ يا بو الزّلُفْ
عَيْني يا مُولَيَّا
بَغْداد هِيِّي الْقَلِبْ
وْلُبنانْ عينَيَّا.."
ـ8ـ
لُبنانُ، يا بَغْدادُ، كَمْ سَنَةٍ
يَقْتاتُ مِنْ أَكْبادِهِ الأَلَمُ

هَلْ يَنْتَهي الإنسانُ في وَطَنٍ
كانَتْ تُناغي أَرْضَهُ الْقِيَمُ

أَعْداؤهُ الأَوغادُ هَمُّهُمُ
أَن يُسكِرَ المُسْتَنقعاتِ دَمُ

أَوصافُهُمْ، إن شِئْتِ، أَكْتُبُها
كَيْ تَعْلَمي كَمْ يَخْجَلُ الْقَلَمُ
ـ9ـ
لُبنانُ، يا بَغْدادُ، مَعْبَدُنا
فيه ارْتَدَتْ أَرْواحَنا الْكِلَمُ

وَالْيَومَ.. تَدعو اللّهَ أَلْسِنَةٌ
يَغْفو عَلَى أَحْناكِها الصَّنَمُ

قَدْ قَسَّمَتْ أَوْطانَنا ضِيَعاً
وَالشَّعْبُ يَدْري كَيْفَ يَنْتَقِمُ
ـ10ـ
لُبنانُ، يا بَغدادُ، أُغْنِيَةٌ
تاهَتْ، فَتاهَ اللَّحْنُ والنَّغَمُ

كُلُّ الْجِبالِ الْعالِياتِ هَوَتْ
حينَ احْتَوانا بِكَفِّهِ الْعَدَمُ

حَتَّى اخْضِرارُ الأَرْضِ لَيْسَ سِوى
صَحْراءَ تَخْبو تَحْتَها الْحِمَمُ
ـ11ـ
مُسْتَفْعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ فَعِلُنْ
تَفْعيلَةٌ تَرديدُها سَأَمُ

تَجْتَرُّنا الأَوزانُ حادِيَةً
وَالشَّعْبُ في أَبْدانِهِ السَّقَمُ

مَنْ ذا يَقيسُ الشِّعْرَ في زَمَنٍ
يَرْتابُ مِنْ أَلْوانِهِ الْعَلَمُ
ـ12ـ
أَقدارُنا تَنهالُ ضارِيَةً
إَن لَم نُقاوِمْ لَفَّنا النَّدَمُ

قَد تَجْرُفُ الأحقادُ أُمَّتَنا
قَد تُمَّحى مِنْ طَيْشِنا الْحِكَمُ

قَد نَنْزَوي وَالْكَونُ يَرْذُلُنا
قَد تَرْتَوي مِن دَمْعِنا الدِّيَمُ

لكِنَّنا.. وَالْحَقُّ في يَدِنا
نَبْقى، لِتَبْقى بَعدَنا الأُمَمُ
ـ13ـ
أَرضَ العِراقِ.. أَتَيْتُكِ
مُتَعَطِّراً بِالْياسَمينْ
كَي تَعرِفي الْمَحْبوبَ
مِن بَينِ أُلوفِ الزّائِرينْ..
الوافِدينَ إِلَيْكِ يا بَيْتَ الرَّسولِ،
وَدَيْرَ عيسى،
وَكُلِّ.. كُلِّ الْمُرْسَلينْ..
يا نَجْمَةَ الشَّرْقِ الْبَهِيَّةَ في سَماءِ الغائبينْ
إِنِّي أَتَيْتُكِ.. فَافْتَحي الشُّباكَ
لا أَخْشى عُيونَ الْحاسِدينْ!..
المربد - بغداد 1987
**
لماذا أغني؟

ـ1ـ
.. وَكُلَّما ضاقَ بِعَيْني الْمَجالْ
وَناءَ اللِّسانُ بِما لا يُقالْ
يَشُدُّني شَوقٌ لأَرضٍ بَعيدَه
تَتوقُ لِعَطفٍ 
وَهَمْسِ ابْتِهالْ
لأرضٍ تَئِنُّ.. 
وَتَشْقى وَحيدَه
وَفَوقَ الشِّفاهِ يَعيشُ السُّؤالْ:
"لِماذا الْحُروفُ ابْتِداءُ الجَريدَه
وقَتلُ البَرايا انْتِهاءُ الْمَقالْ؟"
ـ2ـ
غَريبٌ!.. 
وَخَلْفَ ارْتِحالي ارْتِحالْ
وَغَصَّةُ صَدرٍ، 
وَحُلْمٌ بِبالْ..
وَأُمٌّ تَحوكُ أُلوفَ الْحَكايا
عَساها تَنالُ الْبَعيدَ النَّوالْ
وَتِلكَ الحَبيبَةُ.. سِتُّ الصَّبايا
يُعَانِقُ قَدَّهَا طيبُ الدَّلالْ
فَكيفَ أُغَنِّي؟.. 
وَكُلُّ الْبَرايا
تَرُشُّ بِعيدِها زَهرَ الوَبالْ
فَكَيفَ أُغَنِّي؟.. 
وَبُومُ المَنايا
نَعيقُهُ شُؤْمٌ.. 
وَبَدءُ زَوالْ
وَأَرضي تَغوصُ بِبَحرِ الرَّزايا
وَشَعبي يَعُدُّ حُبوبَ الرِّمالْ؟
ـ3ـ
لِماذا أُغَنِّي..
وَصَوتُ الْعَواهِرْ
يَصُمُّ الْغِناءَ بِلَيلِ المَصائِرْ
وَما مِنْ حَبيبٍ عَلَى الْعَهدِ باقِ
بَقاءَ الضِّياءِ بِعَيْنِ المَنائِرْ
يَقولُ بِأَنِّي: 
رَسَمْتُ سِياقي
بِدَمْعِ الْيَتامَى وَحِقْدِ الأَظافِرْ
لِيَربَحَ شَعْبي بِيَومِ السِّباقِ
وَيَخْذُلَ شَيْطانَهُ وَالْمَقابِرْ
وَيُنْهي الزَّعامَةَ.. 
يُلْغِي الفَوارِقَ..
يَخْلُقَ فَوقَ الْمَساحاتِ.. 
ثائِرْ
**
نشيد معهد سيّدة لبنان

ـ1ـ
مِثْلَ بَدْرٍ فِي عُلاهْ
مِثْلَ نَجْمٍ إِسْطَعِي
فَبِكِ حُبُّ الإِلَهْ
وَمَناهِلُ الْوَعِي
فَطِيرِي
وَصِيري
آمالَ جِيلْ
إِسْمُكِ يَنْبُوعُ الإيمانْ
إِسْمَ الْعَذْراءِ تَحْمِلينَ:
سَيِّدَةُ لُبْنانْ.
ـ2ـ
كَمْ نُحِبُّكِ مَدْرَسَه
لِعائِلَه مُقَدَّسَه
لِشَعْبَيْنِ
عَظِيمَيْنِ
فِي بِلادٍ مُؤْنِسَه
فَطِيرِي
وَصِيري
آمالَ جِيلْ
إِسْمُكِ يَنْبُوعُ الإيمانْ
إِسْمَ الْعَذْراءِ تَحْمِلينَ:
سَيِّدَةُ لُبْنانْ
**
من قال؟

مَنْ قَالَ:
دِجْلَةُ
وَالْفُراتُ
يُغَذِّيانِ بِماءِ طُهْرِهِما الْعِراقْ
كَيْ تَشْمَخَ النَّخلاتُ
كَالأَبْطالِ؟
هَلْ فِي الْكَوْنِ أَبْطالٌ
كَأَبْطالِ الْعِراقْ؟
الزَّارِعِينَ الرُّوحَ
آياتٍ
وَراياتٍ
عَلَى شَطِّ الْعِراقْ
الْحارِقِينَ الْعُمْرَ إِيماناً
لِكَيْ يَتَطَيَّبَ فِيهِ الْعِراقْ..
وَالسَّاكِبِينَ دِماءَهُمْ
كَيْ تَمْحُوَ الآثَامَ
عَنْ وَجْهِ الْعُرُوبَةِ
.. وَالنِّفاقْ
**
أبكي

أبكي..
وأبكي
بغير انقطاعْ
وأذرفُ دمعاً،
فدمعي مشاعْ
أبكي، وأبكي
على حب قلبٍ
أضاعَ حياتيَ عندما ضاعْ
فخارتْ خدودي
وبتُّ كسيحاً
من الصعبِ أن أخطُو قيدَ ذراعْ
تلاشيتُ رغم الشباب المغذى
بروحُ الحياة، لينهِي الضياعْ
حبيبي،
عيوني،
بربّك عدْ لي
بقلبي أنينٌ..
بصدري التياعْ
فعمريَ أضحى محيطَ لهيبٍ
وإني سفينه بغير شراعْ
**
حبيبي من مصر

إعزف حبيبي، لا تخف من جمعنا   
فالنايُ توّاقٌ إلى صوتي أنا
إشتقتُ للعزفِ الجميلِ المنتقى     
مثل الدراري منْ عطايا فننا
من رنّة الأنغام لمّا أنتشي     
قد تنشي من رقصتي هذي الدنى
من أين جئت اليومَ يا حُبّي؟.. فهلْ    
جئتم إلينا، مُغرماً، من مِصْرِنا؟
أمْ هلْ حملتم من ثراها حِفنةً     
كي يمزُجوها في ثرى أجسادِنا
قل لي إذا اشتاقتْ لنا أهرامُنا
قل لي إذا أخبرتَها عن حبّنا
والنيلُ هل وشوشتَه عن إبنة
في قلبها من مائه نبعُ الهنا
مِصرُ العطايا زهرةٌ فوّاحةٌ
من أرضها الخضراء كم يحلو الجَنى
تعطي كأنَّ الكفَّ كرْمٌ مذهلٌ
فوق الغصونِ الخضرِ أثمارُ المُنى
بستانُها قصرٌ، ولكن من شذا
أزهارُه فاحتْ ليحلو هجرُنا
أفضالُها قد ننحني من ثقلِها
لكنّها عند العطايا فخرُنا
إعزفْ لنا، خلِّ الدُّنى، مجنونةً
خلفَ الجنونِ الحلوِ نُخفي حزنَنا
إعزف لنا لحنَ الخلودِ الأطرشيْ
إعزفْ لعبدٍ أو أعِدْ كلثومَنا
أرزاتُنا عملاقةٌ فوق الربى
من فيئها خذْ لحنَنا والميجانا
أهلاً بكم.. في هجرِنا قد لا ترى
غيرَ القلوبِ البيضِ تحيي مجدَنا
مهما ابتعدتم، يا حبيبي، لا تخفْ
أنتمْ هنا، في قلبنا، أنتم هنا
**
لبيــك قدســاه

ـ1ـ
سَمِعْتُهَا تَصْرُخُ
وَاللَّيْلُ يَلْعَنُ وَهْجَ النُّجُومِ
وَسَيْرَ الْكَوَاكِبْ!
صُرَاخُهَا لَفَّ الْبِحَارَ
وَأَطْفَأَ نُورَ الْمَنَائِرِ،
أَغْرَقَ كُلَّ الْمَرَاكِبْ!
صُرَاخُهَا أَلْهَبَ صَوْتَ الْجَوَامِعِ،
شَمْعَ الْكَنَائِسِ،
رَفْضَ الْحَنَاجِرْ..
سَمِعْتُهَا تَصْرُخُ: وَا أَيُّوبَاهْ!!
ـ2ـ
أَلْقُدْسُ تُنَادِي صَلاَحاً..
وَالدِّينُ يُنَادِي صَلاحاً..
وَالشَّعْبُ يُنَادِي صَلاحاً..
وَما مِنْ صَلاحٍ يَجِيءُ إِلَيْنَا
كَطِفْلِ الْحِجَارَه..
كَوَقْعِ الْبِشَارَه..
لِيُنْقِذَ بَيْتَ الإِلَه!
ـ3ـ
لِماذا ابْتَعَدْتَ وَأَنْتَ الْعَظِيمُ
وَلَمْعَةُ سَيْفِكَ شَمْسْ؟!
لِمَاذا ابْتَعَدْتَ وَأَنْتَ الْحِكَايَاتُ
أَنْتَ الْبُطُولَه..
وَرَمْزُ الرُّجُولَه..
وَأَنْتَ ابْتِدَاءُ السِّنِينِ،
وَمِنْكَ سَلاطِينُ أَمْسْ!
لِمَاذَا ابْتَعَدْتَ؟
وَوَقْعُ حَوَافِرِ خَيْلِكَ
أَعْذَبُ مِنْ جَعْجَعَاتِ الْجُيُوشِ الَّتِي لا نَرَاهَا..
كَأَنَّ الْكِلابَ تَقُودُ كِلاباً،
نُبَاحُهَا نَصْرْ!
وَخَوْفُهَا نَصْرْ!
وَكِذْبُهَا نَصْرْ!
فَأَيْنَ مَجِيئُكَ يَرْحَمُ طِفْلاً صَغِيراً
لَـمْ يَرْحَمُوهْ؟..
وَأَيْنَ زَئِيرُكَ يَنْصُرُ شَعْباً أَبِيّاً
لَـمْ يَنْصُرُوهْ؟..
فَشُقَّ التَّارِيخَ، وَبَلْسِمْ جِرَاحَ الْعُرُوبَةِ،
خَفِّفْ أَنِينَ الثَّكَالَى،
وَعَلِّ انْحِنَاءَ الْجِبَاهْ.
ـ4ـ
عَرْشُكَ ضَاعَ،
وَسَيْفُكَ ضَاعَ،
وَشَعْبُكَ ضَاعْ..
حكّامنا لصوصٌ كبارٌ.. رُعَاعْ
فكُلُّ الَّذِينَ رَمَوْنَا..
رَمَوْكْ!!
وَكُلُّ الَّذِينَ سَبَوْنَا..
سَبَوْكْ!!
فَكَيْفَ نَرُدُّ زَمَانَكْ
لِيَرْكَبَ طِفْلٌ حِصَانَكْ؟
وَنَهْجُمَ خَلْفَ الْحِصَانِ
وَقَلْبُنَا يَنْبُضُ مَلْيُونَ آهْ!!
ـ5ـ
أَلْقُدْسُ تُنَادِيكَ.. لَبِّ النِّدَاءْ
جُيُوشُكَ نَحْنُ،
شَبَابُكَ نَحْنُ،
فَقُدْنَا إِلَى النَّصْرِ،
قُدْنَا إِلَى الْقُدْسِ..
مِنْ أَجْلِ عَيْنَيْهَا يَحْلُو الْفِدَاءْ.
فَكُلُّ الْكَلامِ عُواءٌ مُواءْ
وَكُلُّ السَّلامِ سَلامٌ خَوَاءْ
وَلَـمْ يَبْقَ إِلاَّ مَجِيئُكَ أَنْتْ..
صَلاحُنَا أَنْتْ..
إيمانُنَا أَنْتْ..
وَنَصْرُنَا أَنْتْ..
فَرُحْمَاكَ عُدْ أَمَلاً لِلشُّعُوبِ
وَصَوْتاً يُجَلْجِلُ فَوْقَ الْمَدَائِنِ:
لَبَّيْكِ أُمَّاهْ..
لَبَّيْكِ قُدْسَاهْ..
**
يا طفل الأرض المحتلَّه

ـ1ـ
يا طِفْلَ الأَرْضِ الْمُحْتَلَّه
يا فَجْرَ الإِنْسانِ الأَعْظَمْ
إِضْرِبْ..
إِضْرِبْهُمْ..
إِضْرِبْنا..
فَالْكُلُّ بِحَقِّكَ قَدْ أَجْرَمْ
وَسِلاحُكَ حجرٌ قُدْسِيٌّ
إِشْتاقَ الأَيْدِيَ كَيْ يَنْقَمْ
فَتَقَدَّمْ..
كالْبَطَلِ الضَّرْغَمْ
كَعَواصِفِ حَقٍّ لا تَرْحَمْ
فَمُنايَ تُريدُكَ يا وَلَدي
أَنْ تَقْطِفَ نَصْراً..
أَنْ تَسْلَمْ..
ـ2ـ
يا طِفْلَ الأَرْضِ الْمُحْتَلَّه
يا كُلَّ جُنَيْناتِ اللَّيْمونْ
يا شَاطِىءَ غَزَّةَ..
يا فُلَّه..
تَتَلَهَّفُ لِلْعِطْرِ الْمَجْنُونْ
النَّصْرُ أَمامَكَ مَكْتوبٌ
بِصَلاةِ الأَهْلِ..
بِصَيْحَةِ دَمْ
فَتَقَدَّمْ..
كالْبَطَلِ الضَّرْغَمْ
كَعَواصِفِ حَقٍّ لا تَرْحَمْ
لَنْ يُصْلَبَ يسوعٌ ثَانٍ
والْعالَمُ مَخْذولٌ..
أَبْكَمْ.
ـ3ـ
لا تَحْنِ الْهامَةَ يا وَلَدي
فَكِبارٌ يَحْنُونَ الرَّقَبَه
وَرُؤوسٌ داسَتْها زَمَناً
جَزماتُ الْحُكَّامِ الرَّطِبَه
لا تَسْكُتْ عَنْهُمْ..
أُرْجُمْهُمْ
فَالْكُلُّ يَبيعُونَ الْكَذِبا
وَأَنا رَبَّيْتُكَ يا وَلَدي
وَزَرَعْتُ بِزَنْدَيْكَ الغَضَبا
فَتَقَدَّمْ..
كالْبَطَلِ الضَّرْغَمْ
كَعَواصِفِ حَقٍّ لا تَرْحَمْ
قَدْ آنَ أَوانُ مَسِيرَتِنَا
لِنُذِيقَ الأَعْداءَ الْعَجَبا.
ـ4ـ
يا وَخْزَ الوِجْدانِ الرَّثِّ،
الْمَجْزوءِ،
الْمَوْبوءِ،
الْمُعْتَلّْ
يا كَفّاً تَعْرِفُ كَيْفَ تُحَطِّمُ
أَحْناكَ الْغَازِي
الْمُحْتَلّْ
يا فَجْراً أَحْرَقَ عَتْمَةَ عَصْرٍ بَاغٍ
يَحْكُمُهُ الْجُبَناءْ
دَعْ صَخْرَ جُنونِكَ يُرْعِبُهُمْ
فَبِلادُكَ ضَيَّعَها الْعُقَلاءْ
وَتَقَدَّمْ..
كَالْبَطَلِ الضَّرْغَمْ
كَعَواصِفِ حَقٍّ لا تَرْحَمْ
سَتَنامُ قَريراً يا وَلَدي
وَتُؤَرِّقُ بالنَّصْرِ الأَعْداءْ
وَسَتَبْقَى الأَعْظَمَ يا وَلَدي
وَأَمامَكَ تَنْدَحِرُ الأَسْماءْ.
ـ5ـ
غالٍ..
وغَلاؤكَ يُجْبِرُني
أَنْ أُبْعِدَ عَنْكَ أَذَى الْعُدْوانْ
لكِنِّي أَبْغِيكَ الْبُشْرَى
كَأَبيكَ النّائِمِ في بيسانْ
كَأَخيكَ الْقُدْسِيِّ الْقَسَماتِ
الطَّالِعِ مِنْ رَحِمِ الإِيمانْ
أَبْغِيكَ كِتاباً حَيّاً
لَمْ يُقْرَأْ..
كَتَبَتْهُ حَصى الشُّطْآنْ
تاريخاً..
لَمْ يَخْجَلْ أَبَداً،
لَنْ يُدْمِي أَفْئِدَةَ الأَزْمانْ
فَتَقَدَّمْ..
كَالْبَطَلِ الضَّرْغَمْ
كَعَوَاصِفِ حَقٍّ لا تَرْحَمْ
أَحْجارُكَ،
حَتْماً، يا وَلَدي
سَتُعيدُ بِناءَ قُرَى الأَوْطانْ.
**