عجائب أمنا مريم العذراء

نقلها الى العربية الفصحى شربل بعيني
**
ملاحظة هامة:

قبل البدء بقراءة هذه العجائب أحب أن انوّه بأن أكثر الذين شجّعوني على نقلها الى اللغة العربية الفصحى كان "أبو شربل"، أخي الأصغر مرسال سركيس بعيني، لذلك اسمحوا لي أن أقدّمها له، بعد رحيله المفاجىء عن دنيانا، ليرحمه الله ويسكنه الفردوس الالهي، انه السميع المجيب.
**
مقدمة بقلم شربل بعيني
عجائب أمنا مريم.. مخطوطة تاريخية، نسخها عام 1840 بلغة أو "لهجة" عامية لبنانية قديمة، شدياق مجدليا يوحنا البعيني، دون أن يذكر مصدرها، وقد وصلت الى جدي طنسا البعيني عن طريقه، وأعتقد انها النسخة الوحيدة التي كانت متداولة بين أيدي أبناء مجدليا في ذلك الحين.
وأذكر، كيف كنا نتجمّع أنا واخوتي الصغار آنذاك: أنطوان وجورج وجوزاف وميشال ومرسال حول الموقد في دكان جدتي خرستين لنستمع الى والدي سركيس وهو يقرأ من هذه المخطوطة.. وما أن يسمع المارة صوته جتى يتجمهر العشرات منهم في الدكان، فيجلسون ويقفون ويصغون وكأن فوق روؤسهم الروح القدس، لا أحد ينبس ببنت شفة، حتى أن جدتي كانت تمنع البيع لأي كان خلال قراءة والدي لإحدى عجائب أمنا مريم العذراء.
من هنا أخذت هذه المخطوطة قيمتها التاريخية والأدبية والايمانية، وأصبحنا نحافظ عليها كأقدس ما نملك، الى أن زارنا في لبنان في أوائل سبعينيات القرن الماضي، عمي بولس البعيني المغترب في أستراليا، وطلب المخطوطة من والدي، فحملها الى هذه الديار، لتقع بعد وفاته بيد ابنه الياس بولس البعيني، وأذكر يوم ذهبت من سيدني الى ملبورن، للمشاركة في تشييع عمي الحبيب، كيف همس الياس في اذني وانا اعزيه:
ـ كتاب عجائب مريم اصبح ملكي، ولن اسمح لأحد بأن يأخذه مني.
فقلت له والتعجب ظاهر على محياي:
ـ ولكني جئت كي استرده منكم، فإذا بك تصدني من أول الطريق.
ـ المخطوطة ملكي الآن، ولكن بإمكانك ان تلقي نظرة عليها من بعيد. 
تركت ملبورن، والحزن يلفني على عمي اولاً، وعلى ضياع "العجائب المريمية" من يدي ثانياً، ولكنني لم أيأس، بل رحت أتلاعب بعواطفه وبمحبته لي، إلى أن رضخ للأمر، وأعارني المخطوطة، بعد أن أقسمت له بتربة أبي وأبيه، أن أعيدها له معززة مكرمة.
الشيء الوحيد الذي لم أخبره عنه، هو أنني سأنقل بعض العجائب من العامية الى العربية الصحى، وسأطبعها في كتاب أوزعه مجاناً على كل من يريد، غفّارة لنا جميعاً، ولكي يتناقل هذه "العجائب" الأحفاد عن الآباء والأجداد.
عندما نشرت "العجائب" على صفحات مجلة "الغربة الالكترونية"، كتب أحدهم تعليقاً تحت إحداها هاجمني به، وسخر مما جاء بها، وقال: "إنها ضرب من الخيال"، فاسمحوا لي أن أوافقه الرأي، لأن أي عجيبة تحدث، في أي مكان أو زمان، هي أبعد من خيالنا، ولا يمكن أن تفسّرها عقولنا، ومع ذلك ترسّخ الايمان في قلوبنا.. وهنا بيت القصيد.
أرجو أن أكون قد وفقت، لأن غايتي من نشر هذه "العجائب المريمية" هي التقرّب من الله أكثر فأكثر، وحده الغفور المسامح المحب.
**
الزنبقة البيضاء
في كتاب أخبار القديسين نقرأ عن بشارة أمنا الطاهرة، وعن سر التجسد الالهي، ومنها هذه القصة العجيبة:
رجل من الشرفاء، يملك ثروة عظيمة، كره الدنيا وملذاتها، واتخذ السيرة الرهبانية في القانون المسمى "تشيسترشينسي"، طريقاً له. ولكنه كان، رغم غناه، رجلاً أمياً لا يقرأ ولا يكتب، فلم يرضَ الرهبان خدمته مع المبتدئين، بل أفردوا له معلماً خاصاً، علّه يتعلّم شيئاً من القراءة، كي يرفعوه، بعد ذلك، الى صفّ النسّاك.
ولكنه، رغم مرور مدة طويلة مع المعلم، لم يتمكن من القراءة، بل ظلّ يردد، في كل لحظات حياته: السلام لكِ يا مريم.
وبعد شيخوخة جليلة، أتته ساعة الموت، فأسلم روحه بيد الرب وهو يردد صلاته الوحيدة.
وكالعادة، صلى الرهبان على جثمانه الطاهر، وواروه الثرى في مقبرتهم، وبعد مدة وجيزة، نبتت زنبقة بيضاء جميلة جداً، كتبت على أوراقها، بأحرف من ذهب، عبارة وحيدة: السلام لك يا مريم.
فأعلموا رئيس الدير بتلك الاعجوبة، الذي أمرهم بحفر القبر، وعزل التراب عن الجثمان، لينجلي امامهم مشهد ولا أروع، فلقد اكتشفوا ان الزنبقة قد نبتت من فم الراهب القديس. حينئذ مجدوا الله، وراحوا يرنمون بصوت واحد: السلام لك يا مريم.
**
غني طائش
رجل غني جداً، لحق شهوات الجسد، فبدد ثروته بالطيش واللهو، الى أن وقع في ضيق عظيم، فاستصعب الأمر كثيراً، ولكن زوجته العفيفة التقيّة تحمّلت ظلمه، وتمسكت أكثر بإيمانها وحبها لشفيعتها مريم البتول.
وفي يوم من الايام، قرر هذا الرجل المتهوّر أن يبتعد عن قريته، كي لا يشارك أبناءها العيد، فقرر الذهاب الى عند أصدقائه في قراهم النائية، وبينما هو جالس لوحده، أتاه رجل فارسي ذو منظر مخيف، وسأله:
ـ ما بالك تبدو كئيباً وحزيناً يا هذا؟
فأجابه بصوت مرتعش:
ـ كنت غنياً جداً، أملك المجد والفرح، والآن ضربني الفقر كما ترى.
فقال له الفارسي:
ـ ان كنت لي مطيعاً، وهبتك كل ما يسرّك.
فأجابه:
ـ ان كنت صادقاً فيما تقول، فأنا تحت أمرك.
فقال له الفارسي:
ـ امضِ الى البيت، واحفر في الموضع الفلاني، تجد من الذهب والفضة والجواهر كل ما تشتهي نفسك. ولكن عليك أن تفعل شيئاً من أجلي..
فسأله:
ـ وما هو؟
ـ أن تحضر لي زوجتك.
فرضي الزوج بذلك، وافترقا بعد أن صمّما على اللقاء في يوم من الايام لاتمام ما اتفقا عليه.
عاد الرجل الى بيته، فوجد من الجواهر أكثر مما كان يتصوّر، فطرح حزنه جانباً، وراح يشتري الحقول والقصور، ويتنعّم بثروة هائلة أكبر بكثير من ثروته السابقة التي ضيّعها بالعربدة والطيش.
وفجأة، اقترب اليوم المحدد للقاء، فاصطحب زوجته الى المكان المتفق عليه، والخوف يجتاحها دون أن تبدي تذمراً، بل راحت تصلي لرفيقة حياتها الأم البتول، وتطلب حمايتها، وتقول:
ـ أيتها الأم الحنونة، ردّي عنّي كل خطر، وكوني لي حصناً يحميني من أعدائي، واحمي شرفي، واستري عليّ من الان والى ابد الآبدين آمين.
وبينما هما يسيران الى لقاء ذلك الفارسي التعيس، رأت كنيسة، فنزلت عن الحصان ودخلت اليها لوحدها، دون أن يرافقها زوجها.
هناك، راحت تبكي وتبتهل للأم الحنونة مريم، الى أن داهمها النعاس، فنامت، وهي ساجدة تحت أيقونة العذراء.
عندئذ، حدثت العجيبة، اذ نزلت الأم القديسة من عليائها، واتخذت شكل امرأة الغني، بلباسها، بنطقها، بحركتها، وسارت معه الى لقاء الرجل الفارسي، الذي ما أن وقع نظره عليها، حتى اعتراه رجفان شديد، وكاد أن يغمى عليه من شدة الخوف، وصاح بصوت عالٍ:
ـ أهكذا تكافئني أيها اللعين؟ لقد وهبتك المال الكثير من أجل الحصول على زوجتك، يعد أن وافقت على ذلك، فإذا بك تأتني بهذه المرأة التي أشهد وأقر بأنها أم الله الطاهرة. كنت أود الانتقام من زوجتك المتعبدة الصالحة، لكثرة صلاتها وابتهالاتها، فإذا بي أقف أمام سيدة العالمين مريم العذراء. فالويل لي، سترسلني الى النار الجهنمية حيث رفاقي الشياطين.
فزجرت السيدة البتول إبليس، وأمرته أن يعود الى مكانه الجهنمي. ثم التفتت الى الرجل الذي خرّ ساجداً أمامها، طالباً منها السماح والتوبة، وقالت له:
ـ عد الى بيتك، وارجع للشيطان ما قد أخذت منه، وتمسّك بخوف الله، انه الكنز السماوي الذي لا يزول.
وما أن أتمت كلامها المقدّس، حتى غابت عنه، فرجع المسكين الى الكنيسة التي ترك بها زوجته، وهو يبكي من شدة الأسف، فوجدها راكعة تصلي. 
وفي طريق عودتهما الى قريتهما أخبرها بكل ما حدث، وكيف أنقذتهما الأم الحنونة من براثن الشيطان. واتفقا على أن يتفرّغا للعبادة والصلاة طيلة أيام حياتهما.
**
الكاهن الغني
كان أحد الكهنة غنيَّ المال والممتلكات، وفقيراً من ناحية التقوى والعبادة لله تعالى. ففي يوم واحد وزمان واحد دعي كي يناول الأسرار المقدسة لرجل مريض غني جداً، ولامرأة فقيرة متعبدة للبتول مريم العذراء، فاحتار الى من يذهب، الى الغني أم الى الفقيرة المريضة؟ فقادته شهواته الأرضية الى تفضيل الذهاب لخدمة الغني، فعرّفه بسرعة قصوى، ومكث عنده وقتاً قليلاً، وقبل أن يغادر قصره جاء من يقول له أن المرأة الفقيرة في حالة نزاع شديد، وما عليه سوى القدوم ليناولها القربان ويمشحها، ولكنه أبى الذهاب الى بيتها المتواضع. فلما رأى شماسه سوء تصرفه، وكان يخاف الله كثيراً، حاول أن يردعه عن ذلك، ويقنعه بأن من واجب الكاهن خدمة الناس أجمع.. فلم يفلح. عندئذ طلب منه أن يسمح له بالذهاب الى بيت الارملة لمناولتها. فأشار له بيده: اذهب.
مضى الشماس الى الكنيسة، وبكل احترام حمل بيده القربان المقدس، وأسرع الى مساعدة الارملة الفقيرة، الغنية بالتقوى والايمان والعبادة، فوجدها طريحة فوق أكوام صغيرة من التبن، جمعتها كالفراش، فلا أصدقاء يدخلون ويخرجون كما كان يحدث في قصر الغني، ولا طنافس، وأدوات زينة وفراش وثير، ولكنه، بالمقابل، وجد صفاُ من العذارى البتولات يلبسن أثواباً بيضاء كالثلج، وفي وسطهم تجلس الأم الحنونة، معونة النصارى ومعزية الحزانى، مريم البتول.
وكانت العذارى يحملن مناشف بيضاء سماوية، لينشفنَ بها عرق الارملة المريضة، ويتفانينَ بخدمتها. فلما شاهد الشماس هذا المنظر المقدس، وقف والدهشة تعلو وجهها، وبيده القربان المقدس، الذي ما أن رفعه، حتى خرّ الجميع ساجدين، فناولها اياه، وأكمل عليها صلاة المنازعين، حتى استودعت روحها بيد الأم الطاهرة.
خرج من كوخ الارملة والبهجة تغمره، وقصد قصر الغني، حيث يجلس الكاهن، فلم يجد مريم العذراء، ولا البتولات الحكيمات، بل وجد كلاباً سوداء مرعبة ومخيفة، تتحيّن الفرصة لتنهش جسد الغني المتألم، فبهت ولم يقدر على النطق، بل سمع المريض يصرخ: اطردوا عني هذه الكلاب الجهنمية، وخذوا مالي. ولم يقدر أحد أن يسعفه. وفجأة دخل عبد ذو وجه شنيع، شكّ سيفه في خناق الغني وأزهق روحه.
عندئذ تحولت الكلاب الى شياطين، وسحبوه الى نار جهنم، دون أن ينفعه ماله، أو فضته أو ذهبه.
أغمي على الكاهن من هول ما رأى، وعندما استيقظ وهب ثروته للفقراء، وأقسم أن لا ينام إلا على بساط من تبن، تيمناً بتلك الفقيرة، وتكفيراً عن ذنوبه. 
**
تلامذة المسيح
بعد صعود المسيح الى السموات بخمسة عشر سنة، رجم اليهود أول الشهداء اسطفانوس، وطردوا من أورشليم جميع الرسل الذين يكرزون باسم المسيح، ومن جملتهم تلميذ اسمه مكسيمينوس رافق مريم ومرتا أختيْ أليعازر، ومكسيملا جارتهما، ومريم المجدلية، وكاليصونيوس المولود أعمى وفتح الرب عينيه، فهؤلاء، أوصاهم بطرس الرسول أن لا يبتعدوا عن بعضهم البعض، لأن اليعازر قد هرب الى قبرص خوفاً على حياته من اليهود. وأما أختاه فلبستا في أورشليم مع سيدتنا مريم العذراء الى يوم انتقالها.
بعدها، باعوا كل ما يملكون وأعطوه للمساكين، وأمرهم الرسل أن يهربوا، ولكن اليهود قبضوا عليهم، ووضعوهم في مركب صغير بدون مجاذيف، وتركوا ذلك المركب تحت رحمة الرياح، وكان في المركب جميع الذين ذكرناهم سابقاً، فأخذوا يتضرعون لله كي يهديهم الى المكان الذي يشاء.
وبمعونة الله وصلوا الى مدينة عظيمة في بلاد اسبانيا تدعى مرسيليا، فخرجوا من المركب ومجدوا الله، وذهبوا الى السوق فلم يعطهم أحد صدقة أو أرغفة خبز يقتاتونها، لأن سكان المدينة كانوا من عبدة الاوثان، وكان حاكم المدينة بدون ولد يرثه، فأتته بالحلم امرأة جليلة وقالت له:
ـ ما بالك نائم في الفراش مع زوجتك، وعبيد الله يموتون جوعاً؟ اذهب الى السوق وفتّش عن الغرباء الستة، وأنزلهم على الرحب والسعة في قصرك، وإلا ستموت موتاً رديئاً.
فهب الحاكم من فراشه، وراح يفتّش عنهم الى أن وجدهم وأحسن ضيافتهم، وبينما مريم تتكلّم عن عجائب السيد المسيح الكثيرة، بادرها بالقول:
ـ اذا كان المسيح قادراً على كل شيء، أريد منه ولداً يرثني، وسأحطّم كافة الأصنام في المدينة.
فقالت له:
ـ آمن بالمسيح وسيعطيك كل ما تطلب.
وبعد أيام قليلة، حبلت زوجته، فاعتمد مع سائر سكان مدينته، وأصبح متعبداً ورعاً، وقرر الذهاب الى أورشليم وباقي الاماكن المقدسة.
أما زوجته، فطلبت أن يأخذها معه كي تتبارك هي أيضاً بالتراب الذي سار عليه المسيح. فوافق بعد أن أوكل مريم أخت أليعازر على المدينة، وأعطاها أوامر ملكية بأن تعمل ما تشاء. وأن تهدم كافة بيوت الاصنام، وتبني مكانهم الكنائس.
في أول يوم من ابحارهم أراد الله أن يمتحن ايمان هذا الحاكم، فهبت عواصف هوجاء أجبرتهم على اللجوء أياماً الى أحد الموانىء، وفي الطريق، أدرك الطلق زوجته، فتعبت في ولادتها وتألمت الى أن أنجبت طفلاً ذكراً وماتت دون أن تراه، فحزن الحاكم على زوجته كثيراً، وبدأ الشك في قدرة الله، يتقاذفه، فقرر العودة الى مدينته، بعد أن أمر حراسه أن ينزلوا الى اليابسة ويضعوا جثة زوجته مع طفلها المولود في احدى المغاور. وراح يبكي ويتضرع ويقول:
ـ أيتها القديسة والدة الله أم اليتامى، كما ولدت ابنك الاله في مغارة، أرجوك أن تحفظي هذا الطفل، وأن تردي عنه الأذى، أنت القادرة على كل شيء.
وبدلاً من أن يعود الى مرسيليا، وصل مركبه الى مدينة يافا، ومنها ذهبوا براً الى أورشليم المقدسة. هناك التقى ببطرس الرسول، فأخبره كل ما حدث معه، فمدحه الرسول وقال له:
ـ لا تحزن على زوجتك وابنك، لأن الرب قادر على كل شيء، وتأكد من ان حزنك سينقلب فرحاً بإذنه تعالى.
وبعد مكوثه سنة في الأماكن المقدسة بصحبة الرسول بطرس، قرر العودة الى مدينته، وقلبه مفعم بالايمان، وما أن وصل الى المكان الذي ترك فيه جثمان زوجته مع طفله، حتى دخل المغارة، فهاله ما رأى، إذ وجد ابنه يرضع من صدر امه الميتة، التي لم ينخر الفساد جسدها رغم مرور أكثر من عام على وفاتها، بل بقيت كما تركها، فخر على الارض ساجداً وهو يبكي ويصيح:
ـ أيها الاله القادر على كل شيء، يا من أرضعت ابني من صدر أمه الميتة أشهراً طوالاً كي لا تحرمني طفلاً أنت وهبتني اياه، أرجو أن لا تحرمه من حنان أمه.. أعطها الحياة أيها القدوس المبارك.
وللحال تحركت الجثة، وتنهدت الميتة وهي تتمتم:
ـ مبارك اسمك الكلي الحلاوة، أيتها العذراء مريم، فهو الذي سترني ودبّرني في الولادة، وأعان ابني كل هذه الايام كي نبقى على قيد الحياة.
وكم كان تعجّب زوجها شديداً عندما أخبرته، بأنها كانت معه ومع الرسول بطرس تزور الأماكن المقدسة التي زارها، وراحت تسميها بأسمائها.
**
زوجة الملك
توفيت زوجة أحد ملوك بلاد الافرنج، بعد أن ولدت له بنتاً ذات جمال ساحر خلاّب، أسمتها مريم. 
وبعد سنوات على وفاتها، تزوج الملك من امرأة جميلة جداً، تغضب ان عرفت ان هناك امرأة أجمل منها في المملكة، لذلك بدأت الغيرة تدبّ في قلبها عندما رأت جمال ابنة الملك مريم، وراحت تضمر لها الشر كي تتخلّص منها.
وذات يوم قرر الملك الذهاب الى بلاد أخرى، فوجدت الزوجة الشريرة ان الوقت قد حان للتخلص من غريمتها مريم، فطلبت من عبد تثق به جداً، أن يصحب الفتاة الى مكان بعيد، ويتخلّص منها، مقابل مال كثير ومركز أعلى بين خدّام القصر.
ولكي تزيد من إجرامه في القتل، أخبرته أن ابنة الملك قامت بأفعال شنيعة، تسيء الى شرف الملك والمملكة، ويجب التخلص منها حالاً، وما عليه سوى أن يأتيها بيديها بعد أن يقطعهما، كي تتأكد من موتها.
وفي منتصف الليل أيقظت الملكة الشريرة ابنة زوجها مريم وطلبت منها الذهاب مع عبدها في رحلة قصيرة وستلحق بها بعد قليل.
استعان العبد ببعض أصدقائه الأشرار لتنفيذ عملية القتل، فاصطحبوا الفتاة المسكينة الى مكان بعيد، فعرفت أنهم يريدون بها سوءاً، فتطلعت نحو السماء وقالت وهي تبكي:
ـ ايتها الأم مريم، يا من شرّفتني أمي بحمل اسمك، ما لي غيرك يا حبيبتي، وشفيعتي، من معين.. فكوني أمي مكان أمي وخلّصي ابنتك مريم من الشر المحدق بها.
وعندما رآها العبد الشرير تبكي أشفق عليها وقال:
ـ لا تبكي، لن يمسّك سوء.
فقالت له مريم:
ـ زوجة أبي كذبت عليكم، ورمتني بين أيديكم لتقتلوني، وها أنتم ترتكبون خطيئة امرأة شريرة، لذلك أرجوكم أن لا تقتلوني قبل أن أعترف، وأستودع روحي بين يدي سيدتي العذراء مريم.
فقال العبد:
ـ زوجة أبيك أمرتنا بقتلك، ونحن وعدناها بذلك.
فقالت لهم:
ـ أما تخافون الله، أما عرفتم بأن نعمته الالهية لن تتخلّى عني، لذلك اتركوني هنا في هذه الغابة، دون أن تنجسّوا أيديكم بدمي.
فقال العبد:
ـ لقد طلبت منا الملكة أن نقطع يديك كي تصدّق أننا قتلناك، فماذا نفعل؟
فصاحت وهي تبكي:
ـ اقطعوا يديّ، واتركوني حيّة لتأكلني الوحوش الضارية، وهكذا لن يصيبكم أي أذى من زوجة أبي.
وهكذا صار، قطعوا يديها، وتركوها في الغابة تتوجع وتتألم وتحاول تضميد جراحها بشتى الوسائل. وفي نفس الوقت، كانت تستغيث بشفيعتها مريم، وتطلب منها المعونة.
وبينما هي تبكي وتصلي وتصيح: 
ـ ساعديني يا أمي الكلية الطوبى.. أنقذيني يا أم المخلص..
سمعها ابن أحد الأمراء الأغنياء، بينما كان يصطاد في الغابة، فأهداه الله إليها، فراح يفتّش عن مصدر الصوت الى أن وجدها، فصاح برفاقه:
ـ احملوها بطريقة تخفف من آلامها، كي نذهب بها الى مدينتنا، ونعرضها على أعظم الأطباء هناك. مشيئة الله قادتنا إليها وعلينا إتمامها.
وبعد أن خفف الاطباء من ألمها، سألوها عن المجرم الذي قطع يديها.. وما اسمها؟ وابنة من؟ ولماذا فعلوا بها هذا العمل الوحشي؟، فلم تخبرهم شيئاً، بل فضلت كتمان سرّها عنهم.
وكان ابن الأمير قد وقع بغرامها من النظرة الأولى، فطلب من ابيه أن يزوّجه إيّاها قائلاً:
ـ أنا أعرف يا ابي بأنك تحبّني، وتريد كل شيء حسن لي، وأن الله قد وهبنا المال الكثير، ولسنا بحاجة الى شيء، لذلك أطلب منك أن تزوّجني هذه البنت المقطوعة اليدين التي وجدتها في الغابة.
فبهت الأمير من كلام ابنه وقال:
ـ بإمكانك أن تتزوّج أي بنت من بنات الأمراء، فكيف تطلب مني أن أزوجك فتاة معاقة قد تكون ابنة أحد الأردياء؟
فقال الابن:
ـ إما أن تزوجني إياه، أو لن أتزوّج ما حييت.
فرضخ الأمير عند رغبة ابنه وزوجه فتاة الغابة، وأقام له عرساً لا مثيل له.
أما الملك، والد مريم، فتملكه حزن شديد على ابنته، ولم يعرف ماذا أصابها، سوى أن الملكة الشريرة أخبرته بأنها هربت سراً من المملكة، ولا أحد يعرف مكانها. ولأنه كان يشك بكلام زوجته، أرسل خدمه للتفتيش عن ابنته في كل مكان دون جدوى.
ولكثرة حزنه على فقدان مريم، قرر دعوة جميع الأمراء الذين في مملكته، للمشاركة في أكبر سباق للخيل أمام قصره، عله يروّح عن نفسه ويخفف من ألمه النفسي. وكان من بين المتبارين زوج ابنته مريم، فأبدع في السباق، وبركوب الخيل والمبارزة، فأعجب به الملك ومدحه أمام الجميع.
أما الملكة الخبيثة، فدعت عبده وسألته عن سيّده، من هو؟ وهل هو متزوج؟ فأخبرها بقصة زواجه بفتاة مقطوعة اليدين، كان قد وجدها في الغابة.
وبينما هو يخبرها عن سيده، وصل لزوج مريم خبر من أبيه الأمير بأن زوجته ولدت توأمين ذكرين، هما بصحة تامة. فجن جنون الملكة الشريرة، وقررت القضاء على مريم وطفليها، فطلبت من العبد أن يأتيها بجواب الابن لأبيه، وستنعم عليه بالمال الكثير.
وبعد ساعات، جاءها العبد بالرسالة، التي يطلب فيها الابن من أبيه اكرام زوجته وولديه، فأخذتها منه، واستبدلتها بأخرى بعد أن أعادت الختم كما كان بطريقة مدهشة، وكتبت فيها:
"أريد أن أخبرك يا أبي بأن زوجتي ابنة انسان شرير، وقد ارتكبت خطيئة مميتة استحقت بسببها قطع يديها، لذلك أرجوك أن تخلصني منها ومن طفليها، فإن لم تقتلهم لن أعود الى مدينتك".
حزن الأمير كثيراً لدى قراءته رسالة ابنه، وكان قد تعلّق قلبه بحفيديه الصغيرين، فقال له كبير مستشاريه:
ـ لا ترتكب هذه الجريمة يا سيدي، أرجعها الى الغابة التي جاءت منها، وارسل الى ابنك رسالة تخبره فيها بأنك نفذت طلبه.
أما مريم، وبعد أن رموها في الغابة، حملت ولديها بما تبقى من يديها، وراحت تمشي الى أن وصلت الى مغارة يسكنها أحد النسّاك، فلما رآها جائعة جمع لها بعض الحشائش وأطعمها اياها، وتركها هناك، وانتقل الى مغارة أخرى، كي ترضع طفليها.
وبعد أسبوع عاد الابن الى مدينته، فلم يجد زوجته وابنيه، فجن جنونه وأمر خدمه بمرافقته للتفتيش عن عائلته. وفي نفس الوقت، ظهرت السيدة العذراء لمريم، وقالت لها:
ـ لا تخافي يا ابنتي، زوجك آتٍ ليرجعك الى البيت، ومن الآن فصاعداً ستتلاشى جميع أوجاعك، ولن تمري بمحنة أبداً، لأن ايمانك لم يتزعزع رغم المصائب التي مررت بها.
بكت مريم من شدة فرحها وقالت:
ـ أشكرك يا أمي، يا شفيعة اليتامى والمعذبين، لأنك لم تتخلي عني، ولكن كيف لي أن أفرح وأنا مقطوعة اليدين، غير قادرة على حمل أطفالي كما حملت أنت طفلك يسوع الممجد. ارحميني يا أمي.
قالت لها العذراء:
ـ إذن، خذي يديك من ابني يسوع.
فحسبت مريم أنها في حلم، ولم تعلم أنها في يقظة إلا عندما تطلعت بيديها، فوجدتهما أجمل مما كانتا قبل قطعهما. وأول شيء فعلته بهما هو تمشيط شعر طفليها، وملامسة وجههما بأصابعها، وهي تبكي وتشكر السيدة العذراء وابنها المخلص.
وفجأة، سمعت أصوات رجال، وصهيل أحصنة، فخرجت من المغارة لتجد زوجها، فركضت نحوه واحضنته بيديها، فراح يقبلهما وهو يبكي ويشكر الله على عجائبه.
أما والده الأمير، فأمر سكان المدينة بأن يعيّدوا ثمانية أيام تكريماً للسيدة مريم العذراء. وفرحاً بعودة كنته وحفيديه، ثم انفرد بابنه وكنته وأطلعهما على رسالة الغش التي وصلته من الملكة لشريرة. عندئذ، كشفت مريم سرها، وأخبرتهما بأنها مريم ابنة ملكهما، وأن زوجة ابيها دبرت لها تلك المكيدة بغية التخلص منها، ولكن شفيعتها مريم، ومخلصها يسوع، لم يتركاها لحظة، وأعاناها على مصيبتها وألمها. فأخفيت عنكما أمري كي لا يعرف والدي بما حصل لي ويموت كمداً. أما الآن فأنا مستعدة للذهاب الى حضن أبي.
فرفع زوجها يديه نحو السماء وقال: 
ـ أشكرك يا رب، لأنك جعلت مولاتي، ابنة الملك، زوجة لي دون علم مني، فلكم أنت عظيم يا ألله.
عندئذ سجد أمام زوجته مريم، وتبعه كل من كان في القصر، بما فيهم الأمير والده، كيف لا وهي ابنة ملكهم الاعظم.
بعد يومين، وصلت منها رسالة الى أبيها الملك، تعلمه بمجيئها مع زوجها وطفليها، شرط أن لا يسألها شيئاً عن قصتها إلا على انفراد.
خرج الملك مع عساكره لاستقبال وحيدته مريم، وعندما وقفت أمامه رفعها عالياً وراح يقبّلها كالمجنون، وهي تقبّل رأسه كما كانت تفعل وهي طفلة، وفي نفس الوقت تهمس في اذنيه ماذا فعلت بها زوجته الشريرة.
وللحال اختفت زوجة الملك عن الانظار، فأمر بإحضارها، بعد أن أشعل ناراً عظبمة في وسط المدينة، وأحرقها أمام أعين الجميع، كي تكون عبرة لمن اعتبر. بعدها، توّج صهره ملكاً، وأمر بأن تبنى كنيسة على اسم "مريم" سيدة العالمين، وأن يصبح يوم رجوع ابنته عيداً وطنياً.
كل هذا يحدث، ومريم توزّع الصدقات على المحتاجين والفقراء والمعدمين، وكانت تقول لكل من يشكرها على أفعالها:
ـ ليست يداي من تعطيانكم الخير والنعمة والرحمة، بل يدا سيدي ومخلصي يسوع المسيح.
**
مريم
في قديم الزمان، يوم آمن الشعب الانكليزي بالسيد المسيح في بلاد بريطانيا، وتسمى انكلترا أيضاً، كان فيهم أناس أفاضل ورعون، وفي نفس الوقت أغنياء جداً، وكانوا لا يرغبون بتزويج بناتهم، بل ارسالهن الى أديرة يبنونها بأموالهم، ليترهبن فيها. 
ومن هؤلاء، كان رجل غني محب للفضيلة، وكان له ابنة وحيدة ذات جمال نادر، عمرها اثنتا عشرة سنة، اسمها مريم، وكانت تحلم بأن تصبح راهبة، فسألها أبوها يوماً كي يمتحن عزمها:
ـ كم تمنيت لو رزقني الله ولداً غيرك، كي اندره للسيد المسيح، أما الابن الثاني فأزوجه كي تنمو وتكبر عائلتي، ولكن الله لم يرزقني غيرك، ولست أدري ماذا أفعل يا ابنتي.
فهمست في أذنه:
ـ لا مطمع عندي يا أبي سوى ان يصبح المسيح خطيبي، لأنه أغنى الأغنياء، وحبيب الفقراء ومسعفهم، فلا تحرمني من نعمة الترهب.
فربّت على كتفها بعد أن استعذب قولها، وقرر ارسالها الى دير العذراء الذي بناه من ماله الخاص، لتتنسك مع غيرها من البنات.
وبعد سنوات، قرر قائد المدينة ريكاردوس، وضع ابنته اليتيمة من أمها، في ذلك الدير، وكان شريراً ونجساً، فقبلتها الرئيسة بفرح، وطلبت من سائر الأخوات معاملتها بالحسنى، وكانت مريم بينهن، فلاحظ القائد أنها تطيل التأمل بزيه العسكري، فاعتقد أنها معجبة به، وأنها ترغبه، كما هو يرغبها. 
وعندما رجع الى قصره، أرسل الى الدير من يأتيه بها، فحزنت الرئيسة كثيراً، وقالت للخادم الذي أرسله:
ـ قل لسيدك أن لا يفعل بالدير هذ الفعل الشنيع، إذ عليه ككقائد أن يحمينا، لا أن يعرّض شرف راهباتنا للوساخة.
فلم يأخذ القائد بكلامها، بل أصر على أن تأتيه مريم الى قصره، لأنها معجبة به كما هو معجب به، على حد قوله. واذا لم ترسلها الرئيسة سيأتي هو بنفسه ليأخذها، وستحدث في الدير مصيبة كبرى.
طلبت الرئيسة مريم، وسألتها عن اعجابها بالقائد، وسر تطلّعها الطويل به، متناسية أن أباها أرسلها الى الدير كي تترهب لا كي تتزوج. 
ـ فلماذا ارتكبت تلك المعصية يا ابنتي؟
فأجابتها مريم وهي تبكي:
ـ تطلعت به بعد أن أشفقت عليه بسبب خبثه، والشر الذي يغلّفه أكثر من ملابسه البراقة، ونياشينه الكثيرة المتدلية على صدره. لذلك أرجوك يا رئيستي أن تتركي لي الجواب، ليعرف ذلك المغرور قيمة عفّتي وشرفي ورهبنتي عندي.
فطلبت منها الرئيسة أن لا تكلمه بفظاظة، مخافة ان يرتكب جريمة في الدير. فوعدتها مريم بأن تكون لطيفة معه، شرط أن ترافقها الى الكنيسة من أجل الصلاة أمام أيقونة مريم العذراء، وطلب شفاعتها.
وبصوت ملائكي، طلبت مريم من امها مريم أن تنقّي جسدها من كل دنس.
في تلك الأثناء وصل الخادم لاصطحاب مريم الى قصر القائد، فوقفت بوجهه الرئيسة وقالت له:
ـ أنا لا أرسل راهبتي مع أحد، فما على القائد سوى المجيء بنفسه لاصطحابها. وما عليك إلا أن تسأل الراهبة مريم بنفسك.
فالتفت الخادم الى مريم وقال:
ـ حين رآك سيدي أعجب بجمال عينيك، ومن يومها فارقه النوم، فإذا لم تذهبي معي، سيأتي بنفسه ليأخذك غصباً عنك، وسيفضحك في كل بلاد انكلترا.
فقالت له:
ـ انتظرني لحظة كي أزور الكنيسة، ومن ثم اعطي سيدك ما قد أعجب به.
فرح الخادم من جوابها، واعتبر أن المسألة حلّت على خير، وأن سيده سيكافئه متى رأى مريم بصحبته.
أما مريم فلما دخلت الكنيسة ارتمت تحت أقدام شفيعتها وهي تبكي وتقول:
ـ لقد أحببتُ عينيّ يا سيدتي كي أستمتع أكثر فأكثر برؤية وجهك المقدس، أما وقد أصبحتا عثرة في طريق ترهّبي، لأن القائد الشرير افتتن بهما والتهب بالشوق الشيطاني، لذلك أرجوك يا أم الرحمة أن تساعديني في اقتلاعهما، كي لا أنجس شرفي وعفّتي، فللضرورة أحكام يا شفيعتي، فسامحيني.. سامحيني.
وبشجاعة لا توصف، اقتلعت عينيها بالسكين، ووضعتهما في وعاء، وصاحت بأعلى صوتها:
ـ تعال ايها الخادم، وخذ لسيدك هاتين العينين اللتين افتتن بهما. فأنا لست بحاجة اليهما بعد اليوم.
حمل الخادم العينين وهو يرتجف، ورماهما أمام قائده، وأخبره بما فعلت مريم. وللحال تغيّر القائد من شرير الى ملاك، وحلت النعمة الالهية عليه، وتملكه ندم قوي مفعم بإعجاب شديد بتلك الفتاة التي احتقرت جمالها الجسدي كي لا تشوه جمالها الروحي، فذهب الى الدير وهو يحمل عينيّ مريم، ومن دون أن يتكلّم مع أحد، دخل الكنيسة وارتمى تحت أيقونة أمنا مريم، بعد أن وضع العينين تحت الأيقونة، وراح يبكي ويسألها السماح والغفران. وكانت مريم العمياء تستمع الى كل كلمة ينطق بها.
فجأة، دعا الرئيسة وباقي الراهبات وأمرهن أن يركعن ويطلبن بايمان حار من مريم العذراء ومن ابنها يسوع المسيح إعادة عيني مريم الى محجريهما.
ولكي يشجعهن على الصلاة بحرارة، خلع عنه لباس الأبهة وذر الرماد على رأسه، وراح يبكي ويقول:
ـ أنا لا أستحق التطلع بأيقونتك المقدسة، فلقد دنست نفسي كثيراً، ولم أترك معصية الا ارتكبتها، ولكن السيد المسيح الذي تجسد منك لم يرفض اللصوص والعشارين التائبين، فساعديني يا ام الرحمة كي أغسل نفسي من أوساخ الماضي، واتخلص من أسر الشيطان الخبيث. أنت القديرة على كل شيء.
وفي منتصف الليل أضاء نور غريب مذبح الكنيسة، وسمع صوت يقول:
ـ خذي يا مريم عينيك من نعمة ابني يسوع.
وللحال عادت عينا مريم كما كانتا من قبل، وأول ما رأت كانت أمنا العذراء واقفة في باب الكنيسة، فصاحت مريم:
ـ ما أعظم اسمك، وأمجد نعمتك، وأكثر عجائبك.
أما القائد والراهبات فلما سمعوا ذلك الصوت نهضوا من سجودهم، ولكنها لم يشاهدوا العذراء كما فعلت مريم، بل تطلعوا بعينيها، وقدموا الشكر والمديح لأم الاله.
وبعد وفاة رئيسة الدير، انتدبتها الراهبات رئيسة جديدة عليهن، فرعتهن، ودبّربتهن بحكمتها وقداستها، الى يوم انتقالها الى الملكوت السماوي.
**
اوفيميا
كان لأحد الأغنياء ابنة تقيّة اسمها أوفيميا، ندرت عفّتها للسيدة العذراء، وكانت مستنيرة بالفضائل وبنعمة الله منذ طفولتها، فتعجّب كل من عرفها من حسن سيرتها، ومن مواظبتها على زيارة الكنائس. وكانت كلما نمت بالجسد، ازدادت فضيلة وتقوى.
دبّت الغيرة بقلب الشيطان، فحسدها على عفّتها، فتلاعب بعقل أحد الأكابر الأغنياء، وصوّر إليه أنه مغرمٌ بها، وأن لا حياة له بدون أوفيميا، فذهب الى قصر أبيها وطلبها منه زوجةً، وأنه سيكون سعيداً لو أصبح صهراُ له.
لم يصدق الوالد أذنيه وهو يسمع كلام أحد أشهر أغنياء البلاد، وهو يشرح له حبّه لابنته وفخره بمصاهرته، فوعده بها دون أن يسألها، فجنّ جنون أوفيميا حين علمت بالوعد الذي قطعه أبوها للطامع بعذريتها. وأخبرته وهي تبكي بأنها أقسمت للعذراء مريم أن تهبها بتوليتها، وأنها اختارت المسيح خطيباً لها.
فلم يصغِ لها بل قال:
ـ هذا الرجل من أشرف العائلات، وأغنى الأغنياء، وكل فتاة تحلم بقربه.. لذلك ستتزوجينه مهما كان، وإلا سأغضب منك وأعاقبك بشدة.
وعندما رأت أوفيميا إصرار والدها على تزويجها من ذلك الغني، وأن وعدها لأم الاله سيذهب أدراج الرياح، دخلت الى الكنيسة، وراحت تبكي وتتضرّع لشفيعتها كي تعينها في مصيبتها هذه.
وفجأة صاحت:
ـ يا أم الاله، اذا كان جسدي سيكون حجر عثرة في تحقيق حلمي المقدّس، سأشوّهه، ولن أكذب عليك أو على سيدي يسوع المسيح، وأحنث بوعد قطعته لكما.
ثم بدأت بتقطيع شفتيها وجدع أنفها، وهي تردد: مع آلامك يا يسوع.
وعندما شاهدها والدها على هذه الحال، والدماء تسيل من وجهها، تملكه حقد شديد عليها، وقرر إذلالها بدلاً من أن يقطع رأسها، فدفعها الى فلاحه البربري، عديم الانسانية والشفقة، وأمره أن يقوم بضربها وتعذيبها، والويل له ان أشفق عليها، فسيقطع رأسه هو بدلاً منها.
خاف الفلاح من سيده، فراح يذيق أوفيميا العذاب المر، ويتفنن بضربها ويعيّرها بالبشاعة التي اختارتها لنفسها، دون أن تتأفف، لا، بل كانت فرحة جداً لأنها حفظت عذريتها وعفّتها من الفساد من أجل عينيّ أمها مريم العذراء.
وفي ليلة عيد الميلاد المجيد، تناول ذلك الفلاح البربري عشاءه، وراح يفتّش عن ابنة سيده، فوجدها تصلي في الاسطبل، وتشكر السيد المسيح على تجسده انساناً من اجل خلاص البشرية، فبدلاً من أن يشفق عليها، تناول عصاه كي يضربها، فإذا بنور شديد يظهر له من بعيد، فاعتقد أن بيته يحترق، فإذا بالسيدة العذراء تخرج من ذلك النور وحولها رهط من الملائكة، وتقول لأوفيميا:
ـ أوفيميا، أوفيميا.. لقد تحمّلت الكثير من العذاب من أجلي وأجل ابني مخلص العالم، وآن الأوان كي تستريحي وتعودي كما كنت جميلة الجميلات.
وللحال، عادت شفتا أوفيميا أجمل مما كانتا، وشمخ أنفها الجميل في مكانه، فهرب ذلك الفلاح البربري بعدما رأى هذه العجيبة، وأحضر جيرانه، كي يشاهدوا ما شاهد، فخروا ساجدين تحت قدمي السيدة العذراء، التي كانت تحضن أوفيميا وتضمد جراحها.
وعندما وصل أبوها، ورأى ابنته الوحيدة أجمل مما كانت، شكر الله، وطلب منها المغفرة، وأمر ببناء دير كبير مكان الاسطبل، يحمل اسم السيدة العذراء، كي تترهب فيه ابنته، وتقدّم ذاتها لحبيبها السماوي. فانضمت اليها العذارى من كل مكان، فكانت لهن الرئيسة القديسة، الى أن طلبها السيد الى ملكوته السماوي. بعد أن عطّرت الكتب بقداسة حصلت عليها عن جدارة.
**
المراة الحبلى
إمرأة وثنية حبلى، جاءها الطلق عدّة مرات دون أن يخرج الجنين من أحشائها، لقد كانت ولادتها عسيرة للغاية، فتألمت كثيراً وكادت أن تزهق روحها. فأشفقت عليها جارتها المسيحية المؤمنة، وهمست بأذنها:
ـ إن أردت الخلاص، آمني بالسيدة العذراء، واستغيثي بها كي تحدث الولادة.
فصاحت للحال بصوت متوجّع:
ـ أيتها الأم المباركة مريم الدائمة بتوليتها، أتضرّع إليك أنا الوثنية النجسة التي لا تجوز عليها الشفقة، ولكن ابنك الحبيب يسوع المسيج نزل من السماء من أجل خلاص جميع الناس، ولقد أخبروني عن رحمتك وتحننك، فأطلب منك أن تخلصيني من هذه الشدة، وأعدك متى ولدت أن أعمد طفلي.
وما أن نطقت العبارة الأخيرة، حتى ولدت طفلاً ذكراً، وبعد أيام ذهبت الى الكنيسة وطلبت من الكاهن أن يعمّدهما، هي وطفلها، في وقت واحد، وميرون واحد.
حصل كل هذا وزوجها كان في سفر، وعندما عاد وعلم بما حدث، ذبح الطفل أمام أعين جيرانه، كي يغيظهم ويحرق قلب زوجته على طفلها، فلحقوا به كي يمسكوه ويسلموه للحاكم، فهرب منهم واختبأ داخل إحدى الكنائس. هناك وجد نفسه وجهاً لوجه أمام أيقونة السيدة العذراء، وبدون إدراك منه ركع أمامها وراح يبكي ويطلب المغفرة، ويقول:
ـ أيتها الأم القديسة، أنا لا استحق رحمتك، ولا معونتك، كوني ملحداً، وها قد قتلت ابني دون شفقة، فأرجوك أن ترحميني كما رحم ابنك بولس الرسول الذي اضطهد أبناءك، وأن تغفري خطاياي، لكي أستحق الاعتراف بك وبألوهية ابنك يسوع، مخلص العالم.
وبينما هو يصلي بحرارة، دخل جيرانه وأمسكوه، وقبل أن يسلموه للحاكم كي يقطع رأسه، كما قطع هو رأس ابنه، طلب منهم أن يسمحوا له بتقبّل سر المعمودية، وبعدها افعلوا بي ما شئتم، على حد قوله.
وبعد أن اعتمد، كما طلب، جرّوه الى قصر الحاكم، ليحكم عليه بالعدل، فحوله الى السجن لينظر بأمره في الغد.
وعندما سمعت الزوجة أن الحاكم مزمع على قتل زوجها، راحت تبكي وتستغيث بأم الرحمة، مريم العذراء، وتطلب منها أن تحيي ابنها، كي تخلّص زوجها من الموت المحتم.
ويا لها من عجيبة، فإذا بالطفل يتحرّك بين يديها، وتدب الحياة في جسده الصغير، فما كان منها إلا أن حملته، وركضت به الى قصر الحاكم وهي تصيح:
ـ اطلقوا سراح زوجي.. ابني حي.. ابني حي.
فتعجّب الجميع عندما رأوا الطفل يضحك، بعد أن أحيته أم المخلص، فمجّدوا الله وشكروه على عجائبه الكثيرة.
وما أن أطلقوا سراح الوالد حتى ركض نحو طفله، وراح يمرر يديه على الجرح الباقي حول رقبته، وهو يبكي ويشكر الله.
ولكي تزيد أم الرحمة من عجائبها، أعطت الطفل نعمة الكلام الفصيح، كابن عشرين سنة، فراح يخبر الجمع عن عظمتها ويقول:
ـ والدة الإله مريم هي التي أحيتني من الموت، بعد أن آمن والدي وتقبّل سر المعمودية.
وبسبب هذه العجيبة اعتمد الكثير من الوثنيين، وراحوا يبشرون بفضائل وعجائب السيدة مريم العذراء.
**
فخ الخطيئة
كان في مدينة روما رجل غني وفاضل جداً، أدرك بإيمانه القوي أن الدنيا وما فيها من أملاك وملذات تزول مثل المنام، لذلك قرر الترهّب في أحد الأديرة، فطلب من زوجته صفحاً، بعد أن ترك لها ابناً، وراح يكمل حياته في خدمة الله.
أما زوجته فبقيت في بيتها مع الصبي، وكانت تحبّه وتعانقه وتقبّله على مدار الساعة، ولكنها لم تتوقّف عن حبها الغريب هذا عندما أصبح شاباً، كامل الرجولة، فأوقعها الشيطان في فخ الخطيئة، فراحت تنام معه وتعاشره كما كانت تعاشر زوجها، ضاربة عرض الحائط بالوصية القائلة: لا يجب أن يعاشر الأخ أخته، ولا الأم ابنها، لأن غضب الله سيكون عظيماً.
ولكي يضاعف الشيطان من خزيها، حبلت من ابنها، فقررت الانتحار، ولكنها فكّرت برحمة الله، وراحت تصلي لأم الإله، وتطلب المغفرة والرحمة، إلى أن حان وقت ولادتها، فرمت الطفل في مكان نجس ليموت دون أن يدري بخطيئتها أحد.
ولكن الشيطان لم يكتفِ بما فعله بها من زنا المحارم، بل أراد أن يلطّخ شرفها أكثر فأكثر، فظهر للناس بشكل شيخ تقي، وراح يعظهم، ويخبرهم عن أشياء كثيرة من سرقات وقتل وما شابه، حتى آمن به كثيرون، ومن جملتهم حاكم المدينة. 
وذات يوم، وقف في الساحة أمام جمع غفير وقال:
ـ هناك امرأة منافقة تعيش بينكم، عملت كذا وكذا من الخطايا، وأنا متعجب كيف لم يحرق الله روما وشعبها، مثل صادوم وعامورة، بسبب وساخة هذه المرأة؟!
فصاحوا بصوت واحد:
ـ من هي، قل لنا من هي كي نرجمها.
وبصوت خبيث قال:
ـ إنها زوجة ذلك الغني الذي تركها وترهّب، لقد نامت مع ابنها فحبلت منه ورمت جنينها في مكان نجس حتى مات.
فلما سمعوا قوله صاحوا بغضب شديد:
ـ أنت تكذب، أجل تكذب، فالمرأة التي ذكرت فاضلة، ورعة وقديسة، ولن نصدقك بعد اليوم.
فقال لهم:
ـ أضرموا ناراً قوية، واجلبوا تلك المرأة الى هنا، ومن منا كان كاذباً ارموه في النار.
وللحال أتوا بتلك المرأة وقالوا لها:
ـ هذا الشيخ التقي اتهمك بأمور كثيرة، فإما أن تثبتي طهارتك وإما أن نرميك في النار.
فجاءها إلهام من عند الله بأن يعطوها مهلة ثمانية أيام، فكان لها ما أرادت. فذهبت الى لوكيانوس بابا روما، وارتمت تحت قدميه، واعترفت له بكل خطاياها، وهي تبكي وتندب حظها التعيس.
فقال لها قداسته:
ـ لا تخافي يا ابنتي، ربنا غفور ومحب، ألم يغفر خطايا بولس وبطرس، فالأول اضطهده، والثاني نكره، ومع ذلك جعله أول الرسل. ألم يقل لذلك الجمع الذي أراد أن يرجم امرأة زانية: من منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر. تضرعي يا ابنتي لوالدة الاله فهي قادرة على كل شيء، اذهبي الآن وكفّري عن خطاياك، وأنا واثق من ان الله سيرحمك.
رجعت المسكينة الى بيتها فأغلقت الباب، ورفعت يديها وعينيها نحو السماء، وراحت تصلي وهي تبكي وتطلب من أم الرحمة أن تنقذها من هذا العار، وتعينها، وتسترها أمام أهل روما.
وحين جاء اليوم الثامن، ذهبت مع أقربائها الى مجلس الحكم، وكانت برفقتها السيدة العذراء دون أن يراها أحد، أو تدري هي بها.
وفي نفس الوقت وصل ذلك الشيطان الماكر، المتظاهر بمعرفة الأسرار، فقال له القاضي:
ـ هذه هي المرأة واقفة أمامك، بيّن لنا ما فعلت من خطايا، وإلا سيكون مصيرك أنت في النار.
فنظر اليها مدة طويلة دون أن يتمكن من النطق، بل ظلّ واقفاً ومتحيّراً أمام القاضي والناس.
فصاح الجمع:
ـ ما بك صامت، ألست تتهمها كما اتهمتها في السابق؟
فقال:
ـ هذه ليست المرأة الساقطة، التي قتلت ابنها، هذه هي مريم القديسة، الطاهرة وسط بنات أورشليم، وليس بإمكاني أن أتهمها بشيء.
وللحال اضمحل من بينهم كالدخان، فركع الجميع أمام سيدة السماء والارض، ومجدوا الله كثيراً.
أما زوجة الغني فقضت باقي حياتها تمجد الله، وتقوم بأعمال البر والاحسان، وبيّنت لأهل مدينتها أنها فعلاً ابنة العذراء مريم.
**
الزوجة العذراء
قرّر العديد من أبناء روما، أيام أنوريوس وأركاريوس، أن يحفظوا عفّتهم، رجالاً ونساء، وكان من بين هؤلاء بنت عذراء، غنيّة جداً، وذات جمال خارق. 
ذات يوم زوّجها والداها، دون ارادتها، لشاب غنيّ أيضاً، ذي حسب ونسب، وبعد أن انتهى العرس، حاول أن يدخل عليها كما يفعل كل زوج مع زوجته، فوجدها راكعة أمام أيقونة السيدة العذراء تصلي، وتتضرع اليها بدموعها أكثر من كلامها، لتحفظ عذريتها من الفساد، فتعجّب العريس وسألها عن سبب ذلك، فقالت له:
ـ أنا أبكي يا أخي الحبيب لأنني وعدت أمنا مريم أن أحفظ عذريتي، وأن لا يتزوجني أحد، لأنني سأهب نفسي لابنها يسوع، وها قد زوجني أهلي غصباً عني، فماذا تريدني أن افعل؟ أأغضب العذراء وابنها يسوع لأرضيك أنت؟
وبكل المحبة والحنان راح يخبرها عن أناس كثيرين تزوّجوا وأرضوا الله، ومنهم من توّجتهم القداسة، ورفعت صورهم في الكنائس. ولكنها لم تقتنع بقوله، بل راحت تشرح له كيف أن يسوع ولد من مريم البتول، وكيف أن النبي إيليا ويوحنا المعمدان حافظا على عفتهما رغم الضغوط التي تعرّضا لها. وراحت تخبره قصصاً كثيرة عن فضائل العفة الى أن أقنعته، وأقسم أمام أيقونة العذراء أن لا يمسها أبداً.
وهكذا عاشا كأخوين صادقين مؤمنين دون أن يدري بقصتهما الأهل، بل اعتقدوا أن حياتهما الزوجية تسير على أحسن ما يرام. الى ان طلب المسيح الزوجة الطاهرة الى ملكوته السماوي، وفيما هم ذاهبون لدفنها، راح الزوج يصرخ بصوت عالٍ ويقول:
ـ أشكرك يا ربّ لأنك أعطيتني هذه الزوجة الطاهرة العفيفة الخالية من أي دنس، فلقد حافظت على بتوليتها كرمى لعينيّ خطيبها يسوع، وها أنا أسلمها لك كما أعطيتني إياها، بكراً، لا يشوبها عيب.
وما أن أنهى كلامه، حتى فتحت الزوجة عينيها وقالت لزوجها:
ـ لماذا كشفت سري، أيها الأخ الحبيب، في هذا العالم الغارق بالدنس.
فتعجب الحاضرون، وضربهم الذهول، وراحوا يمجدون الله على عجائبه الكثيرة.
وبعد أيام قليلة مات الزوج، فدفنه أهله في مقبرة بعيدة عن مقبرة حبيبة عمره، لأنه من بلدة غير بلدتها. وبعد أشهر بنوا له قبراً جديداً يليق به كغني، وأرادوا أن ينقلوا جثمانه إليه، فحفروا القبر فلم يجدوا الجثمان، فاحتاروا في أمرهم، واعتقدوا أن لصاً سرقه ليبتزهم مالياً، ولكن الكاهن ارتأى عليهم نبش قبر زوجته لعلّ الله قد فعل معهما عجيبة ثانية، وجمعهما بعد الموت أيضاً.
ولم يصدقوا أعينهم حين وجدوا الزوج والزوجة في قبر واحد، يحضنان بعضهما البعض والابتسامة تكلل ثغريهما. أجل، لقد رفض الله أن يفرّق بينهما، لا في الحياة، ولا بعد الموت.
**
الكاهن الحكيم
يخبرنا القديس كاماريوس في كتاب التيالوغوس أن رئيساً للصوص كان يسكن في مدينة "ترانطوس" المعروفة الآن باسم فلورنسا، وكان يأخذ من إحدى الغابات غطاء لجرائمه، وكان يعرّي مع أصحابه كل من يمر في تلك الغابة، حتى لا يبقى معه شيئاً، حتى ثيابه. وكانوا في كثير من الأحيان يقتلون كل من يرفض الرضوخ لطلباتهم. 
وذات يوم مرّ من ذلك المكان كاهن حكيم، ومعلم اعتراف بارع، فلما شاهده اللص انقض عليه طمعاً بماله، فأمر بعض رجاله ان يعرّوه، ويأتوه بكل ما يملك، وعندما لم يجدوا معه شيئاً، غضب اللص وصاح:
ـ ألا تحمل معك مالاً؟ هل أنت فقير الى هذه الدرجة؟
فأجابه الكاهن بصوت مفعم بالايمان:
ـ أنا غنيّ جداً يا بنيّ، ولكنك لن ترى ثروتي إلا إذا سمعت كلامي.
فصاح به:
ـ تكلّم.. أسرع.
فحدّق الكاهن بعينيْ اللص وقال:
ـ ماذا ينفع الانسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه، لذلك تراني غنياً بإيماني بالله، وحبي ليسوع وأمه مريم، فلا ينقصني شيء على الاطلاق.
فسأله اللص بنرفزة ظاهرة:
ـ ألا تقتني مالاً؟ كيف تأكل؟ وكيف تشرب؟
فرد الكاهن بهدوء، وهو ينظر الى دودة ربيعية تمر من أمامه:
ـ كما تأكل هذه الدودة.. أنظر إليها كيف تسير بفرح ودون خوف، بعد أن أكلت ما رزقها الله.
أعجب اللص بكلام الكاهن، فطلب منه أن يخبره أكثر عن عجائب ام الله مريم. فضحك الكاهن وقال:
ـ هذه إحدى عجائبها، فلقد كنت ذاهباً في طريق آخر، فإذا بصوت يأمرني أن أسلك طريق الغابة، كي أنقذ أنفساً يتلاعب بها الشيطان، ولا قدرة لها على المقاومة.
وما أن سمع اللص العبارة الأخيرة، حتى ركع أمام الكاهن، ورسم إشارة الصليب وبدأ يعترف بخطاياه واحدة واحدة، والكاهن يحثه على طرد شيطانه بشفاعة العذراء مريم، لا بل أمره بأن يتوقف عن السرقة، وأن يحفظ صيام يومي الاربعاء والجمعة، وأن لا يحمل سلاحاً خلال صيامه، وأن يدعو جميع رفاقه للتوبة.
والظاهر أن بعض رجاله لم تعجبهم توبة رئيسهم، بل راحوا ينقضون على كل من يمر في الغابة لسرقته كعادتهم، وكان هو يتصدى لهم، وينقذ المسافرين، ولسان حاله يقول: لن يقوى عليّ شيطان ومعي أمي وشفيعتي مريم العذراء.
وذات يوم أربعاء، وبينما كان يسير في الغابة صائماً بدون سلاح، كما وعد الكاهن، أطبق عليه الجنود من كل مكان، فاستسلم لهم دون مقاومة، فذهبوا به الى حاكم المدينة، فأمرهم بقتله، فوقف بعض من أنقذهم من اللصوص، واخبروا الحاكم بشجاعته، فتطلع به وقال:
ـ إذا أقسمت لي بأنك لن تؤذي أحداً من سكان مدينتي، وأنك ستدافع عنا إذا هاجمنا العدو، سأطلق سراحك، وأهبك الحياة.
ولم يصدق الحاكم أذنيه وهو يستمع اليه قائلاً:
ـ لا أريد هذه الحياة يا سيدي، فأنا أستحق الموت فعلاً بعد أن قتلت الكثيرين من الابرياء، ولذلك لم أقاوم جنودك. أشرف لي أن أدفع ثمن أخطائي هنا، من أن أدفعها أمام ربي وشفيعتي مريم العذراء، وأخسر ملكوت السموات. أرجوك اقطع رأسي.
وما أن سمع الشعب كلامه، حتى راح يصفق له، ويهتف بأعلى صوته: لقد منحناك المغفرة عن كل خطاياك أيها اللص المؤمن.
وما أن رسم اشارة الصليب، وأحنى هامته أمام السياف، حتى كان رأسه يتطاير عن جسده، فقبروه في المكان الذي أعدم به.
وبينما كان حراس المدينة يقومون بجولتهم الليلية، رأوا فوق القبر نوراً عظيماً، وخمس نساء يحفرنه، ويخرجن جثة اللص ليلحمن رأسه عليها، ثم غطينه ببرفير، وحملته أربع نساء، أما المرأة الخامسة، وهي الأجمل بينهن، فكانت تتبعهن من الخلف، الى أن وصلن الى باب المدينة. هناك أنزلنه ووضعنه أمام الحراس، الذين هربوا خائفين من هول المفاجأة، فصاحت المرأة الجميلة بأعلى صوتها:
ـ لماذا تهربون خوفاً من عجائبي، امضوا الى أسقفكم وقولوا له ان خادمي الذي قطعتم رأسه بالسيف، يجب أن يدفن بوقار وتشريف، واذا لم يصنع ما قلت له، فليعلم أني أنا مريم البتول أم الله لن أسامحه البتة.
وما أن أنهت كلامها حتى غابت ورفيقاتها عن أعين الحراس. 
وفي الصباح الباكر دعا الأسقف جميع رجال الاكليروس والشعب لمرافقته الى باب المدينة حيث وضعت جثّة اللص المؤمن، وما أن رآها، وقد عاد اليها الرأس، حتى صاح:
ـ المجد لك يا ألله، ما أكثر عجائبك، وأعظم رحمتك. وما أجمل هذا البرفير الملفوف به الجسد، إنه مصنوع في السماء، ليزداد ايماننا بقدرة أم المخلص.
بعدها تطلع بالحشود الموجودة وقال:
ـ مجنون من يعتقد أن مغفرة الله بعيدة عنه، انها بمتناول كل واحد منا شرط أن يطلبها بإيمان وتقوى، تماماً كما فعل هذا اللص، الذي ضحى بحياته الدنيوية كي يربح الحياة الابدية.. فطوبى له.
**
زوجة الفلاح
   إمرأة فقيرة جداً من ناحية الماديات، وغنيّة من ناحية الروحانيات والتعبّد والقداسة، وكان زوجها الفلاح يعمل في حقل بعيد عن البيت الذي تسكنه مع طفلها الصغير، ابن العام الواحد.
   وذات يوم نسي الفلاح زوّادته في البيت، فقررت أن تأخذها له كي يأكل، كونه يعمل من الفجر الى النجر، كما يقولون، ومن حقه أن يغذي جسده المرهق برغيف خبز يابس وأربع حبات زيتون وبصلة.
   ولكن، من سيحرس الطفل في غيبتها، إذ من الصعب جداً أن تحمله مسافة طويلة في حر الصيف المحرق. 
   فكّرت طويلاً، ومن ثمّ قررت أن تسلّمه لأمها العذراء مريم، لأنها الوحيدة القادرة على حمايته من أي ضرر. فالتفتت الى السماء وقالت:
ـ يا أم اليتامى، ما لي غيرك.. أنت شفيعتي، وحبيبتي، وام سيدي المسيح. احسبي طفلي الوحيد هذا كطفلك الوحيد يسوع، واحرسيه بعنايتك ورأفتك الى حين عودتي من الحقل، فزوجي جائع وأنا مجبورة بإطعامه. ساعديني يا أمي.
   أغلقت باب بيتها على ابنها النائم في سرير من القش، شبيه بمزود المسيح، وذهبت الى الحقل البعيد، ولسان حالها يردد طوال الرحلة:
ـ السلام عليك يا مريم..
   وفجأة، احترق بيت جيرانها، وامتدّ الحريق الى بيتها، فما أن شاهدت الدخان الكثيف يتصاعد من بعيد، ويجتاح الحقول والمراعي، حتى سجدت هي وزوجها، وراحا يصليان بخشوع كي تحفظ أم الله طفلهما من الموت حرقاً.
   ولشدة خوفها على ابنها راحت تلوم السيدة العذراء على تقاعسها بحماية ابنها من اي ضرر، بعد أن سلمتها إياه نائماً في سريره:
ـ لماذا فعلت بي هكذا يا سيدتي، يا ام ربي، ومن أفضل منك كي أضع ابني في حمايته.
   وما أن أنهت كلامها، حتى بدأت تركض هي وزوجها نحو البيت، والدموع تتساقط من أعينهما كزخّات المطر.
   وعندما وصلا وجدا البيت ركاماً، ولم يبقَ واقفاً سوى الحيطان، ولكنهما سمعا صوت طفلهما يبكي، فركضت الأم نحو مصدر الصوت، فوجدت ابنها جالساً وسط النيران، دون أن يصيبه اذى.
   عندئذ، التفتت الى السماء وقالت:
ـ كم أن عظيمة وحنونة يا أم المخلص، وما أروع وأكثر عجائبك. وطوبى للمؤمنين بك وبابنك الحبيب، فإنهم لا يرون الهلاك أبداً.
**
الرجل الاعمى
   ديديموس إنسان أعمى منذ لحظة قدومه الى هذه الدنيا، ولكنه كان متعبداً لله، لا يفوّت قداساً على الاطلاق، ويتلذذ كثيراً بوعظ الكهنة، حتى أصبح ضليعاً بأمور الكنيسة والدين بشكل ملفت للنظر.
   صحيح أن الله حرمه من نعمة النظر، ولكنه وهبه نعمة الذكاء الحاد، فأصبح عالماً كبيراً يحفظ الأشياء غيباً، أو كما يقولون عن ظهر قلبه، لذلك كان يخيف الهراطقة الوثنيين عندما يجادلهم.
   وذات يوم، لم يتمكن الوثنيون من مجادلته في أمور الدين، وخاصة فيما يتعلّق بالله، والبتول مريم، وابنها يسوع المسيح، فوقفوا بوجهه وصاحوا:
ـ لماذا تنصر إلهاً لم ينصرك؟ لماذا تمجد سيدة عذراء لم تأبه بك؟ ولماذا تقدّس السيد المسيح وقد غض بنظره عنك؟ إذا كانوا حقاً كما تقول فليفتحوا عينيك لترى.
   وما أن سمع كلامهم الجارح حتى صاح بهم:
ـ تعالوا بعد ثلاثة أيام، وسأريكم عجائب سيدة العالمين أجمع.. وستفتح عيني لتفتحوا أنتم قلوبكم السوداء وتؤمنوا بالله.
   قال هذا، وأسرع الى بيته، وبدأ بتوزيع الصدقات، وبالصوم المتواصل ليلاً ونهاراً، وبالصلاة للعذراء مريم وهو يبكي ويتضرع اليها كي لا تخذله أمام الوثنيين، وتمنحه نور عينيه، ليس ليتمتع بهذه النعمة، بل ليخذل بها أعداء الله.
   وفي اليوم المحدد اجتمع داخل احدى الكنائس جمهور كبير من الناس، معظمهم من الوثنيين الذين جاؤوا ليسخروا من ذاك الأعمى المؤمن.
   وما أن دخل الأعمى الى الكنيسة حتى خرّ ساجداً أمام أيقونة أم الرحمة، وصاح بأعلى صوته:
ـ ولدت كفيفاً يا سيدتي ولم أتذمّر أو أتأفف، فلقد كنت فرحاً بمحبتك ورضاك عني، فآليت على نفسي أن تصبحي أنت نوري، لأعوض بك عن نور عينيّ، ولكن كما تعلمين، هناك من يريدني أن أشكك بقدرتك السماوية، وبأنك عاجزة عن منحي النور لأرى، فلا تخذليني يا حنونة، يا محبة للبشر، لأنك قادرة على كل شيء.
   وفجأة سطع نور قوي في الكنيسة، وسمع صوت يقول:
ـ إفتح عينيك يا بني.. 
   وما أن فتح عينيه حتى راح يبكي ويقول:
ـ أشكرك يا أمي.. يا شفيعتي.. يا قديستي العذراء البتول.
   فتعجّب الوثنيون وضربهم الذهول، وراحوا يطلبون المغفرة من الله على خطاياهم، ويترجون الكهنة الموجودين هناك كي يعمّدوهم في الحال.
**
امرك يا ابي
    حدث في أيام الملك تاودوسيوس الكبير في مدينة القسطنطينية أن رجلاً غنياً جداً، وفاضلاً في سيرته منذ صباه، جارت عليه الأيام، وضربه الفقر عند كبره وشيخوخته، وكان له ابن وحيد اسمه تاوفيلوس، فقال له ذات يوم:
ـ ها أنا كما تراني يا بني، قد ساءت أحوالي المادية، ولم يعد بإمكاني أن أطعمك وأطعم نفسي، لذلك أرجوك أن تنفّذ ما سأطلبه منك دون ممانعة، فتحصل على الملكوت السماوي بسبب طاعتك لي.
فقال له ابنه متعجباً:
ـ قل لي يا ابي ماذا ستريد، وأنا طوع بنانك، سأنفذ كل ما تأمرني به.
فقال الوالد:
ـ ابراهيم أبو الآباء كان له ابناً وحيداً، أراد أن يقدمه ذبيحة للرب، فلم يلتفت ابنه اسحق الى الوراء بل سار خلف والده وهو يحمل الحطب بفرح وشوق. وغيره الكثير ممن أطاعوا آباءهم. هكذا أريدك أن تفعل، وأن تسمع وصيتي، وتقبل بأن أجعلك عبداً لي وليس ابناً، لأبيعك وأقتات بثمنك طوال شيخوختي.. لأنني أربأ بنفسي أن أدور من حي الى حي كالفقراء والبائسين من أجل أن أطلب الصدقة، والله رحوم يا بني، سيجعلك أعلى مقاماً وأرفع شأناً من أجل طاعتك لي وإحسانك عليّ. ولكن لي وصية ثانية أحب أن تحفظها الى ساعة موتك، فإن أرسلك سيدك، الذي سأبيعك اليه، بخدمة ما، أن لا تفعلها قبل أن تزور الكنيسة وتحضر القداس، وأن تكرّم السيدة العذراء دائماً وأبداً، وتأكد من أن الله سيسدد خطاك وينقذك من تهم باطلة.
فأجابه ابنه:
ـ اصنع يا أبي ما تريد.. وأنا تحت أمرك.
   وفي اليوم التالي باع ابنه لرجل من أهل البلاط الملكي اسمه قسطنطين، فأحب الشاب كثيراً لكثرة طاعته وتفانيه في خدمته، أضف الى ذلك عفته وتواضعه، ومعرفته القراءة والكتابة. وكان يأخذه معه أنّى ذهب.
   وذات يوم خرج سيده بزيارة الى قصر الملك دون أن يأخذ شيئاً هاماً للملك، كان قد نسيه في بيته، فأرسل عبده الأمين للإتيان به بأقصى سرعة ممكنة، وعندما دخل المسكين بيت سيده، وجد زوجته تمارس الفحشاء مع عبد آخر، ومع ذلك لم يهتم للأمر، لأنه كان على عجلة من أمره، كي يلحق بسيده.
   ولكن الشيطان أبى إلا أن يوقع به، فقررت الزوجة أن تتهمه بالتحرش بها جنسياً، وعند المساء همست في أذن زوجها عبارة أغضبته جداً:
ـ عبدك الجديد، حاول أن يندس في سريري، ويفسق بي، لولا صراخي ومساعدة عبدك الأمين هذا. وأدلت على عشيقها.
   فقرر التخلص منه حالاً، فاجتمع مع وزير المدينة، وقال له:
ـ غداً، سأرسل لك عبدي، فاقطع رأسه، وضعه في قطعة قماش واختمها، وارسله لي.
   فرفض الوزير تنفيذ طلبه، قبل أن يأتيه بثلاثة شهود، يشهدون أمامه أن ذلك العبد حاول ممارسة الفحشاء مع زوجته. فجاءه بالشهود الذين أقسموا انهم شاهدوا العبد يحاول اغتصاب سيدته. عندئذ رضي الوزير بتنفيذ عملية القتل.
   وعند صياح الديك، نادى السيد عبده الأمين، وأمره بأن يذهب الى الوزير ويقول له: سيدي يهديك سلامه.
   وبينما هو ذاهب الى موته، مر بكنيسة السيدة العذراء، عملاً بوصية والده، فحضر القداس، وتناول القربان المقدّس، وطلب من أم الاله أن تحفظه من أي ضرر. 
   في هذه الأثناء، كان العبد النجس، عشيق الزوجة، يترقب وصول رأس العبد الأمين، ولما تأخر وصوله، طلب من سيده أن يذهب بنفسه الى قصر الوزير للاستفسار عن سبب التأخير، فقال له: اذهب. وما أن سمع كلمة "إذهب" حتى ركض بسرعة هائلة، وكأنه يسابق الخيل، وعندما وصل الى القصر، دخل ليسلم على الوزير، فما كان من السيّاف إلا أن قطع رأسه بالسيف، وبينما هو يلفّه بقطعة من القماش، دخل العبد الأمين، فأعطاه الوزير "الهدية" مختومة، ليأخذها لسيده، دون أن يعرف ما بداخلها.
   وحين رجع الى بيت سيده سلّمه الهدية، ففكّ ختمها، فإذا بداخلها رأس العبد الفاسق. وحين شاهدت زوجته ما حدث لعشيقها، ارتعدت بشدة، وأصابها ذهول شديد، وخافت من غضب الله عليها، وراحت تبكي وتقول:
ـ أنا الشقية يا سيدي، أنا السبب في موت هذا العبد، الذي كنت أخونك معه لسنوات طويلة، دون أن تشعر بذلك، وعندما رآنا عبدك الجديد نزني معاً، خفت أن يفضحني أمامك، فألبسته تهمة باطلة، وها هو الله ينقذه من الموت، ليقتص من الفاعل الحقيقي. أرجوك سامحني واغفر خطيئتي.
   لم يصدق السيّد ما حصل، فطلب من عبده الأمين أن يخبره قصته كاملة دون نقصان، من هو؟ فأخبره أنه ابن حسب ونسب، وأن أباه باعه كي لا يمد يده ويستعطي الناس، وأنه أوصاه أن يزور الكنيسة قبل أن يقضي أية حاجة يأمره باتمامها، وهذا ما أنقذه من الموت.
   وما أن انتهى من سرد قصته، حتى قرر السيد أن يتخذه ابناً وليس عبداً، وأمر له بالميراث كاملاً.
**
ايقونة العذراء
   بعد آلام وصلب ربّنا ومخلصنا يسوع المسيح بألف وخمسمئة وسبع سنوات، وفي شهر أيار بالذات، هدم زلزال عظيم معظم بيوت وحوانيت مدينتيْ "اقريطش" و"خزواكا الكبيرة" التي تدعى الآن "خانيا"، وكان خارج السوق حانوت بقربه سور رسمت عليه أيقونة العذراء مريم والدة الاله، وكان جميع عمّال الحانوت يشعلون لها الشموع ويبخرونها يومياً قبل الذهاب الى منازلهم.
   وذات ليلة تركوا في الحانوت شابين، وأقفلوا عليهما الأبواب، بغية السهر وحماية الحانوت من السرقة. وفي هذه الليلة وقع الزلزال الرهيب، فأسرع رئيس البنائين الى الحانوت لاخراج الشابين، فوجده ركاماً على الارض، فظن ان الشابين قد ماتا، فأمر بالحفر بحثاً عنهما، وبينما هم يحفرون سمعوهما يقولان بثقة تامة:
ـ نحن بألف خير لا تخافوا.
وعندما سحبوهما من تحت الركام، وجدوا أن ثيابهما لم تتغبّر، فسألوهما عن السبب، وكيف بقيا سليمين تحت أطنان من الحجارة. فقال أحدهما:
ـ عندما أحسسنا بالزلزال، ركعنا أمام أيقونة العذراء مريم ونحن نبكي، ونستنجد بها، فإذا بستر خرج من الأيقونة ولفّنا من كل جانب، وحين سقط سقف الحانوت علينا، حمانا الستر المقدس من أي ضرر. وفجأة ظهرت لنا سيدتنا وأمنا العذراء، كما هي مرسومة على السور، وقالت لنا: لا تخافوا، ولم يغب وجهها المقدس عن عيوننا إلا حين وصلتم لانقاذنا.
   وحين سمع ايرونيموس دوق "اقريطش" بما حصل، أمر ببناء كنيسة قرب سور الأيقونة العجائبية، التي ما زالت مشعة في مكانها حتى يومنا هذا، والناس يحجون اليها من كل حدب وصوب في التاسع من أيار بغية نيل بركتها، واحتفاء بتلك العجيبة، وقد أطلقوا على تلك الكنيسة اسم: سيدة السوق.
**
الفنان والشيطان
   كان أحد الرسامين في بلاد "فلندريا"، متعبداً لمريم العذراء عبادة لا يمكن وصفها، وكان ماهراً جداً في فن الرسم. ومن عاداته الدائمة أن يتفنن برسم أم الاله بأجمل الألوان، وبإتقان رائع، ليعبّر عن حبه الشديد لها.
   وفي نفس الوقت، كان يرسم الشيطان بأبشع الألوان، ليراه الناس بشكل مخيف جداً، فيجفلون منه، ويبتعدون عن الخطيئة.
   لهذا السبب، غضب الشيطان منه غضباً شديداً، وقرر معاقبته، فجاءه في الحلم وقال له:
ـ ما ذنبي أيها الرسام كي ترسمني شنيعاً ومخيفاً الى درجة تفوق الحد؟
فأجابه الرسام:
ـ لأنك أسقطتني بتجاربك المخزية مرات عديدة.. وما زلت تحاربني حتى الآن.
فصاح الشيطان بغضب شديد:
ـ ان لم تتوقّف عن عملك، لا تلم إلا نفسك.
   قال هذا، واضمحل في دخان كثيف، دون أن يخيف الرسام، أو يثنيه عن عمله.  ولكي يغيظه أكثر، قرر أن يرسم السيدة العذراء على حائط عالٍ فوق باب الكنيسة، فبنى لذلك "تختاً" مرتفعاً من الأخشاب، وراح يرسمها بشكل رائع جداً، والشيطان اللعين يتلوى كالأفعى تحت رجليها المقدستين، اللتين تدوسان رأسه، وتخمدان أنفاسه.
   وما أن رأى الشيطان الخبيث صورته الشنيعة هذه، حتى جن جنونه، وقرر القضاء على الرسام، فهز "التخت" الخشبي الواقف عليه، كي يرميه على الأرض من علو شاهق، ويميته أبشع موتة أمام أعين المئات من الناس الذين تجمهروا هناك لمشاهدة تلك الصورة الرائعة.
   وبينما كان الرسام يتهاوى نحو الأرض صاح بأعلى صوته:
ـ ساعديني يا أمي.. يا أم الرحمة، وسلطانة السماء والأرض.
   فمدت العذراء يدها من الصورة وجذبته نحوها، فتمسك بيدها جيداً، الى أن أوصلته الى الارض سالماً.
   فما كان من الحاضرين إلا أن بدأوا بالتصفيق الحاد، والكل يرتل بصوت واحد: إليك الورد يا مريم، يهدى من أيادينا.
**
الكساندرا
   ألكساندرا.. فتاة من مملكة "أراغونا"، تخشّعت جداً، واشتعلت في حب وعبادة مريم العذراء، وواظبت على صلاة المسبحة الوردية بحرارة فائقة.
   ولكنها، في الآونة الأخيرة، كانت تترك صلاة الوردية، إما بسبب الكسل، أو لتزيين ذاتها، أو مراضاة لغيرها. وهذا غير جائز أبداً، مهما كثرت العلل الباطلة، فالروح أبدى من الجسد، كقوله تعالى: اطلبوا أولاً ملكوت الله وبرّه.
   ولأنها كانت جميلة جداً، اشتعلت قلوب الشباب بحبها، ومن بينهم شابان شريفا النسب، لم تبادلهما الحب، ولم تلتفت إليهما بتاتاً، فأتهم أحدهما الآخر بأنه السبب في صدّ الكساندرا له، فتعاركا إلى أن قتلا معاً.
   وعندما علم والداهما بموتهما، قررا البحث عن السبب، فقادهما تفتيشهما الى حبيبة قلبيهما "الكساندرا"، فأضمرا الشر لها، وبدآ بملاحقتها الى أن تمكنا منها، فضرباها على رأسها ضربة موجعة، فنظرت إليهما والدموع في عينيها وقالت:
ـ أريد أن أعترف بخطاياي.. أريد كاهناً حالاً.
   وبدلاً من أن ينفذا رغبتها قطعا رأسها بالسيف حتى لا تبلّغ عنهما، ورمياها في بئر عميقة.
   أما صاحبة المسبحة الوردية السيدة مريم العذراء، فغضبت جداً من جريمتهما المروعة، ولم تسمح بموت الكساندرا بدون اعتراف، فظهرت في الحلم على القديس دومنيكوس، وكشفت له موقع الجثّة، وأمرته بأن يذهب الى هناك وينادي بأعلى صوته: ألكساندر.. ألكساندرا..
   وما أن فعل ما أمرته أمنا به، حتى ارتفع رأس الكساندرا المقطوع من جوف البئر، وفتحت فمها وقالت: يا أبتي، أريد أن أعترف. فجمع القديس رأسها بالجسد، وأعادها الى الحياة، بعد أن قبل اعترافها وحلّها من جميع خطاياها، ثم سألها عن السبب الذي أدى الى قطع رأسها، فأجابته: يا أبي القديس، موتي كان لثلاثة أسباب. أولا: موت شابين تقاتلا بسبب غرامهما بي، وثانياً: العناية الدائمة بمظهري الخارجي، وثالثاً: تركي الصلاة لمسبحة الوردية. عندئذ، علم كل من حضر هناك أن القاتلين هما والدا الشابين.  
   عاشت ألكساندرا يومين فقط بعد الحادثة، أمضتهما برفقة أخواتها المشتركات معها بمسبحة الوردية، وبعد دفنها بخمسة عشر يوماً، ظهرت للقديس دومنيكوس كنجمة مضيئة.
**
غلابنة والذئب  
 تناقل الناس أخبار امرأة فاضلة، حسنة العبارة، متعبّدة للعذراء مريم، وكانت تتلو صلواتها أمام أيقونتها المقدسة باحتشام وحرارة، واضطرام روحاني فائق.
   وذات يوم أرسلت ابنتها الصغيرة، كالعادة، الى إحدى القرى القريبة، للتفسّح، ولزيارة أقربائها، فضلت الطريق، وابتعدت عن القرية، فإذا بذئب كاسر يهاجمها، ويحملها بين أنيابه الى الغابة بغية افتراسها.
   سمع بعض الفلاحين صراخها، واسترحامها لهم كي ينقذوها من بين أنياب الذئب، فراحوا يصرخون بأصوات مرتفعة، ويطاردونه بكل ما وقع بين أيديهم من أدوات وحجارة وأغصان، ولكن دون جدوى.
   وما أن وصل الخبر المحزن الى أذني أمها، حتى بدأت تركض باتجاه تمثال حجري للسيدة العذراء وهي تضع طفلها في حضنها، فخطفت الطفل وهي تصرخ:
ـ يا أمي الحنونة، أنا عبدتك الحزينة، الساجدة أمام عظمتك، أعلن أمامك بأنني لن أعيد لك طفلك ما لم ترجعي لي طفلتي.
   وراحت تبكي بصوت عالٍ، فأشفقت السيدة العذراء عليها، واحترمت أمومتها وخوفها على طفلتها، واعتبرت تهديدها لها بعدم إعادة الطفل يسوع الى حضنها مجرد عبادة عمياء. فهمس التمثال بأذن الأم المفجوعة:
ـ إذا أعدت ابنتك لحضنك سالمة، هل ستعدين طفلي الى حضني؟
فتمتمت الأم وهي تمسح دموعها عن خديها:
ـ نعم، نعم، نعم يا أمي وشفيعتي.
   وما أن أتمت عبارتها هذه حتى رمى الذئب ابنتها أمام أعين القرويين، وراح يعدو باتجاه جحره.
   وعندما عادت الطفلة الى حضن أمها، أخبرتهم أنها رأت امرأة خارقة الجمال، تأمر الذئب بأن يتركني في مكان آمن، وسمعتها تقول له وهي تبتسم:
ـ هناك أم خطفت ابني من حضني، ولن ترجعه لي ما لم أرجع ابنتها هذه الى حضنها، فاتركها في الحال.
  والمفرح في الأمر، أن أهالي القرى المجاورة رفضوا أن تعيد الأم الطفل يسوع الى حضن تمثال العذراء الحجري، إلا باحتفال ضخم.
**
البنتان الطاهرتان 
عاشت في إحدى القرى الأوروبية امرأة فقيرة جداً، ولكنها غنية بعبادتها لمريم العذراء. وكان لها ابنتان جميلتان تخافان الله، فقدمتهما أمهما هدية لأم المخلص، كي تحفظهما من أي دنس.
وذات يوم اصطحبتهما معها الى الكنيسة، وما أن سجدن أمام أيقونة العذراء مريم، حتى صاحت الأم:
ـ يا سيدتي الحنونة، ها أنا أقدم لك ابنتين نقيتين طاهرتين، والسلطة التي لي عليهما، أضعها بين يديك المقدستين، فكوني أمهما عوضاً عني، وخففي فقرهما، واستري عرضهما.
وما أن أنتهت من صلاتها حتى أمسكت بأيدي بنتيْها وأوصلتها بيديْ السيدة العذراء الظاهرتين في الأيقونة. عندها أحست براحة نفسية كبرى، وبفرح لا يوصف.
وبينما هنّ راجعات الى البيت، وجدن أمام الباب شاباً بهي الطلعة، مرسلاً من عند الله، وبعد أن حيّاهنّ، وضع بيد الأم مبلغاً كبيراً من المال، كي يردّ عنهن الفقر والحاجة. وما أن رأى الحسّاد ما حدث، حتى بدأوا بالتشهير بالبنتين الطاهرتين، وأنهما باعتا الجسد كي تحصلا على المال.
ومثل النار في الهشيم، كثرت الشائعات التي تلوك سمعة الأم وبنتيها، لدرجة لم يعد يكلمهن أحد من أبناء القرية.
عندئذ، أسرعت الأم نحو الكنيسة، وارتمت تحت أيقونة العذراء، وراحت تبكي وتقول:
ـ من أسبوع فقط، سلّمتك فلذتين جميلتين طاهرتين من كبدي، فلماذا تركت الناس يتطاولون على شرفهما وعفتهما. افعلي شيئاً يستر عرضهما.. أرجوكِ يا أمي وشفيعتي، وحبيبتي.
مرّ الأسبوع الأول والثاني، والشائعات المغرضة تزداد سوءاً، إلى ان جاء عيد انتقال السيدة العذراء الى السماء، فذهبت الأم وبنتاها الى الكنيسة، مطأطآت الرؤوس، كي يتباركن بالعيد، ويسجدن أمام أيقونة العذراء مريم، وإذ بنور عجيب يظهر في الكنيسة بشكل ملاك، وهو يحمل إكليلين من الورد، فأذهلت المصلين هذه العجيبة، وراح كل واحد منهم يمنن النفس بالحصول على أحد الاكليلين.
شقّ الملاك طريقه وسط الجموع، إلى أن وصل حيث تسجد البنتان، فوضع الاكليلين على رأسهما، وسط تعجّب الحاضرين، وقال بصوت جهوري رائع:
ـ أيتها البنتان الطاهرتان، أرجوكما أن تقبلا هذين الاكليلين المرسلين خصيصاً لكما من أم يسوع المسيح، دليلاً على عفتكما وحسن تربيتكما.
فاعترى الناس خوف شديد، وراح كل واحد منهم يتندّم على خطاياه، ويعتذر من الأم وبنتيها على كل ما  قال بحقهنّ من كلام نجس.
**
 رجل شرير
كان لرجل ذي سيرة سيئة زوجة طاهرة، متعبّدة للسيدة العذراء، أم الطفل يسوع، وكان يكرهها كثيراً، ويفتعل معها المشاكل يومياً، ويمضي معظم لياليه مع نساء شاردات بسبب التحاق أزواجهن بالجيش، أو ذهابهم الى بلاد بعيد قصد التجارة وجمع الارباح. 
وبعد مدة، ضرب الفقر تلك المرأة الفاضلة، جراء تبديد زوجها للمال دون رادع من ضمير، فقررت أن تقبل وظيفة مربية لطفل إحدى العائلات الغنية، علها تبعد شبح الجوع عنها.
ولكن زوجها الشرير لم ترق له وظيفتها المحترمة، فراح الشيطان يؤجج نار الحقد عليها، ويأمره بأن يتخلص من الطفل. فمضى ليلاً، ودخل الى غرفتها، وذبح الطفل النائم في حضنها، ولم تنتبه المسكينة الى جريمته المروعة إلا عندما استفاقت فجراً لتطعم الطفل، فرأته مذبوحاً من الوريد الى الوريد، فراحت تبكي وتصرخ الى ان استفاق كل من في المنزل.
والدا الطفل المذبوح، لم يصدقا قصتها، فاتهماها بقتل فلذة كبدهما، وطالبا بإعدامها دون أدنى شفقة. فما كان منها إلا أن رفعت عينيها الى السماء وصاحت:
ـ يا أمي.. يا أم المخلص.. أهذا ما تريدينه لي؟، إلا تكفيني مشقّات الحياة، واضطهاد زوجي الدائم لي؟ لماذا أوقعتني في هذه التجربة؟ أرجوك يا حنونة، يا رحومة، أن تتحنني علي، وأن ترحميني، وتظهري براءتي للجميع.
وما أن أتت ساعة محاكمتها، وابتدأ القاضي بنطق حكم الاعدام عليها، حتى دخلت قاعة المحكمة امرأة فائقة الجمال، تحمل طفلاً رضيعاًً على ذراعيها، وصاحت:
ـ يا حضرة القاضي، النطق بالحكم ليس لك بل لطفلي هذا.
فقال القاضي:
ـ ولكنّ هذا الطفل الصغير لا يمكنه الكلام..
فصاحت:
ـ تكلّم يا ولدي..
وللحال تكلّم الطفل بصوت جهوري مدهش وقال:
ـ هاتوا جثة الطفل الميت، ليخبركم من قتله.
بهت القاضي من كلامه، فأمر حراس المحكمة أن يأتوه حالاً بجثة الطفل، فما أن وضعوها أمام الأم وطفلها الرضيع، حتى نفخ في فمه، وقال: 
ـ قم وانهض باسم الرب.
فانتصب الطفل الميت واقفاً، وأخبر القاضي باسم الذي ذبحه وهو في حضن تلك الزوجة البريئة. وما أن انهى كلامه حتى اختفت المرأة وطفلها، فعرف الجميع أنهما شاهدا السيدة مريم العذراء وابنها الطفل يسوع.
**
الكاهن والشماس
كان أحد الكهنة الأبرار مسافراً مع شمّاسه إلى بلاد معظم شعبها من الهراطقة الملحدين، وكان متمسكاً بعبادة الله، وخاصة السيدة مريم العذراء. وبينما كان يقطع السهول والجبال، مرّ بكنيسة أكلت نصفها النيران، فطلب من شماسه الدخول لتلاوة خدمة القداس، ومن ثم يتابعان السير.
وما أن وصل الكاهن الى آخر القداس، حتى هاجمه قوم من الملحدين، فمزقوا بذلته الكهنوتية، وقطعوا لسانه كي لا يمجّد المسيح وأمه مريم بعد اليوم.
حمله الشماس على ظهره مسافة طويلة، إلى أن وصل الى أحد الأديرة المحصنة، فصاح بأعلى صوته:
ـ أنجدوني باسم يسوع المسيح، معي كاهن ينزف دماً.
وما أن سمعه الرهبان حتى فتحوا باب الدير، وركضوا نحوه مسرعين، وبأيديهم الأدوية والضمادات الطبية وجرار الماء:
ـ من فعل به هكذا؟ من قطع لسانه؟ صاح رئيس الرهبان.
فأجابه الشماس:
ـ قوم من الهراطقة الملحدين.. قطعوا لسانه كي لا يسبّح الرب.
فتمتم الرئيس:
ـ يا لهم من قوم ضالين، يجب أن نصلي من أجلهم كثيراً كي يرشدهم الله الى طريق الخلاص.
اعتنى الرهبان بالكاهن عناية لا توصف، حتى التأم جرحه، وتعافى كلياً، إلاّ من عدم النطق. وذات يوم طلب من شماسه أن يصطحبه الى كنيسة الدير. هناك ارتمى تحت أيقونة أم الرحمة، وراح يتضرّع اليها بإشارات سريعة من يديه، تمكن الشماس من ترجمتها كلاماً واضحاً:
ـ يا أم الرحمة والمعونة.. يا شفيعة المرضى، ومعزيّة الحزانى، أطلب منك المعذرة لعدم تمكني من الصلاة بصوت عالٍ، لذلك استعدت عنه بإشارات من يديّ، أرجو أن تفهميها وتقبليها مني، ولن أطلب منك إعادة لساني كما كان، لأنني فخور بتضحيته من أجلك، أنت التي بين يديك أستودع روحي.. سامحيني لانقطاعي عن الصلاة مدة طويلة بسبب جرحي الثخين، وأرجوك أن تسامحي أيضاً من تسببوا بهذا الجرح جرّاء قطع لساني، وأن ترشديهم الى طريق الخلاص.
وما أن أتم صلاته حتى ظهرت السيدة العذراء، وقالت له:
ـ إفتح فمك..
وكم كان سروره عظيماً عندما رأى لسانه بيد العذراء، وهي تعيده الى فمه.
وما أن انتهت من عجيبتها المدهشة، حتى صاح بأعلى صوته:
ـ السلام لك يا مريم. السلام لك يا أم يسوعي.
لم يصدق الرهبان ما سمعوا، فأسرعوا نحو الكنيسة وهم يحملون الشموع والبخور ليشكروا الله على نعمه الكثيرة.
أما الكاهن وشماسه فلم يخرجا من هذا الدير أبداً، بل قضيا معظم حياتهما متنسكين خاشعين.
**
الشيطان كلب اسود 
راهب، في أحد الأديرة، كان وكيلاً عن الخمر الذي يشرب منه باقي الرهبان. وكان متعبداً ورعاً للسيدة مريم العذراء، ولم يغب يوماً عن الصلوات في الكنيسة، وكان نشطاً جداً في عمله، الذي أوقعه في آفة السكر، وبما أنه الوكيل عن الخمر كان يشرب أضعاف ما يشرب باقي الاخوة.
وذات ليلة، تعشّى وسكر ونام في فراشه، وعند السحر، سمع الجرس، فهبّ من فراشه، كعادته، لكي لا تفوته الصلاة، ولكن رجليه لم تقدرا على حمله، وألم السكر الشديد في رأسه لا يحتمل، فتحمّل ألمه وهو يصيح:
ـ سأذهب الى القداس كي لا تفوتني صلاة من أجلك يا أم المخلّص.
وما أن خرج من غرفته، ومشى عدة أمتار نحو الكنيسة، حتى ظهر له ثور ضخم أراد أن  ينطحه كي يمنعه من الصلاة، ويعيده الى فراشه. وللحال رسم اشارة الصليب المقدس، وهرب الثور.
بعده مباشرة ظهر له كلب أسود، حاول منعه من دخول الكنيسة، فرسم الصليب وهرب الكلب.
وما وصل الى باب الكنيسة حتى جن جنون الشيطان فتحوّل الى أسد كاسر يريد القضاء على هذا الراهب المسكين، فإذا بسيدة رائعة الجمال تقف بوجهه وتوبخّه وتطرده عنه.
وبعد رجوع الراهب الى غرفته وجد تلك السيدة بانتظاره، فقالت له:
ـ إذا أردت خلاص نفسك، لا تسكر بعد اليوم، كما يجب ان تعترف بخطاياك لأبيك الرئيس، وأن تحفظ القانون الذي سيسلمك اياه.
فسألها والدمع في عينيه:
ـ ومن أنت يا سيدتي، التي صنعت معي كل هذا الاحسان؟
ـ أنا هي مريم أم يسوع.
وما أن سمع ذلك، حتى سقط على الارض مغشياً عليه. وفي الحال اختفت السيدة العذراء.
**
يوحنا 
عاقب الملك لاون الايصوري الكثير من القديسين الذين يسجدون للايقونات المقدسة، وكانت العقوبات مختلفة ومؤلمة ومهينة، فعلم بذلك القديس يوحنا الدمشقي، الذي كان من مستشاري أمير دمشق ابن يزيد الخليفة، فكتب عدة رسائل الى المسيحيين في مدينة القسطنطينية يحثهم فيها على التعبّد والسجود للايقونات المقدسة، وأرسل للملك الظالم عدة رسائل يوبّخه فيها على اضطهاده وتعذيبه للقديسين.
غضب الملك من رسائل يوحنا، وقرر الايقاع به، فدعا الى قصره أحد أهم علماء الخطوط في المملكة، وأمره أن يكتب رسالة، يكون الخط فيها مشابهاً لخط وتوقيع القديس يوحنا.
فكتب ما يلي:
"أيها الملك الجزيل الاحترام..
أنا عبدك يوحنا من دمشق، أخبرك أن بلادنا ضعيفة الآن، وخالية من العساكر، فإن أرسلت من عندك عسكراً، فبإمكانك أن تظفر بهم، وتستولي على بلادهم، وأنا سأساعدك قدر أمكاني.
الامضاء يوحنا الدمشقي".
ومن ناحية ثانية كتب رسالة الى أمير دمشق، جاء فيها:
"أيها الأمير الحبيب، أمير دمشق..
لا أجد أجمل من المحبة والصراحة سبيلاً لمخاطبتك، لذلك جئت أطلعك على رسالة وصلتني من ابن بلدكم مستشارك الأقرب يوحنا، يطلب مني فيها مهاجمة حدودكم، والاستيلاء على امارتكم، وهذا ما أغاظني فعلاً، لأني لن أفرّط أبداً بصداقتك ومحبتك، وها أنا أرفق رسالته مع رسالتي لتتوضح عندكم الحقيقة.
الملك لاون".
وعندما استلم أمير دمشق الرسالتين المرسلتين مع أحد عبيد الملك المنافق لاون، استدعى يوحنا، وأمر بقطع يده اليمنى، دون الاستماع الى أية كلمة يمكنه أن يدافع بها عن نفسه.
وعند المساء أرسل يوحنا بعض الوسطاء الى الامير كي يسلمه يده المبتورة، بغية دفنها، فسلمهم اياها، فما كان من يوحنا الا أن حملها بيده اليسرى، ودخل الى بيته، وارتمى أمام أيقونة السيدة العذراء، وراح يصلي بدموعه، الى أن نام، وعندما استفاق، وجد أن يده اليمنى قد رجعت سليمة كما كانت، فلما رأى أمير دمشق ما حصل، سأله عن اسم الطبيب الذي طببه، فصاح يوحنا بصوت جهوري:
ـ إلهي هو طبيبي..
عندئذ أدرك الأمير أن الملك لاون قد غشّه بغية التخلص من يوحنا، فالتفت اليه قائلاً:
ـ لقد قطعت يدك ظلماً، فأرجوك أن تصفح عني، وأن تعود كما كنت أحد أكبر المستشارين في قصري.
شكره القديس يوحنا على صدق محبته، ولكنه طلب منه إجازة طويلة كي يتفرغ للعبادة، وكتابة الترانيم للسيدة العذراء.
**
توافيلس
من بعد تجسّد ربنا يسوع المسيح بخمسمئة وسبعة وثلاثين سنة، توفي في أبرشية "ليليكيا" في مدينة "أدنه" أسقف متعبد، حسن السيرة، أدار كنيسته بما يرضي الله، فأسرع أهل المدينة إلى مطرانهم، مطران "طرسوس"، طالبين منه أن يعيّن "توافيلس" أسقفاً يعوّض عليهم خسارتهم بوفاة أسقفهم المحبوب، نظراً لكثرة فضائله. ولكن "توافيلس" رفض أن يصبح أسقفاً، وأوصى أن يعيّن وكيله بدلاً عنه.
مرت الأيام و"توافيلس" يظهر طاعة عمياء للأسقف الجديد الذي اختاره بنفسه، إلى أن بدأ الشيطان اللعين يعزف على أوتار الحقد والحسد، كي يرمي الاسقف في هوته السحيقة، كما فعل بالكثيرين قبله، ويطرد "توافيلس" من الكنيسة ظلماً.
هنا، راح الشيطان يؤجج نيران الحقد والغيظ في قلب "توافيلس"، على هذا الأسقف الجحود، الذي احتقره بشدة بعد أن كان السبب في تعيينه.
ولكي يستعيد كرامته الضائعة، ومرتبته الأولى، التجأ المسكين الى التنجيم والسحر، فتعرّف على ساحر شرير، طلب منه أن يعيده الى سابق مجده، ويعيّنه أسقفاً نكاية بالأسقف الذي طرده، فطلب منه الساحر أن لا يرسم الصليب أبداً، كي تتحقق كل مطالبه، فوافق "توافيلس" على ذلك.
وفي المساء، دعاه الساحر الى اجتماع هام، فإذا به أمام مجموعة من الوجوه البشعة، وفي مقدمتهم شخص يعاملونه بإكرام وتمجيد. فطلب منه الساحر أن يسجد لذلك الشخص، فما أن سجد له، حتى قال الساحر:
ـ يا سيدي هذا عبدك "توافيلس"، وقد ظلمه أسقفه، وها هو الآن يطلب مساعدتك كي تعيد له مرتبته وكرامته.
فإجابه الشيطان:
ـ أساعده بشرط واحد، أن يكتب بخط يده أنه ينكر المسيح ابن مريم. فإن فعل، فسأعطيه كل ما تشتهيه نفسه من مراكز وخيرات.
فوافق "توافيلس" على كتابة ما طلب منه الشيطان، وشهد على نكرانه للسيد المسيح كل من حضر ذلك الاجتماع المخزي.
وللحال، اقترب منه الشيطان وقبّله وعانقه، وهمس في أذنه:
ـ الآن، ستعرف يا "توافيلس" مدى قوتي.
وعندما رجع "توافيلس" الى المدينة، استقبله الأسقف الذي طرده استقبالاً عظيماً، وطلب منه الغفران، وانتدبه أسقفاً، وأصبح الناس يخافونه ويكرمونه. إلى أن رجع عقله الى رأسه، وراح يتذكر العذاب الأبدي، وكيف أنه خسر ملكوت السموات، من أجل مجد باطل، وراح يبكي بكاء مراً ويصيح:
ـ الويل لك يا "توافيلس" كيف أنكرت المسيح؟ وكيف سلّمت بخط يدك هذا النكران المميت للشيطان؟ كيف أسترد تلك الورقة اللعينة؟ يا أرض انشقي وابلعيني، فليس لي رحمة عند الله.
وذات يوم، دخل الى كنيسة والدة الله، وارتمى أمام أيقونتها الطاهرة، وراح يبكي ويقول:
ـ يا أمي، يا أم الرحمة، أنا لا أستحق رحمتك، ولكني أعدك بأن لا أذوق طعاماً أو ماءً مدة أربعين يوماً كفّارة عن خطاياي، لتعلمي مدى حزني وألمي جرّاء نكراني لابنك، مخلصي وإلهي.
حاول الشيطان أن يمنعه من الصوم، ولكنه عجز عن ذلك، وما أن انتهت مدة الأربعين يوماً، نام "توافيلس"، فظهرت له في المنام سيدة العالم، وقالت له:
ـ كيف تريدني أن أساعدك وقد أنكرت ألوهية ابني يسوع المسيح؟
فأجابها بصوت مخنوق:
ـ خطيئتي عظيمة يا أمي، ولكني أعلم أن سيدي والهي يسوع كثير التحنن، ومحبته للبشر لا تحصى، وأنه صلب ومات من أجل مغفرة خطايانا. أرجوك يا سيدة العالم أن لا تديري وجهك عني، وأن تقبلي توبتي كي أغيظ الشيطان الذي أفرحته وأنا غارق في حقدي. وها أنا أعترف الآن، وكل لحظة، أن المسيح هو إلهي ومخلصي.
وقبل أن يستسقظ من نومه، سمع العذراء مريم تقول:
ـ إن كنت حقاً تؤمن بأن ابني هو الاله الحق، فلسوف أتشفـّع لك عنده كي يقبل توبتك.
وبعد ثلاثة أيام، جاءته السيدة مريم في المنام وقالت له:
ـ لقد قبل ابني توبتك، ولكن إياك أن تقع في الكفر مجدداً.
وعندما استيقظ، وجد الورقة التي كتبها للشيطان بين يديه، ففرح فرحاً عظيماً وراح يرتل بصوت عال:
ـ المجد لله في العلى وعلى الارض السلام.
ومن يومها، تخلّى عن العالم أجمع، وكرّس نفسه لخدمة كنيسة والدة الله الى آخر يوم من حياته. وعندما توفاه الله فاحت من جثمانه الظاهر رائحة ذكية، وصنع الكثير من العجائب. وقد كتب هذا الخبر تلميذه "أفتيثانوس" الذي لازمه طوال مدة تنسكه في الكنيسة.
**
لون الطفل
نارنين، مدينة رائعة الجمال، يمر في وسطها نهر عظيم، نظراً لعرضه وعمقه وسرعة تدفق مياهه، بني فوقه جسر للعربات والمارة. وكان يعيش في هذه المدينة رجل غني جداً، يعتبر أحد أهم أكابرها، وكان في قصره خدم من جميع الجنسيات والألوان. ومن بين هؤلاء الخدم اختار عبداً نشيطاً وفتياً ليكون في خدمته، أي أن يرافقه أنّى ذهب، وكان يحبّه ويفضّله على باقي الخدم.
وذات يوم، حبلت زوجته، وولدت طفلاً أسود اللون، يشبه العبد تماماً، رغم أن الزوجة كانت عفيفة، طاهرة، متعبّدة بشكل جنوني للسيدة مريم العذراء، ولم يلمسها سوى زوجها.
وما أن رأى الناس لون الطفل، حتى راحوا يرمونها بأبشع الاتهامات، وبأنها خانت زوجها مع ذلك العبد، لا بل أن أقرب الناس إليها، أهلها وأقاربها، راحوا يبتعدون عنها، ويرفضون لقاءها. فأحس زوحها بدوار عظيم، وأزمع على قتلهم معاً: العبد والزوجة والطفل، حتى يمحو العار عن عائلته.
هنا، تدخلت السيدة العذراء، فأعطته الصبر والحكمة، فقرر طرد زوجته من بيته بدلاً من قتلها، وقال لها:
ـ اذهبي أيتها الزانية، ولا تريني وجهك أو وجه ابنك بعد اليوم، فإن لمحتكما فلسوف أقتلكما.
فحملت المسكينة ابنها، والدموع تنهمر من عينيها، وراحت تركض باتجاه إحدى الكنائس، لأن لا أحد من الناس قبلها في بيته، فلقد كانوا يشتمونها، ويبصقون عليها، فأصيبت بانهيار عصبي قاتل، لذلك، ما أن دخلت الكنيسة حتلى ارتمت أمام أيقونة السيدة العذراء، وهي ترفع ابنها عالياً وتصيح:
ـ لماذا فعلت بي هكذا يا أماه، أنا المتعبدة الدائمة لك. إذا كنت غاضبة مني فما ذنب هذا الطفل البريء؟ لقد قررت الانتحار مع طفلي، فلا تغضبي مني، بل افتحي لي ذراعيك في الملكوت السماوي، بعد أن نبذني الجميع هنا.
وفجأة، حملت طفلها، وتوجهت نحو النهر، وصاحت بصوت عظيم، كي يسمعها زوجها وأهلها وجميع من كانوا هناك:
ـ لقد اتهمتوني بالزنا، أنا الشريفة العفيفة، وحكمتم على طفل بريء اختار الله لونه وليس أنا، وفرقتم بيني وبين زوجي الذي لم يلمسني رجل سواه، وها أنا الآن أترك عالمكم الظالم المظلم، لأرتمي في أحضان أم الإله، سيدتي وحبيبتي مريم العذراء.
وما أن أتمت كلامها، حتى رمت نفسها في النهر، وهي تحتضن طفلها الى صدرها، فخاف كل من سمعها من غضب الله، مخافة أن تكون تلك المرأة بريئة، وقد حكموا عليها ظلماً، وراحوا يصلون الأبانا والسلام بصوت عالٍ.
وما أن أنهوا صلاتهم، حتى أذهلهم مشهد الأم والطفل وهما يخرجان سليمين من النهر، وقد أصبح لون الطفل أبيض، ومشعاً بشكل عجائبي، فركضوا نحوها وهم يطلبون مغفرتها، ويسألونها كيف حدثت معها هذه العجيبة؟
فقالت لهم: بعد أن أسأتم الظن بي، واتهمتموني بشرفي، وطردني زوجي، دخلت وطلبت السماح من أمي مريم، كوني قررت الانتحار، وعندما رميت نفسي في النهر، حملتني امرأة جميلة بين ذراعيها، وقالت لي:
ـ لا تخافي يا ابنتي، لقد امتحنت ايمانك، ففزت فوزاً عظيماً، ولهذا سأجعل لون ابنك أبيض، كي يصدق والده انه ابنه، وسوف يكون أجمل من كل أولاد المدينة.
وما أن قالت لي هذا، حتى صعدت الى السماء، وها أنتم تعاينون عجيبتها المقدسة. وبينما هي تتكلم كان زوجها يصغي اليها باكياً، والندم الشديد ظاهر على تقاسيم وجهه، فاقترب منها، وارتمى عند قدميها، طالباً منها الصفح والغفران، وأن تعود الى بيته مكرمة معززة.
التفتت اليه وقالت:
ـ لن أدخل بيتاً طردتني منه ظلماً، هناك بيت وحيد بانتظاري، سيظللني الى آخر يوم من أيام حياتي.. انه الدير. أجل سأصبح راهبة، وسأنذر عمري كله لخدمة الفقراء، وللتعبد لحبيبتي ومخلصتي وأمي مريم العذراء.
**
صاحبة المنزل
عاش في مدينة "لومجاردياس" رجل وامرأته، وكانا فاضلين ومتعبدين للسيدة مريم العذراء، ولكثرة حبهما لها، قررا أن يرسما صورتها، كأيقونة كبيرة، على حائط بيتهما، وكانا يسجدان أمامها كل يوم، ويصليان سلام الملاك جبرائيل، فأرسلت إليهما النعمة والفرح، حتى أن جيرانهما كانوا ينادونهما بأهل السلام والتقوى.
وكان لهذين الوالدين الفاضلين طفل عمره ثلاث سنوات، وكان، رغم صغر سنه، يراقب والديه وهما يسجدان ويصليان أمام الأيقونة، فراح يتشبّه بهما، ويفعل كما يفعلان، فإن ركعا ركع، وإن رسما إشارة الصليب رسمها دون تردد.
ولكثرة سجود والديه أمام الأيقونة، كان يعتقد أن تلك السيدة الجالسة على الكرسي، هي صاحبة المنزل، لذلك كان يخافها كثيراً، ويعمل المستحيل كي يرضيها، مخافة أن تطرده من المنزل.
وذات يوم، وبينما هو يلعب مع رفاقه صبيان الحارة، رماه الشيطان في النهر، بطريقة حسبها رفاقه زلّة قدم، فأسرعوا ليخبروا أمه بالفاجعة. فأسرعت المسكينة الى النهر وهي تبكي وتندب حظها العاثر، وتنادي بأعلى صوتها:
ـ أنقذوا ابني.. لقد وقع في النهر.
خلع بعض الرجال ثيابهم وراحوا يسبحون ويفتشون عنه دون فائدة، فأسرعت الوالدة الى الجهة الثانية من النهر، فرأت ابنها طافياً على سطح الماء، وكأنه جالس على كرسي، فما أن رآها حتى صاح:
ـ لا تخافي يا أماه، صاحبة الأيقونة تحملني.
وعندما وصل الى اليابسة، حضنته أمه، وراحت تقبله، وتشكر أم المخلص، على أنقاذ ابنها من الغرق.
وكم كانت دهشة الحاضرين عظيمة عندما راح الطفل يخبرهم كيف حملته السيدة العذراء بين يديها لحظة سقوطه في النهر، وكيف كانت تهمس في أذنه:
ـ لا تخف يا بني.. أنا جارتك التي تتعبّد لها.
ـ إذا كنت صاحبة المنزل الذي نسكن فيه، أرجو أن لا تطردينا منه، فأبي فقير وأمي تحبك كثيراً.
ـ لا لن أطردك من منزلك، فمنزلك هو قلبي. أنظر ها هي أمك على ضفّة النهر تنتظر وصولك اليها سالماً. قل لها بأني أحبها أيضاً.
كان الناس يستمعون اليه، ويتعجبون من فصاحة طفل لم يتجاوز عمره الثلاث سنوات، وأدركوا للحال أن االسيدة مريم العذراء، قد أظهرت لهم إحدى عجائبها، فصاحوا بصوت واحد:
ـ ممجدة أنت يا أم الخالق.
**
التاجر الوثني 
بينما كان أحد الأثرياء الوثنيين يتنقل في أرجاء مدينة روما بغية التجارة، قبض عليه اللصوص، وعروّه من ثيابه، كي يتقاسموا كل ما يحمله من مال وثياب وبضائع. ولكي لا يهرب كبّلوه بالأغلال، بعد أن رموه في سجن معتم نتن.
ومن كثرة خوفه، راح يبكي وينتحب كالاطفال الصغار، ويطلب من اللصوص أن يقتلوه كي يخلصوه من عذابه.
ولما لم يستجب لطلبه أحد، راح يفكّر بالناس الذين التقاهم في سفره وترحاله، وكيف أن الكثيرين منهم قد مدحوا أمامه السيدة العذراء، لكثرة عجائبها ورحمتها على المعذبين في الأرض.
وبدون وعي منه، ركع على ركبتيه، وراح يصلي بصوت عالٍ:
ـ أيتها السيدة أم الرحمة، يا ملكة السموات والارض، ارحميني أنا الوثني الشقي، وانعمي علي بعجيبة واحدة من عجائبك الكثيرة، فلقد أخبرني أبناء المسيح كم أنت رحومة وشفوقة ومحبة لبني البشر. 
أرجوك يا أمي أن تفكي أسري، وأن تعيدي لي حريتي، لكي أؤمن بك وبابنك الإله يسوع، وأخبر العالم أجمع عن أفضالك علي، وإن كنت لا أستحقّها أنا الوثني الضال.
وما أن أنهى صلاته، حتى غالبه النعاس، فأبصر في منامه ملكة رائعة الجمال، نور وجهها أبهى من نور الشمس، وحولها من كل جانب رهط من الملائكة، الذين فكّوا قيوده، بناء على طلبها، ولشدة فرحه استيقظ ليجد أن حلمه أصبح حقيقةً، فتطلع في عيني العذراء وقال:
ـ من أنت؟ ما اسمك؟
فأجابته أم يسوع:
ـ أنا التي استنجدت بها، ولقد فككت قيودك، فقبل أن تخلص نفسك من اللصوص، انقذها من نار جهنم، وآمن بمن صلب من أجلك.
وبينما هي تتكلّم، حمله الملائكة فوق هوة عميقة، كريهة الرائحة، مليئة بالنفوس الخاطئة. ولشدة خوفه سقط على الارض، فقالت له العذراء:
ـ هؤلاء هم الكفّار الذين لم يؤمنوا بتجسّد ابني يسوع المسيح.
ثم، حملوه الى مكان جميل جداً، تفوح منه رائحة العطر، وتلفه الأزهار من كل جانب، وتعيش فيه نفوس تصلي دون ملل، فقالت له العذراء:
ـ هؤلاء هم الذين أنقذهم ابني الحبيب بدمه الطاهر، فاختر لنفسك أحد المكانين حتى أرميك فيه.
فاختار، دون أدنى تردد، المكان الثاني، عندئذ صعدت الى السماء، ليجد نفسه خارج منزله، وللحين آمن بيسوع المسيح، وقبل سر المعمودية، ودخل الرهبنة، بعد أن وزّع ثروته على الفقراء.
**
سر المعمودية
كان في بلاد الشرق رجل وثني لا يحلو له إلا أن يشتم المسيح وأمه مريم كل يوم تقريباً، وكان له صبي عمره سبع سنوات، كثيراً ما رافق اصحابه الاطفال المسيحيين الى الكنيسة، وكان كلما تقدّموا للمناولة تقدّم معهم، الى أن علم والده بالامر، فاستشاط غضباً، وقرر إلقاءه في فرن النار الذي يستعمله لطبخ الزجاج.
حاول الطفل الهرب، وهو يصرخ:
ـ أبي، أرجوك لا ترمني في النار، أنا أحبك.
ولكن والده كان أسرع منه، فحمله بين يديه، ورماه في أتون النار، دون شفقة أو رحمة، وهو يقول:
ـ أيها الطفل المغفل، بما أنك تتناول القربان المقدس كل يوم، دعني أرى كيف سيخلصك مسيحك الدجّال وأمه مريم من الموت حرقاً.
ورغم كثرة الأخشاب التي أوقدها في الفرن، ليزيد من لهيبه، بقي الطفل واقفاً في وسطه، ينظر الى والده نظرة تأنيب وشفقة، دون أن تقترب منه النار، أو أن يصيبه أذى.
ركضت والدته نحو الفرن، وركض خلفها العديد من المسيحيين بغية إنقاذ الطفل، فوجدوه يقف وسط اللهيب وكأنه في بستان ورود. فسألوه إن كان بإمكانه الخروج، فهز رأسه علامة الايجاب، وخرج والبسمة تعلو شفتيه، ليرتمي في حضن أمه وهو يقول:
ـ المرأة التي تحمل طفلها في الكنيسة، كانت معي في الفرن، ولقد لفتني بمشلحها الأزرق، وأبعدت عني اللهيب، ولم أشعر أبداً بالخوف. ولكني، ما زلت لا أدري، لماذا رمى بي والدي في الفرن؟.
وأتاه الجواب من أبيه:
ـ لأنني وثني ضال، شتمت من أنقذتك مئات المرات، ومع ذلك أشفقت علي ولم تحرمني طفلي، ولكي أرد جميلها، سأتقبّل سر المعمودية قبلك وقبل والدتك، لتعلم السيدة العذراء أنني أول من سيشكرها من عائلتي على عجيبتها هذه.
وكان الجمع الموجود هناك، قد قرروا رميه بالنار مثلما رمى ابنه، ولكنهم غفروا له خطيئته بعد الذي سمعوه منه. وراحوا يمجدون الله.
**
جيرونيموس
جيرونيموس، راهب يتقن فن التصوير، وكان يتلذذ برسم السيدة مريم العذراء، فيغدق على أيقونتها أجمل الألوان، كي تبدو بهية كالقمر، ومشرقة كالشمس، يجثو تحت قدميها الشيطان بأبشع صورة. لذلك قرر "الخبيث" محاربته، بغية الانتقام منه، فكان يأتيه بخيالات وأوهام شتى، وكان الراهب يحاربه بالصلاة والتعبد لأم الطفل يسوع.
وذات ليلة ظهر له بشكل امرأة جميلة جداً، وراح يشبعه لمساً وتقبيلاً إلا أن ثارت غريزته الجنسية، وقرر أن يطفىء نار شهوته، ولكن ابليس ـ المرأة رفض أن يجامعه ما لم ينفـّذ كل طلباته. فوافق الراهب دون تردد. فقال له الشيطان:
ـ أنت قندلفت الدير، ومعك المفاتيح، فعندما ينام الرهبان، انزل الى الكنيسة، وضع كل الأواني الفضية والذهبية المقدسة في كيس، بعد أن تحطمها، وانتظرني خارجاً كي أمضي معك الى بلاد بعيدة، حيث نقطف اللذة الجسدية ساعة نشاء.
فعل الراهب المسكين كما أمره الشرير، ولكنه قبل أن يخرج من الكنيسة بدأ الشيطان بالصراخ:
ـ أيها الرهبان، أسرعوا الى الكنيسة، القندلفت جيرونيموس يسرق الأواني المقدسة، أوقفوه قبل أن يهرب.
بهت الراهب المغشوش عندما وجد رفاقه يحيطون به من كل جانب، ولم يستطع أن ينبث بكلمة واحدة. فأمر الرئيس أن يربطوه على عمود الحبس، إلى أن ينقشع الظلام، وتشرق شمس نهار جديد.  
وبعد أن جرده من وظيفته كقندلفت، وأعطاها لغيره، عاد الرئيس وباقي الرهبان الى غرفهم، وحده "اللعين" بقي مستيقظاً، فاقترب من جيرونيموس وراح يهزأ منه ويقول:
ـ كما أنا سعيد أيها الراهب الأبله، عندما أراك مصلوباً كسيدك المسيح على عمود. فمن الآن وصاعداً لن تقدر على رسمي بأبشع صورة، فلقد شوهت وجهك كما كنت تشوّه وجهي. سيعذبونك ويحرقونك كلص. فأين تلك السيدة التي كنت تتباهى بتصويرها؟ تأكد من أنها لن تأتي لمساعدتك.
فما أن سمع كلامه هذا حتى صاح:
ـ أيتها الأم الحنونة، سامحيني. يا ملجأ الخطأة، أعينيني. كوني لي أماً رحومة، وان كنت لا أستأهل ذلك، ولكن أملي برحمتك كبير، فلا تخذليني، وساعديني كي أصد حيل هذا الشيطان اللئيم، وامنحيني الفوز عليه، كي أدوسه برجلي، وأمجد اسمك الى أبد الآبدين.
وما أن انهى كلامه حتى ظهرت أم الرحمة، وأمرت الشيطان أن يتحول الى شكل انسان، ثم التفتت الى جيرونيموس وقالت:
ـ اياك، يا ولدي، أن تقع في شرك ابليس مرة أخرى، فها أنا أحل قيودك وأطلق سراحك لكثرة الدموع التي ذرفتها.
وبعد أن حلّته من الأغلال، أمرته أن يربط الشيطان مكانه، فراح يسخر منه ويقول:
ـ لما كنت أرسمك، أيها الشيطان الرجيم، بأبشع صورة، وأبصق عليك وانت تتلوى كالأفعى تحت أقدام أمي العذراء، كنت أفعل الصواب. وها أنا الآن أبصق عليك وجهاً لوجه ألف مرة. وأبشرّك بأنني ذاهب الى الكنيسة لممارسة وظيفتي كما كنت سابقاً.
وفي الوقت المعين، أضاء جيرونيموس الكنيسة، وأشعل الشموع، وراح يوقظ الرهبان كي يأتوا لصلاة الفجر. وكان أول الواصلين الى الكنيسة ذاك الراهب الذي أوكل اليه الرئيس وظيفة القندلفت، فوجد المصابيح مضيئة، وكل الأواني المقدسة سليمة كما كانت من قبل، فأصابته الحيرة، وراح يتساءل: من أضاء المصابيح؟ من سرق مني وظيفتي؟ وبينما هو يدور بناظريه على كل أرجاء الكنيسة، لمح أخاه جيرونيموس راكعاً في مكانه المعتاد يصلي، فأسرع الى رئيس الدير وأخبره بما رأى.
تجمّع الرهبان حول رئيسهم، وبيد كل واحد منهم صليباً وماء مقدساً، خشية أن يكون الشيطان قد تجسّد بأخيهم، وعندما اقتربوا منه، صاح الرئيس:
ـ باسم الاله الحي، وباسم يسوع المسيح، أخبرني من تكون؟
التفت جيرونيموس إليه وقال:
ـ أنا قندلفت الكنيسة، وقد أمرت البارحة أن يربطوني على عمود الحبس، ولكن أمي وشفيعتي مريم العذراء فكت قيودي، وربطت مكاني من كان السبب في اذلالي، انه الشيطان بصورة انسان.
وما أن بدأ الرهبان برش المياه المقدسة على الانسان المربوط على العمود، حتى بدأ يصرخ ويتلوى ويتعذب عذاباً شديداً، الى أن اضمحل واختفى، فراحوا يرتلون بصوت واحد: 
ـ يا أم الرحمة.. ارحمينا.
**
امراة شريفة 
كان لأحد السلاطين الرومانيين امرأة شريفة الحسب والنسب، طاهرة، كريمة، صالحة ومتعبدة للسيدة العذراء. 
وذات يوم قرر زوجها السلطان زيارة قبر المسيح وباقي الأماكن المقدسة، فودّع زوحته العفيفة، وأمر أخاه بتنفيذ كل رغباتها لحين عودته من السفر.
وبعد أيام معدودة، اشتعل الأخ بحبها، وراح يتقرّب منها، ويبوح لها برغبته الجنسية الشيطانية، ولكنها كانت تصده بقوة، وهو يلح عليها بالمجامعة دون أن يردعه ضمير، الى ان ضجرت منه وقررت أن تهمد ناره المشتعلة، فطلبت منه أن يلاقيها في مكان ما ستحدده له لاحقاً، كي لا يراهما أحد.
وللحال، طلبت من خدّامها أن يبنوا برجاً حصيناً عالياً، دون أن تذكر لهم سبب بنائه. وفي اليوم المحدد اصطحبت سلفها الى البرج، وطلبت منه أن يدخل قبلها، فشكرها على ذلك، ولعابه يسيل من شدة الفرح. ولكنه ما أن دخل حتى أغلقت الباب عليه، ورجعت الى قصرها، كي تدير شؤون مملكتها بغياب زوجها الحبيب.
وما أن بشّر أحد الجنود بوصول زوجها الى مشارف المدينة، حتى طلبت من الجميع ملاقاته بالزغاريد والموسيقى، ولكي لا تحرم سلفها من ملاقاة أخيه، فتحت باب البرج وأطلقت سراحه.
وقفت الزوجة الطاهرة على باب القصر استعداداً لملاقاة زوجها بعد غياب طويل، دون أن تعلم أن سلفها السافل سوف يخبر زوجها قصة مغايرة تماماً لما حصل معهما، فلقد أخبره أن زوجته طلبت منه أن يضاجعها عدة مرات، وأنه رفض ذلك بسبب اللحم والدم الذي بينه وبين أخيه السلطان، وطلب منه التخلص منها، لأن كرسي الملك لا يليق بقحبة، على حد تعبيره، ولم ينتهِ من كلامه الكاذب، إلا عندما وصل السلطان الى حيث تقف زوجته القديسة، وبدلاً من ان يقبلها، صفعها صفعة قوية رمتها أرضاً، وأمر خادمين أن ينزعا عنها ملابسها الملوكية، وأن ويرمياها في احدى الجزر البعيدة، الخالية إلا من الحيوانات المفترسة.
هناك، لعب الشيطان بعقلي الخادمين، وقالا لبعضهما البعض، لماذا لا نغتصبها نحن، ونتلذذ بجمالها الفتان، وهل ستأتينا فرصة ثانية كي نضاجع ملكة؟
علمت المسكينة بما يضمران لها من شر، فصاحت بأعلى صوتها:
ـ أيتها العذراء مريم، البريئة من دنس الخطيئة الأصلية، لا تسمحي بتدنيس شرفي. يا أم الرحمة إرحميني. يا سيدة السماء والأرض، أنقذيني.
ولشدة ما كان صوتها عالياً سمعها أحد التجار الميسورين المارين صدفة من هناك، فأسرع لإنقاذها، فما كان منها إلا أن ارتمت أمامه قائلة:
ـ أشكرك يا سيدي، واعدك بأن أكون لك خادمة مطيعة ما حييت.
وعندما وصل التاجر الى بيته، أخبر زوجته بما حصل له مع تلك المرأة، وأنه قرر أن يوكل اليها خدمة طفله الصغير، كي تتفرغ هي الى أعمال أخرى، فوافقت دون تردد. ولكن الشيطان الرجيم لا يترك الناس الصالحين، فأوقع الخادمة المسكينة بما وقعت به في مملكة زوجها، إذ تاه في غرامها أخو التاجر، وراح يتودد لها دون فائدة، وعندما يئس من صدها له، قرر التخلص منها، فدخل ليلاً الى غرفتها، وذبح ابن أخيه النائم في حضنها، وليس هذا فحسب بل راح يشتمها ويتهمها بذبح أحب الناس الى قلبه، ابن أخيه الطفل:
ـ أيتها السافلة المجرمة، لقد قدم لك أخي المأوى والمأكل، فكيف طاوعك ضميرك على قتل طفله البريء. والله والله سأذبحك كما ذبحته، إن لم يذبحك أخي قبلي.
ولكن الأخ الوالد لم يأخذ بكلام أخيه المجرم، بل قال:
ـ كلا لن نقتلها، لأن الله لا يسمح بقتل أحد، أليس هو القائل: اتركوا يترك لكم. لذلك قررت أن أرسلها مع أحد البحارة الى بلاد بعيدة، والله وحده هو الذي يتدبر أمرها.
وما أن ابتعدت عن الشاطىء، حتى بدأت تصرخ بأعلى صوتها:
ـ أيتها القديسة الجميلة، يا سيدتي وشفيعتي، يا أم يسوع المسيح، لماذا تعذبينني هكذا، ساعديني أرجوك، فليس لي أحد سواك.
وما أن سمع البحّار صرختها، حتى أنزلها على صخرة مرتفعة مشرفة على شاطىء البحر، وقال لها وهو يركب سفينته:
ـ اذا كنت حقاً متعبدة لمريم العذراء فلن تتركك، وإلا ستموتين جوعاً فوق هذه الصخرة.
ولكثرة بكائها وتضرعها، أشفقت عليها السيدة العذراء، وظهرت لها وهي تقول:
ـ ابتهجي يا ابنتي وافرحي، فلن يهينك أحد بعد اليوم، فلقد حافظت على طهارتك ببطولة نادرة، واحتملت المصائب دون أن يتزعزع ايمانك بربك، فانهضي، وخذي كمية من الحشائش التي تحت رأسك، واشفي بها المرضى.
وما هي الا دقائق حتى مرت من قربها سفينة، كأنها مرسلة لخلاصها، فحملها البحارة معهم، وأوصلوها الى ميناء احدى المدن. هناك التقت برجل أبرص يهرب منه المارة، فاقتربت منه، وسقته من زوم تلك الحشائش، فشفي من برصه حالاً، وراح يرقص ويزغرد فرحاً، فتعجب الحاضرون وراحوا يخبرون بما فعلت، وانها تشفي المرضى باسم يسوع المسيح، فوصل خبرها الى مدينة ذلك التاجر الذي اتهمها بقتل طفله، فأرسل اليها كي تأتي وتنقذ أخاه الشرير من مرضه الشديد، فوافقت، شرط أن يعترف المريض بكافة خطاياه المميتة، ولكن الأخ القاتل رغم اعترافه بخطاياه الكثيرة، أخفى عنها وعن الموجودين، خطيئة ذبح ابن أخيه، فما كان منها الا أن حملت حشائشها وهمت بمغادرة الغرفة، وهي تقول:
ـ هناك خطيئة مميتة لم يعترف بها، فكيف لي أن أشفيه؟
فطالبه كل من حوله بالاعتراف بها كي يبرأ من سقمه، فقال:
ـ أنا من ذبح ابنك يا أخي في حضن تلك الخادمة الفاضلة، لأنها رفضت أن تمارس الجنس معي، فيا ليتني ألتقيها مرة ثانية لأقبل رجليها وأطلب منها المغفرة.
فصاح أخوه، والعرق البارد يتصبب من جبينه:
ـ لست متأسفاً على خسارة ابني قدر تأسفي على خسارة تلك المرأة الشريفة التي كانت تخدمنا بإخلاص وتقوى.
فقالت له المرأة:
ـ لا تتأسّف يا سيدي ولا تحزن البتة. أنا هي تلك المرأة.
وللحال برأ الأخ الشرير من مرضه، وطلب منها أن ترضاه زوجاً لها، ولكنها رفضت، وسافرت الى مدينة روما، حيث شفي على يدها المئات من المرضى. ولكي يكمل الله عجائبه، مرض أخو السلطان "زوجها" مرضاً لا شفاء له، فطلبوا منها أن تشفيه من مرضه، فوافقت، شرط أن يعترف بخطاياه المميتة كاملة. فأبى أن يعترف بما فعله من رذيلة مع امرأة أخيه السلطان، ولكنه، وبناء على الحاح الجميع، أعترف بما فعله مع امرأة أخيه، وأنها أشرف امرأة على وجه الأرض، وأنها قديسة في زي امرأة.
وما أن سمع أخوه اعترافه حتى راح يبكي ويصيح:
ـ أين أنت يا حبيبة عمري، وتاج رأسي، وفرحة بيتي، فلقد ظلمتك حين صدّقت ما قيل لي عنك، فكيف سيسامحني الله.. وكيف سأستردك لأسترد سعادتي، والله والله لن يحلو لي عيش بعد اليوم، وسأطلب الموت من ملك الموت.
فما كان من زوجته إلا أن قالت:
ـ ولكن زوجتك التي كانت تحبك لا تريدك أن تموت.
ـ وكيف لي أن أحيا بدونها.. انها حياتي التي ضاعت.
ـ افتح عينيك جيداً وستراها أمامك.
عندئذ أدرك أن المرأة التي تكلّمه هي زوجته، فارتمى عند رجليها وطلب منها السماح، وأمر أن تنحر الأضاحي احتفاء بعودة الملكة الى عرشها.
قبـّلت الملكة رأس زوجها وهمست في أذنه:
ـ ألم تسمع ما قلت لك سابقاً: زوجتك التي كانت تحبك.. أما الآن فحبي الأبدي سيكون لرجل واحد اسمه يسوع المسيح.. فاسمح لي أن أترهب، وأخدم دير أمي العذراء ما تبقى لي من عمر.
**
جندي فاضل
كان في مدينة القسطنطينية جندي فاضل ورحوم جداً، يدعى لاون، ويلقب بالماكالي، فاستحق، لكثرة فضائله وحسناته، أن يصبح ملكاً على مدينته. واليكم القصة:
ذات يوم، كان الجندي لاون يسير قرب الغاب الواقع غرب القسطنطينية، فوجد هناك رجلاً أعمى قادماً من السفر، والحر الشديد يؤجج فيه لهيب العطش، فحزن عليه، وأمسكه بيده، وسارا معاً، بغية البحث عن الماء، ولكن الأعمى لكثرة تعبه وعطشه وقع أرضاً، فما كان من لاون إلا أن تركه وراح يفتّش في الغاب عن نقطة ماء يروي بها ظمأ الأعمى المسكين. وبينما هو يفتش، سمع صوتاً يقول:
ـ لا تحزن يا لاون، أنظر الى يمينك تجد ماء مقدساً، خذه واسق الاعمى، واغسل به عينيه.
ارتعد لاون لدى سماعه الصوت، وصاح بأعلى صوته:
ـ من أنت يا سيدتي، وماذا تريدين مني؟
ـ أنا تلك التي نذرت نفسك من أجلها، ورحت ترتل لها كل ليلة، وتحمل اسمها على شفتيك طوال اليوم، أنا أم يسوع المخلص. وقبل أن أتركك، أحب أن أخبرك بأنك ستصبح ملكاً على القسطنطينية، عندئذ اذكرني، وابنِ كنيسة في المكان الذي تقف فيه الآن، ليأتي إليها المحتاجون الى معونتي فأعينهم.
ولشدة فرحه، لم يعد يعرف يمينه من شماله، بل راح يصلي، وينظر في كل مكان الى أن وجد حفرة مملؤة ماء نقياً، فشرب منه، وحمله الى الاعمى، الذي وجده على آخر رمق من حياته، فسقاه وغسل وجهه، كما طلبت منه أم الرحمة والرأفة، فانفتحت عينيه، وبدأ يشاهد جمال الطبيعة، فشكر الله على نعمه، والسيدة العذراء على عجائبها الكثيرة. 
وبعد أسابيع قليلة، تحققت العجيبة الثانية، إذ اصبح لاون ملكاً، فأمر في الحال ببناء كنيسة على اسم السيدة العذراء في المكان الذي وجد فيه ماء.
وكان لهذا الملك الحكيم زوجة فاضلة، وتقية جداً، تدعى "تاوفاني"، وقد أحصيت مع القديسين، ولها تذكار في السنكسار في اليوم السادس عشر من كانون الأول، وقبل أن تتنيّح ضرب مرض حصار البول الملك لاون، فاجتمع أطباء المملكة حوله، وراح كل واحد منهم يصف له دواء مختلفاً، الى أن اعترفوا بعدم قدرتهم على شفائه، وانه سيموت لا محالة. فبدأ البلاط الملكي يستعد لجنازة الملك، إلا الملكة "تاوفاني" فلقد رفضت ذلك، وقررت ان تستعين بالطبيب السماوي، فهرعت الى كنيسة السيدة العذراء في الغابة، وارتمت أمام ايقونتها، وراحت تبكي وتطلب منها مساعدة زوجها كي يتعافى، ويسلم ابنه قسطنطين الملك، كي لا تحدث بلبلة في مملكتها. فإذا بصوت ملائكي يقول:
ـ لا تحزني يا "تاوفاني" اليوم ارسل لك عقاقير الشفاء.
فرحت الملكة عندما سمعت صوت أم المخلص، وأسرعت نحو القصر، لتجد زوجها يلفظ آخر أنفاسه، وأن الأطباء يريدون شق بطنه كي يخرجوا البول منه، فصاحت بهم:
ـ اتركوه، سيأتي طبيب آخر ليشفيه.
وما أن أكملت عبارتها هذه، حتى دخلت راهبة، اسمها "أغاتي" تخدم في كنيسة الغابة، وكانت تحمل وعاء فيه بعض الماء. فقالت للملكة:
ـ ما أن دخلت الكنيسة هذا الصباح، حتى سمعت صوتاً يقول لي: يا "أغاتي" خذي بعض الماء من ينبوعي واسقي الملك كي يبرأ من مرضه.
وما أن شرب الماء حتى شفي الملك لاون، وقام من فراشه، فانذهل كل من كان في القصر وراحوا يمجدون الله، ويشكرون سيدة العجائب أمنا مريم العذراء.
**