قصائد ديوان "إلهي جديد عليكم" بصوت الشاعر شربل بعيني
**
تقديم
شربل بعيني في "إلهي جديد عليكم"
يخرج على المألوف ويتمرّد على الرتابة
بقلم نعيم خوري
تقديم
شربل بعيني في "إلهي جديد عليكم"
يخرج على المألوف ويتمرّد على الرتابة
شربل بعيني شاعر، والحديث عن الشاعر هو قول في الشعر، والشعر هو الحياة في المعاناة والتحدّي والخلق والإبداع. إنه لا يسعى إلى ترميم الجسور لمواصلة السير وربط المركبّات، بعضها بالبغض الآخر، فيكمل مهمة المخلوق، إنما يزيد في ضرب وتهديم الجسور المتصدّعة، ليبني جسوراً جديدة تتقاطر عليها الأزمنة بعد أن يغنيها بالألق، ويزوّدها باللهب الإنساني، فيقوم برسالة الخالق.
وإذا كان صحيحاً أن الشعر موهبة تزداد نضوجاً وعطاء وتوهّجاً في التجربة والممارسة الأمنيّة، فالأصحّ أن الألـم والمرارة هما أغنى خصائص هذه الموهبة وأكثرها انغرازاً في الأعماق وتوجهاً إلى الأبعاد التي لـم يصل إليها بال.
لتكن القصيدة ما تكون، فأوجاع المخاض التي تسبق ظهورها لا يوازيها إلاّ الفرح الداخلي الذي يتولّد بعدها، فيحسّ الشاعر أن حروفه قطرات ندى ترشها يد خفيّة على لهيب جراحه، ويشعر بلذّة غريبة تتخمّر هنيهات مرهفة، وتمتشق من ضلوعه سيفاً من نار يسلّمه إلى فارس مجهول. هذا الفارس المجهول هو التاريخ، والتاريخ وحده ينصف الشاعر بقدر ما يشترك ويساهم في صناعته.
في "إلهي جديد عليكم"، شربل شاعر من هذا الطراز، لا يتعكّز على المرايا والقناديل، ولا يغتسل بالدمع والعرق، أو يشرب ماويّة الليل ليدخل صباح الشعر فيفرح بعالمه. إنه يفهم الشعر نوراً يسحق عتمة، ويعرف أن رسالة الشعراء لا تتعمّد إلاّ باللهيب.
وإذا كنت لا أقتطع فأذكر شيئاً خاصاً من "إلهي جديد عليم"، فذلك لأن كل شيء فيه يستحقّ الذكر فيطول الحديث، ولأني أترك للقارىء حريّة أن يكتشف مكنونات النفس في شعر شربل بعيني. إن النشوة التي تساور الإنسان في اكتشاف الكنز تفوق النشوة التي تراوده في كيفيّة تصريفه.
أما إذا أردنا أن ندخل في عمليّة معادلة في شعر شربل بعيني، فإنه يتأتّى علينا أن نتجاوز أمرين: وحدة القصيدة والوزن، لأن هم شربل أن يصل إلى المعنى، وأن يصل معه القارىء إلى الغاية، ولذلك تتشقّع عنده الكلمات تلقائياً، وتتطاير أجنحتها بصورة عفويّة، فتضرب الريح لتغالب العاصفة. وإذا سعى إلى تهذيبها وضبطها فإنها تحتك وتتوتّر وتتمزّق فتنزل بجوها في كل صوب، ثـم أليس هو القائل:
قالوا: انتبه في بحور في أوزان
منشان يبقى الشعر بقصورو
قلتلّهن: شعري أنا إيمان
وسع المحيط البالع بحورو
هل نذكّر شربل أن المحيط لا يبتلع البحار بل يبصقها إلى الأطراف المترامية لتغازل الرمل والحصى.. والفراغ. ولذلك لا نجد بحراً في وسط المحيط أو في عمقه، وإنما في الجوانب التي تتدلّل على السماء والأرض.
فيما عدا ذلك، فإن لغته سهلة ممتعة ونقيّة واضحة، ألغازها رموز ثورة نفسيّة، تغلغل في المشاعر، وتداعب العقل، فتخلق بينهما مناخاً من الإلفة والفرح، وتحقّق في الوجدان نشوة الحلم المتمرّد.
هذا الشعر وهذه اللغة، هما خروج على المألوف، وتمرّد على الرتابة، وثورة على الجمود. هما زخّ جديد تتعجّق فيه الأضواء والرياح وألسنة اللهيب، فيأتي الحرف معجوناً بالانصهار، وتصير القصيدة شلاّل حياة تسبّح باسم الرب إلهاً جديداً.
فإذا قرأنا شربل بعيني توجّب علينا أن نقرأ اليرى واللايرى، وأن نتحسس همسات جفوننا، ورفّات خواطرنا، وخلجات قلوبنا، قبل أن تمتدّ إليها يد هذا الإنسان، وتسرق منّا شيئاً، فتردّنا إلى القبل والبعد في محاولة يائسة لاستعادة المسروق.
**
حوار مع ملك القمر
ـ ما هذِهِ الأَصْواتْ؟
أَهَمْهَماتُ كَوْكَبٍ مَنْفِيّ
خَلفَ حُدودِ الْعالَمِ الْخَفِيّ
أَمْ حَشْرَجاتْ؟
ـ قَرْعُ طُبولْ..
ـ مَنْ أَنْتَ؟.. قُلْ لي يا غَريبْ؟.
ـ مَلِكٌ..
ـ ماذا تَقولْ؟!
آهِ يا مَليكَ الظِّلِّ واللَّهيبْ
مِنْ أَيِّ نَبْعٍ تَرْتَوي؟
مِنْ أَيْنَ تَقْتاتُ؟
وَأَيُّ شَعْبٍ تَحْكُمُ؟!
سِرْتُ يَوْماً كامِلاً بَيْنَ الطُّلولْ
لَمْ أَجِدْ غَيْرَ سَرابٍ يَلْتَوي
بَيْنَ كُثْبانٍ بَتُولْ
تَتَعَرَّى فَوْقَها الأَبْراجُ والأَنْجُمُ!
ـ لا مَشْرَبٌ عِنْدي وَلا مَأْكَلْ
حَتَّى وَلا غُلْمانْ
وَاعْلَمْ صَديقي
قَبْلَما تَرْحَلْ
بِأَنَّنا نُؤَلِّهُ الإِنْسانْ
ـ وَهَلْ تُحِبُّ الأَرْضْ؟
ـ هِيَ سَمائي الْخالِدَه..
ـ إِيهِ مِنْ سَمائِكَ الْمَلآنَةِ بِالْبُغْضْ..
هُناكَ يا مَليكَ الْوِحْدَةِ
والطُّهْرْ
شَرائِعُ الْغاباتِ سائِدَه
هَيّا مَعي، زُرْها تَرَ
أَنَّ الْوَصايا الْعَشْرْ
مُبَعْثَرَه!
ـ مَهْما يَكُنْ مِنْ أَمْرْ
مَهْما يَكُنْ مِنْ أَمْرْ
فَحَسَناتُ الْعِلْمِ في بِلادِكُمْ
تَمْحو خَطايا الكُفْرْ..
**
أَنت البدر والنجوم
ـ1ـ
شَفَتاكِ لُؤلؤَتانِ مِنْ بَحْرِ التَّلاشي
وَقَدُّكِ المَمْشوقُ شِلْحُ فَضيلَةٍ
يَعْلوهُ ثَوْبٌ مِنْ قُماشِ
أَرَدْتُ يَوْماً نَيْلَهُ
فَأَصابَني شِبْهُ ارْتِعاشِ!
ـ2ـ
يا امْرَأَهْ..
يا حُلْمِيَ الصَّافي الْجَميلَ تَلَطَّفي
فَشَرابِيَ حُلْوُ الْمَذَاقِ
وَحَسْبُكِ أَنْ تَرْشُفي
قَدْ ذُقْتُ مِنْكِ الصَّدَّ حَتَّى كَأَنَّني
بِتُّ أَخافُ الْحُبَّ
رَغْمَ تَفَنُّني
فَأَنْتَحي مُتَذَمِّراً.. وَيَشُدُّني
شَوْقي إِلَيْكِ..
يَشُدُّني تَلَهُّفي.
ـ3ـ
سَنَواتٌ مَرَّتْ مِنْ عُمْري
سَنَواتٌ كَلَهيبِ الْجَمْرِ
كَالْبُغْضِ حيناً.. كالْقَهْرِ
لا أَدْري بِحالي.. لا أَدْري
أحَيٌّ أَنا..
أَمَيْتٌ أَنا..
وَأَسْأَلُ ذاتِيَ: ماذا يَصيرْ
إِذا اشْتَدَّ يَوْماً ظَلامُ اللَّيالي
أَتَسْخَرُ مِنْها النُّجومُ اللآلي؟
أَيَرْحَلُ بَدْرُ السَّماءِ الْمُنيرْ؟
**
يتيم
زِيدِي عَلَيَّ مِنَ الْهَوَى زِيدِي
وَحَرِّكي ،كَالسَّيْلِ،
صَخْرَ جُمُودِي
وَانْزَعي ثَوباً تَهَيَّبَ مَرَّةً
مِنْ أَعْيُنِي،
فَلَقَد شَفيتُ مِنَ البُرودِ
وَاعْلَمي أَنِّي رَبِيتُ بِدُونِ أُمٍّ
وَإِنِّي مُشْتاقٌ إِلَى طَعْمِ النُّهُودِ
يَتيماً عِشْتُ
يا بِنْتَ الرَّوابي
لَم أَضَعْ رَأْسِي عَلى لَحْمِ الزُّنودِ
أُريدُ الدِّفءَ في لَيْلٍ طَويلٍ
كَرِهْتُ الْعَيْشَ وَحْدِيَ في الْجُرودِ
رَفيقي اللَّيْلُ
مَعْ بَرْدٍ شَدِيدٍ
أَنِيسِي البَرْقُ
مَعْ قَصْفِ الرُّعودِ
بَذَلْتُ الْجُهْدَ أَبْحَثُ عَنْ فَتاةٍ
فَكُنْتِ أَنْتِ ما لاقَتْ جُهودي
فَبَعْدَ الآهِ
والدَّمْعِ الْمُصَفَّى
شَعَرْتُ الآنَ
ما طَعْمُ الوُجُودِ!
**
أعيديني إلى ذاتي
ـ1ـ
فَتَّشْتُ عَنْكِ في كُتُبِي..
فَتَّشْتُ عَنْكِ في أَسْفاري،
في تَعَبِي
وَكُنْتُ كَمَنْ أَضاعَ الْعُمْرَ
في أَحْداقِ مُنْتَحِبِ
أُناديكِ،
أُناجيكِ،
كَطَيْفٍ فاقِدِ النَّسَبِ.
ـ2ـ
هَتَفْتُ باسْمِكِ الْمَوْلودِ في أَدبي
فَجابَ الْكَوْنَ تَرْجيعي
وَداسَ مُعْظَمَ السُّحُبِ
فَرُحْماكِ أَعيديني إلى ذاتي
ولا تَغْتاظي مِنْ غَضَبِي
إذا يَوْماً تَشاكَيْنا
وَفَتَّشْنا عَنِ السَّبَبِ
فَلا يَحْلو لَنا عَيْشٌ
وَفي أَعْماقِنا نَجْمٌ مِنَ الأَحْزانِ
لَم يَغِبِ.
**
بحور العينين الصغرى
ـ1ـ
أَبكي،
وَأَنْدَهُ: عودي إِلَيّْ
فَرِياحُ اليَأْسِ تَهُبُّ عَلَيّْ
وَكَوَرْقَةِ صَفْصافٍ عالٍ
أَتَأَرْجَحُ، أَرْتَجِفُ،
أَلْوي..
أَقْتَرِبُ مِنَ الْمَوْتِ رُوَيْداً.
ـ2ـ
عَبَراتٌ تَهْطُلُ مِنْ عَيْنَيّْ
تُغْرِقُني.. تَدْفُنُ أَشْلائي
تَقْذُفُني في لُجَجِ الْماءِ
والزَّورَقُ يَرْتَطِمُ عَمْداً
بِصُخورِ الآهاتِ الْكُبْرى
وَبُحورُ الْعَيْنَينِ الصُّغرى
تَسْتَقْبِلُ شَتَّى الأَنواءِ!
**
أَنا لَسْتُ طَيْفاً
ـ1ـ
تَعالِي..
تَعالِي..
فَقِصَّةُ حُبِّي رَوَتْها النُّجومُ
لِصَمْتِ الليالي
لِحُزْنِ الليالي
وَأَنتِ سَرابٌ يَمُرُّ بِبالي
وَيَفْنى بِبالي..
ـ2ـ
قَسَوتِ كَثيراً عَلَيّْ
جَعَلْتِ الْحَياةَ تَئِنُّ..
تَموتُ..
وَتُدْفَنُ في ناظِرَيّْ
قَسَوتِ..
فَيا لَيْتَني لَمْ أَكُنْ أَيَّ شَيّْ!
ـ3ـ
دُموعي ذَرَفْتُها رَغْمَ الْجَفافِ
فَسالَتْ تَخُطُّ طَريقاً عَجيبَا
وَتُثْبِتُ أَنِّي غَدَوْتُ غَريبَا
وأَنّي سَحابٌ يَمُرُّ بِصَيْفٍ
فَيُمْطِرُ أَدمُعَ حُبٍّ كَئيبَه..
ـ4ـ
أَنا لَمْ أَتُقْ لِلَّيالي الطِّوالْ
أَنا لَسْتُ طَيْفاً
مَرَدّي الزَّوالْ
أَنا شاعِرُ الْحُبِّ
والْهَوى
والْجَمالْ
أَعيشُ لِلْجَمالِ
وَأَفْنى بِالْجَمالِ
تَعالي..
فَقَدْ بُحَّ صَوتي،
وَمَلَّ الصِّياحَ تَعالي
وَبِتُّ أَتوقُ لِهَمْسِ ابْتِهالْ
يُتَمْتِمُ كُلَّ صَباحٍ:
تَعالْ.
**
.. وتضحك جذلى
ـ1ـ
.. وَتَضْحَكُ جَذْلَى،
وَيَبْسُمُ ثَغْرُ اللآلِىءِ
في مَرَحٍ مُسْتَطابٍ
تَخالُ، لَدَيْهِ، الرَّبيعَ يَعيشُ بِفَمْ!
ـ2ـ
وَإِذْ بِالْعُيونِ تَطيرُ إِلَيْها
تَحُطُّ عَلَى وَجْنَتَيْها
وَتَلْثُمُ شَعْرَ الليالي
الَّذي قيل عَنْهُ: يُشَمُّ وَلَيْسَ يُضَمّْ
ـ3ـ
وَإِذ بِالْقُلوبِ تُنادي بِصَمْتٍ: تَعالي..
وَتَنْزِفُ نَبْضاً يَصُمُّ الصُّدورَ
وَيَبْذُرُ فيها الضَّجيجَ المُريعَ،
.. وَتَضْحَكُ،
تَضْحَكْ،
فَتَحْسَبُ أَنَّ الصُّدورَ تَقولُ:
لِتَبْقَى الصَّغيرَه..
عَلَوّاهُ يَبْقى الصَّمَمْ!
**
إلهي جديد عليكم
ـ1ـ
يَراعي،
تَوَقَّفْ يَراعي
فَقِصَّةُ عُمْري انْتَهَتْ مِنْ زَمانٍ
وَأَطْعَمْتُها للسَّرابِ
وَدَوَّنْتُها في سُطورٍ
مَحَتْها أَنامِلُ دَهْرٍ وَضيعْ
ـ2ـ
وَما عُدْتُ أَذْكُرُ مِنْها سِوى جُمْلَتَيْنِ:
وُلِدْتُ..
وَلكنّي مُتُّ قُبَيْلَ الْمَجيءِ
وَمِثْلي يَموتُ الْجَميعُ الْجَميعْ!
ـ3ـ
يَراعي تَوَقَّفْ ..
ولا تَلْمُسِ الدَّفْتَرَ الأَبْيَضَ
فَكُلُّ الوُرَيْقاتِ فيهِ حَزينَه
وَكُلُّ السُّطورِ اعْتَراها الذُّبولُ
وَراحَ يُقَلِّصُها الزَّمْهَريرُ
وَيَأْكُلُ مِنْها الصَّقيعْ.
ـ4ـ
خَيالاً أَتَيْتُ..
وَلَمْ تَرَني الْعَيْنُ،
أَو يَنْتَبِهْ لِوُجودي الوُجودُ
رَحَلْتُ كَما السُّحُبُ والطُّيورُ
تُهاجِرُ..
تَرْحَلُ نَحْوَ الْبَعيدْ..
ـ5ـ
ضَرَبْتُ خِيامي.. وَعِشتُ وَحيداً
أَنا وَالتَّأَمُّلُ في قَعْرِ وادٍ سَحيقٍ
أُناجي.. وَأَعْبُدُ رَبّاً أَصَمّاً
عَيِيَّ اللِّسانِ
وَعَيْناهُ يابِستانِ
إِلهي جَديدٌ عَلَيْكُمْ
أَلَسْتُمْ تُحِبُّونَ كُلَّ جَديدْ؟
**
حياتي: رجع بوح الشقاء
ـ1ـ
حَياتِي..
كَجُرْحٍ ثَخينٍ
غَزَتْهُ الدِّماءُ
وَضاعَتْ بِهِ هَمْهَماتُ الْمَآسي..
حَياتِي:
أَلَيْسَتْ هِيَ رَجْعَ بَوْحِ الشَّقاءْ؟
ـ2ـ
أَطيرُ ..
كَفَرْخِ حَمامٍ
رَأَى الْجَوَّ مُنْخَفِضاً فَعَلا.. وَانْتَشى
حَتَّى غابَ عَنْ ناظِرَيْهِ
سِحْرُ الْفَضاءْ.
ـ3ـ
أَكَلْتُ الْهَناءَ..
فَلَمّا شَبِعْتُ،
أَصابَني شِبْهُ خَواءْ
شَرِبْتُ السَّعادَةَ يَوْماً،
فَأَحْسَسْتُ أَنّي شَرِبْتُ الْهَواءْ
ـ4ـ
رَسَمْتُ الأَماني قُصوراً،
بَنَيْتُ لَها الْقِبَبَ وَالْحُصونَ،
وَزَيَّنْتُها بِالزُّمُرُّدِ،
بالنَّجْمِ،
بِالْقَمَرِ الزِّئْبَقيِّ،
وَلَمّا صَحَوْتُ،
ذُعِرْتُ أَنا.. إِذْ رَأَيْتُ الْقُصورَ تَلاشَتْ
وَأَضْحَتْ هَباءْ.
ـ5ـ
نُبِذْتُ لِفَقْري،
رُجِمْتُ،
طُعِنْتُ مِراراً، وَلَمْ أَتَأَفَّفْ..
ولكِنِّي قُلتُ بِصَمْتٍ شَديدٍ:
أَهذا، إِلهِيَ، ما تَبْتَغيهِ السَّماءْ؟
**
غداً، سوف أرحل
ـ1ـ
هَجَرْتُكِ..؟!
كَيْفَ هَجَرْتُ الرَّبيعَ
أَنا الطَّائِرُ
الْمُنْشِدُ أَشْعارَ حُبٍّ أَفَلْ؟
ـ2ـ
طَوَيْتُ السّنينَ،
قَتَلْتُ كِبارَ الأَماني،
لأَهْرُبَ مِنْكِ..
مَحالُ..
فَلَسْتُ أَطيقُ احْتِمالَ الْمَلَلْ
ـ3ـ
تَقولينَ لي في الصَّباحِ:
تُحِبُّني؟
"إنّي أُحِبُّكِ أَكْثَرْ،
فَأَفْكاري تَحْمِلُكِ وَتَطيرُ
تَطيرُ اتِّجاهَ الأَزَلْ".
ـ4ـ
وَعِنْدَما يَأتي الْمَساءُ،
وَيَبْتَلِعُ الْبَحْرُ شَمْسَ النَّهارِ
تَقولينَ لي
وَيداكِ تَشُدّانِ ثَغْري بِغُنْجٍ:
تُحِبُّني؟!
"إِنّي أُحِبُّكِ أَكْثَرَ
يا مُنيَتي والأَمَلْ".
ـ5ـ
.. وَتَمْضي السُّنون،
وَتَرْحَلُ..
حامِلَةً أَلْفَ أَلْفِ " تُحِبُّني؟
إِنّي أُحِبُّكِ أَكْثَرْ.."
وَفي لَيْلَةٍ لَمْ تَطَأْها النُّجومُ
كَتَبْتُ عَلى دَفْتَرِ الذُّكْرَياتِ:
"غَداً،
سَوْفَ أَرْحَلْ"..
**
أَنا والحزن
ـ1ـ
أَنا والْحُزْنُ أَتْرابٌ
قَضَيْنا الْعُمْرَ
في جَذْلِ
جَعَلْتُ الحُزنَ
لا يَبْكي
جَعَلْتُه يَضْحَكُ مِثْلي
غَزَلتُ الْبَهْجَةَ لَمَّا
بَكَى الْحَقْلُ
عَلى الفُلِّ
وَقالَ الْعُشْبُ في غَيْظٍ:
أَلا تَحْزَنْ مَعَ الْحَقْلِ
وَأَنْتَ الْعُودُ
وَالأَوْرَاقُ
أَنْتَ الزَّهْرُ للنَّحْلِ؟
ـ2ـ
فَقُلْتُ:
الْعُمرُ ساعاتٌ
تَمُرُّ،
تُسْرِعُ،
تَجْري
أَنَقْضيها بُكاءً جارِحاً..
.. مُرّاً،
أَلا فَادْرِ
بِأَنَّ الْعَيْشَ في الأَكْوانِ
يُنْهِيهِ لَظى الْقَهْرِ
**
أغني
ـ1ـ
تَناوَلْتُ عودي..
وَرُحْتُ أُدَنْدِنُ أُغْنِيَةً
عَنْ غَرامي،
فَإِذْ بِالطُّيورِ تَرِفُّ
وَتَشْدو،
وَبِالْمَرْجِ يَصْرُخُ مَلْيونَ آهْ..
ـ2ـ
أُغَنِّي،
أُغَنّي،
لِمَرْجٍ خَصيبٍ،
فَتَطْرَبُ عَيْناهُ
حَتّى الدُّموعِ،
وَيَبْقى يَصيحُ وَيَنْدَهُ:
زِدْني غِناءً شَجِيّاً،
وَزِدْني صَلاهْ..
**
أسياد القرون
ـ1ـ
إِنّي أريدُكِ أَن تَكوني
وَرْدَةً،
ضَوءاً يَرِفُّ عَلى شَبابيكِ الْعُيونِ
أَو نَسيماً يُنْعِشُ الْقَلبَ العليلْ.
ـ2ـ
إِنّي أُريدُكِ أَنْ تَكوني
رَفَّةَ عِطْرٍ،
وَأَحْلاماً تُداعِبُني عَلى مَرِّ السِّنينِ
أَو سَلاماً يَنْشُرُ الْفَجْرَ
وَيُلْغي الْمُسْتَحيلْ.
ـ3ـ
إِنّي أُريدُكِ أَن تَكوني
مَوْطِناً..
نَشْتاقُهُ وَالليلُ يَغْرَقُ بِالْحَنينِ
اَو مَلاكاً
يَرْفُلُ كالطَّيرِ بِالثَّوبِ الْجَميلْ.
ـ4ـ
لا.. لَنْ تَكوني
غَيْرَ عِرْقٍ مِنْ عُروقي
كَي نَظَلَّ نُقطَةَ الْوَصْلِ الْوَحيدَةَ
بَينَ ليلٍ وَشُروقِ
نَحْنُ إِن مَرَّتْ قُرونٌ
كُنّا أَسْيادَ الْقُرونِ.
**
أتربة الحزن
ـ1ـ
غَريبٌ أَنا..
في دِيارِ الأَحِبَّةِ
أَمْشي،
وَأَرْكُضُ خَلْفَ الضَّياعِ
وَأَغْزُلُ نَجماً كَنَجْمِ الْمَجوسِ
مُضيئاً،
لِيُرْشِدَني إِلى مِذودِ حُبِّي.
ـ2ـ
أَنا..
مَنْ أَنا؟
مَنْ أَكونُ؟!
فَصَمْتي رَهيبٌ،
وَعَيْشي كَئيبٌ،
وَأَتْرِبَةُ الْحُزْنِ تَأكُلُ نَعْلي
وَجَورَبِيَ الْعالِقَ خَوفاً
بِأَطرافِ ثَوبي.
ـ3ـ
أَنا..
مَنْ أَنا؟
هَلْ غُباراً أَتَيْتُ مَعَ الرِّيحِ
في لَيْلَةٍ مِنْ لَيالي الشِّتاءِ الْبَغيضِ
وَلَفَّني
لَفَّني
بَرْدٌ شَديدٌ
أَطاحَ بِعَقْلي..
فَرُحْتُ أُفَتِّشُ بَيْنَ الضَّبابِ
وَأَنْدَهُ:
يا ابْنَ التُّرابِ
تَمَهَّلْ..
فَفي صَدْرِكَ الرَّحْبِ
أَشْلاءُ قَلْبي.
ـ4ـ
.. وَضاعَ نِدائي
الَّذي لَمْ يَكُنْ لي سِواهُ رَفيقاً،
فَحينَ أَمَلُّ أُغَنّي لِذاتي،
لِسَمْعي،
لِوَحْشَةِ دَرْبي.
**
سر الخبر
سُئِلْتُ أَلْفَ مَرَّةٍ عَمّا بِيَا
وَكَتَمْتُ عَنْ كُلِّ الْبَشَرْ
سِرَّ الْخَبَرْ
لا.. لا تَقولوا أَنانِيَه
قولوا: أَحَبَّتْ عَنْ حَذَرْ
وَلَمْ تَبُحْ باسْمِ الَّذي حاكَ الصَّباحَ
والْقَمَرْ
شالاً حَريرِيّا
شَالاً عَلى لَونِ الزَّهَرْ
وَشَّاهُ بِالنَّجْمِ الصَّغيرْ
حَلاّهُ بِالْبَدْرِ الْمُنيرْ
ثُمَّ.. وَيا فَرَحَ الغَديرْ
أَهْداهُ لي،
مُتْ يا غُنْجَ الْمُخْمَلِ
أَصْبَحْتُ فيهِ،
وَلَمْ أَزَلْ،
طَيْفاً لِحورِيَّه.
**
ضمير الرأفة
ـ1ـ
ـ خُذْ وَابْتَعِدْ..
سَأَصْفَعُكْ..
إذا اقْتَرَبْتَ، مَرَّةً أُخْرى،
كَعَبْدٍ.. تَبْتَغي اللُّقْمَةَ مِنِّي.
ـ2ـ
.. وَابْتَعَدْتُ
مُسْرِعَ الْخَطْوِ إِلَى حِضْنِ الأَزِقَّةِ
وَالزَّوايا،
أَلْعَنُ يَومَ وُلِدتُ
وَمَدَدتُ أَذرُعي للنّاسِ
كَيْ يَنزاحَ ثِقْلُ المَوْتِ عَنِّي.
ـ3ـ
.. وَابْتَعَدْتُ، مِثْلَ لَيْلٍ مُدلَهِمٍّ،
يَغْرُسُ الْعَيْنَيْنِ تَحْديقاً وَخَوفاً،
وَمَشَيْتُ عارِيَ الْكَفَّيْنِ
مَغْلولَ الْيَدَيْنِ
فَوقَ آمالي وَأَفكاري..
وَظَنّي.
ـ4ـ
يا ضَميرَ الرَّأفَةِ..
الْمطْعونَ بِالأَظافِرِ الْخَرساءِ
في لَيْلاتِ حُبٍّ وَهوىً.
أَذْكُرُ يَوْمَ جِئْتُكَ مُنْحَنِياً
كَاللَّعْنَةِ أُدَبْدِبُ،
وَقُلْتُ لَكْ: أُريدُ مِنْكَ رَحْمَةً..
وَأَذْكُرُ كَيْفَ صَرَختَ عالياً:
ماذا بِكَ؟.. ماذا بِكَ؟
تُغَنّي.. ثُمَّ تَشْحَذُ.. ثُمَّ تُغَنّي؟
ـ5ـ
يا ضَميرَ الرّأفَةِ
لَو لَمْ أَكُنْ عَقْراً بِهِ الدِّيدانُ تَرْتَعْ..
أَو أَنيناً يَجْرَحُ الآذانَ،
عَفْواً،
فَأَنيني لَيسَ يُسمَعْ
لانْحَنَيْتَ خاضِعاً..
مُسْتَسْلِماً لِرَغْبَتي،
وقُلْتَ لي: أُطلُبْ تَجِدْ
حَتّى النُّجَيْماتِ الَّتي لا تَدْخُلُ
فَلَكَ التَّمَنّي.
**
هل ترين؟
ـ1ـ
هَلْ تَرَيْنْ..
كَيْفَ أَنَّ الياسَمينْ
يَتَبَنَّى الرَّوْضَ
والطِّيبَ الْحَزينْ؟
ـ2ـ
هَلْ تَرَيْنْ..
كَيفَ أَنَّ البَسْمَةَ
رَغْمَ الأَنينْ
تَطلَعُ كَالْبَدرِ في لَيْلِ الْحَنينْ؟!
ـ3ـ
لِمْ يا حَياتي تَعْبُسينْ
وابْتِهالُ الشَّمسِ يَحْلو
كُلَّما في الْجَوِّ تَعْلو
ضِحْكَةٌ مِغْناجَةٌ
ذاتُ رَنينْ؟
**
قبلة
قَبِّلِينِي قُبْلَةً
ثُمَّ ارْجُمِينِي
لَـمْ أَعُدْ أَرْضَى بِغُلْبِي
.. وَأَنِينِي
قُبْلَةً مِنْكِ حَيَاتِي تَبْتَغِي
فَاعْطِينِيهَا رَحْمَةً
إِنْ تَرْحَمِينِي
**
ليس أَحلى
ـ1ـ
لَيْسَ أَحْلى مِنْ خُدودٍ
تَبْسُمُ
إن مَسَّها العِطرُ..
وَذابَا
ـ2ـ
لَيسَ أَحْلى
مِنْ عُيونٍ خَلْفَها كَرْمٌ
أَتَتْهُ الشَّمسُ مُشْرِقَةً..
فَطابَا
ـ3ـ
لَيسَ أَحْلى
مِنْ ثُغورٍ
تَضْحَكُ لِلْبَدرِ لَيْلاً
رَغْمَ أَنَّ الْبَدرَ..
غابَا
**
الضحكة الجذلى
.. وَضَحِكْتِ
آهِ مِنْها الضِّحْكَةُ الْجَذْلَى
فيها بَوْحٌ لَيْسَ يَخْفى
مِثْلَ ضَوءٍ لامَسَ الْماءَ فَجَفَّ
آهِ مِنْها أَسْكَرَتني
ضَيَّعَتْني
ضِحْكَةٌ.. في سَبْكِها اللّهُ تَجَلَّى
**
حوار
ـ أَتَنْدُبينَ حَظَّكِ أَتَندُبينْ
إِنّي أَرى في الْعَيْنِ
أَلْفَ شَيْطانٍ حَزينْ؟
ـ لا أُبالي بِهِ، إِن أَتى أَو رَحَلْ
ـ إِنْ أَتى..!
ما أُحَيْلى الأَمَلْ
ـ ضاعَ خَلْفَ السِّنينْ
ـ وَغَزا الْحُزْنُ قَلْبَكِ وَالأَنينْ
ـ ..وَالأَنين
**
الوتر الصَّامِت
يَئِنُّ النَّايُ، مَنْ يَسْمَعْ؟
فَفي الوادي شُعاعُ الْفَجْرِ يَبْتَهِلُ
فَيا عُمْري..
وَيا رَنَّةَ وَتَري الْجامِدْ
بُكاؤكِ أَنَّاتُ الْجَرْحى
دُموعُكِ غَيْثٌ لا يَرْوي
فَصَمْتاً.. صَمْتاً إِذا شِئْتِ
ففي الصَّمْتِ..
خُشوعُ النَّاسِكِ الْعابِدْ
**
هَنيئاً لِمَن في الْبُطونِ
ـ1ـ
وَقَفْتُ أُراقِبُ نَجْماً بَعيداً
كَأَنِّيَ شَمْسٌ تَخافُ الْمَغيبَ
وتَجْفُلُ مِنْهُ،
كَطِفْلٍ صَغيرٍ رَمَوْهُ بِأَفْعى.
ـ2ـ
تَجاوَزْتُ عُمري ،
وَعُمري سَرابٌ
وَدُنْيا تَعِجُّ بِقَوْمٍ أَتَوْها
وَحَطُّوا الرِّحالَ
وَناموا كَصَرْعَى.
ـ3ـ
هَنيئاً لِمَنْ في الْبُطونِ
لِكُلِّ جَنينِ
فَدُنْياهُ أَجْمَلُ دُنْيا
حَمَاها الإِلهُ..
وَدُنياهُ فيها السَّعادَةُ،
فيها الهَناءُ
وَأَشْياءُ كُنْتُ بِها أَنْعَمُ،
أَمْرَحُ،
وَأَرْعَى..
ـ4ـ
بَكَيْتُ، وَأَبْكي..
ففي سَقْسقاتِ الدُّموعِ
عَزاءٌ لِقَلبي،
وَنورٌ لِدَربي،
يَشِعُّ كَنَجْمَةِ صُبْحٍ،
كَبَدرٍ،
كَشَمْعَهْ!
**
أبكي
أبكي..
وأبكي
بغير انقطاعْ
وأذرفُ دمعاً،
فدمعي مشاعْ
أبكي، وأبكي
على حب قلبٍ
أضاعَ حياتيَ عندما ضاعْ
فخارتْ خدودي
وبتُّ كسيحاً
من الصعبِ أن أخطُو قيدَ ذراعْ
تلاشيتُ رغم الشباب المغذى
بروحُ الحياة، لينهِي الضياعْ
حبيبي،
عيوني،
بربّك عدْ لي
بقلبي أنينٌ..
بصدري التياعْ
فعمريَ أضحى محيطَ لهيبٍ
وإني سفينه بغير شراعْ
**